القيادة الفلسطينية والتباين في الخط والعمل السياسي

farook-alqadoumi.jpg77



فاروق القدومي

بدأ التباين في وجهات النظر والخلاف السياسي داخل القيادة الفلسطينية حول اتفاقية أوسلو، وكأثر من آثارها، فعارضتها نسبة كبيرة وتحفظت على الإجراءات التي تلتها.

وزادت حدّة هذه الخلافات عند توقيع الاتفاقات اللاحقة، وامتنع عدد يقارب ثمان أعضاء من اللجنة التنفيذية عن حضور اجتماعاتها لأنها تدور حول اتفاق أوسلو، كما زاد من حدّة الخلاف أيضاً الإرباك والعفوية في أداء السلطة الوطنية الفلسطينية ورغبة العديد مما تبقى من أعضاء اللجنة التنفيذية في وقف هذه المفاوضات وعدم الاستمرار فيها، بعد أن تكشف بشكل بارز أنها فقدت محتواها السياسي، وأصبحت مضيعة للزمن واستغلتها إسرائيل لتوهم الرأي العام العالمي أن المسار الفلسطيني مستمر في طريقه دون تعثر.

وفي حين قرّر المجلس المركزي أن اللجنة التنفيذية هي المرجعية التنفيذية والتشريعية للسلطة الوطنية الفلسطينية، فإن المفاوضات مع الأسف كانت تستمر ويجري التوقيع على اتفاقات دون موافقة مسبقة من اللجنة التنفيذية.

كما حاولت السلطة الفلسطينية أن تجد تمثيلاً خارجياً لها، ولكنها شعرت خطأ ذلك لأن الاعتراف السياسي قد أعطي فقط لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي الواقع نصت اتفاقية القاهرة في 04/05/1994 على أن المنظمة هي صاحبة الحق في التفاوض حول المسائل الاقتصادية والتربوية، وغيرها نيابة عن السلطة الفلسطينية، وأن توقع مثل هذه الاتفاقات، كما نصّت الاتفاقات على أن ليس للسلطة الفلسطينية أي تمثيل خارجي وليس من حقها أن تقيم علاقات دبلوماسية خارجية او تنشئ قنصليات وسفارات.

من جانب أخر فقد كان من المفروض أن نضع تصوراً صحيحاً لبناء السلطة الفلسطينية مع مراعاة الفترة الزمنية لنشوء هذه السلطة، نموها وتطورها مع نمو وتطور بناء مجتمع جديد داخل أرضنا الفلسطينية.

ولكن ما قمنا به من إنشاء وتوسع في الإدارات الأمنية قد أخلّ بعملية البناء والتعمير وحمل السلطة الوطنية نفقات مالية باهظة، وصوّر المشكلة الأمنية على أنها أهم من مؤسسات البنية التحتية، التي يتركز عليها المجتمع الفلسطيني، بعد أن دمّر الاحتلال الإسرائيلي كل هذه المؤسسات وشلّ الحركة الطبيعية وحال دون نمو المجتمع وتطوره، وكان لبروز هذه الظاهرة الأمنية انعكاسات سلبية على سلوك الفرد وموقفه من السلطة الفلسطينية، وكان للإجراءات الإسرائيلية مثل إغلاق المعابر، ممارسة الأعمال الإرهابية والاستمرار في مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات والامتناع عن الإفراج عن المناضلين المعتقلين، المزيد من الآثار السلبية التي قادت الجماهير إلى الإحساس بالإحباط وفقدان الثقة في المستقبل القريب، كما أن عدم التزام إسرائيل بنصوص الاتفاق وبالمواعيد المقررة قد خلق صورة ضبابية حجبت الرؤية المستقبلية للمجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع، زد على ذلك أن مثل هذه الصور والظواهر جعلت الدول المانحة تتردد طويلاً قبل أن تقدم الدعم الاقتصادي للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، مع فقدان التسهيلات المطلوبة التي كان على إسرائيل أن توفرها، لتسهيل نقل الأموال والمشاريع إلى السلطة الفلسطينية.

لقد حوّلت إسرائيل المفاوضات إلى حيّز فراغي خالٍ من المضمون السياسي، وجعلتها نهجاً لإضاعة الوقت والتملص من الالتزامات في العقود وفي الاتفاقات المعقودة بحجة الأمن والإرهاب وعدم قدرة وضعف السلطة الوطنية في إدارة شؤونها في قطاع غزة وأريحا، إضافة إلى محاولة إسرائيل التوصل إلى اتفاقات متلاحقة مع الفلسطينيين حول المشاكل الأمنية ونقل السلطات ونشر القوات أو الإفراج عن المعتقلين من المناضلين وتسريت نصوص من هذه الاتفاقيات لسلب النواحي الإيجابية التي وردت في اتفاق إعلان المبادئ.

وحين تتعثر هذه المفاوضات نلاحظ أن راعيي المؤتمر لا يبذلان جهداً لإزالة العثرات بل كثيراً ما تتدخل الولايات المتحدة تدخلاً واضحاً لصالح إسرائيل وتستخدم كما فعلت حق الفيتو في مجلس الأمن لكي تحول دون ممارسة الضغط الدولي على إسرائيل.

هكذا نرى تشويهاً للمسار الفسطيني وتحويل للمطالب السياسية إلى مطالب يومية، وتهميش هذه المطالب وتقلصيها بشكل متعمد، كما أن إسرائيل تراوغ وتماطل في إعادة النازحين الفلسطينيين الذين أكرهوا على ترك ديارهم إلى مصر والأردن، وتحاول إعطاء مزيد من المسؤوليات الإدارية وليس السياسية والتشريعية للسلطة الفلسطينية، كما تحاول الآن استبدال إعادة انتشار قواتها بالتدريج حتى تصل إلى الخط الأخضر دون رجعة إلى مجرد تخفيف للمظاهر العسكرية في المدن، لدفع الشعب الفلسطيني في النهاية لقبول التعايش مع وجود المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، والإذعان لسياسة الأمر الواقع، وتعمل على جعل المدن الفلسطينية بقعاً سكانية محاصرة بالطرق الأمنية التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي ومعزولة عن الضواحي والقوى الريفية لتحول دون التعامل الاقتصادي بين الريف والمدينة، فتضعف بذلك الوضع الاقتصادي للسكان في الضفة الغربية.

وهنا لا بد من القول: “أن مقاومة هذه المظاهر والإجراءات الإسرائيلية تفرض استمرار حركة الجماهير ومقاومتها وإصلاح الخلل وإيجاد التوازن في نمو وتطور المؤسسات الإدارية ومؤسسات البنية التحتية”.

وكنا قد نصحنا السلطة الوطنية قبل دخولها باتخاذ العديد من الإجراءات وشرحنا الظواهر الاجتماعية والسياسية التي لا بدّ من مراعاتها عند دخولنا وإنشاءنا للسلطة الوطنية الفلسطينية، من ذلك:

• أننا نقف على عتبة الدخول إلى الأرض الفلسطينية ولكن ما زال العدو يتحكم إلى حد كبير بمقدرات شعبنا ويضغط على مصالحه الأساسية ونحتاج إلى فترة طويلة من الزمن لننتزع هذه الحقوق من أنيابه من خلال مفاوضات شاقة وعسيرة، كما شهدناها في السابق، مفاوضات يراوغ ويماطل ويبتز ويهدد ويتوعد ولا نجد حتى ممن رعى هذه المسيرة السلمية من يحاول أن يردعه أو يوقفه عند حده.

• فإذا دفعنا بكل كوادرنا القيادية دون حساب دقيق أن يشجع هذا الحشد الكادري قوى الشر الإسرائيلية على أن تفتعل الأحداث معنا لتفتك بنا، أو لتوقعنا تحت طائلة التنازلات مقابل أن نبقى وأن نحيا على هذه الأرض كما تريد إسرائيل.

• إن الظروف التي نعيشها وتلك التي تحيط بنا لا تساعدنا في الوقت الحاضر بل تعكس أحياناً سلبياتها وتعيق حركتنا إلى الأمام.

• وقلنا أن وجود كثافة معقولة لكوادر المنظمة خارج أرضنا لفترة من الزمن أمر مستحب لتسهم بالإضافة إلى أسهامها الحالي في حماية ظهور إخواننا في الداخل وهم يقومون بتأدية مهمتهم الصعبة، كما أن وجود رموز قيادية معروفة في الخارج أمر ضروري للعناية بمن بقوا لكي يستمروا في تأدية مهامهم الموكلة إليهم.

ولا مانع في أن يتردد البعض منهم من حين إلى آخر عند الضرورة على هذه الأرض الفلسطينية دخولاً وخروجاً ليعزّز صلته بالجماهير فيساعد على دعم الاستقرار ونزع الحيرة والقلق من نفوسهم.

• يجب أن نؤكد لإخواننا اللاجئين أن المنظمة تقوم بمهمة مرحلية لتساعدهم على الإسراع بعودتهم إلى ديارهم التي اقتلعوا منها، وأن هذه المرحلة مرحلة كفاح وطني من نوع جديد.

• إن حسن أدائنا وشفافيته وجديته سيجعل شعوب العالم تزيد من دعمها لنا وهي مقتنعة بجديتنا في بناء مجتمع عصري حر ودولة فلسطينية ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وتحافظ على أمنه لقد سبقنا شعب جنوب أفريقيا في خطواته نحو الحرية والاستقلال، ونحن ما زلنا في أول الطريق للقضاء على الاحتلال وفرض السيادة على الأرض، وبناء الاستقلال الوطني، نحن اليوم ملزمون أكثر ممّا مضى بالعمل الدؤوب لتحقيق الإجماع الشعبي والمشاركة الوطنية الشاملة التي تفرضها طبيعة مهماتنا الراهنة التي تتمثل بالنهوض بمجتمعنا الفلسطيني التي دمرت إسرائيل بنيته التحتية، وسلبت الشعب حريته وسيادته.

• لا بدّ أن نأخذ في اعتبارنا تقسيم مهامنا بين الداخل والخارج حتى نحافظ على مكاسبنا التي أحرزناها وأن نبقي المبادرة السياسية بأيدينا حتى لا تنتقل المبادرة إلى يد الآخرين ويؤدي ذلك إلى انقسام عامودي في المجتمع الفلسطيني، يجب أن لا نتسرع في الحكم على طبيعة هذه الفترة من حياتنا الثورية فنظن أننا وصلنا إلى شواطئ الامان والاطمئنان الذي يتيح لنا الفرصة للاستراحة والاستجمام، وعلينا أن نضع جدولاً زمنياً لتبادل المهام بين كوادرنا القيادية وخاصة في مجال التنظيم، والعمل الجماهيري لكي يمتزج من هم في الداخل مع من هم في الخارج، ولكي يتعرف الجميع على الظواهر المستجدة هنا وهناك عن قرب، فيحسن التعامل معها بعد معرفته لها، حتى يتسنى لنا نسج علاقات عميقة بين الناس، فنحافظ على مصالحنا ونخلق التوازن بين الداخل والخارج.

• القناعة والالتزام أساسان من أسس العمل النضالي المقبل في إطار برنامج عمل واضح ومحدد، إن قيادة الجماهير في وقت السلم أصعب منها في وقت الحرب، لأن الناس في زمن الحرب مدفوعون بحكم الضرورة والأمن الجماعي إلى التكاتف والتضامن، اما في حالة السلم فقد تبرز مصالحهم بقوة فيرفضون الإخلال بنمط حياتهم الفردية أو العائلية ويميلون إلى الالتزام بالعمل من خلال القناعة والحوار.

في هذه المرحلة تتبدل حوافز الناس التي كانت تدفعهم في الماضي القريب وهم يقاومون العدو المحتل وتتجه نحو خدمة المجتمع وبنائه.

• إن كان الاتفاق قدراً وقع تبنيه وتنفيذه على حركة فتح ولا مناص من تقبله، فعلينا أن نعمل لتوسيع منافذه وأبوابه الضيقة، وليس لنا من باب نجاة غير العمل بروح جسورة وبحكمة وتروي، ولا ندفع الأمور دفعاً وبشكل اعتباطي، ولا بدّ ان ننسج علاقات فلسطينية وفلسطينية- عربية وثيقة، ونستقطب من خلال أدائنا الجيد في بناء المجتمع ثقة المجموعة الدولية بقدرتنا على بناء هذا المجتمع، حتى تتوفر القناعة لدى المجتمع الدولي بأهليتنا لنتمتع بالسيادة والاستقلال في أقصر مدة ممكنة، فيقر لنا طوعاً بهذه الحقوق الوطنية لتصبح حقيقة على الأرض.

• إن البعض من الدول المتنفذة ترى ان الأرض الفلسطينية أرضاً متنازع عليها، وهذا ما يدعيه الإسرائيليون وحلفائهم، وليس هناك ضمان دولي لتحقيق ما نصبو إليه إلا بخلق الحقائق الجديدة على الأرض بشكلها المادي.

دعونا نتحسس مواقع أقدامنا ونحن نسير الهوينا على الأرض، إن الذي يحمي هذه الخطوة التي نحن بصددها هو قوة فتح في الداخل والخارج، ومن ينظمها وحفاظنا على منظمة التحرير الفلسطينية لأنها المؤسسة والهوية الفلسطينية التي اعترف بها الجميع وما زال يعيش في ظلها بإيمان.

والله الموفق

رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية