القيصـــر الـــذي سيحكـــم العالـــــم
أحمد الشرقاوي
إختبـــار الصبـــر الروســـي
في تطور تصعيدي مفاجأ ينذر ببدأ سباق تسلح جديد على مستوى القدرات الإستراتيجية بين روسيا وأمريكا، ألغت إدارة ‘أوباما’ الخميس، تعاونها مع روسيا الإتحادية في مجال الدرع الصاروخية، فأعلنت موسكو بالمقابل، أنها ستعمل ما بوسعها كي لا تكون الدرع الأمريكية في أوروبا عائقا أمام قدراتها الصاروخية، ما فتح الباب على مصراعيه لصراع نفوذ كبير قادم بين القوتين في المدى المنظور.
ويأتي هذا القرار، بعد سلسلة من القرارات السياسية والإجراءات العقابية التي إتخذتها الإدارة الأمريكية والدول الغربية الدائرة في فلكها بشكل غير مسبوق ضد روسيا، وذلك بسبب ضم الأخيرة لجزيرة “القرم” عقب أحداث أوكرانيا المفتعلة من قبل الغرب، لمعاقبة روسيا على دعمها لسورية، ما وسّع من ساحات المواجهة وعقّد من فرص حلها بالطرق الديبلوماسية المعتادة.
وبذلك، دخل العالم اليوم مرحلة جديدة من صراع الأقطاب لا تشبه في شيىء مرحلة الحرب الباردة التي كانت قائمة على “صراع الإديولوجيات” بين المعسكر الشيوعي الشرقي والمعسكر الرأسمالي الغربي، ما سيميز المرحلة الجديدة بصراعات مفتوحة على الفوضى الخلاقة من أجل المصالح والنفوذ، بما فيها المناطق التي توجد ضمن جغرافية إتفاق “يالطا”، والتي كانت مبعدة من الصراع بين القوتين حتى في عز الحرب الباردة.
الحرب الجديدة التي أطلّت بشبحها على العالم ستكون حربا ساخنة بالوكالة في أكثر من بلد ومنطقة بين مفهومين متصارعين: مفهوم “إحترام مبادىء الأخلاق التقليدية في السياسة الدولية” الذي تتبناه روسيا، ومفهوم تصنيف الدول بين “محور الخير و محور الشر” الذي تتبناه أمريكا لتبرير عدوانها على الشعوب المستضعفة.
أمريكـــا تقـــرر محاصـــرة روسيـــا
ومن أهم القرارات التي اتخذت لمعاقبة روسيا ومحاصرتها دوليا، طردها من عضوية مجموعة (G8) لتعود كما كانت، مجموعة الدول الإمبريالية السبعة (G7). ثم إنهاء التعاون بين روسيا وحلف “الناتو” في كافة المجالات العسكرية والمدنية بما فيها مكافحة الإرهاب والمخدرات وأعمال الإغاثة والتدريب في مجال البحار، باستثناء التعاون بين “مجلس روسيا” و “الناتو” في أفغانستان لبدأ الحوار بشأن تأمين إنسحاب القوات الأمريكية والأطلسية الحليفة من هذا البلد الأسيوي المُدمّر نهاية هذا العام، ليتأكد أن أمريكا تلغي ما يناسبها وتبقي على ما يناسبها في تجاهل تام للآخر وصل حد إحتقار روسيا، ومع ذلك، قالت موسكو أن إنسحاب الجنود من أفغانستان عبر أراضيها تعتبرها مسألة “إنسانية” لن تعارضها، وهذه قمة الأخلاق السياسية.
ويشار إلى أن روسيا كانت تُقدّم بموجب التعاون مع منظمة “الناتو” مجالها الجوي لنقل الجنود والشحنات العسكرية إلى القوات العاملة في أفغانستان ضد حركة طالبان، بسبب الخطورة الكبيرة التي تكتسيها الطرق الباكستانية حيث تنشط جماعة طالبان باكستان المسلحة.
ثم جاء إعلان وكالة “ناسا” الأمريكية الأربعاء، بتعليق التعاون مع روسيا في برنامج الفضاء، ويشمل القرار تعليق جميع مسارات التعاون الثنائي في مجال الفضاء من زيارات متبادلة لموظفين روس وأمريكيين، وتبادل الرسائل الإلكترونية أو إجراء مؤتمرات عبر السكايب، باستثناء التعاون في النشاطات المتعلقة بعمل محطة الفضاء الدولية الروسية، التي يتكوّن طاقمها الحالي من ستة رواد فضاء منهم ثلاثة روس وأمريكيان وياباني. علما أنها محطة بنتها روسيا وتستفيد منها أمريكا في الأبحاث العلمية المتقدمة التي لم يكشف بعد عن العديد من أسرارها.
ومرة أخرى، تتأكد الإنتقائية الفجة التي تتعامل بها الإدارة الأمريكية مع من كانت إلى وقت قريب تسميه “الشريك الروسي”. غير أن روسيا لن تطرد أمريكا من محطتها الفضائية، لأنها تعتبر البحث العلمي حقا للجميع، كما أن أمريكا تدفع ثمن إستفادتها، وهذا تصرف أخلاقي راقي يجعل العالم يلحظ الفرق بين الأنموذج الروسي الصاعد كقوة دولية عظمى، والأنموذج الأمريكي الذي استنفذ مخزونه من قاموس الكذب والغدر والإستكبار والإحتقار والخديعة والإجرام، باسم الواقعية السياسية الإنتهازية على الطريقة المكيافيلية.
ومن المعلوم تاريخيا، أن أمريكا وأداتها العسكرية “الناتو”، كانوا دائما المبادرين لشن حروب عدوانية على الدول والشعوب بمبررات مختلقة واهية.. ظهر ذلك في أفغانستان والعراق وليبيا وسورية اليوم، ثم أوكرانيا التي كانت القطرة التي أفاضت الكأس، وجعلت الرئيس ‘بوتين’ يفقد صبره، ويعلن لمن يهمه الأمر: أن “العالم قبل أوكرانيا ليس هو العالم بعدها”.
هذا بالإضافة إلى بعض العقوبات التي فرضتها الإدارة الأمريكية وأوروبا على بعض الشخصيات الروسية الكبيرة، والتي لن يكون لها تأثير يذكر، في إنتظار ما تعتزم أمريكا وحلفائها إتخاذه من إجراءات عقابية تصعيدية مؤثرة، لإختبار قوة وصلابة وصبر روسيا، خصوصا بعد فشل إدارة ‘أوباما’ في إقناع أوروبا بالإستغناء عن الغاز الروسي الذي يشكل 40% من إحتياجاتها الإستهلاكية، حيث تعهدت بنقل الغاز الأمريكي المسال إلى أوروبا إبتداءا من العام المقبل لسد كافة إحتياجاتها من الطاقة، على أن تقيم الدول الأوروبية معامل لتحويل الغاز المسال، ما سيتطلب إستثمارات ضخمة، أوروبا ليست في وارد الإقدام عليها بسبب أوضاعها الإقتصادية الصعبة، ناهيك عن مسألة التكلفة، حيث تبين أن الغاز الروسي يصل إلى أوروبا بتكلفة معقولة جدا، أقل كثيرا مما سيكلف الغاز الأمريكي، وأن شركة “غازبروم” الروسية العملاقة إلتزمت دائما بتعهداتها تجاه الزبناء الأوروبيين حتى في أصعب الظروف التي فرضتها الحرب الباردة.. فسقط هذا الخيار الذي كان سيدخل العالم في جحيم الفوضى والإنهيار الإقتصادي الكبير.
وبالتالي، لن ينفذ ‘بوتين’ تهديده للأوروبيين حين كتب لهم على الأنبوب الذي ينقل الغاز من روسيا إلى أوروبا عبر أوكرانيا بمناسبة توقيع قرار ضم “القرم”: “إبدؤوا بتجميع الحطب”. لكن الشعار سيظل قائما في حال قررت المجموعة الأوروبية مجارات أمريكا في مغامراتها العبثية في منطقة البلطيق وأوروبا الشرقية لمحاصرة روسيا عسكريا من قبل حلف “الناتو”، كما يتبين من التحركات الأخيرة للحلف.. ساعتها سيبدأ العد العكسي للإنهيار الكبير.
لأن ما لا يبشر بخير، هو قرار الرئيس الأمريكي الجمعة، مناقشة مسألة “محاصرة روسيا” مع أعضاء ‘الكونجرس’، والذي سيكون له أبعاده الكارثية على مستوى ‘أوراسيا’ و ‘الشرق الأوسط’ معا، وقد يتوسع ليطال ‘أمريكا الجنوبية’، حيث تعتزم إدارة ‘أوباما’ تفجير ‘كوبا’ بعد أن زرعت بذور الفوضى الخلاقة في ‘فنزويلا’ قبل أسابيع. كما ويسعى الإتحاد الأوروبي من جهته إلى زرع الفتنة في إيران من مدخل حقوق الإنسان، ومطالبة المجلس بحق النواب الأوروبيين في الإجتماع بأقطاب المعارضة في إيران دون موانع أو عوائق من حكومة طهران، بل وبلغ الأمر بالإتحاد الأوروبي في قراره هذا الأسبوع، حد التشكيك في نزاهة الإنتخابات الإيرانية الأخيرة.
وبهذا يتأكد ما دهبنا إليه بالتحليل في أكثر من مقال، أن هدف الغرب من التقارب مع إيران هو الدخول إلى الحصن الإيراني المنيع من الملف النووي، لزرع بذور الفتنة، ومحاولة تفجير النظام من الداخل، بإعتبارها الوسيلة الأنزع والأقل تكلفة من المواجهة العسكرية المباشرة.
مخطـــط “الناتـــو” لمحاصـــرة روسيـــا
قائد قوات حلف شمال الأطلسي “الناتو”، حذر الأربعاء، من أن القوات الروسية المتواجدة على الحدود الأوكرانية قادرة على البدء بالتحرك “لإحتلال” أوكرانيا بعد 12 ساعة من صدور الأمر بذلك. لكنه أوضح أن لحلف شمال الأطلسي خطة جوية وبحرية جيدة فيما يتعلق بالردع، دون تقديم أي تفاصيل إضافية حول هذا الموضوع، مشيرا إلى أنه يجري حاليا العمل على توفير خطة ردع أرضية لتضاف إلى الخطة الجوية والبحرية.
هذا يعني، أن حلف ‘الناتو’ قرر اللعب في الساحة الروسية من داخل أوكرانيا، وبالتعاون مع الدول المجاورة التي كانت جزءا من الإتحاد السوفياتي السابق فالتحقت بأوروبا كرومانيا وبولونيا… وها هو “الناتو” يعلن عن عزمه دراسة ضم جورجيا إلى عضويته خلال الإجتماعات المقررة شهر سبتمبر/ أيلول المقبل في ‘ويلز’.
وتكمن عقدة المنشار اليوم بين الجانبين في مصير أوكرانيا، التي تطالب روسيا بإجراء إستفتاء في الشرق والغرب والجنوب وتحويلها إلى دولة فدرالية خارج مجال “الناتو”، فيما تصر أمريكا وحلفائها على ضمها للإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، الأمر الذي سيدفع روسيا للتحرك عسكريا لضم الشرق والجنوب الأكراني حيث يتمركز المواطنون الناطقون بالروسية، وحيث الصناعات العسكرية والمدنية المقامة من قبل روسيا، في حين يعاني الغرب الأوكراني الفقر والديون الثقيلة وتسيطر عليه عصابات فاشية ونازية تحلق في فلك الغرب وتأتمر بأوامره، وهي من قام بالإنقلاب على السلطة الشرعية برغم الإتفاق الموقع بين الرئيس المعزول وروسيا والإتحاد الأوروبي، والذي كان يتضمن خطة ديمقراطية عملية متفق بشأنها للحل السياسي في أوكرانيا.
روسيا لا يسعها إلا الإستعداد للأسوء، لأن تجربتها مع أمريكا والحلف الأطلسي لم تكن مطمئنة، بدءا من العراق فجورجيا، ثم ليبيا فسورية فأوكرانيا. ومع ذلك تقول روسيا أن قرار الناتو قطع علاقات التعاون معها، ليس الأول من نوعه، بل سبق وأن إتخذ ذات القرار بمناسبة أزمة ‘جورجيا’ سنة 2008، ثم تراجع الحلف بعد ذلك، وتعتقد روسيا أن “الناتو” هو من يحتاج لتعاونها لا العكس، وبالتالي، فمصير هذا القرار الفشل، لأن الخاسر في كل الأحوال لن يكون روسيا.
غير أن الأمر هذه المرة يبدو مختلفا، والوضع أكثر تعقيدا، والهجوم الغربي لمحاصرة روسية أكثر جدية وشراسة. وهو ما دفع بمندوب روسيا الدائم لدى حلف “الناتو” ‘ألكسندر غروشكو’ للإعلان الأربعاء 2 أبريل/نيسان، أن روسيا سترد على خطوات الحلف الرامية الى تعزيز قواته على حدوده الشرقية، قائلا: “روسيا ستتخذ كل الإجراءات السياسية والعسكرية اللازمة لضمان أمننا”. وأشار الى أن موسكو على علم بنية الحلف إعداد خطط لتعزيز دفاعه مع حلول موعد عقد قمة الحلف المقبلة في سبتمبر/أيلول القادم. مشيرا إلى أن دول البلطيق وبولندا مشمولة بخطط تعزيز المنظومة الدفاعية لـ”الناتو”، كما تم تأسيس قواعد عسكرية للحلف في بلغاريا ورومانيا بالإضافة الى القواعد في بولندا ومراقبة أجواء دول البلطيق بشكل دائم، مؤكدا أن طرح موضوع انضمام أوكرانيا الى “الناتو” يزعزع الاستقرار، مشيرا الى ضرورة أن تكون أوكرانيا دولة محايدة.
أمريكــا و رقصــة الديــك المذبــوح الأخيــرة
الولايات المتحدة تمر اليوم بأسوأ مرحلة تاريخية في حياتها، بعد أن فقدت هيبتها، وظهر ضعفها ومحدودية قوتها في أفغانستان والعراق ومؤخرا في مواجهة محور المقاومة مجتمعا قبل الإتفاق الكيماوي السوري، وفشلت خلال ثلاث سنوات في إسقاط سورية كمنطلق لإضعاف محور طهران – لبنان في أفق تفتيته بالمفرق، وبدأ يتراجع نفوذها، خاصة في منطقة “الشرق الاوسط” ومنطقة “أوراسيا” الاستراتيجيتين، وتزداد أزمتها الإقتصادية إستفحالا مع تزايد سقف المديونية وإنخفاض معدل الإنتاج، وبدأ بالتالي نفوذها الدولي المعنوي يتراجع بشكل سريع بسبب مواقفها السياسية وتدخلاتها الأمنية اللا أخلاقية.
وعليه، فمحاولة الولايات المتحدة محاصرة روسيا والصين وفق إستراتيجية أوباما لشرقي آسيا التي وضعت سنة 2012 لتنفذ هذا العام، بهدف منع أي قوة دولية أو إقليمية من الظهور كلاعب أساسي على المسرح الدولي، لا تتوفر لها أدنى إمكانية للنجاح، لأنها جائت متأخرة جدا، وفي ظرفية متغيرة لا تسمح للولايات المتحدة وحلفائها بفرض إرادتهم على دول كبرى كروسيا والصين وإيران التي نجحت في إستمالة تركيا رغم الخلاف حول الملف السوري، وحيدت حلفاء تقليديين لواشنطن في الخليج. ولولا الضعف الأمريكي لما ظهر شيىء إسمه خلاف خليجي – خليجي، ولما نشط آل سعود في البحث عن حلفاء جدد لحماية عرش قبيلتهم في باكستان ومصر وأندونيسيا أيضا.
هذه المعطيات وغيرها تؤكد أن أمريكا مهزومة اليوم، وتصرفاتها المتطرفة والمتهورة، تشبه إلى حد بعيد رقصة الديك المذبوح الأخيرة قبل السقوط المريع.
الغيــب يقتحــم مجــال التحليــل الإستراتيــجي
من الصعب على أي محلل اليوم توقع ما يمكن أن يحدث في المدى المنظور بين أمريكا وحلفائها و روسيا وحلفائها، وأن يضع تصورا للنظام العالمي القادم إنطلاقا من المعطيات والمعلومات والشواهد المتوفرة، لأن مثل هذه الرؤية هي من مجال علم المستقبليات الذي يعتمد نظريات فلسفة التاريخ.
العالم منقسم اليوم بين شرق وغرب كما كان عليه الحال أيام الحرب الباردة، والجميع قلق يترقب لصالح من ستُرجّح الكفة بالنهاية، وهنا، من المهم الإشارة إلى أن أكثر الناس إعتمادا على علم التنجيم في التخطيط الإستراتيجي هم حكام وساسة الغرب والشرق، لأسباب قد تكون نفسية أكثر منها عقلية أو عقائدية.
لست من الذين يؤمنون بقدرة الإنسان على رؤية الغيب التاوي وراء حجب الستر وبرازخ الخيال من دون وحي من السماء، لأن الغيب هو من علم الله تعالى (عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ) الجن: (26 –28). علما أن الرسول الذي يختاره الله لإبلاغ رسالته، قد يكون ملكا أو رسولا، وقد يكون نبيّا أو وليّا أو من البسطاء الذين يطلعهم الله على غيبه بفضله.
بدليل أن القرآن بيّن لنا إخبار الله تعالى لأم موسى بالغيب وهي لم تكن من الأنبياء أو المرسلين أو الملائكة (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ…) القصص: (7). كما بين لنا أن الملائكة كانت تحدث مريم (ع) وتخبرها بالغيب في بعض المواقف (إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ…َ) آل عمران (45). وغيرها من الآيات التي تتحدث عن وحي الله للبشر والنحل والنمل والشجر والحجارة.
ما من شك أن ظاهرة الغيب هي من المعجزات الدائمة والمتكررة التي تؤكد أن علاقة الإنسان بالسماء لم تنقطع بإنقطاع التعاليم زمن الرسالات، وأن الله لم يترك الإنسان لقدره سُدى، بل ظلت علاقته معه قائمة ومستمرة دون إنقطاع، وهو ما يتكشّف للإنسان من خلال واقع تحربته الأرضية في أكثر من حادث أو حالة وجدانية.
ولعل قصة ‘الخضر’ (ع) مع كليم الله موسى (ع) في سورية الكهف خير دليل على أن الله يُطلع من يشاء من عباده على غيبه بما قد لا يحضى به رسول، وأن هذا الغيب مقدّر وفق رؤية الله للعالم والإنسان، ويستحيل أن ينجح كائن من كان في تغيير مجرياته، لأن الله هو صانع المستقبل والفاعل الوحيد في التاريخ، وأن الناس مجرد أدوات يستعملها لتحقيق التوازن في هذا العالم من خلال التدافع. وهنا لا أريد الإستطراد في شرح ثنائية “الجبر والإختيار” وما أثارته من جدل فقهي، وكلامي، وفلسفي، وصوفي… وهو موضوع شيق قد نتطرّق إليه قريبا.
كما وأنه من حيث الواقع، تؤكد عديد التجارب الإنسانية، أن العالم عرف “شخصيات” كانت تبدو مغمورة، لكنها كانت تمتلك قدرة خارقة على قراءة المستقبل والتنبأ بالأحداث الكبرى التي ستقع في العالم، والقائمة طويلة، لكن ما يهمنا في سياق هذا المقال، هو ما تحدثت عنه وسائل الإعلام العالمية بمناسبة إنفجار أزمة روسيا مع الغرب بسبب أحداث أوكرانيا وضم موسكو لجزيرة “القرم”.
و في تقرير عن إمرأة بلغارية إسمها ‘فانغيليا باديفا غوشتيروفا’، ولدت عام 1911م وتوفيت عام 1996 م. وكتب الكثير عن قدراتها الفائقة والإستثنائية، بحيث كانت تخبر عن المواليد الصغار وعن الأطفال الذين لم يولدوا بعد، وإنها كانت تتحدث مع أشخاص ماتوا منذ مئة أو مائتي سنة أو أكثر.
وبغض النظر عن صحة ذلك من عدمه، فما سجل عنها في ما يتعلق بالأحداث الكبرى، أنها تنبأت في عام 1980 م بغرق الغواصة النووية الروسية “كورسك”، وقالت بهذا الخصوص: ”كورسك ستذهب تحت الماء في شهر أغسطس 1999 م أو 2000 م، وكل العالم سيأسف لذلك). تعجّب الجميع آنذاك من هذه النبوءة إذ أن “كورسك” مدينة روسية كبيرة بعيدة عن البحار والأنهار، ولم يخطر ببال أحد أن المقصود من النبوءة غواصة تحمل إسم المدينة.
حدث استثنائي آخر وقع في أيام الحرب العالمية الثانية، فقد زارها ‘هتلر’ والقيصر البلغاري ‘بوريس’، ويحكى أنهما غادرا منزلها مغتاظين، وبالطبع لم يعلم أحد بما حدّثتهما به المرأة.
ثم تنبـأت بتفكك الإتحـاد السوفييتي فصدقت نبوءتها.. وتنبــأت بحادثـة ‘تشيرنوبيل’ النووية، فوقعت الكارثة.. كما أنها كانت قد حددت تاريخ وفـاة ستاليـن، وهو ما حدث بالضبـط، وبسبب ذلك سجنت.. وتنـبـأت كذلك بفـوز الرئيس الروسي بوريس يلتسين في الإنتخـابات الروسيـة، ففاز وأصبح رئيسا بدل ‘غورباتشوف’ الذي دمر الإتحاد السوفياتي.. وتنبأت بتفجيرات نيويورك، حيث قالـت: “إنها ترى أخوين حديدين تفرقهم وتدمرهم بعض الطيـور المكونة من الفـولاذ” في إشارة إلى الطائرات.
أما ما ركز عليه المراقبون مؤخرا، فهو تنبؤاتها حول الفترة المعاصرة، حيث قالت: أن “الرئيس رقم 44 للولايات المتحدة سيكون إفريقياً”، فجاء ‘أوباما’ تماما كما توقعت، لكنها، وهذا ملفت، بل ومثير لقلق الأمريكيين، قالت: “أنه سيكون الرئيس الأخير للولايات المتحدة”. والغريب أنها سبق وأن قالت: أنه “في وقت تسلم الرئيس الجديد من أصول إفريقية السلطة في الولايات المتحدة، ستكون هناك أزمة اقتصادية كبيرة، وسيعلق الجميع آمالهم عليه لإنهائها ولكن العكس هو ما سيحدث، وسيودي بالبلاد للهاوية وسيتصاعد النزاع بين ولايات الشرق والغرب وسيفرض التقسيم نفسه”.
هذا الكلام، قالته ‘فانغيليا’ قبل وفاتها عام 1996، ولا يستطيع أحد في هذا العالم إنكار أن ما قالته لم يحدث، بل بالعكس، حدث تماما كما قالت، وكلامها مسجل وموثق من قبل العديد من وسائل الإعلام العالمية أثناء حياتها، ما يجعل التشكيك فيه غير قائم. ولعل ما ظهر من مؤشرات عن ضعف الإدارة الأمريكية في حل الأزمات، وفقدانها لهيبتها في العالم، وظهور محدوديتها العسكرية في التدخل خارج حدودها، ومطالبة 29 ولاية أمريكية مؤخرا بإجراء إستفتاءات لتقرير مصيرها والإستقلال عن الفيدرالية. هذه كلها مؤشرات قوية تؤكد أن إمبراطورية روما الجديدة ذاهبة بسرعة نحو “التقسيم” الذي يبدو أنه قدرها الآتي، لينتهي عهدها وطغيانها وجبروتها، وترقد في مزبلة التاريخ مع الإمبراطوريات القديمة المندثرة (إنظر مقالة: العالم بعد أوكرانيا ليس هو العالم قبلها).
روسيـــا ستحكـــم العالـــم
أما روسيا، فقد كانت تنبؤات ‘فانغيليا’ تقول بأنها “ستحكم العالم”… وهنا يعجز “علم المستقبليات” برغم ما يستعمله من أدوات منهجية وعقلية عن وضع تصور واضح لما سيكون عليه العالم في المدى المنظور والمتوسط، لكننا لا نملك سوى قراءة المعطيات المتوفرة، والمؤشرات الدالة، التي من شأنها مساعدتنا على إستشراف آفاق المستقبل لمعرفة مدى دقة ما توقعته هذه المرأة الإستثنائية بالنسبة لزمننا الحالي والآتي.
لأن إعتماد الإدارة الأمريكية على إستراتيجية “النفط و الإرهاب” لإفتعال الأزمات وتبرير التدخلات في شؤون الدول والشعوب بهدف تحقيق مصالحها الإنتهازية وتكريس نفوذها الإستبدادي، غيّر من قواعد اللعبة في العلاقات بين الدول، وفسح المجال لسياسات ظالمة، تقوم على المؤامرات و الفتن المتنقلة لإضعاف الخصوم وإخضاعهم، بديلا عن المواجهات العسكرية المباشرة التي إنتهت بنهاية ولاية الرئيس ‘جوج بوش’ الصغير.
غير أن المثير للدهشة والإستغراب، هو أن ما توقعته ‘فانغيليا’ بالنسبة لروسيا قد لا يتفق مع ما عاهدناه من سنن التاريخ، التي تقول أن حضارة إمبراطورية ما عندما تنتهي لا تعود لتقوم من جديد من الأنقاض، وبالتالي، فقد يكون الأمر يتعلق بحضارة جديدة تتربع على عرشها روسيا الإتحادية، ولا علاقة لها بالإديولوجيا “الشيوعية” التي كانت قائمة زمن الإتحاد السوفياتي السابق..
لأن ما يشهده العالم اليوم، هو بروز عدة قوى إقليمية ودولية عظمى من بينها روسيا.. هذا نظام ممكن في حال أُسّس على العدل والتعاون بين الأمم وإحترام سيادة الشعوب، وهو المطلب الذي بدأ يجذب العديد من دول العالم إلى المحور الروسي، ولو من باب التعاطف بالنسبة لبعض المترددين الذي لا يفقهون تقدير نتائج المتغيرات التي تجري اليوم في منطقة الشرق الأوسط ومنطقة أوراسيا في نفس الوقت.
وفي الخلاصة، نستطيع القول أن نجم أمريكا سائر بسرعة نحو الأفول، وأن الفراغ ستملأه قوى جديدة صاعدة، وأن النظام العالمي القادم سيكون أقل ظلما وعدوانا وفسادا من النظام القائم اليوم، لكنه سيولد من رحم الأزمات.. وأن نبوءة ‘فانغيليا’ بنشوب أزمة إقتصادية عالمية كبرى وفشل ‘أوباما’ في معالجتها وتطويق تداعياتها، سيؤدي حتما إلى تقسيم الولايات المتحدة كخيار يفرض نفسه، وبالتالي، سيبزغ فجر جديد لقيام نظام دولي متعدد الأقطاب، سيكون أخلاقيا وأكثر توازنا وأقل ظلما، وستتربع روسيا الإتحادية على عرشه معنويا، بإعتبارها رأس الحربة في الحرب القائمة اليوم على الغطرسة والهيمنة والنفوذ الأمريكي الأحادي الجانب
خاص بانوراما الشرق الاوسط - نسمح باعادة النشر شرط ذكر المصدر تحت طائلة الملاحقة القانونية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق