الاثنين، 9 ديسمبر 2013

شهادة أحمد عبد الرحمن مع أبو عمّار

شهادة أحمد عبد الرحمن مع أبو عمّار
دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الأولى : لم يبق غير هؤلاء !

 


صدح صوته في اذاعة صوت العاصفة منذ فجر الثورة الفلسطينية وكلف بملف الاعلام مع الشهيد ماجد ابو شرار , كتب واذاع بيانات الثورة الفلسطينية عبر مراحل النضال المتعددة, شارك في صناعة اعلام الثورة في عدة مواقع , وبعد ان عاد الى غزة كُلّف  بأمانة مجلس الوزراء ليعود من جديد ناطقا باسم الحكومة الفلسطينية التي ترأسها أبو عمار.

ترك العمل السياسي بعد استشهاد الرئيس ياسر عرفات واعتكف بعيدا عن الاضواء مبررا ذلك بـ"وعكة صحية" ولكن الحقيقة أن حزنا عميقا على أبيه الروحي "ياسر عرفات"أصابه ..

"عشت في زمن عرفات" , هو كتاب أحمد عبد الرحمن الذي أصدره في ذكرى استشهاد "والده الروحي" ياسر عرفات .. يحاول أحمد عبد الرحمن تدوين تاريخ ربما غاب أو غُيّب بسبب أو بدون ..

دنيا الوطن تنفرد بنشر كتاب أحمد عبد الرحمن الجديد , 28 فصل مليئة بالقصص والحكايا والتاريخ الذي يجب أن لا يغيب ..

الفصل الأول:
الحلقة الأولى : لم يبق غير هؤلاء

تعال اسمع، إنهم ينادون عليك. قال صديقي نبيل الإمام، شاب قصير القامة يصرخ في ميكرفون وبأعلى صوته يقول: من أراد منكم تحرير فلسطين فليلتحق بقوات العاصفة، وظل يرددها عدة مرات.

قلت لنبيل: لم يبق غير هؤلاء وليكن ما يكون.

بالفعل اقتربت من الشاب القصير القامة وكان يضع مسدسا ظاهرا في حزامه.

 قلت له: سجل اسمي من فضلك.

وأسرع الشاب وسجل اسمي، قال لي هامسا: في الساعة السادسة صباحا انتظرك غداً على جسر فكتوريا في موقف باص الهامة ودُمَّر.

شكرته وصافحته ومضيت مع نبيل لتناول القهوة في مقصف الجامعة وسط ضجيج الطلبة.

_ إنك مجنون، ما الذي تفعله، هل تعرف إلى أين سيأخذونك؟ قال نبيل الإمام.

قلت له: لا شيء يمنعني من الالتحاق بهم.

 وقال نبيل: أمرك غريب.

قلت لنبيل: لا تستغرب من التحاقي بهؤلاء الذين لا أعرفهم، لكن الأمر بالنسبة لي إنني لم أعد أحتمل الحياة التي كنت أحياها، يجب أن أكون أمينا  مع قناعاتي، وهذه القناعات جعلتني أترك بيروت وأذهب إلى الجبهة في الجولان، وبالطبع لم نصل الجبهة ولم نحارب، فقد كان كل شيء قد انتهى بالغارات الجوية والالتفاف حول الجبهة، هذا ما قاله لنا الجنود والضباط الذين لم يتناولوا الطعام  على مدى ثلاثة أيام.

 الشاعر العراقي عبد الكريم  كاصد، كان معنا في هذه المجموعة الطلابية، وقد قال شعراً ما زلت أحفظه:

أنا الجندي المكلف صابر بن جحيش 

حياتي لم أر الجولان ولم أسمع بقلقيلية

وسجائري رخيصة من خصوصي  الجيش .

ضحك نبيل وأصر على كتابتها وفي المساء افترقنا، على أن نلتقي في يوم ما. ولم يتحقق هذا اللقاء أبدا، فقد قرر نبيل الإمام وضع حد لحياته لأسباب لا أعرفها، وعلمت أن الروائي حيدر حيدر كتب في مجلة المعرفة مأساة نبيل إمام دون أن أتمكن من الاطلاع عليها، لأنني غادرت دمشق.

في الساعة السادسة صباحا في الأيام الأخيرة من حزيران ذاته كنت على أتم استعداد بانتظار الشاب الذي سيأخذني إلى الفدائيين، حضر الشاب في الوقت المحدد تماماً وركبنا الباص ومعنا عدد غير قليل من طلاب الجامعة في موقف جسر فكتوريا، ولم يكن بيننا أي حديث، بل صمت مطبق، وفي موقف للباص قبل ميسلون شدني من يدي، ودون كلام قطعنا الشارع وصعدنا مرتفعا ترابيا. في خيمة صغيرة كان بانتظارنا شاب يلبس ملابس شبه عسكرية، ولا أبالغ إذا قلت أننا لم نتبادل التعارف، وكان كل متطوع يختار الاسم الذي يلائمه، وبالفعل اخترت "منتصر المقدسي" وبهذا الاسم نشرت مقالا سياسيا في مجلة "إلى الإمام " التي كانت تصدر في ذلك الوقت، والمقال مليء بالجمل الثورية التي كنت أحفظها عن ظهر قلب.

وقد فوجئت بأن المطلوب مني أن أعود في الغد للتدريب على استخدام السلاح، ولم تزد مدة التدريب كلها عن أسبوع واحد لفك وتركيب الكلاشنكوف والتمييز بين الألغام ضد الأفراد وضد الآليات، ولا أنسى ضخامة اللغم الصيني  الذي كان المدرب يقفز عليه ليؤكد لنا أنه مخصص ضد الدبابات والآليات الثقيلة، وفي الواقع انتهت فترة التدريب دون أن نطلق طلقة واحدة، وقال المسئول إن الدورة التي حضرتها كانت لعدد من طلبة الجامعات ولم يكن هدف الدورة التحاقهم الفوري بقوات العاصفة، بل كان عملاً تنظيميا في الوسط الطلابي في الجامعة لنشر أفكار فتح.

 وفي اليوم الثاني بعد عودتي من المعسكر وجدت في مقصف الجامعة من يسأل عني وكان السائل كما عرفني بنفسه عاطف أبو بكر ولم أكن قد رأيته من قبل، كان شابا نحيفا ويضع نظارات بشكل دائم ويتحدث بصوت خفيض، يحرص على التكتم الشديد في كل ما يقوله، وعلمت منه أنه مكلف بالاتصال معي للعمل  في التنظيم الطلابي لفتح ولم ينس أن يشير إلى أنه قد قرأ القصة التي كتبتها في مجلة الأسبوع العربي بعنوان "سجين زنزانة بلا رقم " وقد استوقفته كلمة واحدة كان يتمنى تغييرها وهي أن أستبدل كلمة "الصاعقة " في القصة بكلمة "العاصفة "، علما أنني عندما كتبتها لم أكن أعرف الفرق بين الصاعقة والعاصفة وقد حرص عاطف أبو بكر عندما قرر تشكيل اللجنة الطلابية أن أكون أحد أعضائها وأذكر أن هذه اللجنة كانت مسؤولة نظرياً عن الطلاب في دول الطوق باستثناء مصر التي كان لفتح فيها وجود طلابي قوي وقديم بحكم أن مؤسسي فتح كانوا في معظمهم من قطاع غزة سواء أكانوا مقيمين في القطاع أو عاملين في دول الخليج، وكان من بين أعضاء اللجنة شاب اسمه محمود الأسدي وشاب آخر اسمه عبد اللطيف يدرس في كلية الطب وبعد عشرين سنة اغتالته جماعة أبو نضال في مخيم اليرموك، وقبل الاستطراد لا بد أن أذكر أن عاطف أبو بكر وكان سفيرا في المجر بعد عام 1982 قد أعلن انشقاقه وانضمامه إلى جماعة أبو نضال وقد صدمت جداً حين علمت باغتيال الدكتور عبد اللطيف وكذلك حين علمت بانشقاق عاطف أبو بكر الذي اختلف فيما بعد مع أبو نضال ولجأ إلينا في تونس دون أن أراه، وكان الشاب حمزة الذي التحق بفتح مرافقا للشهيد أبو الهول وهو من نفذ جريمة  اغتيال الشهداء الثلاثة: أبو إياد وأبو الهول، وأبو محمد العمري قد اعترف بأن مهمته الأولى كانت تصفية عاطف أبو بكر الذي كان في حماية ضابط الأمن أبو ثائر الحنتولي.

لم يمض وقت طويل حتى أصبحت الوجه الطلابي المعروف لحركة فتح في الجامعة وحين حل موعد إجراء انتخابات الهيئة الإدارية لاتحاد طلاب فلسطين في سوريا، وجدت أنني المرشح الأبرز لحركة فتح وكان هناك شاب آخر مرشح باسم فتح اسمه  "علي "، لم أكن أعرفه من قبل، وفي أثناء الاستعداد في أوساط الطلبة لإجراء الانتخابات اقترب مني شاب وعرفني بنفسه قائلا:  أنا طلال ناجي من جبهة تحرير فلسطين  ( ج.ت.ف ) .

طلال ناجي شاب وسيم طويل القامة وفي غاية اللطف والأدب والدماثة وقد لفت انتباهي أن يده اليسرى ليست يداً طبيعية وحين سألته عن السبب قال نتيجة انفجار داخل المعسكر وقد ربطتني علاقة قوية واحترام متبادل مع طلال ناجي طوال الفترة القصيرة التي قضيناها معا في اتحاد الطلاب وبحكم موقعي ممثلا لفتح في اتحاد الطلاب تعرفت على الكثيرين من أعضاء القيادة.

وكان لقائي الأول مع بشير المغربي وهذا هو الاسم الحركي لفاروق القدومي "أبو اللطف " وقد استقبلني في منزله بكل ترحاب، وكان حريصا على إظهار حركة فتح كحركة وطنية تضم تنوعا من القناعات الفكرية والسياسية ولكن بعد الالتزام والقسم فالهدف تحرير فلسطين وأضاف: فتح ترحب بكل أبناء الشعب الفلسطيني للانخراط في صفوفها والعمل من أجل تحرير فلسطين، وقال: أعلم أنك ذهبت متطوعا في الحرب وأنك تلقيت دورة تدريبية في معسكر الهامة ويشرفنا أنك ممثل فتح في اتحاد طلاب فلسطين، ويسعدني أن أتعامل مع الطلبة المناضلين والتقدميين واليساريين فهم المسلحون بالفكر والنظرية الثورية وقال الجملة الثورية المعروفة "لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية "وتوقفت عند جملته الأخيرة وما تعنيه بالنسبة لي وقلت له: في الواقع لست منتميا لأي حزب سياسي وقناعاتي السياسية والفكرية هي نتاج ثقافتي السياسية المحدودة وتجربتي الحياتية.

لكن الذي عرف عني بعد هذا اللقاء أنني يساري.

كانت فتح تعتبر نجاحها في انتخابات اتحاد الطلاب الذي كان ياسر عرفات رئيسه الأول وكان تحت مسمى رابطة طلاب فلسطين، دليلا على صحة السياسة التي تسير عليها فتح لتحرير فلسطين، وفي مقر القيادة ( 23)  ظهر أبو عمار فجأة بملابسه العسكرية والكوفية الفلسطينية على رأسه والمسدس على خاصرته وصافحني بحرارة وهو يقول أهلا بممثل فتح في اتحاد الطلاب، لم أكن هنا يوم الانتخابات ولكني تابعتها وعلمت بنجاح فتح وحصولها على مقعدين، وبأعلى الأصوات، وسرعان ما استدعى ربحي عوض حيث كلفنا بتوزيع البلاغات العسكرية والبيانات السياسية على الصحف والإذاعات وشدد على وكالات الأنباء والمراسلين الأجانب وقد قمنا بهذا العمل على مدى شهرين وبعدها استدعي ربحي عوض إلى القاهرة لحضور اجتماعات اتحاد الطلاب وكلفتني اللجنة التنظيمية بالسفر إلى الأردن لبناء التنظيم الطلابي لحركة فتح، دون أن تكون لدينا معرفة بحقيقة وجود تنظيم لحركة فتح في الأردن، وبالفعل غادرت إلى الأردن وفي نقطة الحدود في الرمثا لم يسألني أحد من المسئولين  عن نشاطاتي القديمة في الجامعة ولم يطلب أحد مني مراجعة المخابرات أو مصادرة جواز السفر، وبدا كأن ما كان يصلني عن وجود اسمي على الحدود لاعتقالي بمجرد عودتي إلى الأردن، مجرد دسائس طلابية كانت رائجة كثيرا في أواسط الستينات.

عمان مدينة الجبال السبعة والمخيمات كانت مدينة حزينة بسبب هذا النزوح الكثيف من الضفة الغربية، ثلاثة مخيمات تقام في نفس الوقت "شنللر"و"البقعة" ومخيم جرش، وأما المخيمات من عام 1948 فقد أخذت تتسع لتستوعب المزيد والمزيد من اللاجئين، مخيم الوحدات تضاعف سكانه عدة مرات في أشهر قليلة، ومخيم المحطة والجبل الشمالي ومخيم جبل النصر الحياة كالحة وكئيبة ولا شيء يبعث على الفرح إلا أن الحديث الذي يتردد في بيوت الأقارب كان الحديث عن الفدائيين وعن فتح في الأغوار والكرامة، كان الناس يبحثون عن بصيص أمل وسط هذا الدمار الشامل لوطن وشعب، وأردت بدوري أن أرى الفدائيين في الكرامة والأغوار؛ وفي سيارة أجرة عادية توجهت إلى بلدة الكرامة الطرق داخل البلدة غير معبدة، والأرض رملية ولفَّتني عاصفة ترابية لحظة نزولي من السيارة، وسرت عشرات الأمتار لأجد نفسي في مواجهة علم فلسطين يرفرف فوق بيت طيني، ولم يعترضني أحد وأنا أدخل البوابة الخارجية كان الواقفون هناك لا يعنيهم أمر من يدخل أو من يخرج.

أبو عمار لم يكن موجودا، وجلست بحرج شديد فلست مسلحا ولا أرتدي الملابس العسكرية، وقد أنقذني من هذا الوضع الشاذ دخول أحد الشباب وهو يحمل كلاشنكوفا، وكان من طلبة الجامعة حتى وقت قريب، أما كيف صار فدائياً ومقاتلاً، وفي بلدة الكرامة خلال أشهر معدودة  ، فهذا جعلني أنظر إليه باحترام شديد، لقد قطع المسافة الضبابية بين الفكر والممارسة إنه فدائي  وبرفقة رجل متوسط القامة وممتلئ ومسلح أيضا وأدركت من تصرفات الشاب أنه الأخ أبو إياد وقد غادر المكان مباشرة بعد مصافحتي إلا أن الشاب المرافق قال إنه سيعود بعد قليل، وبالفعل عاد بعد أقل من ساعة ومعه رزمة أوراق وقال لي: هذه البلاغات العسكرية يجب توزيعها في عمان والمخيمات وقد طلبوا مني أن أسلمها لك.

 وأشعرتني هذه المهمة أنني أقوم بعمل من أجل فتح مهما كان صغيرا أو بسيطا ولا يقارن بالفدائيين الذين يقطعون النهر ويطلقون النار على المحتلين الإسرائيليين، وقد رتب هذا الشاب العودة الآمنة إلى عمان بإحدى الشاحنات التي تنقل الرمل وقال لي هناك حواجز ونقاط تفتيش أقامها الجيش بين الكرامة وعمان، وبالفعل شاهدت بعض الحواجز العسكرية ولكن لم يعترضوا الشاحنة، ووصلت عمان بسلام، ولم أكن أعرف غير أقاربي اللاجئين في المخيمات، وأخبرت عددا من الشباب بالمهمة التي كلفت بها وهي توزيع البلاغات العسكرية وقد شعروا جميعا بالفخر عندما اكتشفوا أن قريبهم وابن عائلتهم واحدٌ من الفدائيين، وفي الليل قاموا بإلصاق البلاغات العسكرية على واجهات المحلات التجارية وعلى أعمدة الكهرباء وعلى الجدران ولوحات الإعلانات والدعاية، وقد قال لي الشباب المندفعون بجنون للالتحاق بالفدائيين: إن الناس يتوقفون قرب أعمدة الكهرباء أو الواجهات التجارية لقراءة البلاغ العسكري الصادر عن قوات العاصفة، وعزمت  في صباح اليوم التالي أن أذهب إلى الشوارع الرئيسة في عمان، لأرى البلاغ العسكري وأرى الناس وهم يتدافعون لقراءته، وقد حذرني الشباب من مراقبة رجال المخابرات المكلفين بالقبض على كل من يوزع منشورات للفدائيين، وقلت للشباب: لقد دخلت البلد بشكل شرعي ولا يوجد أي مبرر لاعتقالي، وبالفعل سرت في شوارع العاصمة وهي تغص بالناس ورأيت بعض البلاغات العسكرية ملصقة بالغراء على أعمدة الكهرباء ولوحات الإعلان، ورأيت المارة لا يتوقفون طويلا، بل بعضهم يقرأ كلمات الخط العريض ويمضي لشؤونه، وبعضهم يمعن النظر في أسماء الشهداء ومكان العملية الفدائية، والذي فاجأني أن أصحاب المحلات التجارية يقومون بتمزيق البلاغ أو نزعه عن الواجهة لأن الاحتفاظ به قد يعرضهم للمساءلة، إلا أن البلاغ العسكري في المخيمات كان يوزع ويلصق دون تدخل المخابرات أو الشرطة، وقد داومت على هذا العمل بين الكرامة وعمان عدة أسابيع، ولكن دون أن أتمكن من مقابلة أبو عمار حيث كان دائم الحركة والتنقل ولم أكن أقضي الليل في الكرامة مثل الفدائيين الآخرين بل أحمل رزمة البلاغات العسكرية وأتوجه إلى عمان للقيام بمهمة توزيعها وتعليقها من خلال الشباب الذين زاد عددهم في مختلف المناطق والمخيمات.

لم أكن بحاجة إلى بذل أدنى جهد لإقناع الشاب الفلسطيني للقيام بهذا العمل حين يسمع مني الكلمة السحرية حركة فتح، في مخيم البقعة ومخيم شنللر كان الشباب يتسابقون لأخذ البلاغ العسكري وقراءته وتوزيعه، وفي أحد الأيام، وكنت في مخيم البقعة وكان قد أقيم حديثا بعد الغارات الإسرائيلية على مخيم  الكرامة، وكان العفيف الأخضر وهو مفكر تونسي موجودا في نادي المخيم لحوار سياسي، وقد حضرت إلى النادي وعبرت عن اختلافي مع العفيف الأخضر حول بعض الشكليات اللفظية التي اعتبر تصدّرها للبلاغ العسكري دليلا على أن حركة فتح حركة يمينية ولم أجد أمامي غير الاستشهاد بهوشي مينه وماوتسي تونغ وحتى ستالين وقلت المهمة السياسية لنا هي تحرير وطننا وتجنيد كل القوى المستعدة للنضال، لأننا حركة تحرر وطني تضم مختلف الأطياف وهذه هي فتح، وليست حركتنا في وارد الصراعات الاجتماعية أو الفكرية، المهمة الآن مهمة وطنية تهم جميع الفلسطينيين المقتلعين من أرضهم، وقد لقيت مداخلتي صدى طيبا لدى جمهور المستمعين وللتاريخ أقول إن العفيف الأخضر  ظل عنيدا ومصمما على رأية وقد تكون هذه هي المرة الوحيدة التي قابلته فيها، وبعد الحديث في نادي المخيم سرت في شوارع المخيم  وحولي العشرات من الشباب الذين يطلبون التطوع وقد أعطيتهم اسم "صلاح التعمري" المسئول في الكرامة، عن استيعاب المتطوعين علما أنني لم أقابله أبدا في تلك الأيام، وبالنسبة لمهمتي الأساسية في الأردن، فقد عينت الشاب "نسيم اليتيم"مسئولا عن التنظيم الطلابي، ومع ظهور نشاط هؤلاء الشباب وقع خلاف بين التنظيم الموجود وبين نسيم اليتيم حيث اتهم "قدري" والذي ظهر أنه المسئول الأول والمعتمد في الأردن، نسيم اليتيم بأنه ليس عضوا في فتح، وقال لي نسيم فيما بعد أن قدري استغرب أن يحمل نسيم اليتيم كتاب "مرض الطفولة اليساري" للينين، وأذكر أن مواقف وحجج لينين في هذا الكتاب كانت سلاحا نظريا قويا في يدنا في مواجهة التنظيمات اليسارية، إلا أن قدري اعتبر ما يقوم به نسيم ومجموعات الشباب في المخيمات والكليات والجامعة لا تربطه أية صلة بمرجعية فتح في الأردن.

أنهيت مهمتي التنظيمية بتشكيل اللجنة الطلابية ورتبت استلام وتوزيع البلاغات العسكرية وغادرت عمان إلى دمشق يوم 20/3/1968، وصبيحة اليوم التالي فتحت المذياع على إذاعة لندن وإذا بالمذيع يقول: وصلنا هذا الخبر العاجل وقرأ التالي: إن الجيش الإسرائيلي بدباباته وآلياته قد اجتاز نهر الأردن إلى الضفة الشرقية باتجاه بلدة الكرامة حيث يتمركز الفدائيون، وأضافت إذاعة لندن نقلا عن المتحدث الإسرائيلي إن هدف العملية العسكرية الإسرائيلية هو القضاء على المخربين، وأخرجني الخبر الصاعق عن طوري، وصلت المقر في ساعة مبكرة ووجدت بشير المغربي وآخرين وبدا لي أنهم لم يناموا طوال الليل، فالإرهاق الشديد كان باديا على وجوههم جميعا. وكان الحديث كله حول العدوان الإسرائيلي الواسع النطاق على الفدائيين في الكرامة وسمعت "أبو اللطف" يقول بأن "أبو عمار" اتخذ قرارا بالصمود والمواجهة مخالفا قوانين حرب العصابات وإن بعض القادة الآخرين من خارج فتح وقوات العاصفة عارضوا قرار أبو عمار وفضلوا تطبيق قوانين حرب العصابات أو الأنصار، وعدم الدخول في معركة مواجهة دون وجود تكافؤ في القوى، وكشاهد عيان لما لمسته بنفسي في الكرامة فلا توجد تحصينات تصد الدبابات ولا يوجد سلاح مضاد للدروع، وما يملكه الفدائيون  سلاح فردي "الكلاشنكوف" وقنابل صغيرة الحجم معلقة في خاصرة الفدائي، كما شاهدت قاذف "أر بي جي "  في المقر المتواضع في الكرامة، ولهذا فوجئت بما قاله بشير المغربي عن قرار أبو عمار بالصمود والمواجهة مخالفا قوانين حرب العصابات ودون أن تتوفر لديه القوة أو الأسلحة لمواجهة هذه القوة الإسرائيلية التي زادها انتصارها السهل في حزيران 1967 غرورا وغطرسة، لم أتفوه بكلمة عن مهمتي في الأردن، بل رحت أبحث عن عمل أقوم به ووجدت أنيس الخطيب وأحمد الوحش وآخرين يطبعون البلاغات العسكرية والتصريحات السياسية ويقومون بتوزيعها بالهاتف فانضممت إليهم، وعند الظهيرة جاء من قال بأن الأخوة الفدائيين في معسكر الهامة يستعدون للتحرك إلى الكرامة، ووجدت أنني أكثر المعنيين بالذهاب إلى الهامة لأكون واحدا من الفدائيين المغادرين إلى الكرامة، وبالفعل قمت ومجموعة من الشباب الموجودين في المقر بالتوجه إلى الهامة وخلال نصف ساعة كنا نصعد الطريق إلى المعسكر وكانت مفاجأة مذهلة لي حين أمعنت النظر في الفدائي الواقف على أهبة الاستعداد وباللباس الفدائي الكامل ويحمل سلاح الكلاشنكوف وعرفته على الفور، إنه سعيد حمامي الصديق والزميل في الجامعة، والذي كان أبعد ما يكون عن أي التزام سياسي وكان أقرب إلى الوجودي، حين رأيته، انعقد لساني ولم أدر ما أقول.

 إن سعيد حمامي الساخر من السياسة والسياسيين أصبح فدائيا ومسلحا ويستعد للمغادرة إلى الكرامة، وأنا لا أزال في أول الطريق بملابسي المدنية وفي الواقع خجلت من نفسي وشعرت نفسي صغيرا أمام سعيد حمامي الذي قطع مسافة طويلة في زمن قصير، فقد طلق الوجودية وانتمى لحزب البعث ثم ترك حزب البعث والتحق بفتح وتلقى تدريبا عسكريا وأصبح فدائيا مقاتلا وعرفت منه فيما بعد أنه أحد الفدائيين الذين نفذوا عملية قصف إيلات بالصواريخ.

ضحك سعيد حين صافحني ضحكته المعهودة وقال التقينا أخيرا، وقلت: يسعدني أنك هنا، فقال: ويسعدني أن أراك هنا كذلك، وقلت لسعيد: جئت من المقر للالتحاق بالمجموعة الفدائية الذاهبة إلى الكرامة، وقال سعيد: الذاهبون فقط هم من تلقوا تدريبا عسكريا وتطعيما ميدانيا، ولا أعتقد أنهم سيأخذونكم.

قلت لسعيد: لسوء الحظ وصلت من عمان يوم أمس وأردت من قولي هذا أن أجعل المسافة بيني وبينه أقل مما يعتقد، ولكنه كان جبلا شامخا وكنت في واد سحيق ولولا كبرياء الشخصية التي تعطل أحيانا قفزات كبيرة إلى الأمام لطلبت منه مساعدتي في اجتياز هذه المسافة المرئية واللامرئية بين وضعه الجديد ووضعي المضطرب على السفح الآخر من الجبل كما يقول ريجيس دوبريه.

ودعني سعيد وهو يصعد إلى السيارة وكان يبتسم ويلوح بيده، وعدت إلى المقر حيث العمل الدؤوب لتوزيع ما يصل من أخبار معركة الكرامة، وأذكر أنني أضفت بعض الجمل للبيانات السياسية وقد وجدها بشير المغربي مناسبة تماما: معركة الكرامة معركة كل الأمة العربية، معركة الكرامة معركة الصمود الفلسطيني والعربي في وجه العدوان، معركة الكرامة: العسكرية الفلسطينية تفرض نفسها في وجه العدوان، معركة الكرامة قرار بالصمود فإما النصر وإما الشهادة.

وفي اليوم الثاني للمعركة عندما شاهد الناس الدبابات والآليات الإسرائيلية المحترقة في ميدان المعركة وصل مجد الفدائيين إلى السماء، وبدأ اسم ياسر عرفات يتردد على كل لسان وعلمت فيما بعد أن أبو عمار قرر دفن الشهداء في بلدة الكرامة وأرسل فقط جاثمين 17 شهيدا لتدفن في عمان حتى لا تصاب الجماهير بالإحباط. وقد علمت أن عدد الشهداء يزيد عن (90) شهيدا من فتح و 24 شهيدا من قوات التحرير الشعبية، وشهداء الجيش العربي الأردني بلغ عددهم 60 شهيدا.

وفي اليوم الثاني لمعركة الكرامة ظهر لديّ بشكلٍ واضح بطولات الجيش الأردني في التصدي للعدوان الإسرائيلي وللتاريخ أقول إن انتصار الكرامة قد صنعته وحدة الهدف ووحدة العمل ووحدة الإرادة بين قائدي المعركة ياسر عرفات واللواء مشهور حديثه الجازي، حيث عقد القائدان العديد من اللقاءات الميدانية والعمل المشترك لمواجهة قوات العدوان الإسرائيلي، وقد تعزز هذا التنسيق الميداني بقرار الملك حسين بالتصدي للقوات الإسرائيلية ، فأمر سلاح المدفعية بقصف الدبابات والآليات وتدميرها.

 في ذلك الوقت كانت الصورة الواضحة لدي عن حركة فتح أنها قوات العاصفة والذي يلتحق بفتح يذهب فورا إلى قوات العاصفة ولهذا بعد معركة الكرامة بأيام كان علي أن أجد مصدرا ودخلا ماديا يكفيني شخصيا، فليس لدي مسؤوليات عائلية وأسكن بالمجان في المدينة الجامعية ومدينة دمشق تمتاز عن غيرها من العواصم بأن تكاليف الحياة فيها ليست عالية وليست باهظة،  وجدت من مد يد المساعدة لي لإيجاد دخل معقول وكان أول من أوجد لي عملا لا يؤثر على التزامي بفتح هو المناضل الكاتب الفلسطيني فايز قنديل وهو عضو التنظيم الفلسطيني لحزب البعث ومسئول عن صوت فلسطين في الإذاعة ويقدم عدة برامج ثقافية وسياسية وتاريخية، وأوكل إليّ كتابة مادة عن فلسطين في مختلف المجالات دون أية قيود وأما الثاني الذي ساعدني فكان الصحفي والكاتب السوري فؤاد نعيسه وكان رئيسا لتحرير مجلة الاشتراكي الصادرة عن اتحاد العمال وبدوره لم يضع أية قيود أو اشتراطات بل طلب أن أكتب عن فلسطين، وبعد فترة قصيرة أصدر قرارا بتعيني سكرتيرا للتحرير، وكان ممن عمل معنا البدوي الطيب فؤاد بلاط الذي تولى فيما بعد رئاسة هيئة الإذاعة والتلفزيون ونقابة الصحفيين.

في هذه الأثناء ولمدة عام تقريبا واصلت العمل في اللجنة الطلابية وفي اتحاد الطلاب وسط خلافات داخلية وخلافات فصائلية، أما الخلافات الداخلية فكانت تعود إلى تغلغل التنظيم الطلابي في كل المعاهد والجامعات والمخيمات على حساب الشخصيات التقليدية التي اهتزت عروشها أمام طلبة صغار السن، أصبحوا يتحكمون في الدوام والدورات والمظاهرات وحتى حمل السلاح علنا.

ووجدت هذه الشخصيات التقليدية التي تسللت بدورها للالتحاق بفتح، لأن أبواب فتح مفتوحة للجميع، وأن الانتماء لفتح أصبح يزيد المرء وجاهة ومجدا،  وجدت هذه القوى في التعبئة السياسية التي نقدمها للشباب خروجا على مبادئ فتح وأهدافها. وقد فبركت هذه القوى بيانا سياسيا وموقعا باسم "التنظيم الطلابي اليساري لحركة فتح". والبيان المفبرك جعل أصابع الاتهام توجه لي، فأنا اليساري منذ لقائي مع بشير المغربي، وفي الوقت نفسه تقريبا كانت المشاحنات الطلابية في ذروتها، وتدخلت علنا وماديا في خلاف مع الطلاب البعثيين الذين مزقوا بيانا لحركة فتح على لوحة الإعلانات، وكان من نتيجة ذلك، اشتباك بالأيدي وتحطيم لوحة الإعلانات.  وتدخل اتحاد طلبة الجامعة ومنع الطرفين من تعليق البيانات من جديد. إلا أن أصداء هذا الاشتباك وتدخلي المباشر فيه وصل إلى حيث أعمل في جريدة الاشتراكي واستدعاني الرجل المهذب عبد الله الأحمد رئيس الاتحاد وطلب مني بأدب شديد تلطيف الأجواء في الجامعة وقرأ لي قرارات الحزب حول حرب التحرير الشعبية منذ فترة طويلة.

وتزامنت الأزمتان أزمة تنظيمية داخلية تعتبر التثقيف السياسي الثوري خطرا على فتح وأزمة في العمل، حيث شكرت عبد الله الأحمد وذهبت عند الأخ الكريم فؤاد نعيسه وقدمت له استقالتي من الجريدة، أما الأزمة الداخلية فتصاعدت حتى وصلت بشير المغربي مسئول التنظيم في ذلك الوقت وعضو القيادة العليا لفتح، وقال لي أنت الآن أنهيت دراستك الجامعية في الشهر الماضي كما علمت وكان هذا في دورة  شباط 69، ولم تعد طالبا ولهذا سنكلفك بمهام جديدة في الخارج وحين لم يجد مني أي اعتراض على أقواله قال لي: أصدرت قرارا بإرسالك إلى السودان للاتصال مع الحزب الشيوعي السوداني وتنظيم العلاقة بين فتح والحزب، وأنت خير من يقوم بذلك، وأصدر أمره بترتيب سفري إلى القاهرة وإلى السودان على وجه السرعة وهكذا انتهت مرحلة من حياتي السياسية امتدت من حزيران 1967 وحتى آذار 1969.




 

الحلقة الثانية :العمل في الدائرة الخارجية

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الثانية :العمل في الدائرة الخارجية
أحمد عبد الرحمن
الفصل الثاني

العمل في الدائرة الخارجية 

وصلت  القاهرة يوم (11) آذار 1969 في يوم استشهاد الفريق عبد المنعم رياض بقذيفة مدفعية على قناة السويس، ورأيت في الشوارع غضب الشعب المصري وقابلت أبو رؤوف الشقيق الأكبر لأبو عمار ورحب بي وحدثني عن دوره القديم في نصرة الثورة الجزائرية التي أهدت هذا المكتب  لفتح بعد انتصار الجزائر.

وحضر لقاءنا مصطفى عرفات وينادونه أبو درش وهو الشقيق الثاني لأبو عمار، وتقرر أن يرافقني إلى السودان حيث لديه معارف كثيرون هناك، وكان رجلا مرحا وخفيف الظل وصاحب نكتة، وجعل رحلتي إلى السودان رحلة ممتعة حقا، وتبين لنا بعد وصولنا إلى الخرطوم أننا لسنا أول من يصل السودان من فتح فهناك ممثل لفتح اسمه علي الزميلي ويسكن في فيلا واسعة محاطة بحديقة كبيرة أهداها لفتح وزير الإعلام السوداني "عبد الماجد أبو حسبو"، وحين عرف مصطفى عرفات بوجود ممثل لفتح في السودان ومكتب يداوم فيه شاب فلسطيني مقيم مع عائلته في السودان، قام بترتيب لقاء مع الزميلي وتقرر أن أنتقل من الفندق إلى الفيلا، وعرف الزميلي بطبيعة مهمتي ولم يرفض ولم يرحب وبدا كأنه قبل بقرار إرسالي إلى السودان على مضض، وقد تعرفت في السودان على مدير مكتب المنظمة هناك وهو الأخ عبد اللطيف أبو حجلة / أبو جعفر، وأجريت اتصالات محدودة مع اتحاد طلبة جامعة الخرطوم مع عناصر من الحزب وشرحت لهم مهمتي للاتصال بالحزب، إلا أن مهمتي في السودان انتهت بأسرع مما أتوقع، فالأخ الزميلي لا يرى ضرورة لمهمتي هناك فهو يتصل بالجميع وقد لقي قراره ترحيبا لدي، حيث كان همي الوحيد أن أكون داخل فتح ومؤسساتها وفي أرض المعركة بالذات وليس بعيدا آلاف الأميال عن كل الشرق الأوسط وأكتفي بما أسمعه عن فتح والثورة في الإذاعات التي من الصعب التقاطها في الخرطوم، وخلاصة القول أنني لم أمكث في الخرطوم سوى شهرا واحدا تقريبا، غادرت بعدها إلى القاهرة دون هدف محدد هذه المرة، ولكن بذريعة شكلية وهي أن السودان لا تحتاج لأكثر من ممثل واحد يتولى إجراء الاتصالات بكل الأحزاب السودانية ولا حاجة ليكون هناك ممثل خاص للاتصال مع الحزب الشيوعي السوداني. وقد غادرت السودان قبل أيام معدودة من الانقلاب العسكري الذي قاده جعفر النميري، حيث ألغى الأحزاب كلها، وفي القاهرة التقيت مع أبو جهاد أولا ومع أبو إياد وأبو عمار، ويبدو أنهم كانوا في لقاءات مع المسئولين المصريين، وعلمت فيما بعد أن محمد حسنين هيكل قد نقل لأعضاء القيادة عدم ارتياح جمال عبد الناصر لبرنامج صوت العاصفة وكيف يقدم المواد التي يجرى بثها، ومن غرائب الصدف أن الموجه للبرنامج كان سعيد المزين ( أبو هشام) الذي التقيته قبل سنتين في مكتب الإعلام في دمشق واختلفنا حول الموقف من عبد الناصر فقد كان أبو هشام يحمله مسؤولية هزيمة حزيران.

 وفي اليوم الذي دخلت فيه مبنى الإذاعة في مقرها ( 4 شارع الشريفين) لم يكن أبو هشام موجودا وعين الأخ فؤاد ياسين مسئولا عن البرنامج وهو من الذين تركوا الإذاعة السورية بعد الانفصال، وقد علمت أن سبب غضب عبد الناصر كان تعليقا من صوت العاصفة وبعنوان "ماذا يفعل الأسطول السوفييتي في البحر الأبيض المتوسط " واستدعى الرئيس عبد الناصر هيكل وطلب منه نقل عدم رضاه لقيادة فتح، وتردد أن عبد الناصر قال بعد أن قرأ التعليق: "مين دول، هم مش فاهمين إنو الأسطول السوفييتي لمساعدتنا، إيه الحكاية؟ فهمهم إنو الأسطول السادس الأمريكاني هو اللي مع إسرائيل وضدنا مش السوفيتي ".

يبدو أنني وصلت في اللحظة المناسبة، وبالفعل أخذني أبو جهاد معه إلى مبنى الإذاعة ولم أكن قد قابلته من قبل أبدا وقال لفؤاد ياسين أنه قد تم تعييني في الإذاعة، وبالطبع لم يشرح لي أبو جهاد أسباب هذا التعيين ولا المطلوب مني، فالمسؤول الأول في الإذاعة هو الذي يتولى رسم السياسة وتقرير الموضوعات أو رفضها، ولكنه حين قدمني لفؤاد ياسين قال له: "أنني كنت أكتب مقالات وتحليلات سياسية في مجلة الاشتراكي التي يصدرها اتحاد العمال في سوريا، والإشارة هنا واضحة فمجلة الاشتراكي كانت عمالية ويسارية واشتراكية زمن صدورها حين كان خالد الجندي رئيسا لاتحاد العمال ولم يتغير الكثير في سياستها حين تسلم عبد الله الأحمد رئاسة الاتحاد بعد الجندي. وهنا لا بد أن أسجل أن أبو جهاد وكان دينامو فتح الذي يحرك كل شيء وبصمت مذهل، تراه ولا تراه الحاضر في كل صغيرة وكبيرة في كل مجال، ويبحث في كل أركان الأرض من أجل فلسطين.

وصحيح  أن الأصول السياسية لأبو جهاد تعود إلى الإخوان المسلمين، ولكنه لم يقترب يوما من موضوعات الخلاف حول اليسار واليمين أو الرجعية والتقدمية الرائجة في الساحة الفلسطينية، كان يرفض المغالاة وجر قضية فلسطين إلى هذا المعسكر أو ذاك، كان يجر المعسكرات وأنصارها لخدمة فلسطين، كان وطنيا واستقلاليا قل نظيره.

في الواقع جاء تعييني محررا في صوت العاصفة في القاهرة من قبل أبو جهاد لتكريس الخط الوطني والاستقلالي بعيدا عن المغالاة الإيديولوجية التي عكست انحيازا لصالح الإخوان المسلمين، وبالطبع بهدف التأكيد على الإنسجام بين فتح والناصرية، فعبد الناصر كان قد بدأ حرب الاستنزاف على قناة السويس، وقدم لفتح الأسلحة في شحنات متلاحقة إلى دمشق وعمان، وتدخل مباشرة وبشكل قوي لمنع المساس بالمقاومة في الأردن ولبنان وأرسل ضباطا من المخابرات إلى الأردن وسوريا ولبنان لتنسيق العلاقة مع فتح في مجال المقاومة، وأصبح معروفا في وقت لاحق أن قصف إيلات بالصواريخ كان عملا مشتركا بين فتح والضباط المصريين، وقد شارك في هذه العملية سعيد حمامي وتم ضرب مصنع البوتاس على البحر الميت بشكل مشترك بين فتح والضباط المصريين. ولهذا لا يمكن لقيادة فتح أن تقبل أن يكون برنامج صوت العاصفة وهو لمدة نصف ساعة فقط، بالسماح أن يحمل البرنامج في مواده المذاعة ما يؤثر على هذه العلاقة مع مصر عبد الناصر، فجرى سحب أبو هشام وتكليف فؤاد ياسين بالمسؤولية .

دخلت مبنى الإذاعة (4 شارع الشريفين)، برفقة أبو جهاد وهذا جعلني موضع رعاية واهتمام من فؤاد ياسين وبقية العاملين وتعرفت على الطيب عبد الرحيم وعبد الله حجازي، خالد مسمار، عبد الشكور، يحيى رباح، زياد عبد الفتاح، يحيى العمري، فؤاد عباس، محمد الدرهلي، وحيد بدرخان، وشباب مصريين منهم حسن أبو علي الذي لم يتركنا أبدا وظل عاملا في فتح.
 يتولى المسؤولية الكاملة عن البرنامج فؤاد ياسين والطيب عبد الرحيم يقدم "نداء المقاتلين" وعبد الله حجازي "صوت من قواعد الثورة " وفي فترة لاحقة التحق حمدان بدر ورسمي أبو علي وعزمي خميس، وقدم حمدان فقرة باللغة العبرية ومعه مكرم يونس.

ولمدة شهرين من أواسط نيسان 1969 وحتى أواسط حزيران 1969 بقيت في الإذاعة أكتب تعليقا حول قضية معينة أو أحرر الأخبار عن العمليات الفدائية والبلاغات العسكرية دون أن يكون لي دور تقريري لتوجيه البرنامج العام وفي هذه المدة القصيرة التقيت مع الشاعر والثائر معين بسيسو وكان يعمل في الأهرام واصطحبني معه وعرفني على لطفي الخولي وطاهر عبد الحكيم وعبد المنعم القصاص وآخرين كثيرين ولا أنسى أبدا الدفء المصري تجاه المقاومة الفلسطينية لدى هؤلاء جميعا.

في تلك الأثناء كان الأخ صلاح خلف / أبو إياد يتردد على الإذاعة وكنت قد لمحته في الكرامة قبل المعركة بشهرين تقريبا، ولا أزعم الآن أنه تذكر لقاءنا العابر في الكرامة، إلا أنه استدعاني في أوائل حزيران 1969 وسألني إن كنت مستعدا للقيام بمهمة خاصة لصالح الثورة وفتح في أوروبا، وأضاف بما أنني حتى الآن لم أتسلم مسؤولية دائمة في الإذاعة فيمكن الاستغناء عني ولن يتأثر العمل في غيابي وبالفعل كان محقا فيما قاله ولهذا قلت له: أنا مستعد لأي عمل تكلفني به سواء هنا أو في أي مكان، وكان أبو إياد هو المسئول الأمني الأول في فتح. وقلت لأبو إياد: ولكن جواز سفري تنتهي صلاحيته خلال أيام، فقال هذه مشكلة بسيطة، بالفعل رافقته في اليوم التالي لزيارة السفير الأردني في القاهرة، طيب الذكر والرجل الفاضل حازم نسيبة الذي أمر فورا بتجديد جواز سفري، ولم نغادر مقر السفارة الأردنية إلا والجواز الجديد في جيبي، وقال لي أبو إياد: جهز نفسك للسفر خلال يومين.

 ودون أن أعرف الجهة التي سأسافر إليها، وفي اليوم الثالث سلمني أبو إياد التذاكر المطلوبة وأبلغني أن وجهتي جنيف وأن شخصا ينتظرني في المطار وهو سيتعرف عليك ويتولى ترتيب الأمور كلها حول مهمتك هناك. غادرت القاهرة يوم الحادي عشر من حزيران 1969، وبالفعل استقبلني شخص في المطار وقال إن اسمه إبراهيم وهو يعمل في مكتب المقاطعة العربية في جنيف، وعلمت منه أنه يعمل الآن للحصول على الأوراق الخاصة بالفدائية أمينة دحبور والمسجونة في زيورخ لمشاركتها في خطف طائرة سويسرية أو أن عملية الخطف حصلت وفشلت في زيورخ وتم إلقاء القبض عليها هناك.

 وأضاف: ليس مطلوبا منك سوى الانتظار ريثما انتهي من تحقيق المطلوب ولكن بإمكانك أن تزور مكتب الجامعة ويمكنك أن تجلس هناك حيث يوجد مقهى تحت المبنى مباشرة، ولأنه ليس لدي ما أعمله ولا أعرف أحدا في جنيف، فقد داومت في المقهى تحت مكتب الجامعة بانتظار أن يوفر المسئول المصري المطلوب لأحمله إلى أبو إياد الذي كلفني بالمهمة، ولا بد أن أذكر هنا أن أبو إياد سلمني قرارا من الأخ بشير المغربي بأنني "ممثل فتح في أوروبا" ويبدو أن المسئول المصري في مكتب المقاطعة والذي أطلعته على الكتاب، قد نقل هذا الخبر لأحد الفلسطينيين الذي يدرس الدكتوراه في جامعة جنيف، وذات يوم وأنا أجلس في المقهى اقترب مني شاب وعرف بنفسه وقال أنا فؤاد شمالي أدرس الفلسفة في جامعة جنيف، فرحبت به، فهو أول شخص يقترب مني ويزيل هذا الشعور الطاغي بالوحدة والعزلة في مدينة تضج بالحياة والساعات، وبعد قليل مد يده في جيبه وأخرج ورقة ناولني إياها وقرأت فيها مايلي: قرار من مفوض التنظيم بشير المغربي بتعيين فؤاد شمالي ممثلا لفتح في سويسرا. وأعترف أن الخبر أسعدني بقدر ما فاجأني، وكان الأجدر أن أكون على علم بوجود ممثل لفتح في سويسرا. وهذه الظاهرة التي شكلت خللا لفترة طويلة في عمل فتح بسبب سرعة العمل وتعدد مراكز القرار، فما حصل الآن في جنيف حصل مثله في عمان وفي الخرطوم.

رعاني فؤاد شمالي رعاية كاملة حتى أنه اشترى لي ملابس جديدة تصلح لمن يأتي إلى جنيف وقدمني لزوجته، ولمفاجأتي أن "أليسار" زوجته هي ابنة  أنطون سعادة  مؤسس الحزب القومي السوري الاجتماعي، الذي أعدمته السلطات اللبنانية، وكانت السيدة الفاضلة والدة "إليسار" تسكن معهما في جنيف، وأدرك فؤاد بذكائه وثقافته الواسعة أن معرفتي بالحزب السوري القومي الاجتماعي تكاد تكون صفرا، وقال لي بعد يومين: أنه لا يستطيع العودة إلى لبنان لأنه مطلوب بسبب محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها الحزب للإطاحة بـ فؤاد شهاب عام 1961، وكان فؤاد مشاركا في المحاولة، وأضاف: هذا موضوع انتهى التزاما وممارسة ويشرفني الآن أنني ملتزم بفتح، وأعتبر فتح نجحت فيما فشل الحزب في تحقيقه.

وبفضل فؤاد عرف كثيرون عن وجود ممثل لفتح في جنيف، وكانت فتح في ذلك الوقت مثل العملة الصعبة نادرة الوجود ومطلوبة، فمعركة الكرامة جعلت من فتح مصدر فخر لكل عربي أينما وجد، وأخبرني فؤاد أن زميله في الجامعة كمال خير بك يسره أن يتعرف علي وبالفعل اجتمعنا نحن الثلاثة في شقة فؤاد وكان كمال من القوميين السوريين  وهو مثقف واسع الاطلاع ويحضر رسالة دكتوراه في الجامعة في الأدب العربي والأدب المقارن، وجرى بيننا حديث طويل حول أفكار فتح والحزب القومي السوري، وأنه في المستقبل لا بد لفتح أن تتبنى برنامج الحزب بتوحيد الهلال الخصيب لبناء القوة السورية  لتحرير فلسطين، وفي الحقيقة استهوتني هذه الفكرة التي تمكِّن فتح من تعبئة الشعوب في سوريا ولبنان والأردن وفلسطين والعراق لخوض معركة التحرير، لكن ما وجدته غريبا، اعتبار أنطون سعادة لجزيرة قبرص أنها نجمة الهلال الخصيب، ولكن دون أن أثير هذه القضية مع كمال خير بك  وبقينا أصدقاء طوال حياة فؤاد الذي اكتشف بعد وقت قصير أنه مصاب بمرض "سرطان الدم "وأنه يعرف اللحظة التي تنتهي فيها حياته، ولهذا تمنى أن يفجر نفسه بطائرة فوق تل أبيب، وقد شارك في عملية نسف خزانات النفط في مدينة تريستا شمال إيطاليا في قاعدة للأمريكيين هناك وتوفي فؤاد في صيف عام 1972 وحضرت جنازته في بيروت وقد دفن في مقبرة الشهداء، أما كمال خير بك فقد اغتالته يد آثمة في بيروت في أتون الحرب الأهلية في لبنان عام 1980.

وبفضل فؤاد وجهوده الحثيثة توسعت نشاطاتي في جنيف فالتقيت  مع المرحوم عبد الحميد شومان مؤسس البنك العربي وهو من قرية بيت حنينا وبينها وبين قريتي بيت سوريك لا تزيد المسافة عن خمسة كيلو مترات، واستقبلني المرحوم شومان في مقر فرع البنك العربي في جنيف ورحب بي أشد الترحيب لأنني أمثل فتح أولاً التي رفعت رأس العرب عاليا بعد أن لطخته هزيمة حزيران بالتراب وحين عرف أنني من بيت سوريك أخذ يتذكر أيام صباه وشبابه في قرية بيت حنينا وأبدى حسرته على احتلال القدس الشريف وقال: الأمل فيكم كبير ويجب ألا يفلت زمام القضية من أيديكم وحدثني عن صداقته الطويلة مع أحمد حلمي عبد الباقي (أحمد حلمي باشا رئيس أول حكومة فلسطينية في عام 1948) ومأساة عام 48 وكيف ضاعت البلاد.

وبعد أن انتهى من سرد الذكريات المؤلمة سألني عن مهمتي فقلت له أنها تنظيمية للشباب الفلسطيني في الجامعات والمهجر، وإذا به يسأل فؤاد إن كان لفتح مكتب في سويسرا فأجابه فؤاد بأنه يدرس في الجامعة ويقوم بالعمل لتنظيم الطلبة والمناصرين للمقاومة من خلال مجموعات سويسرية فقال المرحوم شومان: لا بد من وجود مكتب للعمل من أجل فتح، ففي جنيف وحدها (اثنتان وعشرون) منظمة يهودية في خدمة إسرائيل، وطلب مني أن أزوره في مكتبه في البنك في اليوم التالي وقال: الفصل صيف والمصطافون العرب بدأوا يتوافدون على سويسرا، ولا بد أن يتبرعوا لفتح وفلسطين ومن أجل فتح المكتب في جنيف، وبالفعل داومت في مكتبه لأكثر من عشرة أيام، وكان يستقبل المصطافين الأثرياء وخاصة من دول الخليج والسعودية ومن بلدان أخرى ولم يرفضوا له طلبا للتبرع لحركة فتح المجاهدة وللفدائيين أبطال معركة الكرامة.

وأخيرا دعا إلى اجتماع عاجل ضم أكثر من (عشرين شخصا) من الشخصيات الاقتصادية والمالية العربية المقيمة في جنيف وأجلسني بجانبه وبدأوا بالتبرع لفتح وفلسطين ومن أجل فتح المكتب في جنيف.

 بعد أن جمع محاسب البنك المبلغ الذي تبرع به المجتمعون، قال المحاسب على مسمع الجميع: وعبد الحميد شومان يتبرع بضعف هذا المبلغ، فصفق الحاضرون وشرح لهم فؤاد شمالي خطوات العمل المطلوبة لدعم المقاومة الفلسطينية ومنها استئجار مكتب وتجهيزه وشراء سيارة للتحرك ولمست أن الحاضرين وعلى رأسهم المرحوم شومان يحترمون فؤاد شمالي ويثقون به ويعتبرون تعيينه ممثلا لفتح في سويسرا دليلا على بعد نظر قيادة فتح، فهي تبحث عن أفضل الشباب والشخصيات دون حساسية لانتماءاتهم السابقة بل تجند الجميع من أجل فلسطين.

أما اللقاء الآخر الهام الذي تم في جنيف فكان مع الأمين العام لجامعة الدول العربية المرحوم عبد الخالق حسونة، وهذا اللقاء تم كذلك بمبادرة فؤاد شمالي، وقد رحب المرحوم حسونة باللقاء الذي تم في مقر عصبة الأمم، وفي الحقيقة لم يكن لدي أي هدف خاص من هذا اللقاء، كنت أعتقد أنه ينتظر أن يسمع أخبار المقاومة في فلسطين، وقد أنقذني من هذا الحرج مدير مكتب الأمين العام وهو دبلوماسي مصري، فهو استقبلني في الصالة الواسعة الممتدة والموصلة إلى قاعة الاجتماعات الكبرى واعتذر مني لعدم انتهاء الجلسة التي يحضرها الأمين العام في مؤتمر منظمة العمل الدولي، وقال: كلها ربع ساعة ويحضر الأمين العام وأضاف: يسألني هل سأطرح على الأمين العام شيئا محددا وقلت له في الواقع يشرفني لقاء الأمين العام فالجامعة هي بيت فلسطين العربي، وسأعرض على معاليه الوضع الراهن في فلسطين وتصاعد المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.

وقال الدبلوماسي المصري: المقاومة الفلسطينية بعد معركة الكرامة هي أمل العرب جميعا، وكما تعلم فإن الصهيونية شوهت التاريخ، والبعض في أوروبا احتفل بانتصار إسرائيل وهزيمة العرب في حزيران 1967 وفي هولندا صار موشيه ديان بطلا عالميا ووضع كثيرون العصبة على عينهم اليسرى تيمنا بديان، ولهذا لا بد من العمل لخلق رأي عام مؤيد للمقاومة الفلسطينية على مستوى العالم، وتقوم مكاتب الجامعة في الدول المختلفة بفضح الدعاية الصهيونية وافتراءاتها وتزويرها للتاريخ والأحداث، ولكن بعد أن أصبحت المقاومة الفلسطينية قوة حقيقية على الأرض صار الناس يريدون أن يسمعوا من الفلسطينيين أنفسهم وليس من أي أحد آخر يتحدث بالنيابة عنهم، ولهذا أقترح أن تطلب من الأمين العام تعيين ممثل لفلسطين في كل مكتب من مكاتب الجامعة ليتولى بنفسه شرح قضية فلسطين على أن تدفع له الجامعة راتبه أسوة بباقي العاملين.

وقد شكرت الدبلوماسي المصري على هذا الموقف الذي يعبر عن حرصه كدبلوماسي مصري عريق على إيصال كلمة الحق الفلسطيني وبلسان فلسطيني إلى العالم وبالفعل حضر الأمين العام المرحوم عبد الخالق حسونة وهو طويل القامة وعريض المنكبين وشعر رأسه خطه الشيب ويتحدث اللغة الفصحى، وبادرنا بالقول: أهلا بأبطال فلسطين وصافحنا أنا وفؤاد بحرارة وعبر عن سعادته بلقاء ممثل فتح التي تشكل اليوم أمل العرب جميعا وقال: إن الجامعة العربية تواصل رسالتها في خدمة قضية فلسطين في كل مجال، وسألني عن العلاقات بين المقاومة والأردن ولبنان، فقلت العلاقات جيدة والفضل يعود للرئيس عبد الناصر في تمكين المقاومة من تجاوز العراقيل التي توضع في طريقها دون أن أدخل في تفاصيل الإشكاليات التي تحصل مع هذه الدول بين يوم وآخر، ويبدو أن الدبلوماسي المصري شعر أنني ابتعدت عن اقتراحه بتعيين ممثل لفلسطين في مكاتب الجامعة العربية، وكان عدد المكاتب في ذلك الوقت 24 مكتبا موزعة على مستوى العالم، وتدخل الدبلوماسي المصري ومدير مكتب الأمين العام وقال: هناك اقتراح لدى ممثل حركة فتح في أوروبا يود طرحه عليكم.

ورحب الأمين العام بهذا الاقتراح وطلب أن يكون على جدول أعمال مجلس الجامعة في الاجتماع المقبل وقال: طبعا يريد العالم أن يسمع الفلسطينيين أنفسهم وهذا اقتراح سأطلب من مجلس الجامعة الموافقة عليه وتتولى المنظمة تسمية الممثل ونحن نتكفل بتغطية عمله وإقامته وراتبه.

شكرت الأمين العام وودعته، وبالفعل تم إقرار تعيين المندوبين الفلسطينيين في مكاتب الجامعة مباشرة بعد عودة الأمين العام، وفي أول اجتماع لمجلس الجامعة العربية.

وبالطبع لا يعرف أحد في المنظمة أو فتح صلتي بهذا القرار فلم أكن على صلة قوية بصاحب القرار، أبو عمار، وكان قد انتخب رئيسا للمنظمة في شهر شباط من عام 1969، ولهذا لم أكتب لأية جهة سواء عن لقائي مع المرحوم عبد الحميد شومان أو عن لقائي مع الأمين العام لجامعة الدول العربية عبد الخالق حسونة ولا أعلم إذا كان فؤاد شمالي قد كتب لبشير المغربي حول هذه اللقاءات.

  وعندما وافقت الجامعة على تعيين المندوبين لم أكن حتى في القاهرة ولم أجد ضرورة لأشير إلى دوري في هذا الموضوع، أما قضية أمينة دحبور وبعد ثلاثة أسابيع من إقامتي بجنيف فقد حضر الضابط المصري العامل في مكتب المقاطعة العربية لإسرائيل وسلمني ملفا مغلقا لأسلمه لأبو إياد، ولكنه تمنى علي أن أقابل المحامي السويسري من مدينة زيورخ الذي يتولى القضية أمام المحكمة ومعلوم أن سكان هذه المدينة هم من الألمان. وحرص المحامي السويسري أن يدين بأقسى العبارات العدوان الإسرائيلي عام 67 والمدعوم من الصهيونية الأمريكية، وأكد أن من حق الفلسطينيين والعرب أن يقاوموا بكل الوسائل لاسترداد أرضهم من المحتلين الصهاينة، ولا أنسى أن أشير إلى لقاء عابر مع فنان تشكيلي لبناني يعرفه فؤاد في مقهى على مقربة من بحيرة  جنيف، وعلمت بعد عشرة سنوات أن هذا الفنان واسمه ميشيل مكربل كان يعمل مع المخابرات الفرنسية وقد قتله كارلوس في باريس حين جاء  برفقة الشرطة الفرنسية لمداهمة شقة كارلوس الذي يقبع الآن في السجون الفرنسية بعد صفقة سرية بين السودان وفرنسا.

وقبل مغادرتي جنيف إلى باريس رتب فؤاد موعدا مع مناضل جزائري مقيم في سويسرا، وقد طرح علي مسألة السلاح، وضرورة أن يكون لدى الفدائيين أسلحة حديثة ولا يكفي الكلاشنكوف أو الآربي جي الذي يظهر في أيدي الفدائيين، هناك صواريخ حديثة ويمكن استخدامها من قبل فرد واحد أو اثنين، وأضاف أنه يعرف تجار السلاح في سويسرا وألمانيا ويمكنه مساعدتنا معهم لتأمين السلاح المطلوب وللتدليل على علاقاته القوية بتجار السلاح، سلمني نموذجا لصاروخ صغير الحجم من الكرتون ومعه كراس يشرح فاعليته الحربية، ولجهلي بكل أنواع السلاح شكرت المناضل الجزائري ووعدته أن أنقل للقيادة ما سمعته منه، وبالفعل حملت الصاروخ الكرتوني في حقيبتي عند عودتي إلى عمان بعد أسبوعين.

سافرنا إلى باريس أنا وفؤاد في أواسط تموز 1969 فقد تعامل فؤاد مع كتاب تكليفي بأنني ممثل فتح في أوروبا بمنتهى الجدية، وفرنسا هي مركز الثقل الأوروبي ومواقف الجنرال ديغول معروفة من عدوان حزيران، فقد منع تزويد إسرائيل بالسلاح، وأدان العدوان الإسرائيلي، وفي عام 1968 أرسل لياسر عرفات وسام اللورين تعبيرا عن تقديره لقائد مقاومة مشروعة ضد العدوان من  قائد المقاومة الفرنسية ضد النازية الهتلرية التي احتلت فرنسا في الحرب العالمية الثانية.

وفي فندق صغير قرب جامعة السوربون أقمنا مدة أسبوعين، والمقاهي والمطاعم والمحلات المحيطة بالجامعة وعلى أبوابها في هذا الشارع تعج بالحياة ليل نهار، من آلاف الطلبة والطالبات الذين يؤمون جامعة السوربون، وبدت لي الحياة الجامعية هنا عظيمة الاختلاف عن الحياة الجامعية في المشرق، بعد الثورة الطلابية في الجامعات الفرنسية العام 1968، وحين زرنا بيت الطلبة المغاربة كان حديثهم عن حق الطلاب أو الطالبات باستضافة أصدقائهم أو من هم على علاقة بهم دون تدخل الإدارات في المدن الجامعية، وقد انتصر الطلاب الفرنسيون في هذه المعركة، وبالفعل يمكن للمرء أن يشاهد في محطة القطار أو الحافلات أو في زاوية في الشارع العام شابا وفتاة في عناق عاطفي، وكان واقع العلاقات أكثر وضوحا في حديقة اللوكسمبورغ القريبة من جامعة السوريون، وبالطبع كان لا بد بفضل  فؤاد من الوصول إلى محمود الهمشري وكنت لا أعرفه وهو كذلك مسؤول فتح في فرنسا، شاب فدائي عنيد بكل معنى الكلمة، وقد تلقى تدريبا عسكريا في الجزائر وعاد إلى باريس للعمل التنظيمي واستكمال دراسته، ومحمود الهمشري تعامل بكل أخلاقية وانضباط نادر مع مهمتي، علما أنه أقدم مني في الالتزام بحركة فتح، وقال لي محمود الهمشري: لا بد أولا من إطلاعك على عدد الطلاب الفلسطينيين وانتماءاتهم السياسية وأخرج من جيبه كشفا، وكان عدد الطلبة (46) طالبا فقط، وقرأت الأسماء إسما إسما فوجدت إسم عز الدين القلق وفوجئت فعلا، فعز الدين القلق زميلي وزميل سعيد حمامي في جامعة دمشق، وسألته أين يدرس عز الدين فقال محمود: إنه في مدينة ليون يدرس الكيمياء والعلوم فقلت له هذا شاب عظيم ومناضل، وسألني محمود إن كنت أرشحه رئيسا لفرع اتحاد طلاب فلسطين في فرنسا فوافقت على الفور وتمنيت لو أنه يحضر من ليون لألتقي به، وبالفعل بعد يومين حضر عز الدين وعشنا لساعات ذكرياتنا الحلوة والمرة في جامعة دمشق، وفي شهر أكتوبر عاد عز الدين إلى باريس وانتخب رئيسا لفرع الاتحاد، وبعد اغتيال الموساد الإسرائيلي لمحمود الهمشري في عام 1972، تسلم عز الدين القلق المسؤولية بعده وبقي في هذه المسؤولية إلى أن اغتاله أبو نضال عام 1978 في باريس.

كان عدنان كامل المثقف اللامع والقائد البعثي السابق يدرس في باريس، وكان قد غادر دمشق إلى باريس قبل أكثر من عام، وهو شقيق زوجتي فريال كامل وقد استقبلني بحرارة، وقرر أن يقدمني إلى مسؤول الشرق الأوسط في الخارجية الفرنسية (الكي دورسيه)، والكي دورسيه مبنى حجري قديم وعند المدخل القوسي استقبلنا موظف في غاية الأناقة واللطف، وكان يتحدث مع عدنان كامل هذه اللغة الفرنسية التي أحببتها وفشلت في تعلمها، إلا أنني أود دائما سماعها، أما الرجل المسؤول عن دائرة الشرق الأوسط في الخارجية الفرنسية الذي تجاوز الستين من عمره كما بدا لي ويتحدث الفرنسية وبعض الكلمات العربية من اللغة الدارجة في بلاد المغرب العربي، قد رحب بنا ترحيبا حارا إلا أنه قال بأن اللقاء شخصي وليس رسميا، وفهمت من عدنان كامل أنه قال له بالفرنسية: هذه زيارة صداقة وتعارف وأنه شكره لأنه استقبلني، وتبين لي بعد دقيقة أو دقيقتين أن الرجل مطلع تماما على الأوضاع العربية ويعرف الكثير عن المأساة الفلسطينية، هكذا نطق كلمة "المأساة" ولم يكن يريد أن أشرح له تاريخ هذه المأساة، وقال إن "الجنرال" ويقصد ديغول قد وقف ضد حرب حزيران ومنع إرسال السلاح إلى الشرق الأوسط أي إلى إسرائيل وطالب بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة، وقد أرسل "الجنرال" ديغول وسام (اللورين) إلى أبو عمار، تقديراً منه للمقاومة ضد العدوان الإسرائيلي. وراح الرجل يسألني عن المقاومة الفلسطينية وأهدافها ووسائلها، وقلت له نحن شعب تعرض لمؤامرة استعمارية كبرى وتشرد من وطنه وحتى عندما قررت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين وطننا لم نأخذ شيئا، وضاعت فلسطين من جغرافيا الشرق الأوسط وهو البلد الأعرق في التاريخ، بلد الأديان والرسل والحضارات، وسألني سؤالا حول أهداف المقاومة العسكرية وقلت له نستهدف القوات العسكرية ولا نستهدف المدنيين، توقف قليلا ثم قال: في المقاومة وعملياتها من الصعب التمييز بين العسكريين والمدنيين لأن كل مقاومة عمياء والاحتلال عيونه واسعة، هذه كانت تجربتنا في المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، المقاومة عمياء في كل مكان وهذه مأساتها وكان سؤاله الأخير حول الموقف من اليهود المقيمين في فلسطين وأصبح لهم دولة إسمها دولة إسرائيل وهي قوية عسكريا وأوروبا تدعمها بالسلاح والمال والسياسة، والآن أمريكا هي الحاضنة الأكبر لإسرائيل وعدوانها، وكرر ما هو موقفكم من اليهود؟.

كان السؤال محرجا في حقيقة الأمر، ففي ذلك الوقت كان شعارنا وهدفنا تحرير فلسطين من البحر إلى النهر ومن رأس الناقورة إلى رفح، ووجدت أن المخرج أن أبتعد عن مسالة وجود إسرائيل وقدمت له الجواب التالي:  إننا نناضل ونقاوم لتخليص اليهود من الصهيونية تماما كما جرى تخليص الألمان من النازية، والطليان من الفاشية.

ابتسم وقال لي هذا جواب ذكي ولكن مسؤوليتكم تخليص شعبكم من الاحتلال واستعادة أرضكم وتاريخكم، أما مسألة تخليص اليهود من الصهيونية فهي تخص اليهود وحدهم وقال الرجل في نهاية اللقاء قضيتكم صعبة لأنه ليس لديكم عمق تستندون إليه والشرق الأوسط لعبة أمم قديمة.

ودعنا الرجل ورافقنا إلى الباب الخارجي للخارجية الفرنسية وكانت أمامنا حديقة واسعة خضراء جميلة، وقال لي عدنان كامل: هناك المتحف الفرنسي وهذا المدفع البعيد هناك من بقايا نابليون، إن الفرنسيين يعشقون نابليون، وعلى نهر السين مررنا فوق جسر الاسكندر وعليه تمثال أسد من الذهب هدية من قيصر روسيا لفرنسا ربما بعد سقوط نابليون وعودة الملكية بعد معركة واترلو في بلجيكيا 1813 حين تجمع ملوك أوروبا في الحلف المقدس ضد نابليون.

كانت مهمتي في أوروبا  على وشك الانتهاء، واحترت أين أذهب، هل إلى القاهرة أم إلى عمان، وعمان مركز الحدث الفلسطيني بامتياز ولهذا عزمت أن أتوجه إلى عمان بدل القاهرة حين غادرت باريس في العاشر من تموز 1969  والسبب واضح، فقد كنت أسعى طوال الوقت أن أكون في مركز الحدث والفعل وبين الرجال الذين يصنعون التاريخ، وفي عمان بذلت جهودا خارقة حتى استطعت أن ألتقي أبو إياد وأسلمه المظروف الغامض من جنيف وكذلك الصاروخ الكرتوني الذي حملته معي من المناضل الجزائري الذي يعيش في جنيف، ولما لم أكن عضوا في جهاز الأمن الذي يرأسه أبو إياد، فقد كان علي أن أقرر أين أذهب، فليس هناك من يوجهني ويحدد لي مهمة ويحدد لي موقعا في هذا الخضم الهائل في عمان، فصائل متعددة ومسلحون في كل مكان والمخيمات مليئة بالميليشيا المسلحة، وحواجز ذات مغزى للجيش تحيط بعمان، وصراع أيديولوجي بين الفصائل وبيانات عسكرية لا حصر لها تصدر كل ساعة تتحدث عن عمليات فدائية في الأغوار وجنوب البحر الميت والجولان وقصف المستعمرات، وأخذ الفدائيون يطلقون لحاهم تيمنا بالثوريين الكبار في العالم، والكل يساري وثوري، وكانت مكاتب الفصائل منتشرة في عمان في  جبل التاج والهاشمي والوحدات والمحطة واللويبدة وجبل الحسين الذي عثرت فيه على مكتب الإعلام.

وكان هناك أحمد الأزهري ومصطفى الحسيني ووجدت كمال عدوان الذي عرفني لحسن الحظ وربما يكون ذلك خلال عملي في صوت العاصفة لمدة قصيرة، وربما كان أحد الإخوة في القيادة قد ذكر إسمي أمامه. وحين أخبرته أني عدت من باريس وجنيف قبل أيام ، أعتقد أنني شاركت في التحضير للمعسكر الأوروبي علما أنني لم أشارك، ولم يكن لدي أي علم بالاتصالات التي جرت مع عبد الله الإفرنجي في ألمانيا ومحمود الهمشري في فرنسا ووائل زعيتر في ايطاليا واتحاد طلاب فلسطين في بريطانيا لإقامة المعسكر الأوروبي في ضواحي عمان.  ولهذا طلب مني أن أكون ضمن قيادة المعسكر، وقد وافقت على الفور وحضر ماجد أبو شرار، وكان بيننا لقاء عابر في القاهرة ، وأبو عمر( حنا ميخائيل) ومنير شفيق، وناجي علوش وأبو القاسم (يحيى الدقس)، وشاركت في وضع برنامج المعسكر الأوروبي، وكانت مدة المعسكر تقرب من الشهر قضيته مع الشباب الأوروبي، وكان العديد منهم ماويين وتروتسكيين ومن أحزاب اشتراكية واتحادات طلاب. وفي الأمسيات بعد اللقاء السياسي مع مسئول كبير من فتح كان حديثنا معهم حول ثورة الطلبة في فرنسا وخيانة النقابات العمالية للثورة بسبب رشوتها من قبل الرأسمالية الاحتكارية، أما الاتحاد السوفييتي فهو من وجهة نظرهم ضد الثورة العالمية وفشل في بناء الاشتراكية وأقام دولة بوليسية حتى بعد المراجعة التي قام بها خروتشيف، وعندهم بريجنيف نسخة مشوهة عن ستالين، وتحدثوا عن اجتياح المجر وبولندا وبعدهما احتلال تشيكوسلوفاكيا قبل عام تقريبا (ربيع براغ) وعن الفيلسوف الأمريكي هربرت ماركوز والفرنسي جان بول سارتر وما كتبوه لدعم ثورة الطلبة وخيانة الأحزاب الشيوعية والطبقة العاملة للثورة ، وكنت في معظم هذا الجدل الأوروبي أبقى مستمعا، فلست على اطلاع كاف يسمح لي بإعطاء وجهة نظر خاصة، فما هو متاح من معلومات حول ثورة الطلبة والوضع الأوروبي ومواقف المثقفين والفلاسفة من هذه الثورة يتعلق بأحداث الثورة من احتلال الجامعات وإضراب العمال، أما خلفية هذه الأحداث فمجهولة، وانتشر في الصحافة العربية أن( كوهين بنديت ) أحد قادة الحركة الطلابية، يهودي، وهذا يكفي لإدانة ثورة الطلبة في أوروبا وأستطيع القول أنني استفدت من الأوروبيين أكثر بكثير مما قدمت لهم من معلومات حول قضيتنا، وقد حرصت لسنوات عدة على التواصل مع العديد منهم في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وفي تقييم قيادة المعسكر الأوروبي مع كمال عدوان قلنا  أننا زرعنا بذرة التضامن مع كفاحنا الوطني في  جيل الشباب في أوروبا الذي هو جيل المستقبل، وقد عمقت تجربة المعسكر علاقاتي مع ماجد أبو شرار وأبو القاسم الدقس وأبو عمر (حنا ميخائيل)، أما مع ناجي علوش فقد كان ينطلق من بعد قومي ويربط كفاحنا به وهذا ما لم أكن أوافق عليه وقد انطلقت من مقولة فتح "التحرير طريق الوحدة" لأؤكد على أن نبدأ بأنفسنا أولا ونعيد بناء الأداة الثورية الفلسطينية، لأن ما لدينا في الساحة العربية كيانات ودول وليس حركات ثورية فاعلة، أما منير شفيق فكان يحرص على إظهار ميله الشديد للتجربة الصينية ودور الفلاحين فيها لتطوير خلاق للنظرية الماركسية التي تهمل الفلاحين وتعطي الدور الحاسم للعمال، وفي الواقع كانت الصين تقدم لنا المساعدات وتستقبل الدورات العسكرية، وهذا جعل أفكار ماوتسي تونغ سريعة الانتشار في أوساط المثقفين، وأذكر أنني حين ذهبت إلى السودان، وكان موجودا هناك ولفترة قصيرة أحد مؤسسي فتح في مراحلها الأولى (أبو عبيدة)، ولم ألتق به أبدا لا في السودان ولا خارجها، ويبدو أنه ترك حركة فتح في وقت مبكر وجدت في فيلا "عبد الماجد أبو حسبو"، وزير الإعلام السوداني، والتي قدمها لفتح، دفاتر عديدة تركها أبو عبيدة وبخط جميل ومقروء أفكار ماوتسي تونغ حول الثورة وكان يحرص على حفظها غيبا.

انتهى المعسكر الأوروبي وودعنا الشباب إلى بلدانهم، وعدت هذه المرة إلى الإعلام المركزي في عمان الذي يتولى مسؤوليته كمال عدوان ونائبه ماجد أبو شرار، وقد أقيم مبنى للإعلام في جبل الحسين على أطراف المخيم وكان هناك حنا مقبل وأبو نضال غطاس وحكم بلعاوي وأبو فارس وفريق المعسكر الأوروبي الذي يمكن أن يكون بمثابة الإعلام الخارجي.  وكانت تصدر نشرة تثقيفية عن الإعلام المركزي يتولى مسؤوليتها حكم بلعاوي ومن مكتب آخر بعيد عن الإعلام، أما الإعلام المركزي فكان يتولى توزيع البلاغات والبيانات ويصدر الكراسات التثقيفية، وفي يوم (21 آب 1969 ) وقعت جريمة حرق المسجد الأقصى على يد متطرف يهودي أسترالي اتهم بالجنون وقامت الدنيا الفلسطينية والعربية والإسلامية ولم تقعد، فحرق الأقصى ومنبر صلاح الدين كانت بالفعل جريمة كبرى هزت مشاعر العرب والمسلمين في كل مكان، وأدانت كل الهيئات الدولية هذه الجريمة النكراء، أما صلتي بهذا الحدث الكارثة فكانت استدعائي في اليوم الثاني مباشرة إلى مقر القيادة، حيث كان أبو عمار وأبو إياد وأبو اللطف وكمال عدوان يجتمعون في غرفة مغلقة وانتظرت لأكثر من ساعة حتى انتهى الاجتماع ودخلت وصافحتهم جميعا، وبادرني كمال عدوان بالقول: قررنا أن تعود إلى القاهرة للعمل في إذاعة صوت العاصفة، فقلت له "أنا على استعداد"، وفجأة ناولني أبو اللطف ورقة صغيرة فإذا بها القرار التالي: "يعود أحمد عبد الرحمن للعمل في صوت العاصفة ويعمل ربحي عوض تحت إمرته " استغربت من هذا القرار خاصة وأن ربحي أقدم مني في فتح، وقلت له نتدبر الأمور بدون قرار، فقد تعاونا في السابق وعلاقتنا جيدة، إلا أن أبو اللطف أصر وقال يجب أن تكون العلاقات في العمل واضحة والتسلسل واضحاً وبلا مجالات.

ولدهشتي الشديدة حين وصلت القاهرة ذهبت إلى مبنى الإذاعة (4 شارع الشريفين) ولم أجد ربحي عوض بل كان أستاذنا جميعا فؤاد ياسين يتولى المسؤولية الكاملة عن برنامج صوت فلسطين وصوت العاصفة والطيب عبد الرحيم نائبه وهو ابن الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود الذي استشهد في معركة الشجرة في عام 1948، والطيب كتلة حرارية مشعة وتملأ المكان بالدفء والحيوية وهو يكرس كل وقته لفتح ولأي عمل يطلب منه وكان قد أنهى دورة عسكرية في الصين وكان معتمد فتح هايل عبد الحميد الذي بفضله ومثابرته أصبحت فتح التنظيم الفلسطيني الأول في مصر، فقد انتدبته القيادة قبل عدة سنوات لهذه المهمة في القاهرة وكان قبلها يدرس في ألمانيا إلى جانب هاني الحسن وعبد الله الإفرنجي وأمين الهندي ويحيى عاشور (حمدان) الذي كان في النمسا وهو صاحب تجربة طويلة وثمينة في العمل السري في ألمانيا وفي مصر حتى معركة الكرامة، وعمل هايل عبد الحميد في دوائر المنظمة أيام المرحوم أحمد الشقيري دون أن يكتشف المسؤولون في المنظمة مسؤوليته في فتح. وحين اكتشف أمره بسبب نشاطاته لبناء تنظيم فتح صدر قرار غريب بطرده حيث ينص القرار على التالي: يلغى هذا القرار من يوم صدوره".

رحب فؤاد ياسين والطيب والعاملون جميعا بعودتي للعمل في الإذاعة، ولأن مدة البرنامج نصف ساعة فقط فلم تكن حاجة للدوام طوال النهار، ولذا هناك وقت يجب أن نعمل فيه، حيث أصبحت فتح تملأ الفضاء الفلسطيني كله، فهناك مكتب لفتح ومكتب للمنظمة والمقر العريق لاتحاد طلاب فلسطين ومكتب أبو رؤوف في الأوديون ومكتب اتحاد العمال والمنظمات الشعبية أخذت تقوم بنشاطات في الوسط المصري وأذكر أنني في سياق تلك النشاطات زرت قرية "كمشيش" الشهيرة وقضيت ليلة فيها واستمعت إلى تاريخ الفلاح المصري وهو تاريخ البؤس والشقاء في زمن الإقطاع والباشاوات الذي ظلت له بقايا مواقع سلطة رغم الإصلاح الزراعي الذي نفذه عبد الناصر وأعاد الأرض للفلاحين.

وفي عودتي للعمل في الإذاعة وبدعم من أبو اللطف  وكمال عدوان وأبو إياد الذي كان قد أجرى حواره الشهير مع لطفي الخولي في مجلة الطليعة، قمت بالاتصال بعدد كبير من المثقفين المصريين وهم في الأغلب وطنيون ويساريون في الأهرام والمصور و روز اليوسف والجمهورية وأخبار اليوم، فبعد حرب حزيران وقعت مصالحة تاريخية بين عبد الناصر واليسار، وكان هؤلاء المثقفون  كتابا كبارا ومعلمين في السياسة والوطنية والنضال ضد الاستعمار، وللتاريخ أقول إن مساهمتهم في برنامج صوت العاصفة قد وطد العلاقة المصرية مع فتح في مجال السياسة والإعلام كما هي في مجال الأمن والدعم العسكري وخاصة بعد اللقاء التاريخي بين الزعيم عبد الناصر وقائد معركة الكرامة ياسر عرفات.

ولا أنفي وقوع  خلافات في وجهات النظر في جهاز صوت العاصفة، وبحكمته كان هايل عبد الحميد يجد لها الحل المناسب، فقد كنا جميعا شبابا مسكونين بالشعارات الثورية التي تدعو إلى تغيير العالم، وقد نجح فؤاد ياسين في خلق نواة إعلامية تفوقت حتى على صوت العرب الذي تراجع دوره وتأثيره بعد هزيمة حزيران 67.

أما على صعيد المهام الأخرى فقد أصبحت عضوا في لجنة المنطقة وهي الإطار التنظيمي الميداني الذي يتبع لجنة الإقليم، وتوليت التثقيف والتنظيم وضمت اللجنة بسام أبو الصلح ومجيد الآغا والمهندس خالد العلمي والدكتور صلاح، وكنت أركز في عملي التنظيمي على جذب طلاب العلوم والطب والهندسة والكيمياء، وكانت العقوبة لأي تقصير تنظيمي تنظيم طلاب جدد لحركة فتح من هذه الكليات بشكل خاص، ووصلت قوة التنظيم الذروة في أوائل عام 1970، حيث تمكنا من إرسال عدد كبير من الطلاب لدورة عسكرية في ليبيا، وقد استشهد أحد أفراد الدورة وهو شقيق خالد العلمي في أيلول عام 70 في عمان، وسقط عدد منهم في جنوب لبنان جراء قصف جوي إسرائيلي لقاعدتهم.

ولأن واقع فتح التنظيمي يعوزه الانضباط الشديد بسبب طبيعته الوطنية الفضفاضة فقد أدت المشاكل التي وقعت بين لجنة الإقليم ولجنة المنطقة إلى أن يصدر أبواللطف قرارا بنقلي إلى عمان للعمل في الإعلام المركزي.

كانت عمان في شهر نيسان 1970 في حالة غليان فالأحداث المؤسفة تقع يوميا بين الجيش والفدائيين خاصة بعد أحداث نوفمبر 1969 التي أوقعت ضحايا بين الجانبين والتي تدخل عبد الناصر لوقفها وألقى  خطابه الشهير والذي قال فيه "إن المقاومة الفلسطينية وجدت لتبقى" وأضاف أبو عمار مقولته الشهيرة "ووجدت لتنتصر".

وأعترف الآن أن نقلي من القاهرة كان بمثابة إبعاد، ولكنني أتحمل مسؤوليته الكاملة لأنني كنت مثاليا وحادا وأرفض الحلول الوسط العملية، وعودتي هذه المرة إلى عمان تختلف عن المرات السابقة فأنا معروف للمسؤولين جميعا في القيادة وفي الإعلام وكان المسئول المباشر عن الإعلام كمال عدوان ونائبه ماجد أبو شرار كما سبق وذكرت، وقد لمست خلافات صامتة وداخلية بين الإعلام المركزي والقيادة وخاصة مع أبو عمار حول العمليات العسكرية، ما اضطر أبو عمار إلى تشكيل الإعلام العسكري، وعين أبو هشام وأبو الصادق وعطا خيري  وهند جوهرية مسؤولين عنه وهذا الإعلام يتبع للقائد العام مباشرة ولا علاقة للإعلام المركزي به.

وفي حزيران 1970 أوقفت الحكومة الأردنية الصحف ومنعتها من الصدور، فأصدر الإعلام المركزي صحيفة "فتح" اليومية التي وزعت في اليوم الأول أكثر من مائة ألف نسخة، وشكل الملك حسين حكومة جديدة برئاسة عبد المنعم الرفاعي وهو رجل فاضل ومعتدل على أمل تهدئة الأوضاع المتوترة بين السلطة والمقاومة، وأصبح الحديث يدور عن دولة داخل الدولة وعن مخالفات خطيرة ضد القانون لا تعلم عنها القيادة شيئا، فالتعددية الفصائلية وصراعاتها الداخلية دفعتها إلى التطرف في كل قضية صغيرة كانت أو كبيرة وأخذ النظام يشعر بأن هذا الوضع يشكل خطرا عليه، ولهذا أخذ يرتب أموره لحماية العرش والنظام والحكومة بالقوة العسكرية وأقام أجهزة خاصة لرصد أخطاء فصائل المقاومة وتضخيمها أمام الجمهور.

إن التعددية الفصائلية المنفلتة والمنفلشة هي الوباء القاتل لكل التجربة الكفاحية الفلسطينية ومع أنني مع الحرية الفكرية والأيدلوجية لكل فصيل، إلا أن قضية الممارسة العملية يجب أن تكون واحدة وموحدة ومع أن هذه قراءة متأخرة فإن فيها عبرة للمستقبل، ذلك أن الصراع على فلسطين وفيها هو صراع طويل الأمد ولا بد أن يصل الشعب الفلسطيني إلى الوحدة الداخلية ذات يوم ليتمكن من تحرير وطنه.

وقد أوردت هذا الاستخلاص لتجربتنا في الأردن لأنها رغم المسافة الطويلة التي تفصلنا عنها تحتاج إلى المراجعة والدراسة من قبل أجيالنا المصممة على مواصلة النضال الوطني.

وبالنسبة لعملي في الإعلام المركزي في الأردن فقد كان مؤقتا وكنت انتظر تكليفا جديدا من القيادة، واعتذرت عن العمل في الصين أو باريس، كما اقترح علي أعضاء في القيادة وقلت لا أجيد الصينية ولا الفرنسية، وأقنعتهم بوجهة نظري بأن الممثل الرسمي يجب أن يجيد لغة البلد التي يذهب إليها، وكانت النكتة التي تندرنا بها في ذلك الوقت أن اشتراط اللغة الصينية هو شرط تعجيزي، وأذكر أن الذي قبل الذهاب إلى الصين كان حسني يونس " أبو خالد الصين" تلاه أبو الرائد الأعرج.

وفي أوائل آب 1970 كلفتني القيادة بالسفر إلى أمريكا اللاتينية للاتصال بالمغتربين ولجمع التبرعات لحركة فتح وأعطاني المسؤولون دفاتر تبرعات ورقم حساب فتح في البنك العربي في بيروت وكان هذا الرقم ( 993).

غادرنا سويا أنا والمحامي سمير جبجي وكانت كاراكاس عاصمة فنزويلا هي محطتنا الأولى وبالفعل استقبلنا في المطار من قبل الجالية الفلسطينية وأصروا أن يكون سمير جبجي في سيارة وأنا في سيارة أخرى وأنزلونا في فندق مقابل النادي العربي، وأعطيتهم دفاتر التبرعات ورقم الحساب وقد عاد المحامي سمير جبحي إلى عمان بعد عشرة أيام لارتباطه بقضايا أمام المحاكم في الأردن وبقيت وحدي، حيث زرت مدن فنزويلا جميعها برفقة المغترب علي مطر وهو شاب ناجح ولديه الوقت للتجول معي بحكم وجود أبنائه وإخوته في محلاته التجارية، وقد دخلت منطقة الحدود إلى كولومبيا لبعض الوقت. ونتيجة لتصاعد التوتر بين الثورة والنظام في الأردن وتشكيل الحكومة العسكرية برئاسة محمد داود غادرت كراكاس عاصمة فنزويلا صبيحة يوم 16/أيلول 1970 إلى نيويورك ومنها إلى أثينا ودمشق، إلا أن شركة طيران الأوليمبيك رفضت نقلي بسبب جوازي الأردني، فالجبهة الشعبية خطفت عدة طائرات إلى مطار المفرق وقامت بإحراقها قبل أيام، وكنت أحمل حقيبة سفر صغيرة جرى تفتيشها عدة مرات وإعادتها إلا أن شركة الأوليمبيك التي يملكها الملياردير اليوناني الشهير اوناسيس أصرت على عدم نقلي ووافقت على تبديل تذكرتي لأي خطوط طيران تقبل نقلي، وبعد ساعات مريرة وطويلة وجدت إدارة المطار مقعدا لي على الطائرة الأمريكية  (TWA)المتوجهة إلى ميلانو، ومنها أتوجه إلى دمشق على طائرة ( أليطاليا) وبالفعل وصلت دمشق يوم 18/9/ 1970 ظهرا وعرفت من المسؤولين في مكاتب فتح في دمشق أن مقر القيادة قد انتقل إلى درعا، وهناك وجدت أبو مازن وهو المسؤول الأول ومعه أبو هشام وأبو حسان وأبو زيد (عبد البديع عراقي)، وآخرون لا أعرفهم ولم يكن هناك عمل محدد يمكن القيام به سوى متابعة المعركة في عمان بين الجيش والفدائيين. وكانت الحدود قد أغلقت مع الأردن بسبب التدخل العسكري السوري لنصرة المقاومة.  وقع التدخل والإنسحاب في مدة لا تتجاوز أربعة أيام، وجاء في الأخبار أن الرئيس نيكسون يراقب الموقف من على ظهر المدمرة (سراتوجا) في البحر المتوسط، وإسرائيل تنذر سوريا، والطيران السوري لم يقدم حماية جوية للدبابات التي دخلت الأردن، وعبد الناصر والعرب جميعا يناشدون الملك حسين وقف إطلاق النار وإذاعة عمان تتحدث عن اللواء (40) لواء الشهداء وجاء وفد الرؤساء العرب برئاسة جعفر النميري إلى عمان وتمكن من اصطحاب أبو عمار معه إلى القاهرة وكان محمد داود رئيس الحكومة العسكرية قد استقال لحظة وصوله إلى القاهرة، وأطلقت الأردن سراح أبو إياد وأبو اللطف وإبراهيم بكر وبهجت أبو غربية، وكانت القوات الأردنية قد اعتقلتهم قبل يومين من وقف إطلاق النار الذي تكرر عدة مرات حتى انعقدت القمة العربية في القاهرة بناء على دعوة الرئيس عبد الناصر  25-26/ أيلول 1970 إلا أن ميزان القوى كان قد حسم لصالح الجيش الأردني حيث أعاد الجيش سيطرته على معظم أحياء مدينة عمان ولم يواجه أي مشكلة في السيطرة على المدن الأخرى القريبة من عمان مثل الزرقاء والسلط ومادبا.

كان مصير وجود المقاومة في الأردن قد تقرر نهائيا بعد الوفاة المفاجئة للرئيس عبد الناصر 28/9/1970، فالغطاء العربي الذي قدمه عبد الناصر للمقاومة في الأردن ولبنان لم يعد موجودا، ولم تعد الدول الإقليمية تعير أهمية لرؤية عبد الناصر للأمن القومي أو قومية المعركة أو فتح جبهات ضد الاحتلال الإسرائيلي تؤازر الجبهة المصرية المشتعلة على قناة السويس في حرب الاستنزاف البطولية.

دول الطوق أصبحت أولويتها أمنها الخاص ولو على حساب فلسطين والمقاومة. وهي لا طاقة لها أساسا بمواجهة إسرائيل وليست مستعدة لتلقي الضربات الإنتقامية الإسرائيلية نتيجة عمليات المقاومة، وبعد أيام من وفاة عبد الناصر وصل  أبو عمار إلى درعا وبدأ  بإعادة ترتيب القوات العسكرية وأقام معسكرا في السويداء للتجميع وأما قوات قطاع الجولان والقوات الأخرى التي تم حشدها من سوريا ولبنان، فأطلق عليها أبو عمار "قوات التقدم" وعينني مفوضا سياسيا لقوات التقدم، وكان الجيش الأردني قد انسحب من كل مناطق شمال الأردن ومن مدينة إربد ومن جرش وعجلون وقوته الأساسية أخذت تعود إلى المفرق بجانب وحدات الجيش العراقي التي لم تتدخل لصالح المقاومة على الرغم من وعود عراقية رسمية بهذا الصدد، وكان قائدها اللواء حسن النقيب الذي قال كلمة عراقية شهيرة "ماكو أوامر" من بغداد.

كان الوضع مريعا وفي الرمثا التي مررت منها بعد انسحاب الدبابات السورية كانت البيوت مغلقة ولا تجد أحدا في الشارع، وعدت إلى درعا بعد ساعات ومنها ذهبت إلى معسكر السويداء لإعادة التأهيل من جديد، وأدركت من هذا العدد الكبير في معسكر السويداء أن وجود الثورة في الأردن لن يدوم طويلا بعد وفاة عبد الناصر.

وكانت اللجنة العربية برئاسة الباهي الادغم رئيس وزراء تونس تعمل على تهدئة الأمور في الأردن ومعها كان الضابط سمير المصري الذي اصطحبني معه إلى عمان وزرت في جبل التاج مراكزنا الباقية هناك وتحدثت عن الوضع مع ماجد أبو شرار وناجي علوش وأبو داود وصخر حبش .  وقد اشتكوا من الفوضى وغياب الخطة لحماية الثورة وألقوا باللائمة كالعادة على الفصائل المتطرفة التي صعدت التوتر مع الجيش ولم يؤخذ بحقها أي إجراء مما أوصل الأمور إلى الصدام وكانت النتائج سقوط ما كنا نسميه القاعدة الآمنة في الأردن.

وبعد عودتي من الأردن إلى دمشق، سمعني أبو عمار أتحدث في هذه القضايا مع أبو صبري فأخذني من يدي واصطحبني معه إلى درعا وفي الطريق قال لي: "الجندي الجريح الخارج من المعركة يتم إسعافه ومساعدته وليس محاكمته"، وعند وصولنا إلى درعا وجدنا هناك أبو جهاد وأبو مازن وأبو هشام الذي أصر على قراءة قصيدة كتبها من وحي المأساة في الأردن وكان أبو عمار يقاطعه ويصحح له ويمازحه بقوله "الشعر رديء والشاعر لا يحسن القراءة".

وكان أبو جهاد لا يجلس طويلا في أي مكان وناداني أحد مرافقيه فوجدته ينتظرني عند الباب وفي حي درعا الجديد أوقف السيارة أمام بناية من دور واحد وقال لي:  يا أخ هذه هي الإذاعة جاهزة للبث وموجهة للأراضي المحتلة والأردن وقدمني للمهندس القادم من الكويت والذي قام بتركيبها وتشغيلها والإذاعة من شركة فيليبس وقد اشتراها لنا الفلسطيني الشجاع والذي يعمل في الشركة (محمود رباني) وهي تبث على الموجة المتوسطة قوتها (10) كيلو واط وتولى زهير اللاسلكي الإشراف الفني ومعه فريق يعمل. وأصابتني صدمة عنيفة حين علمت أن أحد الإخوة كان يحاول تشغيل موتور الإذاعة فضربه التيار وتوفي على الفور، وكانت بداية محزنة ومؤلمة حقا.

وصل فؤاد ياسين إلى درعا بعد إغلاق  صوت العاصفة من القاهرة في ضوء الخلاف حول مبادرة روجرز والإساءات التي لحقت بعبد الناصر في أحد شوارع عمان، وقد توافد عدد من الإخوة المذيعين والمحررين من القاهرة وبغداد، فحضر الطيب عبد الرحيم من بغداد والشاعر أحمد دحبور وعزمي خميس ورسمي أبو علي وعيسى الشعيبي وخالد مسمار وبركات زلوم وعارف سليم ويحيى العمري، وأبو زهير (هشام السعدي) تسلم الأستوديو، ومن عمان وصل حنا مقبل وأبو نضال غطاس صويص وعطا خيري وبعد فترة وجيزة غادر فؤاد ياسين والطيب عبد الرحيم إلى القاهرة على أمل أن يعود صوت العاصفة للبث من استوديوهات صوت العرب في القاهرة وهكذا أصبحت مسؤولا مسؤولية كاملة عن برنامج صوت العاصفة في درعا.

وشهدت منطقة درعا نزوحا هائلا للثورة وقياداتها وعناصرها وكانت المفاجأة الأكبر وصول أكثر من أربعة آلاف عسكري من الجيش الأردني بقيادة العميد سعد صايل، وقد تركوا الجيش احتجاجا على قرار الملك بإعلان حالة الطوارئ وتشكيل حكومة عسكرية برئاسة محمد داود وتطويق عمان ومهاجمة الثورة في كل المناطق، وقد أخبرني العميد سعد صايل بأنهم قرروا ترك الجيش لأنهم لا يستطيعون تنفيذ الأمر الملكي لضرب الفدائيين ولا يمكنهم تحويل بنادقهم لإخوة السلاح في الجيش الأردني في الوقت نفسه.

وكان أبو عمار يشرف بنفسه على توفير كل ما يلزم لهذا الجيش الجديد الذي التحق بفتح من سلاح وعتاد وسيارات وتجهيزات عسكرية وبحكم كفاءته ورتبته العسكرية فقد أصدر أبو عمار قرارا بتعيين العميد سعد صايل قائدا لقوات اليرموك ورفعه إلى رتبة لواء.

وقد شكل ضرب الثورة وإراقة الدماء وانسلاخ هذا العدد الكبير من الضباط والجنود من الجيش الأردني الذي خاض معركة الكرامة إلى جانب الثورة، صفحة سوداء في تاريخنا القومي. و بدأت أرى الأمور من منظور مختلف تماما، فليس هناك فيتنام الشمالية تدعم فيتنام الجنوبية وليس هناك جدار صيني وسوفييتي يدعم فيتنام الشمالية في وجه القوة الأمريكية، هناك حول فلسطين كيانات تتشكل من سايكس بيكو، وهذه الكيانات لها أولويات ليس في أولها ولا في آخرها تحرير فلسطين، فالكيانات وهي عربية الوجه ليست لها سياسة قومية كما ضغط عبد الناصر بعد حرب عام 1967 تحت شعار قومية المعركة ولكن الآن الكيانات تسترد قوتها وتعود لأولويات الكيان وتتخلص من كل تهديد لهذا الكيان والتهديد داخلي في حالة مواجهة إسرائيل تحت شعار قومية المعركة.

 

الحلقة الثالثة : إذاعة أم هيئة أركان ؟

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الثالثة : إذاعة أم هيئة أركان ؟
الفصل الثالث

إذاعة أم رئاسة أركان
تسلمت المسؤولية الكاملة عن إذاعة درعا في نوفمبر 1970 وكانت الأزمة مع الأردن في ذروتها، فاتفاق عمان الذي أعقب قرارات القمة الطارئة، أصبح حبرا على ورق بعد وفاة عبد الناصر وموقف وزير الدفاع حافظ الأسد ضد التدخل في الأردن، ووقوف القوة العراقية على الحياد. ولا يمر يوم إلا وهناك اشتباك وسقوط قتلى وجرحى واعتقالات وتدمير مؤسسات حتى الطبية منها في عمان. وعلى المستوى السياسي، كان المحامي إبراهيم بكر يرأس اللجنة المركزية لحركة المقاومة التي تشكلت على عجل قبل أيلول، بصفته نائب أبو عمار، وكانت هذه اللجنة تسعى لتهدئة الأوضاع قدر ما تستطيع إلا أن الوقائع على الأرض كانت كفيلة بإفشال كل المساعي التي تقوم بها.  فعمان لن تكون بعد الآن المسرح الدامي للدولة داخل الدولة.

 وفي عملي كمسؤول عن صوت العاصفة في درعا كنت أقدم للرأي العام كل الأحداث التي تقع على الأرض وأفضح كل الاتصالات السرية بين الأردن وإسرائيل وأمريكا، وقد أدت هذه المكاشفة اليومية بكل ما يجري إلى سخط إبراهيم بكر وما تبقى من القيادة في عمان عليّ شخصيا، وأرسلوا قرارا بعزلي عن المسؤولية في الإذاعة وأصدروا البيانات من عمان التي تعتبر الموقف السياسي الذي أقدمه بصوتي في الإذاعة لا يعبر عن رأي الثورة والمنظمة واللجنة المركزية للمقاومة. وبالطبع، لم أكن أتلقى التعليمات من عمان، ولم أكن أعتبر من تبقى في عمان هو جهة القرار التي علي التقيد بتعليماتها وموقفها السياسي. وكان المسؤول الأول الموجود في درعا في ذلك الوقت هو أبوعلي إياد، وكانت البرقيات من عمان تصله كما تصلني من زهير اللاسلكي الذي يدير هذه الشبكة الهامة للاتصالات بين مختلف المواقع. وقد استدعاني أبو علي إياد لمقر القيادة. ورغم حضوره الطاغي في القواعد والمعسكرات وحكايات الفدائيين في معسكر الهامة وفي مواقعهم المختلفة عن قسوته وجبروته فلم أكن قد قابلته. وكنت استمع إلى كلمات على لسانه يرددها المقاتلون والفدائيون الذين يعرفونه، فاعتقدت أنه فلاح فلسطيني صعب المراس وعنيد وشبه أمي، ولا أنسى أن أحدهم نقل جملة على لسانه قال فيها: "الشباب الفلسطيني بحاجة إلى تقليم وتهذيب حتى يثمر مثل الشجر ". 

حين دخلت مقر قيادته كان الصمت مخيما تماما، فلا تسمع أحدا يكلم أحدا ولو همسا، وكان ينتظرني وطلب تقديم الشاي لي، والغريب أنه ظل صامتا لعدة دقائق ثم فاجأني بقوله "الأخوة في عمان يشكون منك ومن تعليقاتك، وأضاف، ولكن بعدم رضا، يطلبون مني أن أبعدك عن الإذاعة. ثم قال: أعرف أنه لا فائدة منهم في عمان ولا في غيرها. وكان يتكلم باللغة العربية الفصحى وليس باللهجة العامية الفلسطينية. وفي الواقع فوجئت من هذه اللغة التي يتحدث بها، إنها لغة أستاذ وليست لغة فلاح فلسطيني، لا يقرأ ولا يكتب.  وقلت له: يجب أن يعرف الناس والعالم ما يجري على الأرض، ولا أستطيع أبدا إخفاء حقيقة ما يجري، مقابل لقاء في عمان في غرفة مغلقة وظيفته أن يغطي على الجرائم التي ترتكب على الأرض. ويجب أن يعرف العالم أننا مظلومون وأن ما يجري من تصفية لوجود الثورة في الأردن لا يخدم غير إسرائيل.

صمت أبو علي إياد ولم يتكلم ثم ناولني البرقيات التي وصلت من عمان والتي تطردني من الإذاعة وتعتبرني شخصا غير مسؤول. فقلت له: أنا شخص منضبط، وإذا كنت موافقا على قرارهم فسأغادر الآن ولن أعود إلى الإذاعة. فما أقوم به ليس سياسة خاصة بي وليس رأيا شخصيا إنه موقف كل فلسطيني يعيش في الأردن.

وتناولت العشاء مع أبو علي إياد وحدثني عن حياته قبل الالتحاق بفتح وقبل الإصابة في وجهه ويديه ورجليه نتيجة انفجار لغم في معسكر الهامة كاد يودي بحياته وهذا كان في عام 1967.  وعرفت منه أنه خريج دار المعلمين، وعمل أستاذا في المدارس في قلقيلية وطولكرم قبل الالتحاق بفتح. وودعني أبو علي إياد دون أن ينطق بكلمة. ولم أره بعد ذلك أبدا. فقد غادر مقره في درعا إلى جرش وعجلون ليتولى  قيادة القوات في دبين. وفي يوم 17/7/1971 طلب مني أبو جهاد أن أرافقه إلى عمان مع اللجنة العسكرية السورية للعمل على وقف هجوم الجيش الأردني على الموقع الأخير للثورة في دبين وجرش وعجلون والأحراش. ونزلنا في فندق الأردن برفقة اللجنة العسكرية التي كان رئيسها الضابط السوري المسؤول عن الكلية العسكرية واسمه الدرديري. لم يمر الموكب في الطريق الجديدة بين عمان ودمشق والذي يخترق مدينة جرش. فقد كان الهجوم في ذروته. ومررنا طريق المفرق. وهذا جعل اللجنة العسكرية لا ترى ولا تسمع شيئا عما يدور في عجلون. وكان أبو جهاد لا يطلب أكثر من وقف القتال وإنقاذ أبو علي إياد وترك الفدائيين يغادرون المنطقة إلى سوريا. وكانت اللجنة العسكرية الأردنية تنفي روايتنا بالكامل. وجاءنا إلى الفندق إبراهيم بكر، وطلب منه أبو جهاد أن يتصل مع وصفي التل لوقف الهجوم والسماح للفدائيين بالمغادرة بمواكبة اللجنة العسكرية العربية.

 وضحك إبراهيم بكر حين قدمني له أبو جهاد وقال لي: الله يسامحك، وأضاف: هي إذاعة أم رئاسة أركان، ولم أعلق بكلمة، وكنت مشدودا إلى إلحاح أبو جهاد للإتصال مع وصفي التل وتأخر الاتصال، لأن وصفي التل رئيس الوزراء ليس موجودا في مكتبه. وفجأة سمعت حركة سيارات غير معتادة أمام الفندق ففتحت النافذة ونظرت إلى مدخل الفندق فإذا به يعج بالجيبات العسكرية التي تصوب رشاشاتها باتجاه واجهة الفندق حيث نسكن في الدور الرابع بجوار أعضاء اللجنة العسكرية السورية التي كان عدد أفرادها يزيد على عشرة ضباط.

وقلت لأبو جهاد: الفندق مطوق بالجيبات العسكرية والرشاشات مصوبة نحونا

وقف أبو جهاد قرب النافذة وقال لإبراهيم بكر: ما هذا الذي يجري؟ هل هذا تصرف من يريد تهدئة الأمور؟ وهل المطلوب مغادرتنا؟

وأجرى إبراهيم بكر اتصالا لا أعرف مع من، إلا أنه قال لأبو جهاد وبالحرف الواحد: هؤلاء الجنود غاضبون، فالفدائيون قتلوا زملاءهم، وهم هنا بدون أمر وبدون تعليمات من القيادة، وسوف يجري رفع حصارهم عن الفندق على الفور.

ولم يغادر إبراهيم بكر الفندق وبقي معنا طوال ساعات النهار، إلا أن الجيبات العسكرية ظلت تحاصر الفندق، وفي اتصال آخر قال مسؤول أردني لإبراهيم بكر: هذه الجيبات هي حرس لحماية اللجنة العسكرية السورية و خوفا من انتقام الأهالي من أبي جهاد ومن معه.

أما المكالمة اليتيمة، والتي طال انتظارها بين إبراهيم بكر ووصفي التل، فقد أقسم وصفي التل أنه لم تطلق طلقة مسدس واحدة في عجلون، وأن الوضع هادئ جدا، وأن ما يجري هي مناوشات تجري السيطرة عليها وسببها اعتداءات الفدائيين على أهالي المنطقة.

وبالطبع كنا نسمع صوت قذائف المدفعية ونحن في عمان. كان وصفي التل صادقا في قسمه فالهجوم لا يتم بطلقات مسدس بل بالمدفعية والرشاشات الثقيلة والدبابات.

عند هذا الحد، قال أبو جهاد لإبراهيم بكر: للأسف الجماعة يريدون إراقة الدماء وغادرنا إبراهيم بكر قبل منتصف الليل بقليل. وقضينا الليل بطوله وصدى قذائف المدفعية تسمعه عمان كلها. ودون قصد مني ذهبت إلى الغرفة التي أنام فيها، فإذا هذه الغرفة بجانب غرف وفد اللجنة العسكرية السورية  أو الصالون حيث يجلسون وكان في زيارتهم رئيس الأركان الأردني في ذلك الوقت، وقد عمل فيما بعد سفيرا للأردن في البحرين، واعتبرت ما استمعت إليه دليلا على تواطؤ اللجنة العسكرية السورية مع الأردن وضد الثورة، فرئيس الأركان الأردني يطمئن  على وصول هداياه لضباط الكلية العسكرية السورية وهذا جعلني أغادر الغرفة وأنقل لأبو جهاد ما سمعت، فلم يعلق بل قال كلمته المعروفة: بسيطة يا أخ!!

وغادرنا عمان صبيحة اليوم التالي 18/7/1971. وكان كل شيء قد انتهى. تمت سيطرة الجيش على المنطقة بكاملها. وقتل من قتل، واعتقل من اعتقل، ونجا من نجا. وحين وصلنا درعا، ذهبت إلى الإذاعة، وتابع أبو جهاد طريقه إلى دمشق. وكان يوما حزينا. اطلعت على نشرة الاستماع التي ترصد الأخبار من الإذاعات المختلفة ومنها إذاعة إسرائيل. وأوردت هذه الإذاعة إن قوات الاحتلال قد ألقت القبض على (  117 ) فدائيا هربوا من عجلون وقطعوا النهر وسلموا أنفسهم لقوات الاحتلال. وتجمد الدم في عروقي، فلم أكن أتصور، ولو في الخيال أن الفدائيين يهربون من نيران جيش عربي ويسلمون أنفسهم لإسرائيل. هذه الحادثة قلبت حياتي وأفكاري وقناعاتي، وتلك المسلمات الساذجة التي أصابتني بالعمى لسنوات وسنوات. ولم أر الواقع العربي المحيط بفلسطين على حقيقته. فالكيانات لا يعنيها غير وجودها. وقومية المعركة شعار أجوف في ظل الكيانات العربية التي لا طاقة لها على مواجهة إسرائيل، ولا حتى على حماية أرضها وسيادتها من الأعمال الانتقامية التي تقوم بها إسرائيل بعد كل عملية فدائية. وفي هذا الوقت لم أكن عضوا في أي إطار قيادي سواء في فتح أو في المنظمة.

 وكان إسقاط النظام الملكي في الأردن على كل شفة ولسان بعد تصفية وجود الثورة والفدائيين في الأحراش وعجلون. فهذا معناه القضاء على القاعدة الآمنة وإغلاق الحدود الأردنية، وهي أطول حدود مع فلسطين في وجه العمل الفدائي. وبيني وبين نفسي، وجدت أن شعارات إسقاط النظام وقيام حكم ديمقراطي في الأردن مجرد كلام فارغ مع أنني أسمح بإذاعة كل تصريح بهذا الخصوص من أي مسؤول فلسطيني. ولم أترك كلمة مسيئة للنظام الأردني أو أي مسؤول فيه إلا وتم إذاعتها على الناس. إلا أن حادثة هروب الفدائيين وتسليم أنفسهم لإسرائيل كانت صدمة الوعي التي نقلتني من عالم الأحلام والأوهام إلى الواقع المر، الواقع العاري الذي كشفت عورته هذه الحادثة التي أراد الجميع تجاهلها وعدم ذكرها. وقد توقفت عندها طويلا، وعدت إلى التاريخ الحديث من النكبة وما بعدها ومؤتمر أريحا وتسمية الضفة الغربية والضفة الشرقية. واعترفت بيني وبين نفسي أن الأردن هو الأردن وأن فلسطين هي فلسطين، وأن ما حدث في أيلول وبعده في الأحراش قد أكد هذه الحقيقة. ولم أكن مقتنعا بأن مهمتنا لتحرير فلسطين تبدأ بإسقاط النظام الأردني وبعده اللبناني وبعده السوري ثم العراقي ثم لا أدري مَن من الأنظمة يجب إسقاطه حتى تمهد الطريق لتحرير فلسطين. وجدت هذا كله نقيضا لفتح التي رفعت شعار عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية لحماية نفسها من التدخل العربي في شؤونها. وللأسف كل هذا شعارات، فالثورة التي فجرتها فتح تدخلت فيها كل القوى العربية، ومن يجرؤ على الادعاء بأن هذا النظام أو ذاك لا شأن له بتحرير فلسطين. أليست فلسطين هي قضية العرب القومية؟

وقد وجدت أن علي أن أكون صادقا مع نفسي ومع تحليلي للإحداث التي وقعت. ولهذا كتبت التعليق السياسي الذي غير حياتي، وأعلنت إلغاء مؤتمر أريحا وإلغاء وحدة الضفتين التي هي في حقيقتها ضم قسري لشرق فلسطين لإمارة شرق الأردن التي أصبح اسمها المملكة الأردنية الهاشمية. وعدت إلى قرارات الجامعة العربية ضد الضم، وقول الملك عبد الله  بأنها "وديعة" سترد إلى أصحابها بعد تحرير فلسطين.

وتحدثت عن تجريد الجهاد المقدس من سلاحه على يد غلوب باشا قائد الجيش الأردني. وعدت إلى القائد الأردني عبد الله التل وما رواه عن حرب1948 وإلى الياهو ساسون وما رواه عن اجتماعات الشونة مع الملك عبد الله.

وجن جنون الكثيرين من هذا التعليق السياسي الذي غير مسيرتي السياسية. فقبل عامين انتقدت بقسوة الدعوات لإقامة دولة فلسطينية، وأصبحت أقول اليوم وبالفم الملآن يجب عدم الخلط بين الأردن وفلسطين بعد الآن فهناك فلسطين وهناك الأردن. وفي أوائل أيلول 1971 انعقد المؤتمر الثالث لحركة فتح في حمورية في ضواحي دمشق، وقد كنت عضوا فيه. وقبل أيام من انعقاد المؤتمر كنا ننزل في فندق تدمر أنا وماجد أبو شرار وأبو صالح ومعنا فائق وراد، الأمين العام للحزب الشيوعي الأردني_ الفلسطيني، وكانت الواقعية السياسية المرة لهذا القائد الشجاع تدمر كل أحلامنا وأوهامنا، فهو يتحدث عن الشرعية الدولية، وقرار التقسيم الظالم للحق الفلسطيني وأنه صدر باسم الشرعية الدولية التي وقف الفلسطينيون والعرب ضدها. وبدل تشكيل حكومة فلسطين وإعلانها دولة كما فعلت الحركة الصهيونية أخطأت القيادة الفلسطينية، وشكلت في وقت متأخر "حكومة عموم فلسطين" التي ألقت الأمم المتحدة رسالتها في سلة المهملات. فقد كانت ضد قرار التقسيم الذي يحظى بالشرعية الدولية. وإسرائيل، قبلت القرار، وأعلنت دولتها في 15 أيار 1948.وبعد ستة أشهر أعلنت حكومة عموم فلسطين. واسم الحكومة وحده يكفي لعدم التعامل معها.  والأدهى من ذلك أن العرب كلفوا أنفسهم بالمهمة الباقية:  فالملك فاروق أصدر أمرا بجلب المفتي من غزة إلى القاهرة وفرض عليه الإقامة الجبرية غير المعلنة، وعين حاكما عسكريا وإداريا لقطاع غزة. والملك عبد الله في عمان جرد الجهاد المقدس من سلاحه، وسجن قياداته، وضم الضفة الغربية عسكريا وسياسيا في ظل اتفاق سري مع إسرائيل.

وفي لحظة حميمة بيننا نحن الثلاثة أبو صالح وماجد وأنا حضر كمال عدوان، وكان فلسطينيا حتى النخاع وهو القادم من أصول حزبية إسلامية، وهو الذي قال: عقيدتي فلسطين وكل عقيدة من أجل عودتها وتحريرها.

واكتشفت أن ماجد أبو شرار ونمر صالح (أبو صالح) يقتربان مما يقوله فائق وراد ومما سبق وأذعته على الملأ من إذاعة صوت العاصفة في درعا بإلغاء وحدة الضفتين واعتبار مؤتمر أريحا مؤتمرا مزورا وما حدث ضم بالقوة وليس بالرضا، دون أن أتبنى قرار القيادات الفلسطينية كلها بإسقاط النظام الأردني بل استبدلته بإلغاء وحدة الضفتين.

كمال عدوان استمع لكل كلمة قالها فائق وراد. وفي الحقيقة لم يقدم رأيا معارضا، بل أخذ يفكر فيما سمع، وكانت علاقتي معه وطيدة إلى الدرجة التي تسمح بأن يناقش أفكاره معي.

بدأ المؤتمر الثالث لفتح في أول أيلول 1971 في حمورية القريبة من دمشق. وحيث أنني لم أكن على اطلاع كاف بما جرى في أيلول وقبل أيلول وما حدث من اعتقال أبو إياد وأبو اللطف والقرار الذي أصدره أبو عمار بحل أجهزة الأمن، وما حدث في الأحراش من مأساة كان يمكن تجنبها كما قال البعض من أعضاء المؤتمر، والموقف من النظام الأردني والوضع في جنوب لبنان. ولم أُدلِ برأيي في أي من هذه القضايا ولم يكن لي الحق في ذلك. فلم أكن مشاركا في كل هذه الأحداث. ولهذا بقيت صامتا طوال اليوم الأول، وفي اليوم الثاني كذلك. أما في اليوم الثالث فقد طلبت الحديث أمام المؤتمر. وفي البداية أكدت أن حركة فتح هي الحركة الوطنية للشعب الفلسطيني وهي العمود الفقري للثورة، ولهذا عليها أن تجيب على الأسئلة التي تواجه شعبنا، ما دامت قد حررت العقل والوعي والإرادة. نحن هنا نتحدث عن تحرير فلسطين من البحر إلى النهر ومن رأس الناقورة إلى رفح وهذا هدف استراتيجي بعيد المدى، ولكن أليس لدينا أهداف مرحلية؟ 

وما هو موقفنا من أرضنا الفلسطينية التي احتلت عام 1967 وأكاد أقول إننا نعرف هدفنا الذي حددناه لأرضنا المغتصبة عام 1948 أما أرضنا المحتلة حديثا عام 1967 فلا موقف ولا جواب قدمناه لشعبنا باسم حركتنا فتح. الأنظمة العربية صاحبة البلاغ العسكري رقم واحد أجمعت الآن أن المطلوب تحرير الأرض العربية والفلسطينية المحتلة عام 1967 واختفى شعار التحرير الكامل، وسؤالي المحدد ما هو موقفنا من مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967؟ هل نوافق على إعادتها للمك حسين الذي اتخذنا قرارا بإسقاط نظامه؟ وهل نقبل أن يعود قطاع غزة لمصر؟ وبدأت ضجة في القاعة تقاطعني وتطالب بتقديمي لمحكمة عسكرية، وكان الذي رفع صوته عاليا هو الحاج إسماعيل جبر وحوله عدد من العسكريين ولم تفاجئني الأصوات والمقاطعة، فواصلت كلامي وقلت الكلمة التالية: إن الشيخ الجعبري الذي وقع اتفاق أريحا سيكون في نظر شعبنا وطنيا أكثر منكم إذا لم تحددوا الموقف المطلوب من مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. لم يكن كلامي مكتوبا بل كان مرتجلا، ولسوء الحظ أو لحسن الحظ من وجهة نظر التاريخ، فقد لاحقني هذا التسجيل المحفوظ عند صخر أبو نزار في مكتب التعبئة الفكرية. كان دائما يجري توزيعه على أعضاء المؤتمرات في الحركة كونه شهادة على القطرية والشوفينة والانعزالية والانهزامية اليسارية والتبعية للاتحاد السوفييتي. وفي حالتنا المأساوية من السهل إطلاق الاتهامات وإلصاقها بالخصم دون حساب أو عقاب أو يقظة ضمير.

على كل حال لفت انتباهي أن شركائي الثلاثة في هذا الطرح أبو صالح وماجد أبو شرار وكمال عدوان، لم يؤيدوا ما قلت ولم يعترضوا عليه. أما أبو عمار وأبو إياد وأبو اللطف فقد تشاغلوا. أما أبو مازن فكان يجلس مع أبو يوسف النجار خارج القاعة ولم يكن بيننا علاقات عمل. فقد تعرفت عليه في عمان قبل أيلول بفترة وجيزة وكان يتولى مسؤولية التنظيم.  واللقاء الثاني في درعا وكان يتابع أحداث عمان في أيلول 1970، ولم يبادر لأي تعارف أو حديث مع أحد منا نحن الذين نتردد على مقر القيادة. ولهذا لم أتحدث معه حول القضية السياسية التي فجرت قنبلتها في المؤتمر الثالث

وللحقيقة والتاريخ فإن كمال عدوان وهو مهندس كما هو معروف، ناداني بعد انتهاء  جلسة المؤتمر وقال لي التحليل التالي للقضية: "يا أحمد، إذا أضأت شمعة داخل أربعة جدران وأغلقت عليها الباب فلن يراها احد، والأفضل أن تظل الشمعة بلا جدران وبلا باب حتى تضيء الظلام المحيط بنا "وكان يقصد بالشمعة الثورة وفتح، استمعت جيدا وفهمت منه أنه ضد الطرح الذي قدمته، ولكن أضاف من حقك أن تقول رأيك وأنا أحترم شجاعتك.

صدمني كمال عدوان لأنه كان المسؤول الأول عن عملي في الأعلام.  ولهذا قلت له لن تستطيع بناء قاعدة آمنة للشمعة المضيئة إلا في الأرض الفلسطينية، والضفة والقطاع والقدس هي ما تبقى من فلسطين من المنظور الدولي وعلينا أن نحصل عليها ونترك للأجيال شمعة مضيئة آمنة في فلسطين تجعل الهدف التاريخي في متناول اليد والقدرة.

وفاز أبو صالح وكمال عدوان بعضوية اللجنة المركزية وماجد أبو شرار بعضوية المجلس الثوري وكذلك ناجي علوش وأبو داود وأبو خالد العملة وصخر حبش وعباس زكي.  وارتكبت حماقة ورشحت نفسي لعضوية المجلس الثوري وكان سقوطي مؤكدا بعد الذي قلته عن أن الشيخ الجعبري سيكون وطنيا أكثر منكم إذا لم تأخذوا موقفا من مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1967.

ولكن بعد المؤتمر لاحظت أن أبو عمار وأبو إياد وأبو صالح صاروا يحرصون على الاتصال معي ودعوني لحضور الاجتماعات والندوات. أما ماجد فقد عبر عن تأييده لكل كلمة قلتها في المؤتمر. أما كمال عدوان فقد ترك الإعلام وتسلم مسؤولية القطاع الغربي، أي العمل في الأرض المحتلة، وبالتالي ابتعد عن الإعلام. ومن المفارقات أن أبو عمار جاء ذات يوم بعد المؤتمر إلى الإذاعة وحدثني عن مهمة عمر السقاف، وكيل الخارجية السعودية الذي زاره في  دمشق. وفهمت من أبي عمار أن الأردن لم يعد يعترف باتفاق القاهرة الذي أنجزه عبد الناصر قبل وفاته المفاجئة بيوم واحد، ولا حتى باتفاق عمان الذي حدد الوجود الفدائي خارج المدن في الأحراش وعجلون. وبالتالي فالقاعدة الآمنة في الأردن قد انتهت. وروى أبو عمار أن هناك قيودا على التحرك والقيام بعمليات من الجولان وأنه لذلك يعتبر ثلوج جبل الشيخ أحن على الثورة من الأنظمة العربية.  وغادر أبو عمار وجلست وحدي وكتبت تعليقا سياسيا ضمنته تقريبا ما قاله أبو عمار ولكن دون ذكر الأسماء. وفي اليوم الثاني كنت عند أبو عمار في مقر قيادته بدمشق المعروفة (23) فإذا به في غاية العصبية والتوتر ويستدعي على عجل محمد أبو ميزر، مسؤول الإعلام المركزي وحنا مقبل وأبو نضال غطاس، وكانوا يصدرون صحيفة فتح اليومية في دمشق. وانتبهت للضجة والعصبية. وسألت مهند العراقي، مسؤول المكتب، وبصوت خافت، فصراخ أبو عمار يفرض الصمت على الجميع.  وقال لي مهند أن ذلك بسبب مقال في الجريدة أغضب السوريين و "أبو عمار سعد" - معتمد فتح في سوريا -  نقل لأبو عمار غضب الرئيس حافظ الأسد، ولأن هذه المشكلة في الإعلام وقد تعودت على هذا النوع من المشاكل مع القيادة فقد خرجت من غرفة أبو عمار وأعطاني مهند جريدة فتح لأقرأ المقال أو التعليق المشكلة وكانت صدمتي لا توصف حين قرأت السطر الأول.  فالمقال هو التعليق الذي كتبته وأذعته من صوت العاصفة في درعا قبل يوم واحد. والشباب في الإعلام فرغوه من الاستماع ونشروه في الجريدة دون علمي، سواء لأنه وافق قناعاتهم أو لأنهم يعتقدون أن ما يذاع هو موقف رسمي بحكم علاقتي اليومية والوطيدة مع أبو عمار.

 وأصبحت في موقف لا أحسد عليه، فالتعليق لا يحمل توقيعي أو إسمي. ولكنه مقالي وموقفي ولا أستطيع أن أهرب من هذه المسؤولية رغم أن غضب أبو عمار قد بلغ الذروة، وحين يحضر أبو ميزر وحنا مقبل وأبو نضال فهم سيقولون أنه تعليق إذاعي من صوت العاصفة ولهذا قلت لنفسي يجب ألا أنتظر حتى يأتوا وتكون المواجهة مع أبو عمار بحضورهم ولهذا قررت أن أدخل مكتبه وأقول له الحقيقة وهي أنني كتبت هذا التعليق وأذعته من الإذاعة ويبدو أن الشباب نشروه في الجريدة.

حين دخلت قلت لأبو عمار مباشرة ولكن بحذر شديد وبصوت هادئ هذا المقال في الجريدة في الأساس تعليق في الإذاعة قبل يومين، ولم أكن أعلم أنهم أعادوا نشره في الجريدة

ذهل أبو عمار وصمت لأكثر من دقيقة وقال بعد قليل وقد هدأ غضبه: يا ابني، ما حدثتك به عن عمر السقاف وما جرى معه في عمان ودمشق هو تفاصيل وجزئيات لم تكن بحاجة إليها لتأكيد الموقف العام للثورة، الجماهير يعنيها الخط العام وليس أدق التفاصيل فالتفاصيل متغيرات آنية وليست ثوابت.  ولا يمكنك أن تضع النظام في الأردن والنظام في سوريا في سلة واحدة. وأضاف أبو عمار: قبل ثلاث سنوات كنت مسجونا في سوريا والآن كما ترى، انقلب الوضع بعد وفاة عبد الناصر "ربك يستر"، وبصراخه وعصبيته واتصالاته الغاضبة بالهاتف كان يوصل رسالة للأسد بأنه ضد ما نشر في صحيفة فتح وهذه طريقة معروفة لأبو عمار يغضب ويصرخ ويضرب الطاولة ويغادر الغرفة ثم يعود، وكنا نقول أنه يرسل رسائل.

وحين وصل أبو ميزر ومعه حنا مقبل (أبو ثائر) وأبو نضال غطاس كان قد انتهى من توجيه الرسائل لتهدئة الجهة السورية الغاضبة. لكن إذاعة عمان كانت تعيد للمرة الألف تعليقا بعنوان: "ماذا يريد ياسر عرفات "والهدف توتير العلاقة مع سوريا والسعودية، لأن ما ذكرته في تعليقي هو أقوال عمر السقاف ضد الأردن وسوريا وكان من الواضح أن هذه المعلومات والمواقف مصدرها أبو عمار شخصيا.

محمد أبو ميزر(أبو حاتم) من الرعيل الأول لفتح. وفي سنوات التأسيس والبناء كان ممثلا لفتح في الجزائر. وهو من أصدر بيان الدولة الديمقراطية للمسلمين والمسيحيين واليهود في فلسطين، من باريس قبل سنتين. وأحدث هذا البيان ضجة عالمية ورفضاً إسرائيلي، وكان بمثابة أول تناول جدي من فتح للوجود اليهودي في فلسطين. وكان أبو عمار يعامل رجال الرعيل الأول بكل احترام ويحرص على علاقة قوية معهم. ولهذا لم يوجه أي نقد حول نشر المقال في صحيفة فتح بل قال وضعنا صعب الآن، ونحتاج إلى التقاط أنفاسنا.

وكان الحدث الكبير قد وقع في القاهرة يوم 28 نوفمبر 1971. فأمام مدخل فندق شيراتون أطلقت النار على وصفي التل، رئيس وزراء الأردن، وقتل على الفور. وتناقلت وكالات الأنباء بيانات منسوبة لمنظمة أيلول الأسود تعلن مسؤوليتها عن عملية الاغتيال. وكما هو معروف فوصفي التل كان المسؤول الأول في الأردن بعد الملك حسين والذي أدار المعركة ضد الثورة بعد استقالة الجنرال محمد داود، وكان كذلك المسؤول عن تصفية قاعدة الثورة الآمنة الأخيرة في الأردن في جرش وعجلون وعن مقتل أبو علي إياد والذي لم يتم العثور على جثته. في هذا الوقت استدعاني أبو عمار على وجه السرعة إلى مقر القيادة في(23) في السبع بحرات، وطلب عدم نشر أي تعليق على عملية الاغتيال والاكتفاء بإيراد الخبر كخبر فقط وكما نقلته وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية.  وقال أنه ضد الاغتيالات فهذه سيف ذو حدين. وبعد أسبوعين وقعت محاولة فاشلة لاغتيال زيد الرفاعي في لندن حيث أصيب بجرح بسيط في يده وكان يركب سيارته في الشارع العام في لندن ولم أتوقف في تقديم الخبر عند أسبابه المتعلقة بدوره ضد الثورة بل أذعت خبرا عاديا كما لو كان خبرا عن حدث في أمريكا اللاتينية.

 

الحلقة الرابعة : اكتشاف الجالية الفلسطينية في تشيلي

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الرابعة : اكتشاف الجالية الفلسطينية في تشيلي

الفصل الرابع

كان صديقا لنا 

في شهر شباط 1972 استدعاني أبو عمار وطلب مني أن أجهز نفسي للسفر إلى تشيلي، وبحكم سفرتي الأولى إلى أمريكا اللاتينية فقد اعتبرت خبيرا في شؤونها. وأخبرني أبو عمار أنه تلقى دعوة من الرئيس التشيلي الاشتراكي سلفادور اليندي لإرسال ممثل عن فتح لحضور مؤتمر الحزب الاشتراكي الثالث والعشرين. ولا بد أن أضيف سببا آخرا لاختياري لهذه المهمة هو الاعتقاد السائد في أوساط القيادة بأنني يساري وأتبنى الرؤية الماركسية للعالم والمجتمعات
وسلفادور اليندي اشتراكي عريق رشح نفسه على مدى عشرين عاما حتى فاز في الانتخابات الرئاسية عام 1970. ولا أنكر أن معلوماتي كانت عن تشيلي شحيحة، وكان مصدري الوحيد من وكالة الأنباء الكوبية ومن صحيفة الحزب الشيوعي الكوبي "سيرا مايسترا" وكان الدبلوماسيون الكوبيون نشيطين جدا في تلك السنوات، فكانوا هم والصينيون والكوريون الشماليون يؤمنون لنا نشراتهم مترجمة إلى اللغة العربية
وبالطبع، كان الشعار الثوري المسيطر في تلك الأيام هو شعار"تشي جيفارا" أكثر من فيتنام واحدة.  
عندما وصلت إلى سانتياغو عاصمة تشيلي كان قد وقع اغتيال رئيس أركان الجيش واعتبر هذا الاغتيال المقدمة لإحداث الانقلاب ضد النظام الاشتراكي برئاسة اليندي. وعرف العالم فيما بعد أن هنري كيسنغر هو الرأس المدبر للانقلاب في تشيلي واغتيال اليندي.

استقبلني المسؤولون في الحزب الاشتراكي، وفي اليوم الثاني مباشرة سافرنا في الباص مدة أربع ساعات حتى وصلنا مدينة "فلبريزيو" الساحلية والمؤتمر في الواقع كان بمثابة مهرجان شعبي حاشد. وكان فيديل كاسترو نجم المؤتمر. وبصعوبة بالغة وجد لنا المنظمون مكانا نجلس فيه. وكان المدعوون الأجانب لا يزيدون على ثمانية مندوبين من الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية وكذلك الجزائر ويمثلها وزير الصناعة الجزائري في ذلك الوقت، وهو شاب في غاية الأدب والأناقة.

وحين عدنا إلى سانتياغو دعاني الأمين العام للحزب لويس كورفلان لتناول الغداء في أحد المطاعم وشرح لي الوضع الصعب للنظام الاشتراكي بسبب الحصار الأمريكي، وأن الرئيس سلفادور اليندي يرفض اتخاذ أي إجراء لحماية النظام الاشتراكي مثل تسليح الحزب أو تشكيل ميليشيا شعبية لحماية النظام، وقال أن اغتيال رئيس الأركان التشيلي يؤكد أن الامبريالية الأمريكية مصممة على إسقاط النظام الاشتراكي.

وحتى هذه اللحظة لم أكن قد وقفت على الأسباب التي دعت اليندي لتوجيه الدعوة لحركة فلسطينية لحضور مؤتمر الحزب الاشتراكي. ولم أجد من المناسب أن اسأل الأمين العام عن سبب دعوتنا، ولهذا فضلت انتظار اللقاء مع اليندي. وقد خصص عشر دقائق لكل رئيس وفد.  وكنت الوفد ورئيسه على السواء. استقبلني الرئيس بعد أن استقبل رؤساء الوفود جميعا وحين دخلت مكتب الرئيس نهض وصافحني وكانت ملابسه عادية تماما لا تختلف عن ملابس رجل في الشارع وبدون ربطة عنق، وبدون الشكليات المعروفة التي ترافق الدخول على رؤساء الدول.

صافحني الرئيس اليندي وأجلسني بجانبه بكل هذا التواضع المفرط، وشكرني على الحضور وطلب نقل تحياته لعرفات الذي يحترمه، ثم دخل في الموضوع مباشرة وقال:"الشعب التشيلي اختار الاشتراكية عن طريق الديمقراطية والانتخابات وليس عن طريق الثورة، والمغتربون الفلسطينيون هم أكبر جالية في تشيلي، وقد كونوا ثروات كبيرة ولديهم مصانع وشركات وبنوك ورؤوس أموال ضخمة من عملهم في هذا البلد، وهم رأسماليون كبار، والذي أطلبه منك أن تتصل بهم هنا في تشيلي وتدعوهم بأن يوجهوا الأموال الفائضة لديهم  لتحرير وطنكم فلسطين بدل أن يحاربوا النظام الاشتراكي الذي اختاره الشعب التشيلي عبر الانتخابات الديمقراطية الحرة، وقال أنهم سحبوا رؤوس الأموال إلى الأرجنتين ونيويورك "والسكودو" أصبح بلا قيمة والآن الدولار يساوي"240 سكودو، وحين جرت الانتخابات كان الدولار يساوي 8 سكودو وقال لا نريد مصادرة أموالهم وتجارتهم ولكن ندعوكم لإقناعهم بعدم محاربة النظام الاشتراكي والوقوف مع الأمريكيين الامبرياليين.

وضغط على الجرس بجانبه فحضر أحد الموظفين حيث طلب منه أن يأخذني إلى النادي الفلسطيني في سانتياغو. وشكرني الرئيس مرة أخرى وودعني بحرارة وفي المساء دعا الرئيس اليندي رؤساء الوفود لتناول العشاء في منزله الشخصي ولم يكن أحد هناك غير زوجته، ولم أر له أولاداً، وكان لم يتبق من رؤساء الوفود إلا ستة أشخاص وأنا. وحول طاولة مستديرة في منزل قديم: الطاولة والكراسي والبرادي والصالون والجدران معتمة والأبواب داكنة، كأنه بيت مسكون من مئة عام، كان العشاء قصيرا وجلس اليندي معنا حول المائدة المستديرة وشرح تاريخ تشيلي وسكانها ومناجم النحاس، ثروة تشيلي الأهم، وعن طول سواحلها الممتدة لأكثر من أربعة آلاف ميل، وشرح لنا المؤامرات الأمريكية ضد النظام الاشتراكي وتهريب رؤوس الأموال ومنع السياحة إلى تشيلي، وطلب منا أن ننقل إلى دولنا هذه المؤامرات التي تنفذها أميركا وهنري كيسنغر مستشار الأمن القومي الأمريكي.

وصافحنا الرجل وودعنا بكل لطف وتهذيب وهو يقول: "سأجعل الأمريكيين يجلسون على الخازوق".

لم أكن أعرف الكثير عن الجالية الفلسطينية في تشيلي، وأنها أكبر وأغنى جالية فلسطينية في أمريكا اللاتينية، وأن لديهم فريق كرة قدم معروف على مستوى القارة. وعرفني هذا الموظف في الرئاسة على محام من أصل فلسطيني كان أجداده قد هاجروا من بيت جالا في القرن التاسع عشر. واستضافني لعدة أيام في سانتياغو وفي منزله على شاطئ  البحر، والمنطقة  كلها شاليهات للأغنياء من المهاجرين الفلسطينيين، وإلى جوارهم بعض المهاجرين الألمان، واليهود نفوذهم ضئيل في تشيلي.وقد قال لي ما خلاصته أن الفلسطينيين هنا مثل كل المغتربين. صحيح أنهم يحرصون على انتمائهم ولكنهم تشيليون ولديهم أحزاب ومصالح داخل البلد تضررت بسبب نجاح اليندي واشتراكيته.  ومثل كل بلد في العالم لا يمكن للرأسمالي أن يقبل النظام الاشتراكي. فالاشتراكية والرأسمالية نقيضان على مستوى العالم. وما قاله لك اليندي هو كلام مثالي لا معنى له.  وأنا أتحدث الإسبانية وأبي ما زال يحتفظ ببعض الكلمات العربية ولغتي الانجليزية نتيجة الدراسة في الولايات المتحدة، إنني مواطن تشيلي مائة بالمائة.

ورفعت تقريرا بعد عودتي لأبو عمار الذي أصبح مرجعي الوحيد سواء أكان هناك مفوض للإعلام أم لا؟ وقد ورد في التقرير أن الجبهة الشعبية لها نشاط في أمريكا اللاتينية وتردد إسم ممثل الشعبية جايل العرجا أكثر من مرة وهو من بيت جالا، وقد استشهد في عملية عنتيبي في أوغندة، ولسوء الحظ لم التق به.

أبو عمار التقط من تقريري ما يخدم أهدافه في تجميع كل قوى الشعب الفلسطيني أينما وجدوا. وبعد سنوات عدة صار لنا ممثليات في دول أمريكا اللاتينية. وفي دورة من دورات المجلس الوطني في الجزائر، وقد عينني أبو عمار الناطق الرسمي للمجلس، جاءني أعضاء في المجلس واحتجوا لغياب الترجمة الإسبانية فهم لا يجيدون غير اللغة الاسبانية وكانوا من دولة تشيلي. وبعد عام على زيارتي لتشيلي وقع الانقلاب العسكري الدموي بقيادة الجنرال أوجستو بينوشيه وقتل في الانقلاب الرئيس سلفادور اليندي وسقط النظام الاشتراكي وحل محله حكم عسكري دموي استمر من عام 1973_ 1989، حين عادت الحياة الديمقراطية.

ولكني لم أنس هذا الرجل اليندي. وحين عينني أبو عمار رئيسا لتحرير مجلة فلسطين الثورة المجلة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وضعت صورة اليندي على غلاف مجلة فلسطين الثورة وبالحجم الكبير، كتبت تحتها العبارة التالية: كان صديقا لنا.

 

الحلقة الخامسة:سقوط الوصاية والأوهام

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الخامسة:سقوط الوصاية والأوهام

الفصل الخامس
سقوط الوصاية والأوهام 

في منتصف آذار 1972، أطلق الملك حسين مشروعه السياسي "المملكة العربية المتحدة" لاحتواء الشعب الفلسطيني، وجاء هذا الإعلان في ذروة قطيعة تامة بين فتح والنظام. فقد رفعت فتح شعار إسقاط النظام بعد أيلول والأحراش، وبعد اغتيال أبو علي إياد في عجلون واغتيال وصفي التل في القاهرة. وكان إعلان الملك حسين مناسبة لتعرية دور النظام كشريك لإسرائيل في ضياع فلسطين. وقد استعنت بكتاب أنيس صايغ "الهاشميون وقضية فلسطين " في حملة التشهير من الإذاعة، وكذلك لقاءات الملك عبد الله مع الياهو ساسون واغتياله في المسجد الأقصى في 20 تموز 1951. وكيف منع النظام عودة الحاج أمين إلى القدس، والخلاف بين الشقيري والملك حسين قبل حرب حزيران، وإغلاق مكتب المنظمة في القدس وطرد رئيس المنظمة أحمد الشقيري، ولم أكن أتلقى من القيادة أية تعليمات سواء لتخفيف الحملة على الملك حسين ومشروعه أو لتصعيدها، وكانت كلمات أبو عمار دائما: أرسل حكيما ولا توصه، أو على بركة الله. وفي هذا الجو المحموم من العداء بين الثورة والنظام دعا أبو عمار لعقد المجلس الوطني في دورة استثنائية وعلى هامشه عقد مؤتمر شعبي. وقد حضرت هذا المؤتمر الشعبي الفضفاض على عكس المجلس الوطني الذي كان صغير العدد ولا يشارك فيه غير الأعضاء وأما الضيوف فيحضرون جلسة الافتتاح العلنية.

في المؤتمر الشعبي 1992 كان هناك إجماع أن مشروع الملك حسين يرمي الملك من وراءه إلى احتواء القضية ولإعادة فرض الوصاية بعد أن تمكنت فتح والثورة من إسقاط الوصاية والاحتواء والتبعية وأصبح قرار الشعب الفلسطيني في اليد الفلسطينية. وجاء بيان المجلس الوطني بالمضمون نفسه دون التطرق لمستقبل الضفة الغربية. وأدركت أن ارتباط الفلسطينيين بفلسطين التاريخية هو استحواذ أبدي لا فكاك منه. ولا ينفع في مواجهته حجج العقل والمنطق والواقعية وحديث موازين القوى والوضع الدولي الذي أقام إسرائيل ويقدم لها الدعم الكامل. وبدأت بالفعل أراجع أفكاري التي قدمتها في المؤتمر الثالث لحركة فتح. ولولا لطف الله لقدمني زملائي في المؤتمر الثالث لفتح لمحكمة عسكرية تقضي بإعدامي بتهمة الخروج على المبادئ والأهداف. وقررت أن أبحث عن أحمد بهاء الدين، الصحفي المصري الشهير، الذي اقترح قيام دولة فلسطينية. وبالفعل كانت علاقاتي مع مجلة الطليعة ولطفي الخولي وطاهر عبد الحكيم وميشيل كامل قوية منذ أيام عملي في صوت العاصفة حتى نيسان 1970. أحمد بهاء الدين هادئ ورزين وقليل الكلام، وهو يحرص على الاستماع أكثر مما يتكلم، وهو متابع مثابر للشأن الفلسطيني منذ زمن بعيد. وحين سألته عن حديثه القديم عن قيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، قال وبالحرف الواحد: موازين القوى ليست لصالح الفلسطينيين والعرب.  وأنت تعلم ما جره التصريح المنسوب زورا إلى الشقيري من ويلات على الفلسطينيين والعرب، اليهود بعد الحرب العالمية مشكلة عالمية أخلاقية وسياسية والقضاء على دولة إسرائيل لا يمكن تحقيقه في المدى القريب أو البعيد.  العالم تغير، لا يمكن القضاء على دولة موجودة، وخاصة إذا كانت دولة لليهود.  وتحدث بألم وحزن على ما حصل للثورة في الأردن وما يجري في لبنان وإغلاق الحدود العربية في وجه الفدائيين.  وتساءل إن كنت أرى أملا في إدراك الثورة وفتح خاصة لحقيقة الواقع العربي والدولي. وذكرت له ما كنت أعلنته من إذاعة صوت العاصفة في درعا عن إلغاء اتفاق أريحا وإلغاء وحدة الضفتين وأن أبو عمار لم يرفض ما قلته في ذلك الحين، وإن كان في المؤتمر الثالث بقي صامتا مع أنه اعتبر أن من حق أي عضو في المؤتمر أن يقول رأيه دون مقاطعة من أحد.  وأضفت لأحمد بهاء الدين أن ما قلته من أن الجعبري سيكون وطنيا أكثر منا قد استفز الكثيرين في المؤتمر لأن الجعبري هو من وقع اتفاق أريحا وضم الضفة الغربية "شرق فلسطين" إلى الأردن.

وودعني أحمد بهاء الدين وهو يقول: القضية قضيتكم أولا وأخيرا ويجب أن يبقى القرار الفلسطيني في الأيدي الفلسطينية.  ولكن لا تصدقوا من يقول لكم أنه مع التحرير الكامل. وآمل أن تدرك قيادتكم حقائق الواقع السياسي الذي تعمل فيه، وأن تكف عن شعارات إسقاط هذا النظام أو ذاك، ولماذا لا تدرك قيادتكم أن الوضع العربي انقلب رأسا على عقب بعد وفاة عبد الناصر؟

وقد رافقت احمد بهاء الدين وكامل زهيري من القاهرة إلى بغداد لحضور اجتماع لنقابة الصحافيين العرب وبقينا معا لمدة ستة ايام في الفندق نفسه ونحضر الاجتماعات معا. وقد انتخبنا أحمد بهاء الدين نقيبا للصحفيين العرب وهناك في أوساط حزب البعث بزعامة أحمد حسن بكر وصدام حسين كانت الشعارات الثورية والقومية تتردد أصداؤها في المؤتمر وفي الشارع وفي الإذاعة وفي اللقاءات مع أقطاب الحزب الذين لا يطرحون غير شعار الوحدة والتحرير الكامل لفلسطين من شذاذ الافاق الصهاينة. وكانت هناك دعاية مركزة لإظهار أن كل انجازات تمت في العراق هي من صنع حزب البعث. وكنا مستمعين جيدين، إلا أنني فوجئت بأحد الشباب في الفندق يحدثني عن الأكراد وقضيتهم في العراق وضياع حقوقهم الوطنية والقومية وهناك حرب مستمرة في المناطق الكردية في شمال العراق.  وجن جنون البعثيين حين سألت عن وضع الأكراد في العراق. وأحضر أحدهم خريطة جغرافية وقال إن مصدرها تنظيم كردي، وفيها أن الأكراد يعتبرون بغداد حدودا للدولة الكردية التي يريدونها. وبالطبع رفضت هذا الطرح. وأكدت لهم أن العراق عربي منذ أقدم العصور حتى هدأت نفوسهم.  إلا أن هذا الشاب الكردي لم يتركني وشاني. وحين كنا في زيارة لمدينة بابل قال لي بصوت خافت: هنا لا يستطيع البعثيون الادعاء أنهم قد بنوا بابل والحدائق المعلقة وأدركت من يومها أن العراق يواجه مشكلة بدا حلها مستحيلا في ذلك الوقت.

عدت إلى درعا لمواصلة عملي مسؤولا لصوت العاصفة. وفي اليوم الثاني مباشرة لعودتي من بغداد وكان ذلك أواخر أيار 72 وقعت مشكلة لأبو عمار في أحد القواعد الفدائية وكان مسؤولها حسين الهيبي وهو من القبائل البدوية في شمال فلسطين، حيث حاصرت قوة تابعة للهيبي المكان الذي تواجد فيه أبو عمار وكانت الذريعة عدم انتظام التموين للقاعدة الفدائية.  وقد أطلق حسين الهيبي النار على أحد مرافقي أبو عمار الذي استشهد على الفور، ويمكن القول إن هذا العمل كان كمينا لأبو عمار.  ولكن حنكته أنقذته من موت محقق حين لبى كل المطالب وأمر بتنفيذها على الفور. ولكن هذا الكمين المدبر لم يمر دون تفسيرات وتأويلات. وانتشر بين الفدائيين أن الكمين كان من تدبير المخابرات السورية حيث هناك علاقة بين الهيبي والمخابرات السورية.  وقيل كذلك أن الهدف من وراء قتل مرافق أبو عمار هو إنذاره حتى لا يعود ثانية للأراضي السورية، ويتوقف عن القيام بعمليات في الجولان بين فترة وأخرى رغم أمر العمليات السورية بمنع الفدائيين من القيام بعمليات سواء ضد إسرائيل أو ضد الأردن، حيث انتشر الجيش السوري على طول الحدود مع الأردن.

وكان بركات زلوم، مقدم البرامج في الإذاعة، يسكن في درعا بعيدا عن مبنى الإذاعة، ويتنقل بالباص بين الإذاعة ومسكنه، وحصل أن جلس بجانبه أحد الشباب وراح يسأله عن قصة الكمين الذي لم تتناوله الإذاعة بتاتا بتعليمات من أبو عمار. وأعطى بركات زلوم لنفسه الحق أن يقول للشاب أن الكمين مؤامرة دبرها حافظ الأسد ضد ياسر عرفات لإجباره على مغادرة الأراضي السورية، ومعروف أن حسين الهيبي يعمل مع المخابرات السورية.  ولم يحضر بركات زلوم في اليوم التالي إلى الإذاعة لتقديم البرامج وانقطعت أخباره.  وأرسلت من يسأل عنه حيث يسكن فقالوا لا نعرف أين ذهب.  جاء شباب وخرج معهم ولم يعد منذ مساء أمس ولم ينم في المنزل. وقمت بإبلاغ القيادة في ال "23" باختفائه المريب، وسألوني إن كان غادر إلى الأردن، فاستبعدت هذا الاحتمال، لأن بركات معروف لهم في الرمثا وسيعتقلونه لحظة وصوله. وفي اليوم الثالث لاختفائه جاءني اتصال غريب وقال المتحدث انه الرائد نديم مسؤول مخابرات درعا. وقال بكل تهذيب: لو تتفضل عندنا، قلت له: على الفور. وهنا أدركت أن الموضوع يتعلق باختفاء بركات زلوم. وقد ساورني القلق على حياته. استقبلني الرائد نديم بكل ترحيب واحترام وكذلك بقية الضباط والأفراد، وتناولنا القهوة معا. وفي الأثناء قال لي الرائد نديم: لا شك أنك قلق على زميلك بركات زلوم، وقلت له إن اختفاءه أمر غريب ولا أدري أين هو الآن.  قال نديم أنه معتقل عندنا هنا في المخابرات، وفوجئت فعلا من أقواله ورحت أسأله، ولماذا تعتقلونه؟

وحدثني الرائد  نديم عن رحلة الباص المشؤومة التي أدت إلى اعتقال بركات.  وقال لي: لا أريد تضخيم هذه القضية وتحويل بركات إلى دمشق، وأنا واثق أنك لا تقبل هذا التصرف، وأعدك أنني سألغي محضر التحقيق معه، وأمر بإحضار بركات زلوم الذي كان في غاية الارتباك وقدم اعتذاره للرائد نديم.  وعند المغادرة قال نديم: قل لصاحبك أن يعرف أين يجلس ومع من يتحدث، فحديثه كان مع عنصر مخابرات، وصافحته وغادرنا مبنى المخابرات.

وفي حزيران عام 1972 تخلت فتح عن الإعلام المركزي وجرى تشكيل الإعلام الموحد برئاسة كمال ناصر، والذي ضم الأجهزة الإعلامية المركزية وتأسست وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"، وصدرت مجلة "فلسطين الثورة" الناطقة باسم منظمة التحرير الفلسطينية وكان الهدف توحيد الإعلام الفلسطيني ومشاركة كل الفصائل في الإعلام الموحد.  وبالطبع كان هذا أمرا مستحيلا.  لكن الذي تحقق فعلا أن أجهزة فتح الإعلامية صارت هي المعبرة عن المنظمة وعن الموقف الرسمي الفلسطيني. وعادت المنظمات والفصائل لإصدار مطبوعاتها لتعكس أعمالها ومواقفها السياسية، أما الموقف الفلسطيني فأصبح يصدر حصرا عن الإعلام الموحد.

ولدى تأسيسه شاركت في بعض الاجتماعات وقابلت كمال ناصر أكثر من مرة، لكن قضية التوحيد ظلت قضية بعيدة عن الإذاعة وظلت إذاعة فتح المسماة صوت العاصفة تعمل كالمعتاد.  ولم يكن هناك تقليد لأن يوجه المركز في بيروت أو دمشق وحتى عمان في البداية خطاً إعلاميا، حيث كان يصلنا الاحتجاج بعد أن يكون قد سبق السيف العذل. فالكلمة كالرصاصة إن خرجت فإنها لن تعود أبدا. وقد ظهر واضحا في أحد الاجتماعات برئاسة كمال ناصر أن هناك تباينا  في تناول الإذاعة لموضوعات الساعة واستشراف المستقبل وبين ما  يصدر في الإعلام المكتوب، ففي المجلة المركزية كان يجري التأكيد على التحرير الكامل ورفض الحلول الانهزامية والتأكيد على الكفاح المسلح باعتباره الطريق الوحيد لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر ومن رأس الناقورة إلى رفح. ولم يكن لدي اعتراض على هذه الثوابت والأهداف والمبادئ لكني وجدت أن ما بدأت تنشره جريدة "الحرية" في عام 1972 حول الدولة الفلسطينية وحول منع الأردن من العودة ثانية للتحكم بالشعب الفلسطيني خدمة للصهيونية يتقاطع تماما مع ما تحدثت عنه في مؤتمر فتح الثالث ولم يسمعني أحد سواء من الجهة التي كنت أعتبرها محافظة وإن بدأت تتفكك والجهة التي كنت اعتبرها تعبر عن الموقف القومي ولا ترى خصوصية الوضع الفلسطيني، ولا ترى كذلك أن نقيض البعد القومي ليس فتح بل الكيانات القطرية والتي لا سبيل للتخلص منها وانتصار الوحدة القومية القادرة على تحرير فلسطين. وحرصت في الحوارات التي كنت أشارك فيها على القول أن الموقف الذي أعبر عنه هو الموقف الوطني بما يعبر عنه القرار الوطني المستقل والمسؤولية الوطنية قبل أي مسؤولية أخرى عن وطننا فلسطين.

 كنت بهذا الطرح أحاول الاقتراب من القضية المحرمة قضية الدولة الفلسطينية والأرض الفلسطينية التي كانت في عهدة مصر والأردن وأتساءل هل الأرض فلسطينية أم لا؟ وهل الشعب فلسطيني أم لا؟ لم يوافق أبو ميزر وحنا مقبل وأبو نضال غطاس ومي صايغ ومنير شفيق وناجي علوش على الموقف الوطني الواقعي، وقالوا إنهم يتمسكون بالموقف الثوري وبالمبادئ والأهداف والأساليب التي حددتها فتح يوم انطلقت في الفاتح من يناير 1965.

أما القيادة العليا وهي اللجنة المركزية فقد تباينت مواقفها من طرح نايف حواتمة ومجلة الحرية فالبعض أخذ يطرح المرحلية.  وكان أبو إياد أول من تحدث عنها. أما أبو اللطف فقد ظل بعيدا عن هذه القضية في تصريحاته ومواقفه العلنية.  أما أبو صالح فقد عاد للاتصال معي بعد فترة انقطاع دامت عاما لأنه كان مشغولا بترتيب الأمور في قوات العاصفة حيث أصبح عضوا في قيادتها.  وكمال عدوان، حصر نشاطه في القطاع الغربي. وماجد أبو شرار، كان المفوض السياسي العام، ومع تأييده للموقف الوطني والقرار الوطني المستقل فإنه كان دائما حريصا على أن تبقى علاقاته وجسوره مفتوحة وقوية مع الجميع داخل فتح ومع الفصائل، وكان موهوبا في إدارة هذه العلاقات العامة لعدم إحداث قطيعة مع أصحاب الرأي المخالف على قاعدة القول الشائع "الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية. "

كان عام 1972 هو عام المعركة الفكرية والسياسية ضد الوصاية الأخوية العربية على الثورة. وبالمناسبة ليس الأردن وحده من فرض الوصاية على الشعب الفلسطيني. فحامل الوثيقة، وثيقة اللاجئ واللجوء، إنما يحمل في الواقع وثيقة اتهام لشخصه وشعبه ولوطنه. فاللاجئ في لبنان أو سوريا لا يستطيع أن يقطع الحدود بوثيقته. فمن يعترف بوثيقة اللاجئ؟ أنت لاجئ وفي مخيم اللاجئين تولد وتعيش وتموت. وفي مصر إذا خرج اللاجئ حامل الوثيقة من مصر، فلا يستطيع أن يعود إليها إلا بعد الحصول على تصريح دخول مجددا. إنما المصري أو السوري أو اللبناني حامل الجواز فإنه يسافر ويعود دون مساءلة.  وكان من بين فضائل فتح والثورة أنها حطمت هذه السجون التي تسمى مخيمات في الأردن وسوريا ولبنان وإن لفترة وجيزة عن طريق التحرك الحر وبورقة الإجازة بين هذه الأقطار الثلاثة. وللتغلب على قيود الأنظمة كان لدينا دائرة لتزوير الجوازات ولشراء الأختام وشراء التواقيع الرسمية وحتى الجوازات بأحدث أرقامها.

وأذكر ذات مرة أن هذه الدائرة أمنت لي جوازا دبلوماسيا أردنيا وكنت في رفقة محمود درويش إلى دمشق نعود بعدها الى بيروت، وكان محمود مديرا لمركز الأبحاث الفلسطيني، وعند عودتنا قدمنا جوازي السفر في المصنع لختمها وكانت المفاجأة المذهلة أن جوازي المزور كان شرعيا وختمه الموظف بسرعة، أما جواز محمود درويش الشرعي فاعتقد الموظف أنه مزور والفيزا مزورة وتدخلت وقمت بتعريف الموظف بصاحب الجواز، إنه محمود درويش الأشهر من نار على علم، فخجل الموظف وسلمني الجواز. الثورة تعني القضاء على الظلم. ومن أهم انجازات الثورة الفلسطينية بقيادة فتح أنها كسرت  قيود المذلة والمهانة من قبل الشقيق  قبل العدو. وكانت إذاعة صوت العاصفة تكرر ألف مرة في اليوم النشيد الأشهر "أنا قد كسرت القيد قيد مذلتي ."

فشل مشروع المملكة العربية المتحدة فشلا ذريعا.  فالشعب الفلسطيني في الثورة والمخيمات والوطن رفض هذا المشروع وفضح أهدافه. والدول العربية لم تجرؤ على تأييده. فبعد أيلول والأحراش واغتيال أبو علي إياد في الأحراش واغتيال وصفي التل في مدخل فندق شيراتون بالقاهرة، أحاقت العزلة بنظام الملك حسين في الساحة العربية.  إلا أنه نجح في إخراج الثورة من الأردن وأغلق أطول حدود عربية في وجه الفدائيين. وهنا لا بد من القول إن شعار إسقاط النظام في الأردن لم يلق قبولا في أوساط الشعب الأردني، خاصة بعد التصدع الذي أصاب علاقات الشعبين من عام 1968 وحتى عام 1971. وزاد الطين بلة، لجوء فتح والفصائل إلى تدبير عمليات عسكرية لقلب النظام. وقد تولى مكتب شؤون الأردن هذه المسؤولية الخطيرة. ومن المفارقات المضحكة المبكية أن هذا المكتب كلف أحد الشباب بإلقاء قنبلة على مكتب الجوازات في الزرقاء، وأصيب نتيجة ذلك (24)  فلسطينيا، ولم يصب مسؤول واحد.

كانت المحاولة التي بلغت الذروة من حيث سيطرة روح المغامرة، هي محاولة السيطرة على مقر مجلس الوزراء الأردني في عمان آذار 1973، وقد فشلت واعتقل قائدها أبو داوود وحكم ومن معه بالإعدام. وعفا الملك حسين عنهم قبل حرب أكتوبر. كما فشلت كذلك محاولة الانقلاب العسكرية التي تزعمها الضابط رافع الهنداوي وعدد من الضباط بينهم أخي الضابط "عدوان" وقد حكموا بالإعدام وعفا عنهم الملك حسين.

وهكذا على صعيد صراع الثورة والنظام.  فقد فشلت الثورة، في إسقاط النظام بعد استحالة التوافق بينهما. وفي المقابل فشل النظام في إعادة وصايته على القضية الفلسطينية. وانتهت حقبة من التاريخ تعرض فيها الشعب الفلسطيني للنكبة والإلغاء والاحتواء. وإذا كان العدو قد احتل كل فلسطين التاريخية، فإن محاولة تذويب الشعب الفلسطيني وطمس هويته وكيانه قد فشلت فشلا ذريعا.

أما المعركة الأخرى التي كان الهدف منها التعويض عن سقوط القاعدة الآمنة في الأردن، فكانت الحرب الفلسطينية الإسرائيلية في الساحة الخارجية، إنها حرب المخابرات والجواسيس. وقد كانت أوروبا ساحتها الرئيسة. وقد استهدفت الفريق الرياضي الإسرائيلي في الألعاب الأولمبية في مدينة ميونخ الألمانية في أيلول 1972. وقصفت إسرائيل المخيمات والقواعد في سوريا ولبنان واغتالت وائل زعيتر في روما ومحمود الهمشري في باريس وحسن أبو الخير في قبرص، واغتالت قبل ذلك غسان كنفاني في بيروت ( 8 تموز 1972) ،  واستخدمت الطرود الملغومة التي انفجرت في المرسلة إليهم: مدير مركز الأبحاث أنيس الصايغ، بسام أبو شريف رئيس تحرير الهدف، أبو خليل ممثل فتح في الجزائر. وخطف الفدائيون الطائرات، ومنهم علي طه، إلى مطار اللد. وخطفت طائرة لوفتهانزا إلى مقديشو وقتل مسؤول المخابرات الإسرائيلية في مدريد، وقد استولى الفدائيون على سلاحه وأوراقه الشخصية، وعثر فيها على صورة  د. عصام كامل ممثل حركة فتح في مدريد. واكتشف الأمن الايطالي محاولة لإطلاق صاروخ على طائرة "ال عال "وهي تقلع من مطار روما، واعتقل المجموعة التي كان يقودها أمين الهندي. كما فشلت محاولة أخرى لاغتيال الملك حسين في المغرب وكان يقودها أمين الهندي وأبو هشام وفي أوائل عام 1973 هوجمت سفارة إسرائيل في بانكوك، واقتحمت مجموعة أخرى السفارة السعودية في الخرطوم ( نيسان 1973) وقتلت السفير الأمريكي وبعض الدبلوماسيين الأوروبيين، إلا أنها لم تمس السفيرين السعودي والأردني.

وجاء الرد الإسرائيلي على عملية الخرطوم وغيرها من العمليات في نيسان 1973 بعملية فردان التي استهدفت أبو يوسف النجار وكمال ناصر وكمال عدوان. ونسفت مكاتب الجبهة الديمقراطية في الفاكهاني. إلا أنها تراجعت عن اقتحام مقر ال (17) مقر أبو عمار بسبب الحراسة المشددة عليه والعدد الكبير من الفدائيين حول المبنى. إلا أن هذه العملية الإسرائيلية في قلب بيروت قد هزت النظام اللبناني من جذوره، وفجرت الصراعات الداخلية واستقالت الحكومة، وتحركت القوى الوطنية ضد هذا التخاذل في مواجهة إسرائيل.

وشعر رئيس لبنان سليمان فرنجية أن الفدائيين قد أصبحوا قوة مؤثرة في الصراع الداخلي، ولهذا أمر الجيش بتطويق المخيمات بعد اقل من شهر على جريمة شارع الفردان. ففي ( 2 أيار 1973) وصلت دبابات الجيش إلى دوار الكولا الذي يشكل بوابة منطقة الفاكهاني، وتصدى الفدائيون للدبابات وفشل الهجوم على مقر القيادة. وواصل الجيش قصف المخيمات ولكنه فشل في اقتحام أي منها، ما عدا مخيم (ضبية) المعزول شرق بيروت. وكان الوضع العربي غير موات بالمرة لهذا الهجوم اللبناني على الثورة، خاصة وان دروس أيلول 1970 في الأردن كانت المرآة المكبرة لكل ما جرى مع الثورة ومع الفلسطينيين في لبنان حتى عام 1982، يوم توحدت القوى والمصالح، ولم تكن إسرائيل تخشى أحدا في الشرق الأوسط. فمصر تلملم جراحها بعد اغتيال السادات في ( 6 أكتوبر 1981) والأسد تلقي تطمينات من قبل أطراف عربية وأوروبية وأمريكية بان إسرائيل لن تتجاوز مسافة ال (45) كم التي اعتبرها كيسنجر المجال الحيوي لإسرائيل.  وحين تجاوزتها وصدقت نظرية أبو عمار حول الأكورديون ويعني الإطباق على الثورة من الجنوب وشرق بيروت، وتواطؤ شارون وبشير الجميل، خسرت سوريا أكثر من (80) طائرة وأرغمت على وقف إطلاق النار يوم 11 حزيران 1982. وبقيت الثورة بقيادة أبو عمار صامدة لمدة 88 يوما.

أما في أيار عام 1973 فالسادات والأسد وقفا في وجه  مؤامرة فرنجية والجيش ضد الثورة. وظهرت الحركة الوطنية اللبنانية حليفا قويا للثورة. وهذا على خلاف الوضع في الأردن سنة ( 1970). فالثورة ألغت الحركة الوطنية وحلت محلها. وحين قرر الملك حسين تصفية الثورة لم يكن لها حلفاء في الساحة الأردنية. وبالفعل صمدت المخيمات في لبنان وصمد اتفاق القاهرة وفرضت الحركة الوطنية نفسها لاعبا أساسيا في الشأن الداخلي اللبناني وأزاحت القوى التقليدية عن مسرح الأحداث، وتحررت منطقة الفاكهاني والمخيمات صبرا وشاتيلا وبيرحسن وبرج البراجنة من أية سيطرة للجيش أو الفرقة (16) أو المكتب الثاني. وكانت قذيفة   (آر بي جي) من الفدائي ( جيفارا) التي أحرقت دبابة على دوار الكولا  شاهدا على تراجع الجيش النهائي عن هذه المناطق. وظلت محررة حتى عام 1976 حين تدخلت سوريا تحت الغطاء الأمريكي والموافقة العربية الرسمية لإنهاء سيطرة الثورة على أكثر من 80% من الأراضي اللبنانية. وللأسف كان هذا التدخل السوري بقرار أمريكي وأوروبي لاستعادة لبنان القديم، إشارة واضحة لتدخل أكثر قوة لإسرائيل في عام 1982.

 

الحلقة السادسة : اشتم الكفر لا الكفار

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة السادسة : اشتم الكفر لا الكفار

الفصل السادس
اشتم الكفر لا الكفار 
في أوائل أيلول 1973 وقعت حادثة ذات دلالة سياسية بالنسبة لحركة فتح. فقد اصطحب الرئيس حافظ الأسد معه إلى القاهرة للاجتماع مع الرئيس أنور السادات قائد الصاعقة  زهير محسن. وقد ظهر زهير محسن في الاجتماع وهو يرتدي الكوفية والعقال على غير عادته، والكوفية والعقال قد أصبحت ومنذ سنوات هي العلامة المميزة لأبوعمار. وبالطبع كانت العلاقات مع نظام الأسد متردية تماما، بسبب التضييق على العمليات الفدائية من الجولان وحتى على النشاط الفدائي في سوريا عامة، وكذلك علاقات الأسد مع الملك حسين وتحدي مصباح البديري قائد جيش التحرير الموالي للأسد لسلطة أبو عمار علنا في مجلته ( صوت فلسطين). ولم نكن ندرك وقتها حساسية الساحة اللبنانية لأي نظام في سوريا، سواء كان حافظ الأسد أو شكري القوتلي أو أديب الشيشكلي أو هاشم الأتاسي. فهناك إصرار في سوريا أن لبنان قد اقتطع من سوريا ولهذا لا توجد سفارات بين البلدين. وجاءت فتح بطروحاتها الاستقلالية لتدعم الاستقلالية اللبنانية. ومن الناحية العسكرية كان الأسد يعتبر لبنان خاصرته الضعيفة، ويعتبر العمليات الفدائية غير الخاضعة لأية سيطرة توريطا لسوريا في حرب لم تعد لها. ولهذا رفع شعاره المعروف "سوريا تحدد مكان وزمان المعركة حين تحقق توازن القوى مع إسرائيل".

وهذا الاجتماع في القاهرة الذي حضره زهير محسن بالكوفية والعقال، فهم منه أبو عمار أنه مؤامرة وانقلاب على الشرعية الفلسطينية، وبالطبع النظام في سوريا لاعب أساسي في الشأن الفلسطيني بعد خسارة الجبهة الأردنية. وقد أغلق الحدود مع لبنان في أحداث أيار 1973 بين الثورة والجيش اللبناني ضمن حساباته الخاصة. وفي مقر القيادة ( 23) استمعت بل شاركت في تحليل أسباب هذا الاجتماع الغريب في القناطر الخيرية في القاهرة، زهير محسن رئيس الصاعقة المرتبطة بسوريا وحزب البعث لا يمثل الشرعية الفلسطينية. ولماذا يقبل الرئيس أنور السادات حضوره لهذا الاجتماع على مستوى الرؤساء؟ وفي الليلة نفسها أجريت اتصالات عدة من دمشق مع الإذاعة في درعا لفضح المؤامرة وقلت لهم الجملة القديمة التي حفظتها من كمال عدوان وهي "اشتم الكفر لا الكفار" ولكني لم اكتف بما قلته على الهاتف، بل كنت في الصباح الباكر من يوم الخامس من أيلول 1973 في الإذاعة افضح المؤامرة والمتآمرين على فلسطين، وأقول بالحرف الواحد ما هذا الاجتماع في القناطر الخيرية؟ وما الذي يدبرونه ضد الثورة وضد فتح وضد الشرعية الفلسطينية؟ واعدت إذاعة التعليق أكثر من مرة ليسمعه القاصي والداني. وفي مساء اليوم التالي استدعيت إلى مقر (23) وكان هناك أبو جهاد وخالد الحسن وأبو المعتصم وأبو عمار سعد، المعتمد في سوريا، الذي تلا على الحاضرين إنذاراً من الرئيس الأسد نقله إليه كبير حراسه خالد حسين ويطالب الإنذار بتسليمي للضابطة الفدائية في دمشق على الفور وإلا فإن كل مكاتب فتح ستغلق في سوريا. وكان أبو عمار يومها قد سافر إلى  الجزائر لحضور اجتماع دول عدم الانحياز.

وساد الصمت الثقيل أجواء الجلسة بعد هذا الإنذار الخطير الذي يشكل تهديدا لوجود فتح وبالتالي للثورة. وكسر أبو جهاد الصمت الثقيل وقال لي: عليك أن تقرر، فأنت المطلوب لهم ولا يوجد لدي ثقة ما الذي يدبرونه ضدك بعد غضبهم الشديد عليك بسبب هذا التعليق وإذا كنت تفضل المغادرة إلى لبنان فهناك استعداد لتهريبك، لأنهم بالتأكيد وضعوا اسمك على الحدود للقبض عليك.

وقلت لأبو جهاد: فتح أهم مني والثورة أهم مني، ولا يمكنني أن أهرب إلى لبنان، ولهذا أنا مستعد لتسليم نفسي للضابطة الفدائية وليكن ما يكون.

في الواقع، هذا الموقف كان ما يطلبه أبو جهاد وأبو السعيد وأبو المعتصم وأبو عمار سعد، وكنت أدرك ذلك. ولكنهم يريدون أن اخذ هذا القرار دون أن يكون هناك إكراه لي، أي أن القيادة سلمتني للضابطة الفدائية وأمام هذا الموقف الذي أشاد به الحاضرون جميعا والكوادر والعناصر المحيطة بنا، قرر خالد الحسن ( أبو السعيد) واللواء احمد عفانة ( أبو المعتصم) أن يرافقاني إلى الضابطة الفدائية. ولمحاولة إنهاء الموضوع وتقديم الاعتذار وإظهار أن قيادة فتح متعاونة وليست ضد الرئيس الأسد، ودعت أبو جهاد الذي كان في غاية الحرج وقال لي: اطمئن لن يحدث شيء، وقلت له العبارات الثورية التي كنت وكان الجميع يرددها: المهم بقاء فتح والمهم بقاء الثورة.

وغادرت مقر (23) برفقة أبو السعيد وأبو المعتصم ولحقنا أبو عمار سعد إلى مقر الضابطة الفدائية في حي الشعلان. دخلنا  المبنى المحاط بالحراسات أبو السعيد وأبو المعتصم وانأ. وكان رئيس الضابطة المتجهم بانتظارنا، وقال لأبو السعيد وأبو المعتصم لم يكن هناك ضرورة لحضوركم، وبدون احترام لهما دخل ضابط وأدى التحية لرئيس الضابطة ثم وجه كلامه إلي وقال تفضل:

وقفت دون كلام وتبعته وسمعت أبو السعيد يقول لرئيس الضابطة: ما هذا العمل؟ أليس هناك احترام لوجودنا هنا في الضابطة، نحن لم نأت لتسليمه للضابطة بل لنعبر عن اعتذارنا. هذه إهانة لنا، سيقولون عندنا أننا وراء اعتقاله. ورد رئيس الضابطة قائلا: هذه هي التعليمات. أخذني الضابط الذي طلب مني مرافقته إلى قبو الضابطة الفدائية وهناك اخذ مني الساعة والحزام ورباط الحذاء والمحفظة، وربط عصابة على عيني وجرني من يدي وكان جيب عسكري بانتظاري حيث أجلسوني في المقاعد الخلفية بين جنديين، وطوال الطريق لم انطق بكلمة وكذلك من يجلس بجانبي ووصلنا المكان المقصود حوالي منتصف الليل، وما زلت معصوب العينين وبعد دقائق أمسك جندي بيدي وكان يرشدني كيف انزل الدرج وأخيراً وقف ووقفت كما أمرني، وسمعت صرير المفتاح في أحد الأبواب المغلقة وأدخلني إلى المكان وقبل أن يغلق الباب فك العصابة المشدودة على عيني وأخذها معه، ولمحت جنديا آخر كان يقف قرب الباب. ولكن ما هذا المكان؟ انه سرداب تحت الأرض بطول مترين والعرض لا يزيد على متر واحد وفيه مغسلة والحنفية مقلوبة إلى الأعلى وينزل منها الماء قطرة قطرة وبجانب المغسلة مرحاض رائحته قاتلة وفوق الباب لمبة تصدر ضوءا خافتا لا ترى منه يدك، والنوم على الأرض والحرام والمخدة والتي تسمى في لغة السجناء ( البرش) تصيب المرء بالغثيان بمجرد ملامستها. الآن اختلط الأمر أين هذا المكان بالضبط؟ وأخذت أمعن النظر في الجدران التي تحيطني من كل جانب، إنها مليئة بالكلمات المخيفة بل المرعبة. وأخذت اقرأ ويكاد وجهي يلتصق بالجدار. انه سجن المزة الشهير في التاريخ السوري في كل العهود. وقد يكون بناه الفرنسيون لسجن المعتقلين السياسيين أيام الانتداب. قد يكون سجن هنا سلطان باشا الأطرش، وربما سجن هنا خالد العظم وشكري القوتلي وأكرم الحوراني وهاشم الأتاسي. في الواقع لم أجد أسماء هؤلاء الذين قرأت تاريخ كفاحهم من أجل الاستقلال. كانت الأسماء غير معروفة. والبعض يكتب انه محكوم بالإعدام وان الحكم سينفذ في يوم كذا، وانه بريء، وعبارات كثيرة تمزق القلب. وفي الحقيقة أصابني الرعب والخوف من المصير الذي ينتظرني. فمن يدخل هذه الزنزانة مصيره معروف فهو الإعدام أو السجن المؤبد. المعتقل في هذا المكان لا تصله الشمس، ولا يرى إلا الجدران الأربعة، لان الباب كذلك جدار أصم. وبدأت أعرف الأوقات من مواعيد وجبات الطعام الذي يقدم للمعتقل من تحت باب الزنزانة. ففي الصباح وجدت كأسا من الفخار فيه شاي هربت منه الحرارة وقطعة جبن من النوع المعروف ( البقرة الضاحكة) وقطعة خبز سميكة وداكنة. أما الماء فعلى المعتقل أن يشرب بكفة يده من الحنفية وان يصبر زمنا طويلا حتى تتجمع قطرات الماء ليروي ظمأه.

بعد عدة أيام، وبعد الوجبة الثالثة التي تقدم في المساء، جاء عسكري وفتح الباب وأخرجني من الزنزانة. وكان عسكري آخر بانتظاره، وسرت بينهما وهما يمسكان بي حتى لا أهرب. إلا أنهم تعودوا على هذا السلوك. وبالطبع لم انطق كلمة واحدة معهما، ورأيت المكان الآن قبل أن اصعد الدرج الذي لا يزيد على أربع درجات. إن المكان الذي أنا فيه هو فعلا تحت الأرض. وأدخلوني إلى غرفة مضاءة وفيها مسؤول يجلس وراء طاولة وبجانبه مساعده يعبث بأوراق كثيرة بين يديه، وكأي سجين يشعر بالضعف والخوف أمام سجانه، مددت يدي للسلام على المسؤول فلم يمد يده، تراجعت إلى الوراء وحاولت الجلوس على كرسي، فانتهرني بشدة وقال: قف أنت سجين ولست زائرا وكنت حافي القدمين.

وقفت وتسمرت في مكاني، إلا انه بعد قليل سمح لي بالجلوس بعيدا في زاوية الغرفة وطلب من مساعده أن يسلمني رزمة من الأوراق وطلب مني أن اقرأها. الأوراق كانت عبارة عن " رُلّ "  كالذي تستخدمه وكالات الأنباء، والكلام فيه مطبوع وليس بخط اليد، ومن السهل قراءته، وبدأت اقرأ وأقلب الأوراق، إن ما اقرأه هو مكالماتي من مقر القيادة في ال (23) وحتى المكالمات من منزلي في دمشق للشباب في الإذاعة، وكلها محددة باليوم والساعة ورقم الهاتف الذي تحدثت منه مع الإذاعة، وبعد أقل من نصف ساعة أعدت الأوراق لمساعده الذي كان يقف فوق رأسي تماما مما كان يشعرني بالضيق الشديد من وجوده. تحدث الضابط الكبير بغضب وحدة وهو  يقول "اشتم الكفر لا الكفار"هذه هي ألاعيب ياسر عرفات، انتم عصابة من الخونة والعملاء وتدعون أنكم تحررون فلسطين؟ وحاولت الرد عليه في محاولة لامتصاص غضبته المضرية وقلت: أنتم وطنيون ونحن كذلك وطنيون، وهناك خلافات في وجهات النظر، وهذا يحدث في العائلة الواحدة ونحن نحرص على علاقتنا بسوريا.

قاطعني الرجل بحدة شديدة وهو يقول: نعم نحن وطنيون أما أنتم فعملاء، وقلت بصوت منخفض: لا... لا... لسنا عملاء.

وتراجعت حدة صوت الضابط وهو يقول: للأسف، أنتم خرجتم في غفلة من التاريخ وهذا ياسر عرفات (.........) مغموس بعسل الشعب الفلسطيني، وقد تلفظ بكلمة بذيئة ضد أبو عمار أترفع عن كتابتها، لكنها واضحة في سياق الكلام.

وسألني سؤالا مباشرا  هذه المرة.

هل هذا كلامك أم أوامر ياسر عرفات؟

- إنه كلامي وأنا المسؤول عنه، وياسر عرفات يحضر مؤتمر عدم الانحياز.

- إذن أبو جهاد من لقنك هذا السباب والشتائم على سوريا ومصر؟

- لم يلقني احد هذا الكلام، وأنا مسؤول عنه سواء كان خطأ أو صوابا.

وصاح في الجنود الواقفين بجانبي وقرب الباب _ خذوه من وجهي.

وأعادني الجنود إلى الزنزانة تحت الأرض وقد أكون حسب وجبات الطعام قد أمضيت في هذه الزنزانة خمسة أيام أخرى إلى أن فتح العسكري الباب في اليوم السادس، وظهر رجل يضع نظارات وسماعات مدلاه على صدره، إنه الطبيب الذي يزور المذلين المهانين تحت الأرض هنا في سجن المزة بدمشق، وهناك عدة زنازين بجواري لا أسمع منها صوتا أو حركة وقرأ الطبيب اسمي في الكشف الذي بين يديه وقال لي: أنت فلان، مدير إذاعة الفلسطينيين؟ قلت له نعم.

وطمأنني حين قال بقاؤك هنا خطر على حياتك.

وبعد ساعات جاء الجنود وأخذوني من هذا القبر الذي يدفن فيه البشر وهم أحياء إلى مكان آخر، ولأول مرة رأيت السماء ورأيت الشمس ورأيت الفضاء، والآن وضعوني في زنزانة على سطح الأرض مضيئة وأمامي ساحة الفسحة للسجناء الذين يقضون عقوبتهم في سجن المزة ولكن في القاووش فوق الأرض وليس في زنزانة تحت الأرض.

وفي الساحة لمحت الشباب العاملين معي في الإذاعة وهم سجناء، وكانوا يسيرون معا، وتعرفت عليهم من شقوق باب الزنزانة ذات الخمسة نجوم فهذا محمد  سليمان، وهذا سامي سرحان وهذا خالد مسمار، وهذا يحيى العمري وهذا هشام السعدي، وهذا عيسى الشعيبي وهذا عطا خيري وهذا عارف سليم والمذيع عطية شعث. وهذا الاعتقال للعاملين في الإذاعة معناه أن المخابرات السورية قد أغلقت الإذاعة وسجنت جميع العاملين فيها بعد اعتقالي بيوم واحد وربما في نفس الليلة، وعرفت حين خرجت من سجن المزة، أنهم فككوا الإذاعة ودمروا المبنى واعتقلوا جميع العاملين واستولوا على المحطة الاحتياط وهي هدية من الصين الشعبية.

بعد أسبوع آخر في الزنزانة الجديدة جاء من أخرجني إلى غرفة مدير سجن المزة، وكان هناك أبو عمار سعد الذي تسلمني رسميا، وأعادوا لي أغراضي الشخصية، وفيما بعد قال لي أبو جهاد ما قاله له حكمت الشهابي عني هذا الشاب عنيد وصلب، عليكم المحافظة عليه ولم أرو لأبو عمار الكلمات البذيئة التي قالها الضابط الكبير ضده حرصا على عدم توسيع شقة الخلاف مع النظام في سوريا، وقد عرفت أن أبو عمار غضب غضبا شديدا من اعتقالي ومن إغلاق الإذاعة ومصادرة الجهازين الأول الذي اشتراه محمود رباني من شركة فيليبس والجهاز الآخر وكان هدية من الصين الشعبية، وأثار أبو عمار قضية اعتقالي على مستوى الرأي العام الفلسطيني واللبناني والعربي، وفي الصفحة الأولى من جريدة النهار، نشرت الصحيفة يوم 13/9/1973 صورتي وخبر اعتقالي وتدمير  مبنى الإذاعة، كما كان أبو عمار وراء الاجتماع الجماهيري في قاعة جمال عبد الناصر في الجامعة العربية احتجاجا على اعتقالي وتدمير الإذاعة.وقد توسط كمال جنبلاط لإطلاق سراحي وزار دمشق واجتمع مع الرئيس الأسد الذي استجاب لوساطة جنبلاط وأمر بإطلاق سراحي في نفس اليوم الذي اجتمع فيه مع جنبلاط.

وحين وصلت مقر القيادة في (23) وجدت مهند العراقي وأبو زهير الدويك بانتظاري ولديهم تعليمات من أبو عمار بتسفيري إلى بيروت عن طريق دير العشاير- ينطا، الذي لا يخضع للرقابة العسكرية السورية.

استقبلني أبو عمار بالعناق  في الفاكهاني مقر قيادة ال (17) وكذلك أبو إياد وأبو اللطف وأبو صالح واختصرت الحديث معهم تماما وقلت: كانوا يريدون أن يعرفوا إذا كان ما أذعته ضد لقاء القناطر الخيرية بأمر من أبو عمار أم لا؟

وقلت لهم: إنه موقفي وكلامي ولا أحد غيري مسؤول عنه، وقد حاول الضابط الكبير لعدة أيام أن ينتزع اعترافا مني بأن القيادة مسؤولة عن هذا الكلام ضد الاجتماع الذي حضره زهير محسن بالكوفية والعقال، ولكني أصريت على موقفي بأنه كلامي وأنا مسؤول عنه.

ونفيت أن أكون قد تعرضت للضرب أبداً، وبسطت فترة الاعتقال إلى أقصى حد، وما عانيته فيها وقلت كلها أسبوعين في المزة، وهي مدة لا تذكر، فأبو عمار وأبو جهاد اعتقلا لأكثر من شهرين من قبل السلطات السورية.

وفيما بعد علمت أنه في الوقت الذي كنت فيه معتقلا في سجن المزة اعتقل أحد المسؤولين في الإذاعة السورية، أما سبب سجنه فيتعلق بأبي عمار، حيث كانت إذاعة دمشق تحاول نقل خطاب الأسد من قمة عدم الانحياز في الجزائر فإذا المتحدث أبو عمار، وألقى خطابه كاملا من إذاعة دمشق ولم يتمكن القسم الفني في الإذاعة من قطع الاتصال عن أبو عمار، وبعده تحدث الرئيس الأسد. وهذه الجريمة الفنية أدت إلى اعتقاله.

ومن الأمور المثيرة للسخرية فيما بعد أن صاحب المنزل، وهو شقة /دور أرضي، الذي كنت أسكن فيه قد أجبر على رفع دعوى أمام المحكمة لطردي من المنزل بتهمة أنني بعثي عراقي، وربما لفقوا شهود زور أمام المحكمة التي أصدرت الحكم بمصادرة الشقة وإعادتها إلى مالكها الأصلي.

بعد خروجي من السجن ووصولي إلى بيروت استدعاني أبو إياد لمكتبه، وجلسنا سويا لأكثر من ساعة، واستفسر إن كنت قلت للسوريين أي كلمة تسيء للقيادة، فأكدت له بشكل قاطع أن هذا لم يحدث، وقد أسَرَّ أبو إياد لي بأن الرئيس السادات أبلغه بأن اللقاء الذي جمعه مع الرئيس الأسد كان للتحضير للحرب، وأنهما متفقان على ساعة الصفر، أما حضور زهير محسن فالأسد يريد أن يرفع من شأنه ليحل محل ياسر عرفات بعد الحرب، فالأسد لا يثق بأبي عمار أبداً. إلا أن الرئيس السادات أبلغ أبو عمار باعتزامه محاربه إسرائيل وطلب منه إرسال قوات من الفدائيين إلى قناة السويس. أما أبو عمار فلم يحدثني بهذا الموضوع أبداً، إلا أنه استبقاني قريبا منه، كان يأخذني في سيارته إلى الجنوب وإلى البقاع وإلى الفدائيين في مواقعهم، وكان يدعوهم للاستعداد الدائم، "لأن أمامنا أياماُ صعبة"هذه الجملة كان يرددها أينما ذهب.

وكانت علاقتي قد توثقت أكثر فأكثر مع أبي عمار حين اصطحبني معه لحضور مهرجان الشباب العالمي في برلين في تموز 1973 وقد قمت في برلين بعمل كان بالنسبة لأبو عمار عملا خارقا، وكان ممثل فتح والمنظمة في برلين في ذلك الوقت نبيل قليلات وهو شاب مثقف هادئ ومتزن. وأعد لمشاركة أبو عمار برنامجًا حافلاً حيث يحضر أبو عمار كل المناسبات التي تضم الآلاف من الشباب المجتمعين من أنحاء العالم. وبحكم أن الحرب في فيتنام ضد الأمريكيين كانت حربا بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي في حقبة الحرب الباردة، فإن فيتنام هي العنوان العريض لكل تجمع في الدول الاشتراكية. وفي أحد المهرجانات، والتي كان يحضرها عشرات الآلاف جلسنا على المنصة، وأمامنا منصة عريضة تصعد إليها الفرق الفنية والمتحدثون، وفجأة ظهر شاب فيتنامي وبيده علم الثورة العالمية يرفعه بيده، وفي تلك اللحظة قفزت إلى حيث الشاب الفيتنامي وبقوة خارقة أخذت منه العلم  وناديت أبو عمار الذي قفز بدوره وسلمته العلم وهو بارع في التقاط اللحظة والحركة المناسبة. فأخذ يلوح به لأكثر من خمس دقائق، وهتف الجمهور "بلستينا.. بلستينا... بلستينا"من آلاف الحناجر وظل أبو عمار يردد زمنا طويلا أنه تسلم راية الثورة العالمية في برلين، دون أن يشير إلى ما قمت به من قريب أو بعيد.

وحين عدنا إلى بيروت اقترحت على أبو عمار أن تُصدر مجلة "فلسطين الثورة" ولم أكن قد تسلمت رئاسة تحريرها بعد، عدداً خاصا حول زيارته إلى برلين ومشاركته في مهرجان الشباب العالمي، وقد رحب بالفكرة، وهو المعلم الكبير في الإعلام والعلاقات العامة، وكنت قد أحضرت معي من برلين صور مشاركة أبو عمار في المهرجان ولقاءه مع هونيكر وزياراته لمختلف الأماكن ولقاءاته مع رؤساء الوفود من مختلف أنحاء العالم. وأشهد أن المصورين الألمان بارعون في التقاط الصورة الأفضل وبالألوان. وقمت بكتابة المادة المطلوبة لتغطية وقائع الزيارة يوماً بيوم، موثقة بالصور الملونة. هذا العمل أدهش أبو عمار فعلا، وطلب توزيعه على القوات وفي المخيمات وفي الخارج، ولكل ممثلي فتح والمنظمة أينما وجدوا وفروع اتحاد الطلاب ودائما. وأبداً كان أبو عمار يحرص على إقامة أوثق العلاقات مع اتحاد الطلبة قبل أي قطاع آخر ويبرر ذلك بأنه كان أول رئيس لاتحاد الطلبة الفلسطينيين في القاهرة وكان يسمى"رابطة طلاب فلسطين".

وكانت هذه العلاقة التي توطدت مع أبو عمار في برلين سببا قويا لغضبه الشديد لاعتقالي وإغلاق الإذاعة وكذلك طلبه من كمال جنبلاط التوسط لإطلاق سراحي.

ولا بد أن أذكر هنا أن أول لقاء بين أبو عمار وحزب "راكاح" الشيوعي الإسرائيلي الذي يضم عرباًً ويهوداً قد تم في برلين على هامش مهرجان الشباب العالمي، حيث رتب الألمان هذا اللقاء خارج برلين وبسرية تامة. كان توفيق طوبي رئيسا لوفد راكاح ومعه صليبا خميس والثالث كان شيوعياً إسرائيلياً يعمل في جريدة الحزب. وكنت الوحيد الذي حضر هذا اللقاء من بين الأعضاء في القيادة الموجودين في الوفد الفلسطيني إلى المهرجان. وبقي اللقاء سرياً، لأن إسرائيل تعتبر المنظمة منظمة إرهابية وتعاقب بالسجن من يجتمع بأي عضو يعمل في المنظمة. ودعاة الرفض والقوميون لا يميزون بين راكاح والليكود. وإسرائيل عندهم كتلة صماء حتى لو كان الحزب الذي نجتمع مع  قادته هو حزب راكاح وهو حزب الفلسطينيين في إسرائيل، حزب توفيق طوبي وتوفيق  زياد وإميل حبيبي صاحب رواية "المتشائل"، وتوفيق زياد "على صدوركم باقون كالجدار" ومحمود درويش "آخر الليل نهار". وبالطبع قدمني أبو عمار لهم واعتبرني عضوا في القيادة.  وفي الحقيقة لم أكن عضواً في أي إطار قيادي. وقد كان هذا اللقاء بداية علاقات مستمرة مع حزب راكاح بلغت ذروتها واستمرت مع اعتماد المجلس الوطني الفلسطيني لبرنامج النقاط العشر، وفي العمل المشترك في يوم الأرض 30 آذار 1976. وأما اللقاء الثاني فكان مع محمود درويش الذي كان ضيف الشرف على المهرجان ويقيم في أهم فندق في برلين وهو فندق "شتادت برلين "الذي يبدو وكأنه ناطحة سحاب. وساعدني نبيل قليلات لترتيب اللقاء مع محمود درويش. وكنا قد التقينا لفترة وجيزة في القاهرة وفي مقهى تابع لفندق سميراميس واسمه "ملح وفلفل." ورحب محمود درويش بلقاء أبو عمار المقيم في فيلات اللجنة المركزية. وبالفعل كان أبو عمار في قمة السعادة وهو يصافح محمود درويش ويرحب به وأصر على دعوته إلى بيروت في أي وقت يختاره، وفيما بعد كنت أداعب محمود درويش وأقول له: شعبنا محظوظ، فلدينا القائد العام والشاعر العام ".

وحين غادر محمود درويش مع نبيل قليلات لمتابعة برنامجه مع الألمان، وكانوا يحيطونه برعاية كاملة، قال لي أبو عمار "لا يجوز أن يبقى محمود درويش بعيدا عن الثورة، يجب أن يأتي إلى بيروت ويعيش معنا، وماذا يفعل في جريدة الأهرام في القاهرة؟ نحن بحاجة إليه، وجوده بيننا في بيروت أفضل له ولنا، ولم يمض سوى عام واحد حتى كان محمود درويش في بيروت وفي مركز الأبحاث مشرفاً على مجلة شؤون فلسطينية، وفي نوفمبر 1974يسافر مع أبو عمار إلى الأمم المتحدة، وتلك العبارات التاريخية في خطاب أبو عمار من يكون  مبدعها غير  محمود درويش؟

في السادس من أكتوبر اندلعت الحرب العربية الأولى ودمر الجيش المصري خط بارليف واخترقت القوات السورية جبهة الجولان في عدة مواقع. ودخل أبو عمار الحرب بفتح النار على المستعمرات الإسرائيلية في شمال فلسطين، وأطلق عليها تسمية الجبهة الرابعة. أما الجبهة الثالثة فكانت داخل فلسطين وكان أبو عمار قد أعدَّ مقراً لقيادته في البقاع ومنها كان يتحرك ويصدر التعليمات والبيانات العسكرية. وفي داخل فلسطين نفذت المقاومة عدة عمليات ضد قوات الاحتلال ومراكزه ومستوطناته. واقتصر دوري في هذه الحرب على كتابة التعليقات السياسية، وإبراز العمليات العسكرية التي تضرب المستوطنات. وكانت المجلة (فلسطين الثورة) تصدر يومياً على شكل جريدة طوال مدة الحرب وبعدها حتى نهاية شهر أكتوبر، لان أبو عمار رفض قرار وقف إطلاق النار وظل في حالة حرب إلى أن طلب لبنان رسميا منه الالتزام باتفاق القاهرة، وبعد أن  اعترف المشير أحمد إسماعيل بالمشاركة الفلسطينية في الحرب إلى جانب مصر وسوريا، أي أن مصر وسوريا وفلسطين هي القوى التي خاضت الحرب ضد إسرائيل.

وكان التفاؤل يطغى على الجميع وكانت مصر وسوريا على وفاق كامل، سياسي وعسكري، رغم الخلاف على توقيت الموافقة المصرية على قرار وقف إطلاق النار. وأما الأردن فلم يدخل الحرب وأغلق حدوده في وجه الفدائيين. وهذا الموقف جعل  موافقة الأنظمة على قرار التمثيل في قمة الجزائر في نوفمبر 1973 لصالح المنظمة أمراً مفروغاً منه رغم اعتراض الأردن. وصدر القرارعلى النحو التالي: "منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، " وأما في القمة العربية في الرباط أكتوبر 1974 فقد أصر أبو عمار على القرار التالي حول التمثيل "منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. " وهكذا انتهى عربيا الدور الأردني في التمثيل  الفلسطيني، ورضخ الملك حسين للقرار العربي على مضض. وفي أجواء التفاؤل هذه بقرب الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة عام 1967 جن جنون الساحة الفلسطينية، وبدأت المعارك السياسية والفكرية بين الفصائل وداخل كل فصيل ولم تنج فتح من هذه المعركة، وكانت مجموعة الإعلام الموحد الذي يتولى مسؤوليته محمد ميزر وحنا مقبل (أبو ثائر) وأبو نضال غطاس ومي صايغ ومعين بسيسو وزياد عبد الفتاح مسؤول وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)، لا تخفي مناهضتها  "للحلول الاستسلامية والدولة الفلسطينية الهزيلة "وكان يدعم فريق الإعلام  ناجي علوش وهو قومي الاتجاه ومنير شفيق الأقرب إلى الخط الصيني بدل الخط السوفياتي. وكان واضحاً أن توجه اللجنة المركزية بقيادة أبو عمار أخذ يقترب من الرؤية العربية بأن المهمة الراهنة هي تحرير الأراضي المحتلة عام 1967 وليس التحرير الكامل لفلسطين كما ينادي تيار الرفض المدعوم من القيادة العراقية والليبية.  وفي هذا الجو اجتمعت اللجنة المركزية وقررت تغيير طاقم الإعلام، وعينت ماجد أبو شرار مسؤولا للإعلام الموحد، وأحمد عبد الرحمن المسؤول التنفيذي للإعلام الموحد، ورئيسا لتحرير مجلة فلسطين الثورة، وكان علي أن أذهب إلى بغداد لاستعادة فريق إذاعة صوت العاصفة في درعا الذي أرسلته القيادة إلى بغداد أثناء الحرب وبعد الخروج من سجن المزة لتشغيل صوت فلسطين من بغداد. وفي الأسبوع الأول من العام 1974وصلت في بغداد قادماً بالطائرة من بيروت، وكان أبو نضال ( صبري البنا) هو ممثلنا في بغداد، وقد خدم في السودان بعد مغادرتي فلم تسنح الفرصة للقاء بيننا، وفي المؤتمر الثالث الذي حضرناه سوياً كان رجلا غامضاً وشكاكاً ومرتبكاً وكأنه يخفي أمراً، والحق أنه كان معارضاً لما قلته في المؤتمر الثالث.

وطلبت من أبو نضال تجهيز شباب إذاعة درعا للمغادرة إلى بيروت للعمل معي ومع ماجد في الإعلام الموحد. وقد رفض في البداية، إلا أنني جمعت الشباب فأصروا على مغادرة بغداد.  وقد كانت علاقتي وطيدة مع جميع الشباب سواء خلال عملنا في إذاعة درعا أو في سجن المزة الذي جعل منا فريقا موحدا في وجه كل الظروف. وأسقط في يد أبو نضال أمام إصرار الشباب على مغادرة بغداد للعمل في الإعلام الموحد. وكان الرجل حاداً ومتعصباً لرأيه إلى حد اعتبار من يخالفه في الرأي خائناً واستسلامياً وحتى عميلا للعدو. وفي نقاش عنيف بيننا قلت له ذات يوم: إن الاتحاد السوفياتي يدعم الخطة المرحلية الفلسطينية أي بمفهوم ذلك الزمان تحرير فلسطين على مراحل، فإذا به يرد علي بكل عنف وعصبية ويقول: الاتحاد السوفياتي لا يؤيد هذه الخطة الأمريكية الصهيونية ولا يدعم المرحلية.

قلت له: وهل تعتقد أن الاتحاد السوفياتي مع القضاء على دولة إسرائيل وهو الدولة الثانية التي اعترفت بإسرائيل لحظة قيامها في 15 أيار 1948 وبعد الولايات المتحدة مباشرة؟.

ورد أبو نضال بأن السوفيبت قطعوا العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل ردا على عدوان الخامس من حزيران.

 قلت له: هذا شيء مختلف عن القضاء على دولة إسرائيل.

وإذا به يصر على رأيه ويقول هذه الليلة سأدعو  السفير السوفياتي في بغداد للعشاء معي ومعه في منزله.

 وقلت له: إذا كان السفير السوفياتي مع رأيي وموقفي هل تغير رأيك وموقفك؟

قال: مستحيل أن يكون السوفيات مع إسرائيل والأمريكان.

تناولنا العشاء مع السفير السوفياتي الذي لم يكن يعرف الرهان على موقفه، وبدأنا حديثا عاما حول قرار 338 وسابقه القرار 242 والحديث عن الدعوة لمؤتمر جنيف، وكيف استنفر بريجنيف القواعد الذرية لوقف التوغل الإسرائيلي في مدن قناة السويس، وكيف هرع كيسنجر إلى موسكو لترتيب وقف الحرب وإصدار القرار 338، والأسلحة التي قدمها الاتحاد السوفياتي لمصر وسوريا أثناء وبعد الحرب، وأخيراً سأل أبو نضال السفير السوفياتي: هل الاتحاد السوفياتي مع إزالة آثار عدوان 1967؟

وكان هذا السؤال مفاجئا للسفير السوفياتي الذي رد بإسهاب وقال الموقف الذي يحفظه غيبا: طبعا نحن مع إزالة آثار العدوان ومع الانسحاب الإسرائيلي الكامل من جميع الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة عام 1967، ويعمل الاتحاد السوفياتي على المستوى الدولي لهذا الغرض. وتوقف السفير عند هذه النقطة وكأنه لم يدرك ما يرمي إليه سؤال أبو نضال مما اضطر أبو نضال لإعادة السؤال ولكن على نحو مختلف حيث قال:

الأخ أحمد يقول أنكم مع قيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع ومع تحرير فلسطين على مراحل.  فرد السفير قائلا بالطبع نؤيد حق الفلسطينيين في إقامة دولة لهم في هذه الأراضي الفلسطينية المحتلة. وجن جنون أبو نضال الذي قال للسفير بعصبية ولكن موسكو قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل وتعتبر الصهيونية حركة عنصرية وعميلة للامبريالية الأمريكية.

وقال السفير وقد أدرك إلى أين يريد أبو نضال أن يصل، أن إسرائيل دولة موجودة وتعترف بها الأمم المتحدة، ولا مجال على المستوى الدولي لأي حديث عن إزالتها من  الوجود.

وأسقط في يد أبو نضال ولم يجد ما يقوله لا لي ولا للسفير، بل أجزم إنه كان يغلي في داخله ولا يدري ما يقول وبصعوبة ودعنا أبو نضال عند الباب وعلمت من العاملين معه أنه لم يلتق السفير السوفياتي بعد ذلك أبدا. وراح يهاجم الاتحاد السوفياتي. وفي السنوات العشر الأخيرة قبل انتحاره في بغداد بعد اكتشاف علاقته المخابراتية والمالية مع دولة الكويت، أرسل لي طردا ملغوما لمنزلي في تونس واكتشف أمر الطرد الملغوم قبل أن يصل إلي وبعدها أمر أبو عمار بشراء سيارة مصفحة أتنقل بها داخل تونس ووضع حراسة على منزلي ومكتبي. وسبب إرسال الطرد إلي تحديدا أنني كنت في ذلك الوقت مسؤولا للإعلام الموحد والناطق الرسمي باسم المنظمة وردا على اغتيال الناطق الرسمي لجماعة أبو نضال في بيروت في نفس الفترة نهاية الثمانينات. دبر أبو نضال إرسال الطرد الملغوم لي من خلال جماعته الموجودة في ليبيا في ذلك الوقت. وقد ألقى الأمن التونسي القبض على الشابين اللذين سلما الطرد الملغوم للمنزل وأعادهما بعد التحقيق معهما إلى ليبيا. وكنت في تلك الفترة قد كتبت "رسالة إلى العقيد القذافي "تناولت فيها بعض تصريحاته ومواقفه والتي لم أكن أراها تخدم توحيد الجهد العربي ضد إسرائيل




 

 

الحلقة السابعة :مستقبل الأراضي الفلسطينية بين المستحيل والممكن

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة السابعة :مستقبل الأراضي الفلسطينية بين المستحيل والممكن
الفصل السابع:
مستقبل الأراضي الفلسطينية
بين المستحيل والممكن 

في العدد الأول من مجلة فلسطين الثورة التي تسلمت رئاسة تحريرها في 15 كانون الثاني 1974، كتبت المقال الافتتاحي الذي أشعل الحريق في أوساط فتح وجاء في المقال وبالحرف الواحد:

"إن الثورة الفلسطينية بقيادة فتح ترفض عودة أي أرض فلسطينية يجري انتزاعها من الاحتلال إلى السلطة الأردنية وكل رقعة من تراب الوطن يتم انتزاعها وتحريرها ودحر الاحتلال عنها يمارس عليها الشعب الفلسطيني كامل حقوق سيادته الوطنية ويشيد فوق هذه الأراضي وجوده الوطني المستقل. فهذا الوجود الوطني المستقل إنما يعزز النضال لتحقيق الهدف الاستراتيجي في بناء دولة فلسطين الديمقراطية وسوف يستمر النضال حتى يتمكن هذا الشعب من تقرير مصيره فوق كامل ترابه الوطني. والثورة الفلسطينية ترفض فصل القوات على الجبهة الأردنية وتعتبره تسلما وتسليما لأرضنا الفلسطينية بين العدو الصهيوني والنظام الأردني تحت رعاية الامبريالية الأمريكية، وهدفه إعادة اقتسام الأراضي الفلسطينية كما حدث في عام 1948. وفي الوقت نفسه صرح أبو إياد بأن الأرض الفلسطينية التي تنالها التسوية يجب أن يقرر فيها شعبنا مصيره بيده دون أية وصاية، ويجب ألا تعود للملك حسين مهما كلف الأمر.

أما أبو صالح فقال: "إن المنظمة ستقيم سلطة وطنية على كل شبر من الأرض تتم استعادته" .

 وحسم أبو عمار الغموض حين قال: فلسطين للفلسطينيين وأي شبر نحرره أو نسترده نقيم عليه ثورتنا وقاعدتنا الآمنة لمواصلة كفاحنا الوطني لتحرير فلسطين كل فلسطين التاريخية."

وهكذا وضع أبو عمار "المرحلية " في سياق تحقيق التحرير الكامل والشامل لفلسطين.

وكما يقال ستظل فلسطين ضحية نفسها وضحية عربها إلى يوم الدين. ولم تمض سوى عدة أشهر حتى ولدت جبهة الرفض  للحلول الاستسلامية. ومدت قيادة البعث في العراق يد العون لهذه الجبهة. وكان البعث السوري في حيرة سياسية بين الرفض والقبول، ولكنه لم يكن لدى الأمريكيين في نفس أهمية مصر في ظل الحرب الباردة بين المعسكرين. ولعب كيسنجر لعبته لفصل القوات بين مصر وإسرائيل في الكيلو (101) واتفاقية سيناء الثانية. وبدا واضحا أن كيسنجر سيطرد السوفيت من مصر. فمصر هي السمكة الكبيرة. وقد شكلت تحدياً للسيطرة والنفوذ الأمريكي طوال حكم عبد الناصر. فأسقطت مشروع أيزنهاور لملأ الفراغ في الشرق الأوسط بعد العدوان الثلاثي في عام 1956 وأسقطت حلف بغداد. وكانت قيادة عبد الناصر وراء مسلسل الانقلابات والتدخلات في الشرق الأوسط  والقارة الإفريقية. أما سياسة الأسد التي تقوم على الحذر والترقب فكانت تسير خطوة باتجاه معسكر  الرفض كلما سارت  مصر  خطوة باتجاه تغيير علاقاتها الدولية  من موسكو إلى واشنطن. وهذه البوصلة السورية المضطربة تلعب لعبتها الخطرة في الساحة الفلسطينية على مدى تاريخ الصراع الفلسطيني _ الإسرائيلي. ويظل الهدف الدائم للبعث السوري احتواء الثورة والسيطرة على القرار الفلسطيني المستقل بهدف إحداث تعديل في موازين القوى يضمن أن تقوم أمريكا بمخاطبة سوريا كما تخاطب مصر السادات. وتلعب سوريا نفس الدور في هذه المرحلة بورقة حزب الله .

ولأن حركة فتح أصيلة وعميقة ومتجذرة في انتمائها لوطنها ولشعبها، ولكونها كذلك حركة وطنية براغماتية فلا يمكنها أن تسير وراء المبادئ المجردة. وهي ترى الواقع يتحرك بعد حرب أكتوبر 1973 لاستعادة الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967. وإذا كان السؤال الصعب حول مستقبل الأراضي الفلسطينية بعد أيلول الأسود وتموز 1970/1971 سؤالا نظريا، فانه بعد حرب أكتوبر أصبح عمليا وملحا. وهكذا وقع الصراع الداخلي وتشكلت جبهة الرفض وخاضت فتح بقيادة أبو عمار حوارا داخليا مع الفصائل والقوى الفلسطينية  لاحتواء الموقف قبل الدورة (12) للمجلس الوطني  في حزيران 1974. ونجح أبو عمار في انتزاع التوافق الوطني على ما عرف لاحقا بأنه" برنامج النقاط العشر "الذي يعترف بالمرحلية، والأهم أن منظمة التحرير الفلسطينية هي التي تقرر مصير ومستقبل الأراضي الفلسطينية وليس الأردن وليس أي طرف عربي. وجاء البرنامج حصيلة 48 ساعة من الاجتماعات الماراثونية. وحين عرضه أبو عمار في أطول دورة في تاريخ المجلس الوطني كانت النقاط العشر قد كتبها جورج حبش بخط يده، وكان النص يقول "سلطة وطنية مقاتلة. "وقال بعض المعارضين حتى لو قيل سلطة وطنية مسلحة بأسلحة ذرية، فان البرنامج المرحلي شوفيني وقطري وإقليمي  ويتخلى عن الهدف الاستراتيجي في التحرير الكامل لفلسطين. وكان اعتماد برنامج النقاط العشر في المجلس الوطني في دورته الثانية عشرة انتصارا مدويا لوجهة النظر التي طرحتها في إذاعة صوت العاصفة وفي المؤتمر الثالث لحركة فتح. ولأن حركة فتح حركة وطنية فضفاضة، وهذا قد يكون سر قوتها وسر بقائها في كل الظروف، فإنه كذلك يجعل حركتها إلى الأمام بطيئة ومضطربة، لأنها لا تريد أن تخسر أحدا من المنضوين في صفوفها.

 لهذا، يبقى الذين يعارضون سياسة أو موقفاً ما، معارضين دائما وليسوا مستعدين للالتزام بالقرار المركزي أو قرار الأغلبية. وهذا فتح الباب أمام صراعات داخلية دائمة على مستوى القيادة وعلى مستوى القاعدة. وفي الحقيقة كان أبو عمار يجمع في شخصه وفي تفكيره وفي ممارسته وفي قيادة الثورة المفهوم الكلاسيكي لأية حركة وطنية. كان يعرف تجربة حزب الوفد في مصر، وقد عاش شبابه في مصر أيام مصطفى النحاس زعيم الوفد. أما الذي تعلمه أبو عمار من حزب الوفد فهو العمل في القاعدة والمبادرة إلى العمل والقيادة. وقبل انطلاقة حركة فتح في عام 1965، كان أبو عمار قد أسس رابطة الطلبة الفلسطينيين دون أن يستند إلى حزب بعينه. وحار الجميع في تصنيفه ومن أين يستمد هذه القوة التي جعلته يؤسس الرابطة ويُنتخب أول رئيس لها. كانت لديه الثقة المطلقة بالناس العاديين. فيذهب إليهم حيث هم في حياتهم الخاصة المعزولة ويحركهم للعمل العام. وهذه بالضبط مدرسة حزب الوفد، ولهذا حين تشكلت النواة الأولى لفتح في الكويت والسعودية وقطر كان حكمه على الأفراد، ليس على أفكارهم، بل على مدى استعدادهم للعمل مهما كانت أفكارهم. والذين تخلوا عنه في البدايات لم تمنعهم أفكارهم من اللحاق به في حركته السريعة نحو العمل، بل كانوا يرون الصعوبات التي لا مخرج منها بينما هو يرى الصعوبات ويجد المخرج ويسير إليه بنفسه وفي المقدمة. وهذا هو الذي جعل من أبي عمار الرجل الاستثنائي القادر على اختراق المستحيل. واستطاع أبو عمار أن يجعل حركة فتح صورة طبق الأصل عنه، حركة عمل وحركة مبادرة وفي داخلها بحر متلاطم من الأفكار والعقائد والبرامج والصراعات، ودائما وأبدا تبقى وطنية واستقلالية. ولا سبيل إلى هزيمتها والقضاء عليها، بعد أن اجتازت بنجاح المؤامرات تلو المؤامرات في ممر الماراثون، ووصلت في دورية أبو عمار الثالثة إلى أرض الوطن، لترفع العلم الوطني، وتؤسس بقيادته السلطة الوطنية الفلسطينية النواة الأولى للدولة المستقلة، الدولة السد، في وجه المشروع الصهيوني.

وكانت فتح والمنظمة والقضية في خط بياني صاعد طوال عام 1974. وقد وصلت الذروة بقرار قمة الرباط في 28 أكتوبر 1974 اعتبار "المنظمة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" وكلمة "الوحيد" التي أصر عليها أبو عمار تعكس العقدة الفلسطينية العامة من التدخل العربي الرسمي منذ أعوام 1936/1948، ومن الوصاية، ومن القضاء على قواعد الثورة في الأردن، وقرار البعث السوري بوقف العمليات الفدائية من الجولان، والتوتر المتصاعد في لبنان على خلفية العمليات والتحالف بين الثورة والحركة الوطنية بعد عملية الفردان والتي راح ضحيتها القادة الثلاث أبو يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر يوم 9 نيسان 1973.

وقال لي أبو عمار بعد قمة الرباط أن الملك فيصل السعودي والرئيس أنور السادات كانا قد رجحا الكفة ووقفا إلى جانبه في الإصرار على إيراد كلمة "الوحيد" في نص القرار. وأضاف أن إسماعيل فهمي وزير خارجية مصر آنذاك قال له بعد قرار القمة أصبحت القضية معقدة وتحتاج إلى "ترزي." وصرح هنري كيسنجر أن هذا القرار عقد الوضع في الشرق الأوسط. وبعد أسبوعين وفي 13 نوفمبر 1974 ألقى أبو عمار خطابه التاريخي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. ولقي تصفيقا حارا. وأعيد بند القضية الفلسطينية إلى جدول أعمال الأمم المتحدة بدل قضية اللاجئين والانروا. أما خطابه في الأمم المتحدة فقد ساهم فيه كل من يكتب ويقرأ في المنظمة والساحة الفلسطينية. وأعتقد أن أبو عمار أمر بطباعة الخطاب مائة مرة وقرأه ألف مرة، كلمة كلمة. ورافقه وفد فلسطيني من أعضاء اللجنة التنفيذية والمساعدين. وكان محمود درويش ضمن الوفد وخالد الحسن وشفيق الحوت ونبيل شعث. ونقلته المروحيات من المطار إلى الفندق خوفا على حياته من تهديدات الصهاينة الذين هددوا باغتياله إذا جاء إلى نيويورك. كان الأمين العام للأمم المتحدة هو كورت فالدهايم النمساوي. وأما رئيس الجمعية العامة فكان عبد العزيز بوتفليقة وزير خارجية الجزائر في ذلك الوقت. وأصدرت الجمعية العامة قرارين تاريخيين فعلا رغم أن أمريكا وقفت ضدهما. وكان القرار الأول يحمل الرقم 3236 وفيه الاعتراف بحقنا في تقرير المصير والاستقلال الوطني والسيادة والعودة. ونص القرار على تكليف الأمين العام على إقامة اتصال دائم مع منظمة التحرير الفلسطينية في كل المسائل المتعلقة بالقضية الفلسطينية. وأما القرار الثاني (3237) فكان إعطاء المنظمة صفة مراقب. وجدير بالذكر أن أبو عمار هو أول زعيم حركة تحرر وطني يلقي كلمة ويشرح قضية شعبه أمام الأمم المتحدة.

وبعد أربع سنوات، وفي التمهيد لزيارة فالدهايم في نيسان 1978، اتصل سمير صنبر، وهو فلسطيني وقريب المثقف المبدع إلياس صنبر الذي يعتبر مرجعا أساسيا لكل باحث في قضية اللاجئين الفلسطينيين التي اصدر عنها كتابا بالفرنسية، وهو من ترجم عدة دواوين لمحمود درويش إلى الفرنسية وصدرت عن منظمة اليونسكو، وقد عينه أبو عمار  فيما بعد ممثلا لفلسطين في اليونسكو.

كان سمير صنبر مسؤولا إعلاميا في مكتب الأمم المتحدة في بيروت. وجاء في الاتصال بأن مسؤولا من مكتب الأمم المتحدة يرغب في اللقاء مع أبو عمار لترتيب زيارة الأمين العام كورت فالدهايم. وجرى الترحيب بحرارة بهذا اللقاء. وحضر ممثل الأمم المتحدة في بيروت فإذا به  الفلسطيني سمير صنبر. وتم اللقاء وانتهى بمودة ومحبة. فأبو عمار يحيط ضيوفه بكل الدفء الإنساني ويودع ضيفه حتى باب المصعد وأحيانا ينزل مع الضيف حتى يركب الضيف في سيارته ويمضي. ويعود بعد ذلك مسرعا إلى مكتبه ليواصل عمله المعتاد. وطلب أبو عمار أن أكتب خبر اللقاء للنشر في وكالات الأنباء والصحف. وكتبت الخبر فإذا به يعترض ويقول لي: لا بد أن تكتب الخبر مرة أخرى على هذا النحو "مسيو صانبر ممثل الأمم المتحدة يلتقي أبو عمار في بيروت. "وأدركت على الفور ما يرمي إليه أبو عمار أنه يوجه رسالة للرأي العام الفلسطيني والعربي بأن الأمم المتحدة بدأت تقيم العلاقة مع منظمة التحرير الفلسطينية.

 أما فالدهايم  فقد انتخب رئيسا للنمسا فيما بعد. وأدارت الصهيونية حملة ضده بتهمة معاداة السامية وإنه جرى تجنيده في الفرق النازية   "S S" في الحرب الثانية. وكتب أحد الصهاينة في صحيفة الهيرالد تريبيون في تلك الفترة يقول: إن فالدهايم الذي زار عرفات في بيروت وكان استقبله في نيويورك لا ينتمي لأي من المعسكرين المتناحرين في الزمن الراهن، إنه ينتمي إلى معسكر النازية ولهذا يزور عرفات وفاء لنازيته التي لا تكترث لمصير السلام العالمي ومصير دولة إسرائيل. وجمدت إسرائيل علاقاتها الدبلوماسية مع النمسا طوال رئاسة فالدهايم لجمهورية النمسا.

وكتبت افتتاحية "فلسطين الثورة " في الأسبوع الثاني من نوفمبر 1974 وبالحرف: إن يوم الثالث عشر من تشرين الثاني "نوفمبر"هو يوم عيد وطني للشعب الفلسطيني الصامد. ويوم عيد قومي للأمة العربية التي وقفت إلى جانب الشعب الفلسطيني في معركته، ويوم عيد أممي يرمز إلى التضامن الكفاحي بين شعوب العالم التقدمي وقواه الثورية. ولا بد، من أجل تحقيق الانتصار على الصهيونية المغتصبة، من تعميق التحالف بين الثورة والبلدان الاشتراكية وطليعتها الاتحاد السوفييتي، فهذا التحالف المبدئي هو الصخرة الصلبة التي يستند عليها كفاح شعبنا وأمتنا العربية في التصدي للمؤامرات الامبريالية والصهيونية. " وبعد أن جرى التصويت على القرارين 3236 و 3237 كتبت في افتتاحية "فلسطين الثورة": إن قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة اللذين صدرا يوم أمس بشان قضية فلسطين وقبول م.ت.ف كعضو مراقب في المنظمة الدولية قد أسقطا  وإلى الأبد الادعاء القائل بأن "فلسطين وطن بلا شعب"، وأسقط هذان القراران من تاريخ شعبنا أننا مجرد لاجئين، وأن العالم عندما استمع إلى كلمة فلسطين من على منبر الهيئة الدولية كان التاريخ في تلك اللحظة يعيد الاعتبار إلى الحقيقة على يد كل شعب ثائر في هذا العالم رفض ويرفض أن تسود قوى الظلم والطغيان على حساب مصائر الشعوب على هذه البسيطة.ولا أنسى التعليق الإسرائيلي على هذه القرارات فقد بقيت أحفظه وأتذكره دائما وأبدا وقال التعليق: إن مستقبل دولة إسرائيل ومصيرها لا يتقرران برفع الأيدي في الأمم المتحدة.

ورغم أن هذا الحدث التاريخي الذي سجله أبو عمار قد شكل اختراقا للوضع الدولي، فان الجبهة الشعبية والقيادة العامة قد رفضتا الزيارة والخطاب وانسحبتا من اللجنة التنفيذية. ويومها تداولنا في بيروت قصة انسحاب الوزير الأحمر من الحكومة الرجعية. والوزير الأحمر هو الفلسطيني الطيب أبو ماهر اليماني الذي صنعته النكبة وقسوة المخيمات، فلم يكن على استعداد ليرى أملا لفلسطين إلا بالسلاح وحده. وفي ذلك الوقت لم أترك كلمة في القاموس الماركسي اللينيني إلا ولجأت إليها لفضح دعاة  جبهة الرفض، من اتهامهم بمرض الطفولة اليساري في الثورة إلى العدمية السياسية إلى الفوضوية والجمود والتحجر الفكري والسياسي. وكان أبو عمار قد اتخذ من مقر "فلسطين الثورة" ومكاتبها، في بناية منير بعلبكي مقابل الجامعة العربية في الفاكهاني، مقرا ثانيا له. وصحيح أنه كان يزور معظم المكاتب، إلا أن مكاتب "فلسطين الثورة" كانت دون مبالغة مقرا ثانيا له. ولكونه يشكل قطب المغناطيس في الثورة، فكانت "فلسطين الثورة" ملتقى كل القوى والشخصيات. وهذا الامتياز عزز مكانتها لدى الرأي العام الفلسطيني. وكانت كلمة الثورة الأسبوعية بمثابة تعميم سياسي لكل الفلسطينيين أينما وجدوا. والذي أعطى "لفلسطين الثورة" هذه الأهمية والمكانة، وطنيتها وفلسطينيتها. فقد حفظت عن كمال عدوان قولته الشهيرة إن فلسطين عقيدتي وكل العقائد في خدمتها.  وبالطبع، كانت المسحة اليسارية "لفلسطين الثورة" سياسية وليست أيديولوجية. فما دامت أمريكا ضدنا فيجب أن نبحث عن حليف. وفي ظل الحرب الباردة كان الاتحاد السوفياتي حليفنا، كان لنا فيه ألاف الطلاب وأعطانا ألاف المنح والتدريب العسكري  والاعتراف الدبلوماسي  والزيارات الرسمية. أما المنظمات الدائرة في فلك الاتحاد السوفياتي فقد أمسك بها أبو عمار ووظفها لخدمة فلسطين، مجلس السلم العالمي ورئيسه شاندرا الهندي كان لا يفارقنا، والتضامن الآسيوي الإفريقي واتحاد الشباب العالمي واتحادات العمال والطلاب والمرأة كما قدم السوفيت المساعدات السخية لمختلف التنظيمات النقابية بما فيها تذاكر الطيران المجانية لكل مهرجان أو لقاء أو ندوة. وقد بدأت هذه العلاقة مع الاتحاد السوفياتي عندما اصطحب الزعيم جمال عبد الناصر معه إلى موسكو أبو عمار في عام 1969 حيث قدمه لبريجينيف وكوسيجين وبودغورني. وكانت العلاقة مع موسكو تفتح لنا الأبواب في دول المنظومة الاشتراكية ولدى الأحزاب الشيوعية في العالم. وقد كان اهتمام الصين بالقضايا الدولية قد تراجع نتيجة الثورة الثقافية التي استمرت عدة سنوات في عهد ماوتسي تونغ. أما الخلاف الصيني _ السوفياتي فقد تجنبنا التطرق إليه في "فلسطين الثورة" طوال تلك الفترة بينما الأحزاب الشيوعية العربية جعلت من هذا الخلاف القضية الأولى في منشوراتها. وقد جذب البرنامج الوطني الاستقلالي والتأكيد على علاقات الصداقة والتضامن، بل التحالف مع موسكو، لمجلة "فلسطين الثورة" مثقفين كبارا من الأحزاب الشيوعية العربية من العراق ولبنان وسوريا والأردن وفلسطين ومصر. فكانوا يقدمون لنا عن طيب خاطر ودون تردد، المقالات والتحليلات التي تدعم برنامجنا الوطني، برنامج النقاط العشر، وهو في الجوهر برنامج الاستقلال الوطني وإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، لأن استخدام عبارة الدولة الفلسطينية في ذلك الوقت كان مشبوها ومدانا، ويرمز إلى الحلول الاستسلامية والتخلي عن فلسطين التاريخية.

وأذكر هنا، أن صبري جريس وهو آخر مدير لمركز الأبحاث بعد أنيس صايغ ومحمود درويش كتب يقول: "الدولة الفلسطينية التي يترفعون عن ذكرها ليست هدفا متواضعا، أنها انجاز تاريخي للشعب الفلسطيني." واتهم الذين يرفضونها بأنهم مقتلعون من وطنهم ووطنيتهم وأنهم استمرؤوا حالة اللجوء. وكتب المفوض السياسي  يحيى رباح مقالا ساخرا قال فيه: إن المخيمات لا تصلح وطنا، المخيمات هي المنفى والتشرد، أما الوطن فهو الأرض والشعب والتاريخ"، ولأن فتح كانت وستظل الحاضنة للشعب الفلسطيني وقواه وأفكاره، فهذا قدرها ومصيرها، فقد وجدت المواقف الرافضة لبرنامج النقاط العشر دائما منابر داخل فتح تعبر فيها عن مواقفها.

 وهكذا أصبح جارنا الملاصق لمقر "فلسطين الثورة" وهو مركز التخطيط، مكانا للمعارضة الرافضة للحل الوطني والذي تطلق عليه الحل الاستسلامي. وقد وجدتني مضطرا للرد على دعاة الرفض ونعتهم بأسوأ النعوت. وأشرت من طرف خفي إلى ما يصدر عن مركز التخطيط من مواقف ونشرات تتعارض وبرنامج النقاط العشر. وجاء هذا الرد العنيف والشخصي في افتتاحية "فلسطين الثورة". وأما معين بسيسو فكتب مقاله الأسبوعي تحت عنوان "ليس كل من نطق بالضاد ضد مستعمرة كفار جلعاد."

وتصاعدت الأزمة وكان لا بد من تدخل أبو عمار لاحتوائها فطلب من أبو الهول، وهو مسؤول الأمن المركزي، أن يعتقلنا أنا ومعين بسيسو. وقال لي أبو عمار وقتها كلمته المعروفة: "اسجن نفسك". وبالفعل أطعنا أوامر أبو عمار، وذهبنا إلى الأمن المركزي أنا ومعين بسيسو، حيث استقبلنا أبو الهول بطيبته ولطفه وهو يبتسم وقال: "أنتم ضيوفي ولستم معتقلين". وأضاف، أنتم تدركون أن هذه طريقة أبو عمار لاحتواء المشكلة. وبعد وصولنا بدقائق حضر ماجد أبو شرار، وهو مسؤول الإعلام الموحد، وأعلن أنه معتقل معنا ويرفض هذا الإجراء. وقال كان من الأجدر أن يعتقل الذين يرفضون البرنامج الوطني. وزارنا أبو صالح وبعده أبو إياد وكثير من الكوادر. وأمر أبو الهول بتحضير العشاء لجميع الموجودين. وكانت ليلة لا تنسى، ناقشنا فيها كل القضايا السياسية والمواقف المختلفة للفصائل والدول العربية والعالمية. وكانت أجواء التفاؤل بقرب الوصول لاستعادة أرضنا المحتلة عام 1967 تسيطر على الجميع وقيام القاعدة الآمنة للثورة فوق الأرض الفلسطينية.

وفي اليوم الثاني، استدعاني أبو عمار بعد الليلة الطويلة في الأمن المركزي وفي ضيافة أبو الهول. وكان يخشى أن تكون علاقتنا قد تأثرت بهذا الإجراء. وقال مرحبا كعادته: "يا بختك يا خويا "بيت ضيافة وعشاء مناسف والكل من حولك أنت ومعين. "وحين أدرك أن قراره باعتقالنا لم يترك أثراً قال لي وبالحرف الواحد: عليك أن تميز وأنت في هذا الموقع الحساس بين الموقف وبين الاتجاه وبين أصحاب الموقف وأبناء الاتجاه. فالموقف يتغير حسب الظروف، وأما الاتجاه فهو التنظيم وهو فتح. والمواقف داخل فتح كبرت أم صغرت لا تخرج عن الخط العام في كل الأحوال. وتذكّر أن الثورة زائد واحد وليست ناقص واحد، ولهذا كان عليك أن تحافظ على إخوانك وزملائك في الاتجاه أم إنك قد نسيت قانون المحبة الذي قامت عليه فتح.

وقد تسلم منير شفيق عمله خلفا لنبيل شعث كمدير لمركز التخطيط بعد هذه الأزمة والتي جعلت عملية الاستقطاب بين الإعلام ومركز التخطيط تتسع وتأخذ مداها في أوساط الكوادر العسكرية والمدنية وفي الجامعات وفي خارج لبنان. وكان د. محجوب عمر المثقف وصاحب التجربة النضالية الغنية في مصر في إطار الحزب الشيوعي المصري يعمل في كل المواقع، وأكثرها تأثيرا القواعد الفدائية ومدرسة الكوادر، وهو أحد الرجال الذين صمدوا في دبين وجرش في تموز 1971 حتى اللحظة مع القائد أبو علي إياد الذي شكل النواة الصلبة المقاتلة في قوات العاصفة في البدايات في الضفة الغربية وخاصة منطقة الشمال.

وكان الدكتور محجوب عمر محبوبا من الجميع وكان يقدم تحليله للوضع السياسي بأسلوب جذاب وباللهجة المصرية التي صقلتها حياة المجتمع المصري على مدى العصور. وحقيقة موقفه في جوهره ضد المرحلية والبرنامج الوطني، ومع الكفاح والثورة حتى يقع الانقلاب في الحياة العربية وتحرر الأمة فلسطين كما حررها صلاح الدين.وأما منير شفيق وهو من تنظيم الحزب الشيوعي الأردني، وسجن في شبابه والتحق بفتح بعد معركة الكرامة مع ناجي علوش، وبينهما نسب وقرابة وهما على طرفي نقيض. فكان منير شفيق أممي مع الخط الصيني من الأساس وناجي علوش قومي عربي .

وتقلب منير شفيق بين القوى والعقائد عله يجد الطمأنينة التي يبحث عنها طوال حياته إلى أن اعتنق الإسلام أخيرا. أما ناجي علوش فقوميته المجردة التبشيرية والمنفصلة عن الواقع المعاش جعلته ينعزل تدريجيا عن التيار الوطني العريض رغم أنه تسلم مسؤوليات تنظيمية أساسية في فتح في الأردن وعضوية المجلس الثوري والأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين حتى مؤتمر الاتحاد في فندق البوريفاج في بيروت عام 1978. وخلفه في موقع الأمين العام الروائي يحيى يخلف حتى عام 1984 حيث انعقد مؤتمر الاتحاد في صنعاء في نيسان 1984 في ذروة أزمة الانشقاق في فتح، حيث غاب يحيى يخلف في دمشق، قد انتخبت أميناً عاما للاتحاد في المؤتمر التوحيدي في الجزائر 1987 وبقيت  أمينا عاما حتى عام 2006، وكان رئيس الاتحاد محمود درويش.

وفي الحرب الأهلية في لبنان في نيسان 1975 وقع استقطاب قوي بين هذه التيارات. فالإعلام الموحد شكل كتيبة الإعلام والتي ضمت العاملين في الإعلام والطلاب المتطوعين من إيطاليا والاتحاد السوفياتي واليونان وألمانيا. وكان المسؤول العسكري فهد أحمد العبادين وقد توفي في 10/4/1995، وهو من الطفيلة في الأردن. وفي مواجهات الشياح وعين الرمانة استشهد المثقف والناقد اللبناني طلال رحمة واستشهد رشاد عبد الحافظ الفلسطيني القادم من العراق. وحين تمت سيطرة القوات المشتركة على الجبل والمتن وعينطورة وتوجهت سرية من كتيبة الإعلام إلى الجبل لإظهار حضورها في كل المواقع. إلا أن القائد العسكري أبو خالد العملة رفض تمركزها في الجبل لأننا على خلاف في الموقف السياسي. وفي المواجهات والقصف استشهد جورج أبو خالد، وهو شقيق منير شفيق، واستشهد هاني جوهرية وهو المصور المعروف والقديم في مؤسسة السينما التابعة للإعلام الموحد. وكان الإعلام الموحد يتولى إصدار الملصقات لكل شهيد. وكان يمكن ملاحظة أن السيطرة على الجبل والمتن وعينطورة ودعم كمال جنبلاط لهذه السيطرة قد جعل الرؤوس الحامية في فتح تمتلئ غرورا. وفي هذا الوقت بالذات جاءني شاب  يحمل صورا لشهداء سقطوا في الجبل. وكالعادة كتبت النصوص المطلوبة وحولتها للقسم الفني. فإذا بالشاب يعترض وهو شاب مهذب وخجول ويعمل مع منير شفيق وقال لي: لدي نص أعده الأخوة في الجبل وناولني ورقة عنوانها هكذا: شهداء الثورة العربية التقدمية والديمقراطية. وقلت له بعصبية: ولكن أين هي هذه الثورة؟ وهل سقطوا دفاعاً عن الثورة وفتح والشعب الفلسطيني؟ وغادر الشاب غاضباً، وصدرت الملصقات من مركز التخطيط ومن الإعلام الموحد بصيغتين مختلفتين للشهداء أنفسهم.

 كانت الأحداث في تسارع مذهل، ويستحيل السيطرة عليها. فقد اتسعت دائرة الصراع لتشمل الأطراف الإقليمية كلها. وكان أكثر الأطراف قلقا واضطرابا نظام حافظ الأسد، الذي يعتبر لبنان جزءا لا يتجزأ من سوريا من الناحية الواقعية والعسكرية. وأما الجبهة المارونية فوجدت في إسرائيل حليفاً سخياً، فتزودت بالسلاح وحتى بالدبابات. ومع تفكك الجيش اللبناني وهزيمة الجبهة المارونية وسيطرة القوات المشتركة على 80% من الأراضي اللبنانية، استعان حافظ الأسد بالملك حسين الذي ضمن للأسد الموافقة الإسرائيلية والأمريكية على التدخل العسكري السوري الشامل في لبنان.

والذي يهم في هذا السياق هو ما الذي جرى في معركة الجبل مع الجيش السوري، وكيف تصرف أصحاب الرؤوس الحامية ودعاة الثورة العربية والتقدمية والديمقراطية في ذلك اليوم من أواخر أيلول 1976.

رافقت أبو عمار إلى المناطق الدرزية في الجبل المطلة على بحمدون. ومنها يمكن مشاهدة وملاحظة ما يجري في المتن ومناطقها، وكانت هناك أجهزة اتصال مع فريق أبو عمار تتابع ما يجري. وسمعت أبو عمار يقول أين القائد العسكري أبو خالد العملة؟ وجاءه الجواب أنه غادر الجبل. ولهذا اصدر أبو عمار قرارا بعزله من أي مسؤولية عسكرية، ويبدو لي ودون أن أملك المعلومات الكافية أن الانسحاب من الجبل تم بالتواطؤ بين المخابرات السورية وأبو خالد العملة.

أما خطة حافظ الأسد فكانت تتقاطع مع الخطط الأمريكية والإسرائيلية. فإسرائيل يهمها بالدرجة الأولى القضاء على الثورة في لبنان. وأمريكا طيعة ومطواعة لكل مصلحة إسرائيلية. واللاعب الآخر الملك حسين الذي وثق حافظ الأسد علاقاته به، وساد الوئام  بين الجانبين إلى حد إلغاء السفارات، لأنهما بلد واحد ولا حاجة لهما في علاقات دبلوماسية بعد الآن. وبالطبع لم يكن الملك حسين الذي خسر الورقة الفلسطينية الأهم في قمة الرباط في أكتوبر 1974، وهي ورقة التمثيل، قد سلم بالأمر الواقع عام 1976. ولهذا وقف بكل ثقله عند الإسرائيليين والأمريكيين لتسهيل مهمة حافظ الأسد في لبنان.

وكنت في هذه الأثناء عبأت كل وسائل الإعلام الفلسطينية واللبنانية، وحتى العربية، ضد التدخل السوري. وبقرار من أبو عمار كان الإعلام الموحد قد استوعب المئات من الصحافيين اللبنانيين والعرب وخاصة من العراق.

وقد عمل هذا الجيش الضخم من الإعلاميين لفضح التدخل العسكري السوري. وكان جوزيف سماحة أبرز كتاب الصحيفة اليومية بالإضافة إلى المجلة الأسبوعية. وأخطر ما كتبته في هذه الفترة كان عن حافظ الأسد وكيف استولى على الحكم وكيف سجن خصومه حتى الموت. وذات يوم اتصل معي عبد المحسن أبو ميزر وكان عضوا في اللجنة التنفيذية والمتحدث الرسمي، وهو من أصول بعثية ومقيم في دمشق وكان يتمزق من هذا الصراع السوري الفلسطيني، ويراه دمارا لسوريا وفلسطين. وقال لي: أرجوك لا تهاجم الجيش السوري، هذا سيظل قوة لفلسطين. ونصحني بعدم التطرق للأوضاع الاجتماعية والطائفية في سوريا فهذا لا يترك مجالا للصلح والتعايش. وكنت في ذلك الوقت قد قطعت كل الخطوط، حتى أنني قلت عن الجيش السوري بأنه جيش انكشاري. وللتاريخ أقول أن ما قلته في تلك الفترة لم يكن مساعدا حيث اعتبر النظام السوري أنه كلام ياسر عرفات وكلام القيادة، كما هو الحال عندهم. والحقيقة أن ما كتبته سواء في إذاعة درعا وسجنت في سجن المزة بسببه، ودمرت الإذاعة، كان موقفي وكلامي ولم يكن أحد في القيادة يعرفه أو يطلع عليه. فالإعلام في الثورة وفتح كان في الحقيقة كما قال إبراهيم بكر لأبو جهاد ولي في عمان: هل إذاعة درعا إذاعة أم رئاسة أركان؟ وكان أبو عمار يتدخل بعد وقوع المصيبة كما كان يقول. وذات يوم أواخر عام 1976 وصل الرائد عبد السلام جلود وكان يقوم بالوساطة مع دمشق وطلب اجتماعا مع القيادة الفلسطينية اللبنانية المشتركة، وكان أبو عمار يحرص على حضوري، وكنت أجلس في آخر مقعد في اجتماع يحضره أكثر من عشرين مسؤولا بينهم كمال جنبلاط أحيانا ومحسن إبراهيم وجورج حاوي ونديم عبد الصمد وإبراهيم قليلات وعبد الرحيم مراد. وجلس الرائد عبد السلام جلود على الطاولة الرئيسة بجانب أبو عمار. وبعد أن تحدث عن جهوده لتهدئة الأوضاع بين الجانبين وطالب بوقف الحرب على جبهة الإعلام. وللتدليل على خطورة هذه الجبهة اخرج ورقة من جيبه وراح يقرأ عن الجيش الانكشاري والطائفية البغيضة التي تتحكم بالشعب السوري. وحين استمعت إليه عرفت أنه يقرأ افتتاحية "لفلسطين الثورة" اليومية، وانسللت من الباب الخلفي إلى خارج غرفة العمليات. لقد هربت في الواقع، وفي حالة ارتباك شديد، ولم أعرف ما جرى في الاجتماع إلا بعد ساعات، حيث أصر الرائد عبد السلام جلود على طردي من الإعلام، وأن يصدر الطرد بقرار رسمي من القيادة ويوقعه أبو عمار وأن يحمله عضو  في اللجنة التنفيذية إلى القيادة السورية. وبالفعل لم يتردد أبو عمار في تلبية الطلب السوري، فأمر بطباعة قرار طردي من الإعلام و"فلسطين الثورة". واتصل جلود مع عبد الحليم خدام وأبلغه بالقرار وبأن مسؤولا في القيادة سيحمله إلى دمشق. وبالفعل استدعى أبو عمار عبد العزيز الوجيه وهو قائد سابق في جيش التحرير  الفلسطيني وعضو في القيادة وسلمه القرار ليقوم بتسليمه للقيادة في سوريا تعبيرا عن حسن النوايا والاستعداد للتهدئة والتعاون. أما حامل القرار عبد العزيز الوجيه فقد وصل البقاع وكان هناك اشتباكات وطرق مقطوعة كالعادة، فأصيب بنوبة قلبية وفارق الحياة قبل أن يصل إلى دمشق.

أما أنا فقد تواريت عن الأنظار، وتوقفت الصحيفة اليومية وتوقفت المجلة. فقد أغلق حاجز عسكري سوري الطريق إلى المطبعة. ولأنني لا يمكن أن أختفي طويلا بعد أن تعودت على هذه الطريقة في العمل مع أبو عمار، فقد عدت إلى مكتبي في "فلسطين الثورة". وقال لي أبو عمار: يمكنك العمل بالتفويض السياسي لبعض الوقت حتى تهدأ الأمور، ولكن الآن يجب وقف كل الإعلام المكتوب ولو إلى حين.

وفي تلك الفترة كنت قد كتبت مقالة طويلة باسم مستعار هو "رضوان" حول البرنامج الوطني والسلطة الوطنية والتحالفات المطلوبة وصولا إلى طرد الاحتلال الإسرائيلي من أرضنا وإقامة السلطة الوطنية السد في وجه الأطماع الصهيونية في كل الوطن العربي.

 وكان عزام الأحمد الذي سجنه أبو نضال في بغداد قد أخذ يتردد على الإعلام الموحد لمساعدته في إصدار مجلة اتحاد الطلبة واسمها "جبل الزيتون". وكنت قد تعرفت عليه قبل عدة سنوات حين التقينا بالصدفة عند أبو العز الدجاني، وهو أقدم منا في فتح، وخدم في فترة لاحقة قائدا لقوات الكرامة. وفي النقاش فيما بعد، كان عزام الأحمد، وهو عضو في الهيئة التنفيذية لاتحاد الطلاب، شديد الحماسة والتأييد لبرنامج النقاط العشر وضد أبو نضال صبري البنا الذي انحرف عن خط الحركة في بغداد واضطهد الكوادر الفتحاوية الموجودة في العراق. وربطتنا أنا وعزام صداقة وطيدة. وحرصت على دعم الإعلام الموحد لعزام ومهمته في اتحاد الطلاب. وقد تولى عزام توزيع كراس "رضوان" الذي كتبته لدعم البرنامج الوطني والقرار المستقل على جميع فروع الاتحاد في العالم. و"رضوان" هذا هو أول مسؤول للحزب الشيوعي في فلسطين. وقد حرصت على اعتماد هذا الاسم لكسب المزيد من الأنصار للخط الوطني من قوى اليسار ومن المثقفين الفلسطينيين والعرب. وذات مرة كنت في موسكو، وفي لقاء مع طلاب من الحزب الشيوعي الأردني، وبعض الأحزاب العربية قالوا لي: نعتبر مجلة "فلسطين الثورة" مجلتنا ونقوم بتوزيعها أسوة بمنشورات الحزب. أما في بيروت فكان الدبلوماسيون السوفيت يترددون على مكاتب الإعلام الموحد و"فلسطين الثورة" بشكل دائم. وخطر لي أن أعرف رأيهم في هذا الكراس الذي يحمل اسم "رضوان". وقلت لهم بأنني من كتب هذا المقال. وبالفعل، أخذوا الكراس وزاروني بعد عدة أيام وجرى النقاش التالي معهم: قال أحدهم: التحليل للوضع الفلسطيني والعربي والدولي لا يختلف أبدا عن تحليلنا. ولكن هناك قضايا لم تتطرق إليها، وهي في رأينا قضيتان أساسيتان، أما القضية الأولى فهي قرارات الشرعية الدولية، والقضية الثانية هي مسألة وجود إسرائيل. فأنت لم تتطرق بكلمة لهاتين القضيتين. ولا بد أن تعلم أن موقفنا يقوم على التمسك بقرارات الشرعية الدولية وكذلك مسألة وجود إسرائيل. فهذا الوجود ليس موضع نقاش. فإسرائيل دولة موجودة وعضو في الأمم المتحدة. وقرار التقسيم في عام 1947 هو قرار صادر عن الشرعية الدولية، وعلى أساسه قامت إسرائيل. أما أنتم الفلسطينيون والعرب فقد أضعتم الفرصة لقيام دولة فلسطينية في عام 1947 كما فعلت الحركة الصهيونية. والآن المتاح لكم هو تصحيح الخطأ التاريخي الذي وقعتم فيه. وهذا هو فهمنا لبرنامج النقاط العشر وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية المستقلة. وبدون هاتين القضيتين: الشرعية الدولية وحق إسرائيل في الوجود لن يستمع لكم العالم.

وسألته عن رأي السوفيت في برنامج النقاط العشر. فرد قائلا: أنه يحمل مؤشرات على الاعتراف بالشرعية الدولية ويتخلى عن طرحكم القديم في الميثاق الذي ينص على تدمير إسرائيل. ولكن هذه العموميات تجعل إسرائيل تقول ما قالته حول البرنامج وحول خطاب أبو عمار في الأمم المتحدة أن الفلسطينيين يريدون تدمير دولة إسرائيل. وكما تعلم قرارات الجمعية التي صدرت لتأكيد الحقوق الفلسطينية لا تتحدث أبدا عن وجود إسرائيل كدولة يجب تدميرها بل عن إزالة احتلالها للأراضي العربية والفلسطينية وتطبيق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بقضيتكم. وبالطبع كان مستحيلا في ذلك الوقت الاقتراب من هاتين القضيتين لدى الرأي العام الفلسطيني والعربي. إنها قضايا متفجرة وحقل ألغام من يدخل فيه لا يخرج منه سالما إلا من رحم ربي. وأذكر في هذه السياق حديثا عابرا مع سيدة في المقهى الواقع تحت مكتب الجامعة العربية في جنيف عام 1969، وكانت تضع حول رقبتها سلسلة ذهبية وفي آخرها تظهر نجمة داوود. كنا نتحدث أنا وفؤاد الشمالي وبعض الوافدين العرب حول تحرير فلسطين من الصهيونية وتدمير إسرائيل ونضرب أمثلة تحرير الجزائر من ثلاثة ملايين مستعمر فرنسي وتحرير المستعمرات من الاستعمار الأوروبي ولم يبق إلا إسرائيل والنظام العنصري في جنوب أفريقيا. أما ما حدث فالسيدة التي تجيد الفرنسية والانجليزية وتفهم العربية العامية فقد نهضت من مقعدها الملاصق لنا وتحدثت مع فؤاد بالفرنسية فأخبرني فؤاد أنها تستأذن لتستمع إلى حديثنا، وفي تلك الأيام كنا نبحث عن التضامن معنا من الماويين إلى التروتسكيين إلى الكاثوليك إلى الديمقراطيين والمحافظين. وكنا نرى نجاح الفيتناميين المنقطع النظير في مسألة التضامن هذه. وكنا نحن في أول الطريق، وليس حولنا غير المجموعات الماوية. أما الشيوعيون فكانوا أكثر تحفظا ودون أي نشاط جماهيري لصالحنا وأما الاشتراكيون فكانوا ضدنا ومع إسرائيل.

أما السيدة التي تضع نجمة داوود واعتقدنا أنها متضامنة فلم تضيع وقتها واستأذنت أن تسألنا بعض الأسئلة. وكان السؤال الأول الذي لا أنساه أبدا يقول التالي: هل من حق "اللقيط"أن يعيش؟ وفوجئنا جميعا بسؤالها. فمن حيث الظاهر لا علاقة لهذا السؤال بما كنا نبحث فيه. وسادت الحيرة والاستغراب بيننا، وقد أجبت دون تردد أنه مخلوق بشري وله حق الحياة.

شكرتني السيدة على الجواب السريع هذا. وبدون مقدمات قالت: الفرنسيون عادوا إلى فرنسا بعد استقلال الجزائر والأمريكيون يعودون  إلى أمريكا إذا انتصرت فيتنام والانجليز عادوا إلى بريطانيا عندما استقلت الهند وباكستان، أما اليهود فأين يعودون فلا وطن لهم غير إسرائيل.

وتركتنا في حيرتنا ولم تنتظر أن نرد عليها فقد اكتفت بأن من حق اللقيط أن يعيش.

وفي الحقيقة لم أستطع الاقتراب من قضية الاعتراف بحق دولة إسرائيل في الوجود، أو قبول القرارات الدولية التي تمنحها هذا الحق منذ عام 1947. وفي الجوهر لم يكن موقف الرافضين يختلف عن موقف القابلين ببرنامج النقاط العشر تجاه هاتين القضيتين سوى أن القابلين احتفظوا بالتحرير الكامل وبإزالة إسرائيل من الوجود في برامجهم الحزبية، وتخلوا عنها في برامج المنظمة وهذا شأن فتح. ففي كل مؤتمراتها ازدادت تصلبا وتمسكا بالأهداف والمبادئ والمنطلقات والأساليب وبالمقدمة التاريخية للنظام الداخلي التي أصبحت "أيقونة"محرماً المساس بها أو أنها أشبه بمقدمة إبن خلدون التي ذاع صيتها في العالم. والغريب أن فتح حين تجتمع في مؤتمراتها لا أحد يجرؤ أن يمس الثوابت والحقوق التاريخية. ويضطر أبو عمار بعد انفضاض المؤتمر أن يصدر نصاً مخففاً تماماً لقرارات المؤتمر. وهذا ما فعله أبو مازن بعد مؤتمر بيت لحم (2009) إذ اضطر لإصدار نص معتدل لقرارات المؤتمر السادس العتيد في بيت لحم. وهنا تكمن مأساة أية قيادة وطنية. هذا الانفصام بين الواقع المعقد الذي تعمل فيه لانتزاع أقل القليل من حقوق شعبها، وبين واقع شعبها اللاجئ والمشرد الذي تمثله فتح والذي يعيش مأساة النفي والشتات بلا أمل وبلا مستقبل جيلا بعد جيل ويرى ما تبقى من أهل وطنه يكتوي بنار الاحتلال وسرطان الاستيطان على ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية.

وهكذا  كان الحال مع الانتفاضة الأولى في عام 1987. فأبو عمار أمسك بهذه الورقة الثمينة لانتزاع أقصى ما يمكن انتزاعه من الأرض. ولديه قناعة راسخة بأن البقاء والثبات فوق الأرض هو المحرك للتاريخ والتغيير. وحين حانت ساعة الحقيقة لتقديم ورقة الاعتراف بإسرائيل كنت إلى جانبه في جنيف، وفي مقر عصبة الأمم السابق التي اعترفت بصك الانتداب وضمنته وعد بلفور المشؤوم، بعد أن  رفضت الإدارة الأمريكية منح أبو عمار تأشيرة الدخول إلى أمريكا لمخاطبة الجمعية العامة في نيويورك. وفي إشارات منه، في زيارة سابقة للسويد موجهة إلى وزير الخارجية الأمريكية "شولتز"وافق أبو عمار في نص موقع منه على الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود ونبذ الإرهاب واللجوء إلى المفاوضات والحلول السلمية لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ولم أكن أعرف شيئا عن هذه الورقة المرسلة إلى شولتز. كان يعرفها محمود درويش وياسر عبد ربه. إلا أنني فوجئت بأبي عمار يستدعيني في صباح اليوم التالي لعودته من السويد، وكان في حالة عصبية وإلى جانبه حكم بلعاوي في مكتب سفارتنا في تونس، وأمامه جريدة الصباح التونسية وهي الصحيفة الأولى في تونس وكان عنوانها بالخط العريض وباللون الأحمر وعلى ثمانية أعمدة كالتالي: "أبو عمار يعترف بحق إسرائيل بالوجود ".

وقد حاولت التخفيف عنه فقلت له: يبقى الخبر مشكوكا في صحته، فهو منسوب لمصادر مجهولة رفضت الكشف عن هويتها. وقد يكون بالون اختبار من جهة إسرائيل أو أمريكا حتى نضطر إلى إصدار نفي قبل جلسة الجمعية العمومية في جنيف. ومر ذلك اليوم بقليل من ردود الفعل. أما الأمر الأهم فكان خطابه في جنيف وأكاد أزعم هنا أن الخطاب الذي شرق فيه أبو عمار وغرب وأطال الشرح والتوضيح للمأساة الفلسطينية حمل ذات الموقف الذي ورد في جريدة الصباح التونسية. وبالضرورة كانت هناك معارضة من عدد من أعضاء اللجنة التنفيذية. ولكن احتواءها كان أمراً سهلا بعد أن دخلت الانتفاضة على هيئة صنع القرار الوطني لتضع النقاط على الحروف. فحددت الهدف والأرض والقرارات الدولية، كانت الانتفاضة القوة الدافعة لأبو عمار وهو يجتاز حقول الألغام ليصنع التاريخ لشعبه.

وحسب تعليمات أبو عمار سافرت إلى جنيف على رأس وفد إعلامي كبير، كما سافر إلى جنيف العدد الأكبر من أعضاء اللجنة التنفيذية ومن المجلس الوطني ومن المنظمات الشعبية. وتحول فندق الانتركونتننتال إلى خلية عمل فلسطينية. وصل أبو عمار إلى جنيف قبل إلقاء الخطاب بيوم واحد. ووجدت أن تغييراً قد وضع على النص الأصلي الذي اتفقنا عليه في تونس. وعلمت أن التعديلات أضيفت في الليلة الأخيرة قبل سفره في اجتماع تداولي غير رسمي في منزل حكم بلعاوي. وكان أبوعمار يراقبني وأنا أقرأ الخطاب، ولكني لم أعلق وفضلت الصمت. فالقلق والاضطراب وحالته العصبية البادية عليه تجعل الصمت أفضل. قمت إلى غرفتي واتصلت مع أبو مازن الموجود في موسكو وأخبرته بأن تعديلات دخلت على النص في الليلة الأخيرة، ولم يكن مرتاحا لهذا التغيير دون أن يخبرني بدوره أن النص كان في يد شولتز وريتشارد مورفي وكيل الخارجية الأمريكية.

وكان هناك اتفاق مع وزير خارجية السويد ( أندرسون)  أنه في حال قرأ أبو عمار الخطاب أمام الجمعية العامة وأورد القضايا المحددة، فإن الجنرال "ولترز"، المندوب الأمريكي، سينهض من مقعده لمصافحته أمام الجميع. ودخل أبو عمار القاعة وسط ترحيب حار من الأعضاء وبدأ يلقي خطابه. وكنت أتحرك في القاعة وكأني أحد الحراس الشخصيين لأبو عمار. وكان "ولترز " أثناء الخطاب يتابع الترجمة الفورية وبين يديه أوراق. وولترز هذا جنرال كبير واسع الاطلاع على القضية الفلسطينية وقد اجتمع مع خالد الحسن وماجد أبو شرار قبل أكثر من عشر سنوات في المغرب.

وفجأة وقبل دقائق قليلة من إنهاء الخطاب رأيت الجنرال ولترز يجمع أوراقه ويغادر القاعة. وعدنا إلى الفندق خائبين فلم يقع الحدث الذي من أجله جئنا إلى جنيف ومعنا كل دول العالم. الأمريكيون قالوا: عرفات لم يلتزم بما اتفق عليه مع"اندرسون"وزير خارجية السويد الذي كان حاضرا اجتماع الجمعية العامة. وبدأ ليل لا ينتهي ولا ينجلي ويوم يليه لا هدوء فيه. فقد حضر حسيب الصباغ وسعيد خوري وزين مياسي ومنيب المصري وباسل عقل، وهم من رجال المال والأعمال. وحسيب الصباغ يعرف شولتز فقد كان محاميا لشركة حسيب في أمريكا "بكتل"ويخاطب مورفي كما لو كان صديقه الشخصي ويقول له يا "ادي ".

أما أبو عمار فقد كلفني أن أقنع "اندرسون " أن لكل لغة أسلوبها واللغة العربية تختلف عن اللغة الانجليزية في هذا الجانب. وتنازل لنا د. سامي مسلم عن غرفته في الفندق ورقمها "706"وقد حاول اندرسون أكثر من مرة إقناع مورفي بأنها مسألة صياغة أما الموقف فهو نفسه. وبدا لي أن "أندرسون" مقتنع بما قلته له. فقد تصرف بغاية اللطف وهو يعبر عن هذه القناعة. وذهب وألقى كلمة في الجمعية العامة، وأيد ما قاله أبو عمار في كلمته، واعتبرها كافية وتؤدي المطلوب، وعاد إلينا في الفندق دون أن يظهر عليه أنه مرتبك أو غير مقتنع. ولكن الأمريكيين أصروا على موقفهم دون تغيير كلمة واحدة. ولم يقتنعوا بقصة التفاوت بين اللغات والأساليب. وطلبوا أن يقرأ أبو عمار النص المتفق عليه وباللغة الانجليزية في مؤتمر صحافي.

ولأن كل قضية لإسرائيل أو فيها وخاصة قضية اعتراف الفلسطينيين بوجودها هي قضية عالمية بامتياز، فإن وسائل الإعلام العالمية ترسل جيوشها الجرارة إلى مركز الحدث.

وأخيراً لم يكن أمام أبو عمار من خيار أو هوامش. وانتهت "سياسة اللا" وانتهت "سياسة اللعم" وانتهت سياسة "ننتظر حتى نتسلم الدعوة لمؤتمر جنيف وحينها نقرر."وأما سياسة "نصف القمر "فعليه الآن أن يقرر موقفه من نصف القمر الأخر. وكان الفلسطينيون وهم نخبة رجال الأعمال الذين يحيطون به مخلصين لفلسطين وانتفاضتها، ويحكم موقفهم وضميرهم الوطني وسعة اطلاعهم على الوضع الدولي. أما أعضاء القيادة الذين غص الفندق بهم فقد اختفوا تماما، وكلهم موجود وغير موجود. وكنت إلى جانبه في السيارة التي نقلتنا وسط حراسة مشددة إلى مقر عصبة الأمم. وكان رئيس الجمعية العامة ينتظره في لقاء بروتوكولي قبل المؤتمر الصحافي. أما النص المتفق عليه فقد صار في جيبي وحفظته عن ظهر قلب. ولم تزد الجلسة مع رئيس الجمعية العامة عن عشرين دقيقة. وخرج أبو عمار ومشينا وحدنا والحرس خلفنا وفجأة توقف أبو عمار وطلب مني أن أقرأ له النص وقرأته في أقل من دقيقة. فأخذ يسألني: ألم يكن من الأفضل لو وضعنا نقطة هنا أو فاصلة هناك؟

وهذا كله بعد "36"ساعة من النقاش المتواصل وعدم النوم، وعندها قلت لأبو عمار: "أخي أبو عمار إذا كنت تعتقد أننا سنأخذ الدولة من جورج حبش ونايف حواتمة، فلنمزق هذه الورقة ونعود من حيث أتينا. أما إذا كنا سنأخذ الدولة من أمريكا وإسرائيل فليس هناك خيار آخر. " وظل واقفا متسمرا في مكانه ولا يرد علي ولا يعلق على ما قلت، ثم خطا إلى الأمام وهو يقول: ولكن عبد الناصر لم يجرؤ على ذلك.

ودخلنا القاعة الكبرى فإذا بها تغص بأكثر من ألف صحافي. وعند المدخل وجدنا القس إيليا خوري، فاحتضنه أبو عمار وجره بيده. وكذلك وجدنا أبو طارق الشرفا "فتحاوي قديم" فأمسك به أبو عمار إلى جانبه. وجلسنا على المنصة، أبو عمار،  وجلست على يساره وبجانبي أبو طارق وعلى يمين أبو عمار جلس إيليا خوري وهو عضو في اللجنة التنفيذية للمنظمة.

وكان حولنا وفي داخلنا زلزال يتفجر وبركان يغلي. وقلت للصحافيين بأن الرئيس ياسر عرفات سيلقي عليكم بيانا هاما. أبو عمار بدأ يقرأ النص باللغة الانجليزية مضطربا ومرتجفا. ومرت الجملة الأولى بسلام عن حق إسرائيل في الوجود. أما جملة الإرهاب فبدل أن يلفظ الفعل الذي يدين الإرهاب قرأه بتغيير حرف واحد فيه وهو الحرف الأول وقرأ: "نعلن الإرهاب بدل ننبذ الإرهاب." ولم أكن أعرف أن المايكروفون الذي أمامنا مفتوح على كل المقاعد حيث يجلس الصحافيون. وقمت بالتدخل وبالتصحيح وعند الإعادة أيضاً أخطأ في القراءة وقال ننبذ السياحة بدل ننبذ الإرهاب. وقمت بالتدخل والتصحيح للمرة الثانية وضجت القاعة بالضحك والهرج والمرج. ولم يستغرق المؤتمر الصحافي أكثر من خمس دقائق فلا أسئلة ولا أجوبة، بل مغادرة على وجه السرعة إلى الفندق، ولكنه لم يدخل الفندق بل كان فريقه في استعداد كامل للتحرك إلى المطار. وحين نزلت من السيارة قال: لي أنا مسافر إلى برلين عند أخيك "د. عصام كامل "وعليك متابعة ما يجري وإعلامي. وكان الاتفاق كما أخبرني اندرسون أن يصدر شولتز وزير الخارجية الأمريكية بيانا يعلن فيه فتح الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية في ضوء الموقف الذي يعلنه أبو عمار في المؤتمر الصحافي. وبعد ساعة صدر الموقف الأمريكي بإعلان بدء الحوار مع المنظمة، وعلى الفور أجريت الاتصال مع "د. عصام كامل " وأخبرته بالاعلان الأمريكي، وقد قال: لي رغم أن أبو عمار وصل متأخراً فقد أعد الرئيس "إريك هونيكر" استقبالا رسميا في المطار واستضافته في قصر الضيافة بصفته رئيس دولة.

وقال د.عصام: قصة الألمان سواء كانوا شرقيين أو غربيين مع اليهود قصة طويلة، والكل منهم يريد شهادة براءة من جرائم هتلر ومن الهولوكوست. وإسرائيل تبتز الألمان منذ قيامها في عام 1948 وإلى الأبد. وأصدرت في الليلة نفسها تصريحا رحبت فيه بالإعلان الأمريكي. وفي صباح اليوم التالي كان أبو عمار قد شكل الوفد الفلسطيني للحوار مع السفير الأمريكي "بليترو"وضم الوفد ياسر عبد ربه وعبد اللطيف أبو حجلة وحكم بلعاوي، وبدأ الحوار.

وقد سبق أن التقيت مع روبرت بليترو، السفير الأمريكي في تونس، في مناسبات اجتماعية، ولم تكن هناك لقاءات سياسية رسمية، والسبب أن الإدارة الأمريكية منعت الدبلوماسيين الأمريكيين من اللقاء أو التحدث مع المسؤولين الفلسطينيين. أما هذه المناسبات الاجتماعية التي أعنيها فكانت تقيمها المدرسة الأمريكية في تونس للطلبة ولأولياء أمورهم.، وهكذا تعرفت على بليترو وعلى هيئة التدريس وعلى أحد مساعدي بليترو(هيل) وكانت زوجته سيدة فلسطينية من القدس هاجر أهلها إلى أمريكا بعد نكبة عام 1948 وهي من مواليد أمريكا وتتحدث بعض العربية. وفي الواقع كنت حريصا على تقديم أفضل صورة للمنظمة ورئيسها أبو عمار، والاستعداد للسلام وبأن كل القضايا التي يستحيل حلها، يمكن أن تجد الحل المناسب إذا ضغطت أمريكا على إسرائيل للانسحاب الكامل من الأراضي الفلسطينية. وكنت أركز دائما وأبدا على القدس الشريف، وأقول يستحيل التوصل إلى السلام إلا بعودة القدس المحتلة عام 1967، أما ضمها واعتبارها العاصمة الأبدية لإسرائيل فهذا يجعل السلام مستحيلا.

وكان بليترو يستمع ولا يعلق بل يكثر من الأسئلة ولا يقدم جوابا شافيا حول أسئلتي التي تتمحور حول لماذا كل هذا الانحياز الأمريكي لإسرائيل، ورغم  المصالح الأمريكية الضخمة في الشرق الأوسط والبترول وأهميته لأمريكا.

وتذكرت في ضوء صمته الطويل ما حدث معي في عام 1981. فقد كنت أحضر الماجستير في الجامعة الأمريكية في بيروت وأسابق الزمن لإنهاء الماجستير في العلوم السياسية. وكان البروفيسور حنا بطاطو والبروفيسور وليد الخالدي قد ساعداني في قبولي في الفصل الصيفي في جامعة جورج تاون في واشنطن، حيث يمكنني خلال هذه المدة أن ألتحق بفصلين دراسيين وأحصل على العلامات المطلوبة للإسراع في تقديم رسالة الماجستير والتي كنت أنوي أن تكون "حول أثر النفط في السياسة الدولية" وبالفعل ذهبت إلى واشنطن بجواز سفر جزائري وكان لدي مقابلة مع عميد الدراسات السياسية في جورج تاون. وقد استقبلني في الجامعة البروفسور هشام شرابي والبرفسور حليم بركات بتوصية من حنا بطاطو. أما العميد، واسمه مايكل هدسون، وكان قد أصدر قبل فترة كتابا قيما عن الدول والسياسة في الشرق الأوسط. فقد أخذ يسألني عن فلسطين وصراع الشرق الأوسط وأنا أتجاهل الدخول في حقل الألغام وأحاول أن يكون الحديث عن شمال أفريقيا. إلا أنني في النهاية ومن كثرة أسئلته قلت له أنا فلسطيني وكما تعلم ليس لدينا دولة ولا جواز سفر. فابتسم، وقال علمت ذلك. قد يكون هشام شرابي أو حليم بركات أخبراه بأنني فلسطيني. أما ما قاله العميد حول الموقف الأمريكي من الشرق الأوسط وفلسطين فكان كما يلي وبالحرف: لا يوجد مسؤول أمريكي وهو يجلس على الكرسي يملك الجرأة للحديث الصادق حول قضيتكم. وحين يترك الكرسي قد يتكلم، وإن تكلم بصراحة فإنه يحارب ويعزل. وذكر لي مثال "بول فندلي " الذي تجرَّأ على الحديث فخسر مقعده في مجلس الشيوخ، والرئيس كارتر خسر في الانتخابات السياسية الثانية لأنه تجرأ على تناول قضيتكم من الجانب الإنساني، دون أن يفعل شيئا على أرض الواقع من الناحية السياسية.

وهذا بالضبط ما حدث مع بليترو الذي مثل الجانب الأمريكي في الحوار الأمريكي _ الفلسطيني في تونس مع ياسر وأبو جعفر وحكم. إلا أن هذا الحوار توقف فجأة بسبب عملية بحرية لجماعة أبو العباس حيث أصرت الإدارة الأمريكية على إدانته وطرده من اللجنة التنفيذية. وكالعادة كانت الاعتبارات المتعلقة بالكرامة الوطنية تمنع أبو عمار من اتخاذ قرار يضعفه أمام شعبه ويظهره وكأنه يرضخ للاملاءات الأمريكية. وأقسى ما قام به أبو عمار أنه طلب من أبو العباس عدم حضور اجتماع اللجنة التنفيذية لحظة التقاط الصحافيين لصورة الاجتماع. وفي تلك الفترة من عام 1989 كان أبو عمار يقضي معظم وقته في بغداد، وأبو العباس المطرود من سوريا يقيم في بغداد. ولم يكن من اللائق بالنسبة للعراقيين أن يأخذ أبو عمار قراراً بإسقاط الحصانة عن أبو العباس الذي تحتضنه العراق. وهكذا توقف الحوار الفلسطيني - الأمريكي بانتظار محطة اتفاق أوسلو والتوقيع في البيت الأبيض في أيلول 1993 بحضور الرئيس بيل كلينتون.


الفصل الثامن

الحرب الرابعة 1982 


يعتبر كثيرون أن الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982 هو بحق الحرب الرابعة بين إسرائيل وجيرانها حتى وإن اقتصرت هذه الحرب في معظمها على المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية التي استمرت 88 يوما وانتهت برحيل المنظمة وقواتها عن لبنان، والخروج العسكري للثورة من جميع دول الطوق وتشتيت هذه القوات في عدة بلدان عربية. أما سوريا فقد دخلت الحرب بطيرانها وبقواتها في البقاع وبلواء من الجيش كان يتمركز في بيروت ومناطقها المحيطة. وتوقفت المواجهة السورية _ الإسرائيلية جواً وبراً يوم (11) حزيران 1982 باتفاق معلن لوقف إطلاق النار. وبقيت قوات الثورة والحركة الوطنية وحدهما في المعركة.

 ولا بد لنا بدايةً أن نعود إلى الوراء قليلا للوقوف على أسباب هذه الحرب الشاملة ضد الثورة وكيف تمكنت إسرائيل من تهيئة الظروف لشنها والتي انتهت بخروج الثورة من لبنان. وأول ما يجب التأكيد عليه هنا أن إسرائيل لا تخوض حربا واسعة النطاق وتحتل خلالها عاصمة عربية وتستمر الحرب لمدة 88 يوما بدون أن تضمن التأييد الأمريكي لهذه الحرب. وكانت الساحة الدولية تمر بتطورات نظرت إليها أمريكا نظرة سلبية. فقد كانت أميركا تخرج لتوها من فترة ولاية الرئيس كارتر "الضعيف" الذي حكم لأربع سنوات تعرضت خلالها لإهانة في طهران بعد سقوط شاه إيران على يد أية الله الخميني واحتلال السفارة الأمريكية واعتبار من فيها رهائن وفشل العملية العسكرية "الأميركية "لتحريرهم. وهناك أيضاً احتلال أفغانستان من قبل الاتحاد السوفياتي في عام 1979 وهو عام انتصار الثورة الإيرانية. وظهر مد سوفيتي في اليمن الجنوبي  وفي أثيوبيا وفي أنغولا. وهذا الوضع الدولي حمل للرأي العام الأمريكي صدمات متلاحقة وتراجعا في النفوذ والهيمنة على مستوى العالم. وفي نوفمبر 1980 كان الفائز في الانتخابات الرئاسية رونالد ريغن الجمهوري المتشدد. وعين ريغان الجنرال الكسندر هيغ وزيرا للخارجية. وفي شباط 1982، كان هيغ يوقع مع شارون وزير الدفاع الإسرائيلي اتفاق التحالف الاستراتيجي بين إسرائيل وأمريكا. وقد حمل الاتفاق نصاً واضحاً وصريحاً حول الإرهاب ومحور الشر في العالم.

وأما الوضع العربي فلم يكن أحسن حالا فقد اغتيل الرئيس السادات على يد الجماعة  الإسلامية المتطرفة في 6 أكتوبر 1981. وكانت مصر معزولة عربيا وفي الفصل الأخير من المفاوضات مع إسرائيل لاستعادة سيناء. وهذا تحقق في نيسان 1982. وأما العراق فكان في حالة حرب مدمرة مع إيران الخميني. وفي لبنان فشل حافظ الأسد في احتواء بشير الجميل الذي أعلن صراحة تحالفه مع إسرائيل وقضى على نمور كميل شمعون وعلى مردة فرنجية وأصبح القوة العسكرية الوحيدة في الوسط الماروني. وهذا الوضع أجبر الأسد على إرخاء قبضته على الثورة والحركة الوطنية. وكانت إسرائيل قد دمرت المفاعل النووي العراقي "أوزريك" في صيف 1981 دون أن يقوى العراق الغارق في حرب مع إيران على الرد. وجاء الرد العراقي على يد  جماعة أبو نضال التي أطلقت النار على السفير الإسرائيلي في لندن، والذي حمل  مناحيم بيغين  منظمة التحرير  المسؤولية عن هذه العملية الإرهابية. ويقول حاييم هيرتزوغ في كتابه عن حروب إسرئيل أن حكومة بيغين قد استغلت العملية الإرهابية لاغتيال السفير الإسرائيلي في لندن لشن الحرب التي أعدت لها منذ زمن بعيد للقضاء على منظمة التحرير في لبنان. ويضيف هيرتزوغ أن مناحيم بيغين كان يعلم تماماً أن منظمة التحرير لا علاقة لها بهذه العملية الإرهابية. ومن غرائب الصدف أن التدخل السوري في لبنان في عام 1976 ضد الثورة، كان بدوره يتخذ له ذريعة عملية إرهابية نفذتها جماعة أبو نضال ضد أحد الفنادق في دمشق وحمل حافظ الأسد المسؤولية عن هذه العملية للمنظمة. وقام بإعدام الثلاثة الذين نفذوا عملية الفندق في ساحة دمشق لتأليب الرأي العام في سوريا ضد الثورة وبالتالي الموافقة على التدخل العسكري. وبدأ الغزو الإسرائيلي بعد ست سنوات بالتمام والكمال من التدخل السوري في لبنان وذلك يوم الخامس من حزيران 1982. 

أما على الصعيد الفلسطيني واللبناني، فالوضع كان في حالة ترقب للعدوان. فأبو عمار أعلن التعبئة العامة أكثر من مرة وأمر بالدورات التدريبية لجميع العاملين. وفي الدورة الخاصة بالعاملين في المؤسسات كنت من ألقى  كلمة الخريجين في نهاية الدورة. وحضر الحفل في الملعب البلدي في الفاكهاني قادة الثورة، ورجال الصحافة والمواطنين.

في ظل هذه الظروف المعقدة كان أبو عمار يتحدث ليل نهار عن "عملية الأكورديون" وهي الإطباق على الثورة من الجنوب والشمال من إسرائيل وبشير الجميل. وما بدا أنه تغيير في موازين القوى في الشرق الأوسط بسقوط شاه إيران حليف إسرائيل لم يدم طويلا. وما ردده أبو عمار من شعارات لاستنهاض الهمم لمواجهة إسرائيل وقوله الشهير من "خراسان إلى صور" جبهة ضد إسرائيل سرعان ما أسقطه صدام حسين الذي تولى السلطة الكاملة في العراق بعد نجاح ثورة الخميني. وأمام ما طرحه الخميني عن تصدير الثورة لم يكن أمام صدام حسين غير إعلان الحرب ومهاجمة إيران. وهذه الحرب التي حاول أبو عمار التوسط لوقفها دون نجاح، أحدثت الانقسام الأخطر بين سوريا والعراق، حيث وقفت سوريا مع إيران ضد العراق لأن العراق هو المعتدي وهو الذي بدأ الحرب كما ادعى الأسد، وإن كانت الأسباب الحقيقية تعود إلى الماضي السحيق والصراعات الدينية بين السنة والشيعة.

ومنذ شهر شباط 1982 وأبو عمار يسعى لتوفير السلاح والعتاد لمواجهة العدوان الحتمي كما كان يقول. وثبت أنه كان على حق. وفي هذا السياق، كان يبحث عن صواريخ "سكود" المتوسطة المدى لقصف شمال إسرائيل في حال قامت  بهجومها المنتظر. وقد حاول الحصول على هذه الصواريخ من ليبيا. إلا أن القذافي أرسل عبد السلام جلود إلى حافظ الأسد ليخبره عن طلب أبو عمار للصواريخ التي يصل مداها إلى "70 " كم، وفي ما إذا كان الأسد يوافق على إعطاء هذه الصواريخ لأبو عمار. إلا أن الأسد جن جنونه، واعتبر إعطاء هذه الصواريخ لأبو عمار بمثابة دعوة  لإسرائيل لشن الحرب على سوريا. وتبين أن الاتحاد السوفييتي لا يسمح للدول الاشتراكية ببيع هذا النوع من الصواريخ لأي دولة إلا بموافقته. وأما لماذا هذه الصواريخ المتوسطة المدى والتي يصل مداها إلى عمق إسرائيل فمرده إلى نتائج المواجهة في عام 1978 وفي تموز عام 1981، حيث كان قصف المستوطنات بمدافع الهاوتزر "155 " وبصواريخ الغراد المطورة الأثر الحاسم في إجبار إسرائيل على وقف النار وبوساطة أمريكية وسعودية، وبالتالي أصبح أبو عمار مسكونا بالحصول على صواريخ "سكود " هذه وهي الأبعد مدى من المدفعية ومن صواريخ الغراد.

وبحكم علاقتي اليومية معه، فقد أصبحت بدوري مهتما بموضوع الصواريخ هذه، مع أنني أبعد ما يكون عن كل سلاح. وقد حدث بمحض الصدفة أن وفرت لأبو عمار أجهزة كومبيوتر صغيرة ودقيقة لضبط الإحداثيات للمدفعية، وهذا جعلني خبيرا عسكريا. وبالفعل رحت أبحث عن تجار السلاح في بيروت. ولم يكن من الصعب العثور عليهم. وقلت لأحدهم نريد صواريخ "سكود" المتوسطة المدى وقال هذا أمر سهل. وطلب مهلة لمدة أسبوع. وعاد تاجر السلاح، كما وعد، وهو يحمل صورا لصواريخ سكود هذه. وقال لي: الآن هناك مشاكل في بولندا، والبلد على وشك الانهيار بسبب حركة العمال بزعامة "ليش فاليسا " وترسانة بولندا من الصواريخ أصبحت في يد التجار الألمان. وأخذت الصور والكتلوجات لأبو عمار الذي انتعشت آماله وهو يرى الصور ويقرأ في الكتالوجات. والغريب أن تاجر السلاح هذا زودني بمواد مماثلة ولكن من الصين الوطنية / فرموزا. سابقا.

وتعامل أبو عمار مع الأمر بكل الجدية والسرعة، وأمرني بالإمساك بهذا الخيط لعل وعسى. وبالفعل استدعى اللواء أحمد عفانة "أبو المعتصم" وأطلعه على الصور والشروحات المرفقة، وطلب منه التحرك فورا للحصول على هذه الصواريخ. وبالفعل، في اليوم الثاني كنا أنا وأبو المعتصم في مطار بيروت والجهة المقصودة زيورخ في سويسرا. والمفارقة هنا أنني بصعوبة تعرفت على أبو المعتصم في مطار بيروت. فقد كان متنكرا فعلا. وبعد الظهر كنا في زيورخ وفي الفندق المحدد كما اتفقنا مع تاجر السلاح. وفي اليوم الثاني كان يجب أن يحضر التاجر الألماني "موللر" ولكنه طلب لأسباب أمنية أن نلتقي معه في لوكسمبورغ المدينة الدولة. وسافرنا إلى هناك مباشرة فالوقت ضيق وأبو عمار يلاحقنا لحظة بلحظة. وفي لوكسمبورغ حضر "موللر" وقال "المال أولاً"،  وقال له أبو المعتصم في اللحظة التي تصل فيها الصواريخ إلى عدن نسلمك المال. ليست هذه المشكلة. فقال "موللر" ممنوع علينا إرسال أي سلاح لأي دولة شيوعية ولهذا لا نستطيع إرسال هذه الصواريخ إلى عدن. وأمامكم حل آخر أن تحصلوا من وزير دفاع في دولة افريقية، كينيا أو تنزانيا على طلب السلاح. وعليكم نقله من هذه الدولة إلى حيث تريدون. وقد وقع الغزو الإسرائيلي ونحن نسعى لتأمين ما طلبه تاجر السلاح "موللر." وقد بدأ الغزو بهجوم بري على كل المحاور من مدينة صور إلى العرقوب. وكان أبو عمار خارج لبنان،  ودخل ليلا إلى بيروت وفي الرابعة من صباح يوم 6 حزيران 1982 كان الهاتف يرن والذي على الخط كان أبو عمار. أما الغارات الجوية في ذلك اليوم فاستهدفت غرفة العمليات في كلية الهندسة التابعة للجامعة العربية في الفاكهاني. والصواريخ التي أصابت قاعدة هذا المبنى الضخم كانت بهدف تدمير غرفة العمليات على من فيها. كما أصابت الصواريخ بنايات الصادق وهي أكثر من سبع بنايات ضخمة ولنا فيها مكاتب ومقرات. وقصفت الصواريخ مقر الأمن الموحد ودمرت واجهته ومقر صامد ودمرته. وفي اليوم الثاني كانت البرقيات من الجنوب تتحدث عن هجوم شامل وواسع النطاق حيث واصلت الدبابات تقدمها على كل المحاور. وفي اليوم الثالث من أيام الغزو وقع الحدث غير المنتظر. فقد أسقط الفدائيون بنيرانهم طائرة إسرائيلية والطيار وقع أسيراً في يد قواتنا. وأنه غير مصاب وقد تم نقله على الفور إلى بيروت. وبالفعل وصل الطيار الإسرائيلي وكان معصوب العينين وهو ضخم الجثة كما بدا لي حين أدخلوه إلى الطابق الأرضي. وقد أسعد هذا الخبر أبو عمار حيث قال: هذا فأل حسن، وردد الآية "وإن ينصركم الله فلا غالب لكم." وحين نزلت إلى الدور الأرضي كان الطيار الإسرائيلي يرتجف من الخوف وقلت له أنت "أسير حرب " وستعامل على هذا الأساس. ومع القصف المتلاحق لمنطقة الجامعة العربية والفاكهاني، قمت بنقل العاملين في الإعلام إلى بناية في منطقة "الحمراء" حتى يواصلوا إصدار الجريدة اليومية ونقل أخبار الغزو الإسرائيلي إلى العالم. وأقام محمود اللبدي مسؤول الإعلام الخارجي في حينه معرضا أمام بناية الإعلام لكل أنواع القذائف الإسرائيلية التي تتساقط علينا في بيروت.

وفي اليوم الحادي عشر من حزيران، وكنت إلى جانب العميد أبو الوليد في غرفة العمليات التابعة للقطاع الغربي، وكانت الاتصالات الهاتفية قد قطعت أو الغيت ويبقى الاتصال الفردي المباشر. وحوالي الساعة الثانية عشرة جاء أحد مرافقي أبو عمار يدعو أبو الوليد. ولحسن الحظ، أن أبو الوليد أصر على اصطحابي معه في سيارته. فتركت سيارتي والمرافقين أمام عمليات الغربي. وكان أبو عمار في مكان قريب جدا ملاصق لغرفة العمليات الرئيسة التي نعرفها بأنها غرفة عمليات "35" وجدنا أبو عمار وكان أمامه زيت زيتون وجبنة وصحن فول وخبز وقال "جيتو في وقتكم " ودعانا لتناول الفطور معه. واقتربنا من الطعام فإذا أزيز الطائرات الإسرائيلية يملا الجو، وإذا الصواريخ تصيب إصابة مباشرة غرفة العمليات "35"، ووصلت الشظايا إلى المكان الذي نجلس فيه، وأمسكت بشظية أمام الباب فإذا بها نار تغلي. فألقيتها من يدي. وشدني أبو عمار وهو يقفز خارج هذا البيت العتيق وهو يقول علينا أن نغادر المنطقة كلها، يبدو أننا مرصودون. وكانت سيارته قد وصلت من مكان ما وفيها فتحي كبير مرافقيه وندعوه "فتحي سلبد "، وكنا في السيارة أبو عمار وأبو الوليد وأبو فراس الغربي وأنا وانطلقت السيارة كالصاروخ باتجاه الشرق للابتعاد عن المنطقة التي تقصفها الطائرات، وفتحي الرازم "سلبد" كان يقود السيارة بأعصاب حديدية رغم أن أزيز الطائرات الإسرائيلية نشعر به وكأنه يلاحقنا. ويبدو أننا في آخر منطقة البسطة في اتجاه الشرق، بنايات شاهقة تحيط بالشارع، ولكن لا توجد حركة. فالناس يختفون في منازلهم كلما سمعوا أزيز الطائرات. وقال أبو عمار لمرافقه العقيد فتحي: أدخل في هذه البناية، لا بد أن فيها دوراً أرضياً، ودخلت السيارة في الساحة المغطاة تحت المبنى، فتح أبو عمار قبلنا الباب الموصل إلى الدور الأرضي وقال هذا مخزن وغير مسكون. ودخل أبو عمار وأبو الوليد وأبو فراس الغربي وأنا وراءهم، وفجأة رأيت أبو عمار يختفي ويعلو فوقه شيء أبيض. وأما أبو الوليد وأبو فراس فهما أطول من أبو عمار، فغرقا حتى الرقبة. وأسرعت إليهما، فإذا هذا المخزن مليء بالقطن المنفوش الذي  يغطي الدرج والمدخل. وبصعوبة أطل رأس أبو عمار حيث أمسك به العميد أبو الوليد وأبو فراس الغربي وبدأنا نضغط القطن وندفعه إلى الداخل. وكان بيد فتحي خشبة طويلة يدفع بها القطن، ولكننا شعرنا بضيق التنفس، وكأنه لا يوجد هواء بل ذرات تتطاير وتحط فوقنا من القطن الذي أحاطنا بشكل كامل. وما هي إلا دقائق قليلة حتى بدأ أزيز الرصاص يرن في آذاننا وكأنه يصيب البناية التي اختبأنا فيها. 

ولأن أبو عمار لديه حاسة استشعار فلكية فقد أمر فتحي بمعرفة ما يجري ولماذا إطلاق الرصاص، وهذه المنطقة بعيدة عن المنطقة الشرقية حيث بشير الجميل والكتائب. خرج فتحي وتبعته بهدوء إلى طرف المدخل بحيث لا يصيبنا الرصاص الذي توقف. وظهر ثلاثة رجال في الشارع وسألهم فتحي ما هذا إطلاق النار؟ فقال أحدهم: هؤلاء "زعران الحارة " وقد انتهى الإشكال. ويبدو أنهم عرفونا من لهجتنا المختلفة عن اللهجة اللبنانية فقالوا في صوت واحد نحن في خدمتكم، تفضلوا. وشكرهم فتحي. وعدنا مسرعين إلى القبو لطمأنة أبو عمار وأبو الوليد وأبو فراس. وقال أبو عمار: هل عرفوا أننا هنا؟

 قال فتحي: لا، ولكن عرفوا أننا فلسطينيون.

وقال أبو عمار علينا أن نغادر هذا المكان. وطلب من فتحي أن يتجنب الشوارع الجانبية وأن يسلك شارع المزرعة. وفي اللحظة التي كنا نقترب فيها من مكتب المنظمة في الشارع المقابل، وهناك ممر للمشاة فوق الشارع، كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف الممر ومكتب المنظمة. فأسرع فتحي واتجه إلى اليمين بعيداً عن الشارع الرئيس إلى داخل منطقة المزرعة. ودخلنا إحدى البنايات التي يعرف فتحي من يسكن في إحدى شققها الكثيرة. والمفاجأة أننا وجدنا أبو جهاد وأم جهاد في هذه الشقة وهما في غاية القلق علينا. وتعانق أبو عمار وأبو جهاد وتكررت مرات عدة "الحمد لله على السلامة" لم يكن لدينا معلومات عن القصف الإسرائيلي لغرف العمليات، عمليات الغربي والعمليات "35". وأخبرنا أبو جهاد عن تدمير مدخل البنايتين وأن عددا من الشباب استشهدوا ولم يحدد عددهم ولم نعرف أسماءهم. وعلمت فيما بعد أن سيارتي قد دمرت وأن الشاب الذي يقودها قد نجا بأعجوبة فلم يكن داخل المبنى.

وكانت الصدمة الكبرى لأبو عمار، إعلان وقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل يوم 11 /6/1982. وقال أبو عمار كلمته المشهورة "يا  وحدنا." وفي تلك الظروف لم يكن من السهل أن نلتقي يوميا. وكان أبو عمار يرسل أحد مرافقيه لإحضار من يريد من العاملين في الأجهزة. وكان كل أعضاء القيادة أبو جهاد، أبو إياد، أبو الهول، لديهم مسؤوليات أمنية وقوات تحت إمرتهم. وكان في بيروت أحمد جبريل وكان مريضا ونايف حواتمة وجورج حبش وأبو العباس وطلعت يعقوب وعبد الرحيم أحمد وأبو ماهر اليماني. وكان العميد سعد صايل يتولى الإشراف الكامل على الدفاعات عن بيروت وإلى جانب أبو عمار دائما وأبدا، وهو يشرف بنفسه على القطاعات والمحاور؛ والمعركة استمرت بالقصف المتواصل لأحياء بيروت الغربية والمخيمات. وفقدنا القائد الضابط الشجاع في معركة خلدة على أبواب بيروت الشهيد العقيد عبد الله صيام. واعترف العدو أن نائب رئيس أركان جيشه قد قتل في معركة الدامور.

وانقطعت الاتصالات بعد عشرة أيام تقريبا مع القوات  في الجنوب. ووقعت معركة قلعة الشقيف البطولية، وبدأت إسرائيل تحكم تطويق المخيمات وتسيطر على الطرق لعزل بيروت الغربية. والذي حدث على مدى شهر كامل، أن قوات العدو الإسرائيلي رغم هذا الحشد الهائل من الدبابات خضعت للواقع الذي ساد في بيروت من عام 1976 وحتى عام 1982 أي أن هناك خط "ماجينو" بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية. وبالفعل فإن بيروت مدينة عصية على الغزاة. وأبو عمار وهو يتحدث عن عملية "الاوكورديون،"كان يجهز بيروت للصمود في وجه الحصار والغزاة. لقد أمر بحفر الآبار في الطريق الجديدة والفاكهاني، وبنى الملاجئ في المخيمات، وأمر الخبراء والمهندسين بتحديد الأماكن الصالحة لاحتماء الناس من الغارات، في الجامعات والمعاهد، والمدينة الرياضية. لقد فشلت إسرئيل  في  تحقيق هدفها المستحيل وهو قتل أبو عمار وأعضاء القيادة، حاولت ذلك أيضاً خلال قصف غرف العمليات التي شهدت ثلاث منها القصف بين الحادي والعشرين من حزيران  والرابع من آب. كانت غرفة العمليات الأولى تقع تحت بناية ضخمة لا زالت غير مسكونة. وكنت مع أبو عمار وهو يلقي نظرة على الأدوار السفلية. كانت غرفة العمليات المقصودة تقع دورين تحت الأرض، ووجدها أبو عمار مناسبة ما عدا مدخلها المكشوف. ولم يتم الدوام فيها أبدا. إلا أننا في اليوم الثاني وجدناها مقصوفة بالصواريخ التي أصابت مدخل الأدوار السفلية وأغلقت بالدمار والركام.

أما غرفة العمليات الثانية فكانت ملاصقة لثكنة "الحلو" القديمة للجيش اللبناني. ويبدو أن أبو جهاد هو من جهزها لزمن الحرب. وكان مسؤولها الضابط مأمون مريش. وأما المشرف على إدارتها الداخلية فكان نبيل أبو ردينة. وكان هذا القبو مهجورا لزمن طويل، وتجهيزه على وجه السرعة لم يجعله صالحا، حيث أزيز الحشرات والناموس القارص. ولهذا طلبنا من نبيل أبو ردينة  أن يزودنا بقاتل الحشرات المشهور "بيجين" وقلنا يومها ما دام "بيجين." قد فشل في قتلنا فعلى الأقل فليقتل الحشرات. إلا أننا لم نهنأ طويلا في هذا المكان الآمن والقريب من ثكنة الحلو، لأن علينا أن نغادر أي مكان مهما كان حصينا بمجرد سماعنا أزيز الطائرات فهذا يعني القصف الفوري بالصواريخ والقنابل التي تزن طنا. وذات مساء بدا وكان الطائرات فوقنا بالضبط، فقفز أبو عمار ولحقته تاركا الأوراق والبيان على الأرض ورأيت أبو عمار يقف ويتطلع إلى السماء ويقول "هبت رياح الجنة." ونغادر المنطقة. وبيروت العظيمة هذه لا تبخل على محبيها بالحماية. ونأوي في مدخل إحدى البنايات حتى تنتهي الغارة التي استهدفت بصواريخها غرفة العمليات التي كنا فيها والملاصقة لثكنة الحلو المهجورة. وليس هناك غارة بلا ضحايا سواء من العسكريين أو من المدنيين. وبدا لأبو عمار أن الطائرات تحاول اصطياده، لأنه حيث تواجد هناك غارات ولهذا غير السيارات والملابس. وفي ليلة قاسية نام لأربع ساعات في سيارة صغيرة تابعة للإعلام الايطالي من نوع "اوتوبيانكي" ولا يخطر على بال أحد أن فيها ياسر عرفات، وهي ملقاة في شارع جانبي بالقرب من فندق الكومودور، فندق الكتيبة المقاتلة من الصحافيين والمراسلين الأجانب الذين اتخذوا من هذا الفندق مقرا لهم. وهذه السيارة الصغيرة والتي لا تتسع لشخصين، قامت بعمل عظيم بعد أيام، حيث تم فيها نقل جندي إسرائيلي تم أسره من منطقة دوار سفارة الكويت القريبة من مخيم شاتيلا. حيث أقام جيش الاحتلال سدا ترابيا وفوقه خندق وتسلل الأبطال إلى حيث جندي الحراسة وتحت تهديد السلاح سحبوه من الخندق وظلوا يزحفون على بطونهم والأسير بين أيديهم والمسدس مصوب على رأسه حتى وصلوا إلى مخيم شاتيلا وهناك لم يكن من وسيلة صالحة لنقله غير ملفتة للانتباه غير سيارة الإعلام "الاوتوبيانكي" وفقد مناحيم بيغين عقله وجن جنون شارون. وكان فيليب حبيب يقوم بالوساطة المعهودة حول شروط المغادرة من بيروت. وكان ذلك في أوائل آب 1982.

وقرر مناحيم بيغين أن "الإرهابي ذو اللحية " لن يغادر بيروت ومن معه إلا بعد الإفراج عن الأسيرين الطيار والجندي. وكان الأسيران  ورقة قوية بيد أبو عمار. فضاعف شروطه التعجيزية لفيليب حبيب وشفيق الوزان، رئيس وزراء لبنان يومئذ وصائب سلام. فأصر على "الخروج المشرف " وليس تحت الراية البيضاء وفي سيارات الصليب الأحمر الدولي. الخروج بالعدة والعتاد وتأمين  "الحماية للمخيمات" وجاءت القوات الدولية. والله وحده يعلم كيف تم سحب هذه القوات قبل مجزرة صبرا وشاتيلا بأربعة أيام. غادرت القوة الايطالية والفرنسية  والأمريكية المنطقة يوم 10/9/1982 ووقع اغتيال بشير الجميل يوم 14/9/1982. وأمر شارون بالمجزرة في صبرا وشاتيلا ليلة 16/9/1982 والمنفذون كانوا جماعة "إيلي حبيقة " الذي صار وزيرا في حكومة لبنان ومقربا من سوريا، وتم اغتياله بعد سنوات في سيارة ملغومة. أما اغتيال بشير الجميل فقد نفذه شاب من الحزب القومي السوري، حيث قتل بشير وأركان قيادته عن بكرة أبيهم وقيل أن المخابرات السورية وراء عملية الاغتيال.

أما أبو عمار والقيادة الفلسطينية واللبنانية فقد ظل هاجسها المخيف الغارات الجوية بعد أن ثبت أن التقدم البري قد توقف. وغابة البنادق تثير الخوف لدى شارون. فلا يأمر باقتحامها خوفا من الخسائر. وأكثر ما يرعب إسرائيل خسائرها في الأرواح. أما الطائرات فلا زالت تزمجر ليل نهار في الأجواء. وقيل في الأيام الأخيرة أن إسرائيل تجرب أسلحتها في حرب بيروت وتدرب طياريها الجدد على الإغارة والقصف وإصابة الهدف بعد أن نفذت الذخائر من المضادات الجوية.

هناك محاولتان من طيران العدو لقتل أبو عمار ومن معه. كانت المحاولة الأولى قصف غرفة العمليات في بناية الصنايع القريبة من رئاسة  الوزراء اللبنانية وبجانبها حديقة الصنايع، وكان مسؤول هذه الغرفة العقيد زياد الأطرش. وتحت ضغط الحصار والملاحقة قرر أبو عمار الانتقال إليها على أمل أن  تشكل رئاسة الوزراء حماية من القصف الإسرائيلي. ورافقت أبو عمار إلى هذه البناية السكنية المنكوبة. دوران تحت الأرض ومستودع كبير يتسع لمئات الأشخاص. وقد أعجب أبو عمار أيما إعجاب بهذا الملجأ الآمن، والذي كان العقيد زياد الأطرش يستخدمه غرفة عمليات ومنه يشرف على المجموعات التي تراقب البحر من عين المريسة وحتى الروشة. ولحسن الحظ أن أبو عمار لا يستقر في مكان لمدة طويلة. 

إلا أن ارتياحه النسبي لهذا الجوار الآمن - وأعني رئاسة الوزراء - ،  جعله يطمئن بعض الشيء فيعقد الاجتماعات ويحضر أبو جهاد وبعض أعضاء القيادة. وذات مساء وقع انفجار لم نعرف أسبابه في حديقة الصنايع. وكنا على وشك دخول البناية. وكان أبو جهاد موجودا ينتظر أبو عمار. وفقد أبو عمار أعصابه وهو يأمر بإخلاء غرفة العمليات ومغادرة الجميع ويصرخ بمرافقي أبو جهاد، لأخذ أبو جهاد والابتعاد فورا عن البناية. وتبين فيما بعد أنها مجرد أصابع "TNT" قام أحدهم في الحديقة بالعبث بها وانفجرت وأحدثت هذا الصوت وهذا الذعر الذي أصابنا في هذا المكان الذي اعتقدنا أنه الملاذ الأخير الآمن في كل بيروت. وذات يوم قصدت هذه البناية صباحا بل في منتصف النهار. فوجدت شفيق الحوت والسفير الايطالي ينتظران أبو عمار. وقلت لهما: احتمال أن يأتي أبو عمار ولكن ولا أدري أين هو بالضبط. وعند الساعة الواحدة اقتنع شفيق الحوت بأن أبو عمار لن يحضر. فاستأذن هو والسفير وغادرا. وبقيت أنا والعميد سعد صايل، فقلت لأبو الوليد: الساعة الآن وقت غداء، وكنت في حينه استأجرت لي وله شقتين في قلب الحمراء خلف فندق الكومودور، وكان نادرا ما يأتي إلى هذه الشقة، وكان مدير مكتبه  المهندس غسان إسماعيل يتولى  الاتصالات مع الجانب اللبناني لترتيب لقاءاتهم مع أبو الوليد، وضغطت عليه بقوة لتناول الغداء معا في البناية في الحمراء. ورغم تردده  الشديد، ذهبنا معا في سيارته، والمكان لا يبعد أكثر من ربع ساعة عن منطقة الصنايع، والشوارع عموما خالية والصيف في أواخر تموز 1982 شديد الحرارة، وصلنا البناية وأصر أبو الوليد أن يذهب إلى شقته حتى يرتاح، إنه شديد التهذيب وشديد الخجل رغم أننا أصدقاء منذ أحداث أيلول 1970 وحين كان قائدا لقوات اليرموك في منطقة درعا وكنت مسؤول الإذاعة التي تبث من درعا وموجهة لفلسطين والأردن. وناديت مرافقه وأعطيته بعض الطعام علبة "تن"وزجاجة ماء ورغيف خبز، وجلست لتناول الطعام وكانت الساعة بالضبط الواحدة وأربعين دقيقة. فإذا دوي هائل يشق عنان السماء. وكان المهندس غسان إسماعيل جالسا معي، فقفز على الفور إلى سطح البناية ليرى أين القصف ومن أين يتصاعد الدخان. وعاد مذعورا وهو يقول الدخان يتصاعد من جهة منطقة الصنايع. ولم أتناول لقمة واحدة ونهضت.

 وهبطت مسرعا وكان العميد أبو الوليد ينتظرني وهو يقول "ربك يستر" وكان يخشى أن يكون أبو عمار قد حضر بعدنا إلى غرفة العمليات في هذه البناية التي لم يبق غيرها فكل غرف العمليات قد دمرت وقصفت. وأصبحنا مقتنعين أن هناك مراقبة دقيقة لتحرك أبو عمار. وحين وصلنا الصنايع، كانت الصدمة المذهلة، ليس هناك بناية على الإطلاق وهي بناية من خمسة ادوار ومسكونة. ولكن ما هذا الذي حدث؟ البناية كلها اختفت وما يظهر ركام مفتت ويتصاعد دخان قليل، وقال لي أبو الوليد: هذه هي "القنبلة الفراغية." وكنا أبو الوليد وأنا أول من وصل إلى هذه الكارثة التي لم نر لها مثيلا طوال أيام القصف سواء بالطائرات أو المدفعية. البناية بكل سكانها وغرفة العمليات بكل من فيها وأستطيع أن أقدر أن العدد يزيد على عشرين فدائيا وعدد السكان عرفت فيما بعد أنهم (250) إنسان بين طفل وامرأة وشيخ. أسر بكاملها اختفت تحت الركام. وحتى إخراج الجثث من تحت هذا الركام لم تكن عملية سهلة. ولكن السؤال المحير أين أبو عمار لا يوجد أثر له أو لمرافقيه. وأخذ الناس المفجوعون على أحبتهم تحت الركام يصرخون ويستنجدون بالعلي القدير لينتقم من إسرائيل. وجاءت سيارات الإسعاف وسيارات الإطفاء وجاءت فرق الإنقاذ وجاءت الجرافات فليس غيرها يصلح لإخراج  الجثث من تحت هذا الركام الذي أحدثته "القنبلة الفراغية" التي لم أسمع عنها من قبل. ابتعدنا قليلا من وسط الناس الذين يبكون ويصرخون. فإذا أحدهم وهو مرافق لأبو عمار يقترب من العميد أبو الوليد ويهمس في أذنه. وتغيرت ملامح أبو الوليد من الغضب الصامت غضب المقهور أمام كارثة دمرت الحياة، دمرت أسراً بكاملها، قضت على الأطفال الذين كنا نداعبهم على مدى أسبوعين. وشدني أبو الوليد من يدي وهو يقول "الحمد لله الحمد لله." وسرنا معا بخطوة سريعة وأبو الوليد عسكري عتيد وعنيد وصلب البنية ولا يعرف المشي مثل أي رجل عادي. له خطوة متزنة وكأنه في عرض عسكري. وقطعنا الشارع وسرنا تحت أشجار كبيرة وقديمة. وبعدها هناك بين البنايات، بيت قديم، وربما كان بيت الحارس الذي يشرف على هذه البناية الشاهقة بالقرب منه. وحين دخلنا هذا البيت العتيق لم يكن في انتظارنا غير أبو عمار ومعه أربعة أو خمسة من مرافقيه  الأبطال وعلى رأسهم فتحي الرازم "سلبد" الذي يسهر على راحة أبو عمار ولا يعرف النوم ولا يعرف الراحة في الليل أو في النهار.

العميد أبو الوليد عانق أبو عمار مهنئا وهو يقول "الحمد لله على سلامتك"،  كنت على حق حين قلت لنا أمس أن البناية مرصودة.

ظل أبو عمار صامتا. فقد رأى من وراء الأشجار الدمار الذي أصاب هذه البناية وسكانها وأبناءه الفدائيين. وللحق كان حزيناً وإن كان مصفحاً من داخله بصفيح القضية التي يحارب من أجلها. كان يتأثر ثم يستعيد تماسكه ويواصل العمل كالمعتاد. وقال أخيرا: هذا قدرنا وطلب مني أن أكتب البيان عن هذه الكارثة وعن "القنبلة الفراغية"التي ألقاها العدو على هذه البناية وهو على يقين أن أبو عمار داخل البناية. ولكن الله سلم. ومرة أخرى ألغى أبو عمار كل شبكة الاتصالات وكل الهواتف وكل السيارات وكل الملابس لتضليل المخبرين، لأن بيروت مدينة مفتوحة وبشير الجميل متواطئ مع شارون، وهذا أمر لا جدال فيه.

وضاقت بيروت وضاقت الدنيا، ولكن أبو عمار لا يتراجع عن تصميمه على الصمود ما دامت بيروت وأهلها صامدين. وإذا به يترك المنطقة كلها ويذهب إلى الفاكهاني الذي لحقه دمار هائل والمكاتب مهجورة، وهناك يسجل موقفا شجاعا قل نظيره. إنه يتفقد الأفران ويمسك رغيف الخبز، ويحمل الأطفال ليعطي صورة للعالم إنه صامد ولن ينحني للعدوان الإسرائيلي. ويومها يصرح مناحيم بيغن: هذا الرجل ذو اللحية، هل هو الذي يحاصرني أما أنا الذي أحاصره."وكان بيغن يرفض ذكر اسم أبو عمار، بل يقول "الرجل ذو اللحية."

ورتب له محمود اللبدي مسؤول الإعلام الخارجي لقطة مصورة  في ذروة القصف والحرب. إنه يجلس بهدوء ويلعب الشطرنج. وأذهلت هذه الصورة مناحيم بيغن وشارون، حيث كان شارون يهدد بأنه سيأخذ أبو عمار أسيراً ويضعه في قفص معلق في مروحية إسرائيلية ليراه العالم كله. إلا أن صورة الجنرال وقائد الصمود الذي يجد الوقت ليلعب الشطرنج قد جعلت العالم ينظر باحترام إلى هذا الرجل المدافع عن حق شعبه في الحياة والحرية، وفي الوقت نفسه كان داعية السلام الإسرائيلي يوري افنيري قد اجتاز كل خطوط المعارك وجاء لمقابلة أبو عمار الذي استقبله وقنابل الطائرات تتساقط فوق أحياء بيروت ومخيماتها. وقال أفنيري: إنه يدعو العالم للتحرك لوقف هذا العدوان الوحشي الذي تشنه بلدي "إسرائيل" ضد الشعب الفلسطيني: وأدعو العالم إلى إنصاف هذا الشعب وتمكينه من إقامة دولته الفلسطينية المستقلة جنبا إلى جنب وعلى قدم المساواة مع دولة إسرائيل.

وقد يكون في حصار بيروت وصمودها الذي استمر 88 يوما دون أن يحرك مجلس الأمن الدولي ساكنا، أكبر دليل على تواطؤ دولي وبالإجماع لمنع التغيير الكبير في الشرق الأوسط لمصلحة خلق القوة القادرة على تحرير فلسطين. فأيلول الأسود في الأردن عام 1970 كان وراءه تواطؤ دولي، وجاء الرئيس الأمريكي نيكسون على ظهر المدمرة الأمريكية "سراتوجا" ليقدم الإنذار تلو الإنذار لسوريا التي تدخلت قيادتها إلا أنها انقسمت تحت ضغط التهديدات الدولية والإسرائيلية. وأصبحت الدبابات السورية التي دخلت الأردن مكشوفة لضربة جوية إسرائيلية لأن قائد سلاح الجو السوري حافظ الأسد أدرك أن التدخل في أيلول كان مغامرة غير محسوبة. وفي حزيران عام 1976. جاء الدور على نظام الأسد ليقوم بما قام به الملك حسين في أيلول 1970، ووفر الملك حسين للأسد الموافقة الإسرائيلية المشروطة بعدم وصول الجيش السوري إلى الجنوب والى الحدود. ولأن للأسد حساباته الخاصة من وراء التدخل في لبنان، ولم يكن من بينها توفير الأمن على الحدود مع إسرائيل، بل كان حريصاً على نظامه كما الملك حريصا على عرشه، ولهذا فالأسد وقف عند تحقيق هدفه الخاص من وراء التدخل. إلا أن الأمن الإسرائيلي بقي مهددا من وجود الثورة في لبنان وفي مواجهة "البطن الطري"لإسرائيل، فوقعت العملية العسكرية التي أصابت إسرائيل كلها بالذهول والصدمة. أنها عملية الشاطئ في (11) آذار 1978 بعد أكثر من عامين على التدخل السوري وتشكيل قوات الردع العربية. وأدت هذه العملية بقيادة دلال المغربي إلى مقتل (36) إسرائيليا والسيطرة على الشاطئ لساعات طويلة. وردت إسرائيل على هذه العملية باجتياح جنوب لبنان في عملية أسمتها عملية الليطاني والتي أدت إلى تشكيل القوة الدولية "اليونيفيل" والى إصدار مجلس الأمن للقرار 425 الذي يطلب من إسرائيل الانسحاب من جميع الأراضي اللبنانية. وبالطبع لم تنسحب إسرائيل. وأمدت سعد حداد بقوتها العسكرية للسيطرة على القرى في الجنوب.

 وفي ظل عدم الحسم السوري ضد الثورة كان لا بد من الحرب الرابعة في عام 1982 لاستكمال ما عجز عن تنفيذه نظام الأسد، ولكن بعد توفير التواطؤ الدولي المطلوب، وحين غادر أبو عمار بيروت رد على الصحافيين بقوله " من هنا إلى فلسطين" وقبل هذا الخروج المشرف في نهاية آب 1982 لقوات الثورة وفصائلها والقيادة إلى تونس، كان هناك يوم لا ينسى، إنه يوم عيد ميلاد أبو عمار الذي يصادف الرابع من آب. وكانت قد مضت عدة أيام ولم أعرف أين يتواجد أبو عمار. إنه يعرف كيف يجد أياً منا نحن العاملين معه بشكل يومي، والسؤال عن مكانه لأي أحد هو مخاطرة. ولهذا في صباح هذا اليوم جاء فتحي وبمجرد حضوره إلى حيث نعمل في الجريدة اليومية، أعرف أن المطلوب أن أرافقه إلى حيث أبو عمار، وعلى الفور ودون كلام ودون أن أستأذن من العاملين أنسلُّ خارجا وبصمت وراء فتحي، وبمجرد اقترابنا أوقف فتحي السيارة  في زاوية ومشينا خطوات قليلة وكأننا مواطنون عاديون، وكان الشارع الذي انحرفنا منه إلى اليمين هو شارع مستشفى الجامعة الأمريكية، وسيارات الإسعاف بصافراتها لا تتوقف أبدا عن نقل الجرحى إلى المستشفى. نحن إذن في مواجهة مستشفى الجامعة ولا نبعد عنه مائة متر على أبعد تقدير، إنه مكان آمن حقا، وهبطت وراء فتحي إلى الدور الثالث تحت الأرض، وأعتقد أنه كراج للسيارات، وجدت أبو عمار ونايف حواتمة ومحسن إبراهيم وجورج حاوي الذي أحضر لأبو عمار كعكة عيد ميلاده على شكل دبابة "ميركافا" الإسرائيلية التي يدمرها الصامدون في بيروت بقذائف (الآر بي جي ) وكتب تحتها عبارة من التوراة. وهؤلاء اللبنانيون العظام كانوا أروع الأصدقاء وأصدق الحلفاء في الزمن الصعب، بل في الزمن العربي الرديء وفي لحظة انقلبت فرحتنا بعيد ميلاد أبو عمار إلى كابوس مرعب. 

إن القذائف تنهال على البناية ولا نعرف إذا كانت قذائف مدفعية أم طائرات تقصف البناية، ومن أين يأتي هذا القصف، هل من البحر؟ وهل من المنطقة الشرقية حيث بشير الجميل يأتمر بأمر شارون وجيشه، أما كعكة الميركافا فلم تمس أبدا، ولا بد من مغادرة هذا المكان، خوفا من تدمير البناية على رؤوسنا أو تدمير المدخل ونموت بالاختناق داخله. وأصدر أبو عمار أوامره بالتحرك على النحو التالي خمسة سيارات تخرج في موكب حتى يعتقد من يراقب المبنى أن أبو عمار قد خرج. وخرجت السيارات الخمس. وبعدها بدقائق قليلة كان أبو عمار ونايف حواتمة وأنا معهم في سيارة وحيدة وبلا حراسات نخرج من المبنى ونتجه إلى منطقة "كلمنصو." وهذه المنطقة تكاد تكون مطلة على بيروت الشرقية، ووجدنا مكانا لنا تحت الأرض في بناية قديمة، ودخلنا فإذا به مكان مهجور، ومليء بمواسير الماء الذي يتسرب على أرض هذا المكان المعتم ورائحته لا تحتمل، بسبب الرطوبة، وأعتقد أن هذه المواسير الضخمة كانت للمياه العادمة. وتوقف القصف بعد وقت قصير من خروج السيارات في الموكب الوهمي. وقرر أبو عمار أن نغادر وليس معنا أحد غير نايف حواتمة وبالطبع ( فتحي سلبد). وكانت وجهتنا منطقة فردان وفي مدخل بناية وفي كراج مغطى توقفت السيارة وقفز أبو عمار مسرعا وتبعه أبو النوف وأنا معهم، إنه مقر صغير للحزب القومي السوري في مقابل فندق البريستول. وكان خاليا  تماما ويبدو أن فتحي خلع الباب بالقوة. ومنذ وقت طويل لم نر الشمس الساطعة بحرارتها اللاهبة كما تدخل علينا الآن من النافذة المطلة على الشارع. وعند حلول الظلام تفرقنا، ولم نلتق طوال عشرة أيام. وكان الاجتماع الحزين الأخير في قبو السجاد عند محسن إبراهيم في منطقة المزرعة، يومها كان الخروج قد تقرر

الحلقة التاسعة :استقبال اسطوري لعرفات في أثينا

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة التاسعة :استقبال اسطوري لعرفات في أثينا
مجلة فلسطين الثورة كان يرأس تحريرها احمد عبدالرحمن

الفصل التاسع

سفر الخروج 


عرض أندرياس بابا ندريو رئيس وزراء اليونان على ياسر عرفات أن يقدم له جزيرة يونانية لإقامته ومقاتليه، تكريما لهذا المناضل في سبيل حريته وحرية شعبه. إنه زمن الأساطير، وكلمة فلسطين لاتينية يونانية، وأصل الفلسطينيين كما تقول بعض الروايات من جزيرة "كريت" اليونانية. ففلسطين في لغة اليوم هي "بلستينا" في التاريخ القديم، وهذه الأرض الواقعة بين البحر والصحراء تشكل العقدة لثلاث قارات. ويبقى سرها الدفين والذي لم يكتشف بعد، لماذا فلسطين دون غيرها أرض الرسالات السماوية الثلاث؟ ولماذا شهدت هذه البقعة الصغيرة من العالم الكبير معارك تاريخية حاسمة، الفراعنة والحثّيون، الفرس واليونانيون، والإسكندر المقدوني الذي صمدت غزة في وجه قواته، ونابليون الذي أعيته عكا فتراجع إلى مصر، وحطين التي غيرت التاريخ، وحروب القرن العشرين في فلسطين وعلى فلسطين. وقد تقرر الخروج بعد أن قال صائب سلام لأبو عمار: لقد نفذ السلاح والذخيرة من أيديكم وإن كنت تنتظر نصرة من أحد فأخبرنا لنصبر معك، ولا نرى بعد 88 يوما من الصمود أي أمل في النصرة من أحد. ولم يجد أبو عمار ما يقوله غير الإيماء الحزين بالموافقة. وعند خروجه قال: لو كانت بيروت مدينة فلسطينية فلن أغادرها أبداً. وكان العميد أبو الوليد قد أصر على أن أرافقه إلى سوريا، وقال إنه أمر باستئجار شقة في دمشق. وكانت علاقتي مع هذا الضابط الشجاع قد توطدت بحكم عملي اليومي مع أبي عمار. وغرفة العمليات التي يرأسها العميد أبو الوليد هي كذلك مركز قيادة أبو عمار. ولا يمر يوم دون أن نلتقي في غرفة العمليات لأن أبو عمار يضع الإعلام ودوره على نفس الدرجة من الأهمية التي يوليها للمقاومة والعمل العسكري. وكاد مصيرنا يتقرر مرتين سواء في القصف الجوي الإسرائيلي الذي دمر غرفة عمليات الغربي أو من "القنبلة الفراغية "التي دمرت بناية الصنايع. ولو تأخرنا نصف ساعة فقط لكنا تحت الركام مثل الضحايا الكثيرين. وكان بينه وبين نفسه يرى أن إصراري عليه في ذلك اليوم المشهود لتناول الغداء حيث أسكن في شقة في منطقة الحمراء بعد تدمير الشقة التي كنت أسكنها في الفاكهاني، كان يرى إصراري عليه تعبيرا عن صداقة وطيدة واحترام لا حدود له لقيادته الشجاعة. وكان لا بد أن أستأذن أبو عمار قبل أن أقرر الموافقة على العرض السخي من العميد أبو الوليد سعد صايل. وحين فاتحته بفكرة المغادرة مع أبو الوليد إلى سوريا، وقلت له: لا يوجد لدي أو زوجتي وأولادي أية أوراق ثبوتية أو جوازات سفر، وقد لا يكون سهلا علينا دخول اليونان، أما في سوريا فيدخل المغادرون على كشوف يوقعها العميد أبو الوليد.

ورد أبو عمار بجملة حزينة وجارحة حيث قال: وهل حين تغرق السفينة يبحث كل فرد عن مصيره الشخصي.

وأمر رئيس حرسه فتحي أن أكون وعائلتي إلى جانبه في السفينة المغادرة إلى اليونان. وأخبرت العميد أبو الوليد بما قاله أبو عمار، فقال: أتوقع ذلك، إنه لا يستغني عنك. " وقد غادر أبو عمار بيروت كأنه أحد أبطال الأساطير اليونانية فعلا. وداع، قدمه لبنان الوفي للقيم الرفيعة ولمن يحملها ويجسدها، لهذا القائد الذي ربط مصيره بمصير شعبه وأثبت في هذه الحرب أن مصيره الشخصي لا يعنيه فلا مسافة تفصله عن المقاتل واللاجئ الذي يناضل من أجل قضية عادلة. كل لبنان الوطني ودع أبو عمار بالزغاريد والرصاص والأرز، ورئيس الوزراء وقادة الحركة الوطنية كانوا في وداعه. وكان يوما لا ينسى في التاريخ، ومن المفارقات أن الصورة الوحيدة التي اعتبرتها الصحافة الإسرائيلية والفرنسية صورة العام بامتياز: هي صورة أبو عمار وبجانبه ابني "يزن"وهما ينظران إلى الأفق البعيد، وأبو عمار يردد للصحافيين على السفينة: من هنا إلى فلسطين."

وأبحرت السفينة عند الظهر باتجاه أثينا وترافقها السفن الحربية الفرنسية والأمريكية. واطمأن أبو عمار على مصير أهلنا في المخيمات مع وصول القوات الايطالية والفرنسية والأمريكية لهذا الغرض.

وفي أثينا، عاصمة اليونان، كان هناك الاستقبال الأسطوري، حرس شرف واستعراض ورئيس الوزراء باباندريو وكل الشعب اليوناني الذي يعشق الأساطير يرحب بأبي عمار. وحين وصلنا الفندق كان حكم بلعاوي سفيرنا في تونس ووفد رئاسي تونسي في طائرة خاصة لاستقبال أبو عمار ومرافقته من أثينا إلى العاصمة تونس. ولأنني يجب أن أرافق أبو عمار إلى تونس، فقد كان علي تأمين الأسرة التي لا تملك جوازات سفر. أما أبو عمار فلا توجد عنده مشكلة لا حل لها، ولهذا وخلال ساعتين، كانت لدي الأوراق الرسمية اليونانية التي تسمح لأسرتي بالسفر إلى قبرص والإقامة فيها لمدة شهرين، ريثما نحصل على جوازات سفر. وحكم بلعاوي النشيط والعملي والإداري الفذ قال: هذه مشكلة بسيطة نحلها خلال 24 ساعة بعد وصولنا إلى تونس. وأخذ الصور لكل أفراد العائلة ولي أيضاً. وبالفعل كانت جوازات السفر التونسية جاهزة بعد يوم واحد من وصولنا إلى تونس. وفي اليوم الثاني غادرنا أثينا بوداع حافل. ولن أنسى أبدا جمال اليونان الساحر على هذه الشواطئ الممتدة والتي تتحدث عن التاريخ. ودائماً وأبداً أظل مسحوراً بهذا التاريخ اليوناني الذي قدم للبشرية هذه العقول الجبارة التي رسخت عظمة العقل الإنساني.

الرئيس المجاهد الحبيب بورقيبة كان على رأس الاستقبال الحافل لأبو عمار في مطار قرطاج الدولي واصطحب أبو عمار إلى "قصر السعادة" وقال لأبو عمار هذا القصر هدية لك وتقديرا لكفاحك من شعب تونس. إلا أن أبو عمار شكره من قلبه على استقباله وتكريمه كل هذا التكريم وقال له: أرجو أن تقبل اعتذاري لأن علي أن أذهب إلى المقاتلين في وادي الزرقا، فهم عرفوا بوصولي ولا بد أن اطمأن عليهم. وكان معسكر وادي الزرقا يبعد أكثر من مائة كم عن تونس العاصمة. وأبو عمار لم يرتح ولو ساعة واحدة، واصطحبني معه إلى وادي الزرقا حيث المقاتلين الذين صنعوا مجد الصمود في بيروت، قد وصلوا ربما قبل يوم واحد فقط وهم يحفرون وينصبون الخيام ومرهقون وقلقون والمجهول أمامهم يعذبهم، وعليه أن يبعث الطمأنينة والثقة في نفوسهم. وقضى أبو عمار الليل بطوله يصافحهم ويطمئن على أحوالهم ويحل مشاكلهم كبرت أم صغرت. ولا أنس حين حاولت النوم في ساعات الفجر أن حشرة الناموس قد جعلت النوم من المستحيلات. إلا أن التعب والسفر والقلق قد هدني فعلا. وحين صحوت بعد ساعتين أو أكثر قليلا كنت منتفخا في يدي ورجلي ووجهي من قرص الناموس. وحين صحوت وجدت أبو عمار على أتم الاستعداد للمغادرة. وكنت إلى جانبه ونحن ندخل هذا الفندق الذي دخل التاريخ إنه "أوتيل سلوى" في ضاحية تونس الجنوبية في حمام الشط والذي تحول إلى قاعدة فلسطينية. وهنا تبدأ المرحلة التونسية التي استمرت من عام 1982 وحتى عام 1994. 

كانت غرفتي ملاصقة لمكتب القائد العام وبجوار المكتب الغرفة المخصصة لمنامه. وقد يكون قد مضى يوم أو يومان، وأنا أقوم بعملية تكيف قسري مع الوضع الجديد الذي وجدت نفسي فيه. وجوه كثيرة كانت تتحمل مسؤوليات كبيرة، تجلس الآن في هذا المكان وعلامات الإحباط بدت وكأنها حصار آخر، والفلسطينيون من أنحاء العالم أصبح "أوتيل سلوى" قبلتهم، يأتون للسلام على أبو عمار، ويأتون يحملون الأفكار والحلول لحالتنا الراهنة. ولا أخفي أنني فكرت في استكمال دراساتي العليا في العلوم السياسية والتي كنت بدأتها في الجامعة الأمريكية في بيروت، بمساعدة البروفيسور حنا بطاطو، والبروفيسور القدير وليد الخالدي والدكتور رشيد الخالدي. وكنت قد حصلت على "27" ساعة من أصل "33" ساعة مطلوبة لتقديم رسالة الماجستير في العلوم السياسية. وكنت اتفقت مع البروفيسور حنا بطاطو على أن تكون رسالتي للحصول على الماجستير بعنوان: "اثر البترول في السياسة الدولية."وكنت بهذه الأحلام والآمال أحاول أن أحارب الفراغ وأحارب اللاجدوى وأحارب الإحباط الذي أصابني كما أصاب الكثيرين بعد أن أصبحنا بعيدين عن فلسطين والفلسطينيين. أما الناس في تونس فهم طيبون ويتحدثون العربية والفرنسية ولهم لهجة مميزة وألفاظ ومفردات تختلف في معناها عن لهجة المشرق العربي. ولم أفاتح أحدا بما يدور في رأسي. فأنا الذي قضيت حياتي كلها في هذا الأتون الملتهب بدأت أحلم في استراحة المحارب، ولكن إذا كنت تعمل مع أبو عمار فليس لك أن تفكر وحدك، وليس لك مشاريع خاصة. هناك فقط مشروع صناعة التاريخ الذي يسكن أبو عمار، وأنت حين ارتضيت لنفسك أن تكون معه وإلى جانبه في هذا المشروع العظيم، فإنما تسدد فواتير القهر والظلم والتجاهل الذي جعل الكثيرين في الجغرافيا المحيطة ينظرون إليك باحتقار، كلما أقدمت على فعل بسيط تعلن فيه حضورك، وإنك لست من هذا القطيع المخدر بالأوهام والأكاذيب، ووحدك ترفض أفكارك العظيمة وتتذكر ما قاله أبو عمار حول الهروب من السفينة الغارقة. وتخرج من صالة الفندق وتعود إلى غرفتك، فإذا رجال أبو عمار يبحثون عنك، وتدخل مكتب أبو عمار، وترى أن لا شيء قد تغير، إنه بكامل ملابسه العسكرية ووراء مكتبه ينهمك في الاتصالات والأوراق. ويقول لك: القمة العربية في فاس بعد ثلاثة أيام، ولا بد من كلمة لنا في هذه القمة. وأخذ يعدد لي عناصر الخطاب الذي سيلقيه أمام القادة والرؤساء العرب، وأنا أكتب رؤوس أقلام. فأنا أحفظه غيبا وأكاد أتوقع كل كلمة وكل موقف يريد أن يطرحه على الرؤساء العرب. ولن يطول الوقت أكثر من ساعتين حتى عدت إليه ومسودة الخطاب جاهزة لمراجعتها. وهو لا يترك كلمة أو جملة إلا ويتوقف عندها وهو يمسك بقلمه الأحمر. وحين يكتب بالقلم الأحمر سطرا أو أكثر أقول له لو تكمل الخطاب حتى نهايته فهذه موجودة، فيرد علي بقوله: "الله يفتح عليك أنا أرتب أفكاري كما أريدها أنا. " وحين ينتهي من المراجعة أقوم بإعادة كتابة الخطاب وأقدمه له ثانية. فيقوم بالشطب أو الإضافة. وفي الطائرة التي أقلتنا إلى مدينة فاس في المغرب، قام بمراجعة الخطاب وبيده قلمه الأحمر، وداعبته بكلمة القاضي الفاضل وقلت له: لو أن الكاتب قام بمراجعة ما كتب لما كتب كاتب شيئا." والقاضي الفاضل هو كاتب صلاح الدين. ويواصل أبو عمار انكبابه على الخطاب ويقول: "لكل شيخ طريقة." وحين اقتربنا من أرض المغرب، فاجأ أبو عمار الوفد والمرافقين بأن يهبط الجميع من الطائرة باللباس الرسمي المدني وربطة العنق. ولم أكن أعلم أن الملوك والقادة العرب قد قرروا استقبال أبو عمار في المطار. وكانت لحظة تاريخية لن ينساها التاريخ. فالأمة كلها بملوكها ورؤسائها تستقبل قائد الشعب الفلسطيني الذي صمد في بيروت 88 يوما ولم يرفع الراية البيضاء، ولم يغادر بيروت في حماية الصليب الأحمر الدولي بل صمد وصبر حتى حقق الخروج المشرف له ولرجاله. ولو كانت بيروت مدينة فلسطينية لما غادرها أبدا، وقد ظل يرددها لفترة طويلة. 

وقفنا بعيدا وأبو عمار يخطو خطواته الواثقة فوق البساط الأحمر ويتجه بكل كبرياء لعناق الملوك والرؤساء الذين قدموا أقصى ما يمكن تقديمه لرجل نذر نفسه لمواجهة هذا الجرح النازف في الضمير العربي. وفي قصر الضيافة الذي خصصه له الملك الحسن الثاني، كان أحمد بن سودة، مستشار الملك، لا يفارقه أبدا. وفي جلسة القمة العربية ألقى أبو عمار خطابه. وكان خطابا تصالحيا مع الأشقاء جميعا. وفي السياسة طرح الممكن العربي وهو استرجاع الأراضي الفلسطينية والعربية التي احتلت عام 1967. وكعادته يرسل إشارات للقوى التي تقف وراء إسرائيل علها تتعقل وتعترف به وبشعبه. ويكتفي بالقول بأن نقاطا إيجابية في مبادرة ريغان، وإن القيادة تدرسها والباب مفتوح لمزيد من التوضيح المطلوب من أصحاب هذه المبادرة. وتمسك بالانسحاب الكامل دون قيد أو شرط وتمسك بالاستقلال الناجز وبالدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وهذا بالضبط ما يجب أن يصدر عن القمة العربية التي خرج ملوكها ورؤساؤها إلى المطار لتكريمه. ولا ينس أن يشيد بالأمير فهد ومبادرته. ويتحاشى ذلك الجدل العنيف بين الأسد وصدام حسين حول قضية ال "45"كم التي كانت حسب ما قاله الأسد في القمة، المدى الأبعد للهجوم الإسرائيلي. وقيل في حينه أن تطمينات أمريكية قد تلقاها الأسد حول حجم ومدى الهجوم الإسرائيلي، وبالتالي وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه، حين اقتربت القوات الإسرائيلية من سهل البقاع. فلم يكن هدفها الوحيد قوات الثورة الفلسطينية ضمن عمق"45"كم ولكن الهجوم الإسرائيلي البري والجوي كان يستهدف قواعد الصواريخ السورية في البقاع وكتائب الدبابات. وكانت الكارثة الجوية للمقاتلات السورية لا تقل فداحة عن  العدوان الجوي الإسرائيلي صبيحة الخامس من حزيران 1967 حيث دمرت الطائرات المصرية وهي في مرابضها.

أما ما حدث للطيران السوري، فكان في الحقيقة كمين جوي في غاية الدقة لتدمير المقاتلات السورية حيث خسرت سوريا"80"مقاتلة خلال أربعة أيام وهذا ما أجبر نظام الأسد على الموافقة على اتفاق وقف إطلاق النار صباح يوم 11حزيران 1982.

وقد أصدرت القمة العربية الثانية عشرة في فاس قراراتها، وخاصة اعتماد مبادرة الأمير فهد بما تضمنته من ضمان مجلس الأمن لأمن دول الشرق الأوسط. وقد أغضبت قرارات القمة أبو صالح وطلال ناجي وأبو ماهر اليماني أعضاء الوفد الفلسطيني. وأصدر أبو صالح وهؤلاء تصريحا صحفيا يعلنون فيه معارضتهم لهذه القرارات. والأمر الغريب هو الموقف العنيد والمتصلب من أبو صالح وخاصة أن بيننا علاقات صداقة ومودة شديدة على مدى سنوات. وحاولت عبثا إقناعه بأن ما نطلبه موجود في القرارات، الدولة المستقلة، تقرير المصير، حق العودة للاجئين، الانسحاب الكامل من جميع الأراضي المحتلة. وفي الواقع غادر أبو صالح إلى دمشق ومعه طلال ناجي وأبو ماهر اليماني في طائرة الأسد. وهذا الموقف أثار شكوكا لدي بعد لقاء أبو صالح مع الأسد لمدة سبع ساعات في دمشق قبل فترة قصيرة.

وبعد انتهاء القمة العربية في فاس التي ركزت على إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشريف عدنا إلى تونس. وأخبرني أبو عمار في الطائرة أن الأسد لم يخرج مع الملوك والرؤساء العرب لاستقباله ولم يلتق معه أبدا أثناء أعمال القمة. وحدثني كذلك عن اتهام صدام حسين للأسد بالتواطؤ مع إسرائيل وأمريكا ضد الثورة الفلسطينية. وأما عن أبو صالح، فقال أبو عمار: "يبدو أن في رأسه موال." ولم يوضح ما يعنيه بالموال، وقلت لأبو عمار أن اغتيال ماجد أبو شرار في روما في 9/10/1981 قد ترك "أبو صالح"تحت رحمة أبو خالد العملة. وهناك معلومات غير مؤكدة أن أبو خالد العملة قد أقام علاقات مع المخابرات السورية ورد أبو عمار علي بقوله: "صح النوم، معلوماتك قديمة."

ومساء 14 أيلول 1982 كان الخبر الأول في الإذاعة والتلفزة أن انفجارا وقع في بيت الكتائب في الأشرفية. وجاء في الخبر الثاني أن بشير الجميل الذي انتخب رئيسا للبنان قبل أقل من شهر كان يرأس اجتماعا هناك. وجن جنون الناس في أوتيل سلوى من الفرح. فبالنسبة للفلسطينيين فهذا الولد الفاشستي الدموي هو من تجاوز كل الحدود وكل المحرمات، وسلم مفاتيح بيروت لشارون تماما كما فعلها الوزير العلقمي الذي سلم مفاتيح بغداد عاصمة العباسيين لهولاكو التتري في عام 1258 ميلادية ليقضي على الحضارة والعلم والثقافة في عاصمة الرشيد. وأما الخبر الثالث، فكان أن الانفجار كان كبيرا لدرجة أنه دمر كل المبنى على من فيه. وتبين بعد مرور ساعتين أن بشير الجميل قد قتل في الانفجار. وللتاريخ أقول أن المقارنة بين العلقمي والجميل كانت من أبو عمار. وكان قد تلقى دعوة لمقابلة بابا الفاتيكان في روما في اليوم الثاني 15/9/1982، ولم أكن ضمن هذا الوفد بل كلفني أبو عمار أن أبدأ في تجميع العاملين في الإعلام وفي مجلة "فلسطين الثورة" في قبرص لإصدارها من هناك. وكان استقبال البابا لأبو عمار وهو الأول يحمل رسالة لكل المسيحيين في العالم تتضمن مباركة قداسته لهذا القائد الفلسطيني. وفي الوقت نفسه تدين وبشدة الجرائم الإسرائيلية التي استمرت طوال 88 يوما ضد بيروت وضد المخيمات واللاجئين المشردين من وطنهم. وقد غادرت تونس صباح يوم 16/9/1982 لأبدأ إصدار مجلة "فلسطين الثورة" في قبرص، ولأنه لا يوجد خط طيران مباشر بين تونس وقبرص فقد قضيت الليلة في أثينا، وصباح يوم مجزرة صبرا وشاتيلا 17/9/1982 كنت في قبرص في نيقوسيا، مجزرة صبرا وشاتيلا التي دبرها شارون وآيتان ونفذها المجرم إيلي حبيقة وعصاباته الفاشية ستظل وصمة عار إلى الأبد في جبين المحتلين وعملائهم، وكما قال شاعرنا العظيم محمود دوريش : "صبرا هوية عصرنا حتى الأبد".

وبالطبع سرعان ما تنطلق سهام الحقد الأسود ضد أبو عمار وضد فتح من أولئك الذين كانوا أول من اقترح الخروج من بيروت تحت راية الصليب الأحمر الدولي. وأبو عمار هو الذي صمد طوال هذا الوقت من أجل أمرين إثنين، الأول: وجود ضمانة دولية لحماية المخيمات، والثاني: أن يضمن "الخروج المشرف." وأما حتمية الخروج فكانت دون مواربة مطلبا لبنانيا من الشخصيات التقليدية ومن القوى الوطنية على السواء بعد أن استحالت كل الحلول الأخرى. فإسرائيل لديها الدعم الأمريكي الأعمى من الكسندر هيغ وزير الخارجية الأمريكي، والأوروبيون في العادة يتبعون القرار الأمريكي مع بعض المواقف اللفظية التي لا تغير شيئا في القرار الأمريكي، والاتحاد السوفياتي غائب عن الساحة الدولية بعد وفاة بريجنيف.

وبدا شباب الإعلام ومجلة "فلسطين الثورة" يتوافدون على نيقوسيا. وبمساعدة الشباب العاملين في مكتب المنظمة أصدرت العدد الأول من "فلسطين الثورة" وعدد صفحاته "36"صفحة وليس "52"صفحة كما هو معتاد. وكتبت كل المقالات والتعليقات. واستعنت بالصحف القبرصية لأخذ الصور المناسبة للمجلة، ولأن قبرص بلد خدمات سريعة فإن المجلة صدرت فعلا وأرسلتها إلى أبو عمار وإلى عناوين كثيرة على مستوى العالم. ولم تمض سوى أيام قليلة حتى كان العدد الأكبر من هيئة تحرير "فلسطين الثورة" قد وصل إلى قبرص وبدأت المجلة تصدر أسبوعيا وبانتظام من قبرص حتى توقيع اتفاق أوسلو وقيام السلطة الوطنية ووصول أبو عمار إلى غزة أول تموز 1994.

الحلقة العاشرة : اليوم ضاعت فلسطين

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة العاشرة : اليوم ضاعت فلسطين
مع سلطان عُمان
·                             
الفصل العاشر

اليوم ضاعت فلسطين 


عام 1977 قال السادات أن 99% من أوراق الحل في يد أمريكا. وفي 9 نوفمبر 1977 ألقى السادات خطابا، وألقى القنبلة القاتلة وأعلن أنه مستعد لزيارة إسرائيل من أجل السلام. وكان أبو عمار يحضر جلسة مجلس الشعب. وحين أنهى السادات خطابه وكما جرت العادة يقف أعضاء المجلس ويصفقون ووقف أبو عمار أدبا واحتراما وصفق مع المصفقين، وعاد إلى بيروت في اليوم التالي دون أن يصدق ما سمع من السادات، فلم يكن لديه علم باتصالات حسن التهامي مع عيزر وايزمان ومع موشيه دايان في المغرب.

وظل أبو عمار متشككا في إقدام السادات على الزيارة التاريخية لإسرائيل حتى يوم موعد الزيارة 19/11/1977 إلى لحظة هبوط الطائرة ونزول السادات من على سلم الطائرة وبيغين في استقباله. في ذلك اليوم طلب أبو عمار من أبو الهول مسؤول الأمن المركزي أن يقوم القسم الفني في الأمن بترتيب نقل حي ومباشر للحظة هبوط الطائرة في مطار بن غوريون / اللد. وظل هذا الترتيب سريا ولم يكن مع أبو عمار أحد غيري وأبو الهول. وبدا النقل الحي من المطار قبل وصول الطائرة بدقائق والمذيع يعدد أسماء المسؤولين الإسرائيليين الذي جاءوا لاستقبال السادات.

وكان أبو عمار صامتا طوال الوقت وعيناه لا تفارقان الشاشة وكأنه غير مصدق أن السادات سيصل فعلا. وظهرت الطائرة المصرية في الأجواء وأخذت تستعد للهبوط في أرض المطار، وأبو عمار يحملق ويمسك ذقنه بيده، ولم يكن شارد الذهن، بل كان غير مصدق لما يرى من حدث صاعق كان في أعماق نفسه لا يتوقع حدوثه أبدا، وحين ظهر السادات وهبط سلم الطائرة وراح يصافح مستقبليه قال أبو عمار جملة وحيدة ورددها عدة مرات: "اليوم ضاعت فلسطين."

وقد لا يصدق أحد أنني رأيت عينيه وقد اغرورقت بالدموع. وأبو عمار كان يقول عن نفسه دائما أنه مصري الهوى، ليس له ولفلسطين حليف ثابت وغير مراوغ غير مصر. والآن أسقط في يده. فرئيس مصر يزور إسرائيل. وأصبح ظهر أبو عمار مكشوفا من الأعداء والأشقاء على حد سواء. وتوليت تغطية الموقف بتصريح نسبته لأبو  عمار، بأن الثورة ضد هذه الزيارة المشؤومة لإسرائيل وهي تفريط بفلسطين ومناشدة للشعب المصري لرفض هذه الزيارة. وكان أبو عمار يعرف عن يقين أن رفض زيارة السادات بالنسبة لي لا يعني الارتماء في أحضان سوريا وغيرها من قوى المشرق والمغرب التي لا يمكنها أن تعوض غياب مصر. ومضت أكثر من عشرة أيام وأبو عمار في حالة ارتباك شديد دون أن يقطع الأمل بمصر. وعلق على خطاب السادات في الكنيست عن فلسطين والدولة الفلسطينية، بأنه "ذر للرماد في العيون. " وكنت ألمس أنه من جانب خفي يراقب الموقف المصري لحظة بلحظة، ولا يعير أهمية لاستقالة إسماعيل فهمي أو محمد إبراهيم كامل أو اعتراض الدائرة القانونية في وزارة الخارجية المصرية على اندفاع السادات غير المدروس وعدم إصغائه لرأي الخبراء في هذه المفاوضات التي أخذ السادات يديرها لوحده. وكان يقول: "مصر هي مصر وحاكم مصر فرعون."وفي الوقت الذي احتضن أبو عمار المعارضين المصريين الذين قصدوا بيروت، حيث الثورة، فإنه لم يقطع شعرة معاوية مع مصر من خلال سعيد كمال، فعزله وسحبه وأبقاه في الوقت نفسه. وكان أحمد صدقي الدجاني في موقع الحيرة وهو مقيم في مصر. أما جمال الصوراني فأبعدته المخابرات المصرية خارج الأراضي المصرية وأغلقت صوت فلسطين  وطردت الكثير من طلاب الجامعات من أبناء فلسطين لمعارضتهم زيارة السادات. وحامد أبو ستة قد أبعد أيضا. وتشكلت جبهة الصمود والتصدي في طرابلس الغرب في أول ديسمبر 1977 بعد أسبوعين من زيارة السادات. ولم يكن في وسع أبو عمار أن يرفضها، فذهب إلى ليبيا ووافق على الميثاق والبيان وعزل مصر. وكان الذي أغضب أبو عمار أن القذافي دعا الأمناء العامين للفصائل دون معرفة أبو عمار، وكظم أبو عمار غيظه ووقع مع الفصائل على "بيان الوحدة" الذي أعده القذافي. ولكنه لم يوقع بنفسه بل وقعه حامد أبو ستة عن المنظمة وعن فتح وقعه أبو إياد، وهكذا عرف أبو عمار كيف يبقي له هامشا مع مصر وحاكمها.

جاءت زيارة السادات لإسرائيل وقد أحكم حافظ الأسد سيطرته على لبنان كله. وتقلصت إلى حد كبير قدرة الثورة على التحرك ضد إسرائيل وسعد حداد. وقبل ذلك كان اغتيال كمال جنبلاط في 16 آذار 1977  قد أفقد الحركة الوطنية قيادتها الشرعية وراحت تنكفئ وتنقسم. ووقع اغتيال كمال جنبلاط أثناء الدورة الثالثة عشر للمجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة وسميت الدورة دورة، كمال جنبلاط.

 وحمل فوز جيمي كارتر بالرئاسة بعض الآمال والتصريحات لصالحنا من سايروس فانس وكارتر نفسه. إلا أن فوز حزب الليكود بزعامة مناحيم بيغين في الانتخابات الإسرائيلية حطم كل الآمال والأمنيات الفلسطينية والعربية المعلقة على الرئيس كارتر. وشعر الأسد بخطورة الموقف خاصة بعد اتفاقية سيناء الأولى والثانية وتدهور علاقة السادات مع السوفيت وقوله أن 99% من أوراق الحل بيد أمريكا. ولهذا دعا الأسد لتشكيل وفد عربي موحد للمفاوضات بهدف تقييد السادات ولوقف خطواته المتسارعة وصولا لحل منفرد. وفي أوائل ديسمبر 1977، أطلق بريجنسكي صرخته المدوية "وداعا لمنظمة التحرير الفلسطينية " والتي أحسن أبو عمار توظيفها لتبديد الشكوك حول سياسة المنظمة النابعة من استقلاليتها وتجربتها المريرة في ممر الماراثون، وعدم استعداد أبو عمار لإسقاط مصر من حساباته تحت كل الظروف. وضاقت الهوامش أكثر فأكثر أمام المنظمة واشتد ساعد جبهة الرفض، وتراجعت واشنطن عن البيان السوفياتي _ الأمريكي  حول حقوقنا الوطنية ودور المنظمة. وعاد قيد كيسنجر ليقيد السياسة الأمريكية. ولم تقبل واشنطن باقتراح حول التمثيل من خلال الأكاديميين إدوارد سعيد وإبراهيم أبولغد. وأما سعيد كمال وهو دبلوماسي فلسطيني بارع فقد طواه النسيان لفترة طويلة بعد سيناريو فندق "ميناهاوس " الفاشل. وهل فعلا وضع المصريون العلم الفلسطيني؟ وهل فعلا رفضت إسرائيل دخول وفدها إلا بعد سحب العلم والاسم والبطاقة؟ وهل فعلا لم يذهب سعيد كمال وأحمد صدقي الدجاني إلى ميناهاوس؟ وفي هذا الجو الملبد بالغموض والغيوم، هاجمت إسرائيل قوات الثورة في الجنوب في 20 أيلول 1977 دون أدنى استفزاز فلسطيني بل لقطع الطريق على تصريح غامض من سايروس فانس حول الحقوق المشروعة للفلسطينيين. ومع أن جبهة الصمود والتصدي لم تحرك ساكنا ولم تتدخل إلا أن إسرائيل فشلت في تحقيق ما ترمي إليه. وجرى قصف شمال فلسطين بالمدافع بعيدة المدى، وهرب سكان كريات شمونة وكثير من المستوطنات مما أرغم إسرائيل على الموافقة على أول اتفاق لوقف النار بين المنظمة وإسرائيل. وكان أن عقد في ذلك الوقت مؤتمر الجزائر لوزراء إعلام جبهة الصمود والتصدي. وكان الوفد الفلسطيني يتشكل من ياسر عبد ربه ومن أحمد عبد الرحمن. وأصدر المؤتمر بيان الشعارات المعروفة. ولم نكن لنعترض على شيء. فنحن في موقف لا نحسد عليه. وحين انتهى المؤتمر قال لي ياسر عبد ربه، ما رأيك أن نمر على ليبيا فللجبهة بعض القضايا المالية، فالوزير الليبي أبدى استعداده لنقلنا معه فلديه طائرة خاصة. وبالفعل توجهنا إلى ليبيا بمعية الوزير الليبي، وفوجئنا في المطار أن الكاميرات من التلفزيون الليبي بانتظارنا ولحظة اقتربت الكاميرا قبل أن ندخل الصالة اختفيت بين الذين استقبلوا الوزير الليبي أمام سلم الطائرة وبالتأكيد لم أكن معروفا بحيث تركز الكاميرات علي.

وأدلى ياسر عبد ربه، وكان حينها عضو في المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية وهو كذلك عضو في اللجنة التنفيذية  بتصريح للتلفزيون الليبي أكد فيه على الدور الليبي في مساندة الشعب الفلسطيني. نزلنا في فندق الشاطئ وهو ملتقى اللاهثين وراء المال الليبي، في ضيافة العلاقات الخارجية أو مكتب الاتصال الخارجي أو القومي. وتناولنا طعام الغداء بدعوة من مسؤول هذا المكتب. وبدا يتكلم بغطرسة وفوقية، وعلى الفور قمت بالرد عليه بكل عنف، وحاول ياسر عبد ربه ترطيب الأجواء وتناسي الخلافات القديمة، ولم يكن ياسر يؤمن بكلمة مما يقوله، ولكنه يجاري الأوضاع، فعليه أن يعود إلى بيروت وقد حقق شيئا لصالح الجبهة الديمقراطية واحتياجاتها.

على كل حال انتهى الغداء وعدنا إلى الفندق لنرتاح ووجدنا في الغرف الكتاب الأخضر والمؤلف العقيد القذافي. وبعد أقل من ساعة رن التليفون وقال المتحدث: أستاذ أحمد عبد الرحمن وقلت له نعم، قال تفضل تحت فنحن بانتظارك وقلت له من أنتم، فقال وكالة الأنباء.

وكان لدى ياسر خبرة أكثر مني، فقد أخبرني أنهم اتصلوا به قبل أن يتصلوا معي ولكنه اعتذر لأنه نائم ويشكو من صداع شديد. ولم يكن لدي خيار سوى أن أنزل إلى الصالة لمقابلتهم، وفي زاوية معزولة عن الصالون الكبير كان يجلس شاب ومعه جهاز تسجيل ووراءه يجلس رجل آخر صامتا وكأنه يراقب عمل الصحافي وسلمت عليهما وجلست قبالة الصحفي الذي أخذ يسألني عن الهدف من زيارة ليبيا، فقلت له في الحقيقة كنا نحضر مؤتمر وزراء إعلام جبهة الصمود والتصدي في الجزائر ونقلنا وزير الإعلام الليبي مشكورا، وغدا نغادر إلى بيروت.

وكان السؤال الثاني أكثر مباشرة وهو السؤال الذي قدم من أجله، إنه السؤال عن الكتاب الأخضر باعتباره الحل السحري لمعضلة البشرية، وقال الصحافي: نريد أن نسمع رأيكم في الكتاب الأخضر؟ 

وهنا طفح الكيل وأعترف أنني حنبلي في هذا الموقف كما في مواقف كثيرة. ورحت أجيب على السؤال بطريقة مسرحية هذا الكتاب يحتاج إلى سنوات وسنوات لفهم أفكاره ومعانيه البعيدة، إنه يحتاج إلى ثلاث سنوات حتى يمكن قراءته بمسؤولية والرد على أي سؤال حوله، لا يمكن قراءته في ساعة أو ساعتين، إنه بأهمية رأس المال لكارل ماركس.

وحين سمع الجالس وراء الصحافي الجملة الأخيرة قال للصحافي أغلق المسجل. وغادر والصحافي يجري وراءه.

وعدت إلى الغرفة واتصلت مع ياسر وأخبرته بما حدث فقال لي "خربت بيتنا." وناداني ياسر إلى غرفته فإذا الهاتف يرن وسأل  ياسر من المتحدث فقال: مدير الفندق وبعد دقيقة لا أكثر قال له ياسر: قل لهم شكرا وأغلق سماعة الهاتف وهو يقول لي: مكتب العلاقات الخارجية طلب إلغاء إقامتنا على حسابه، فنحن لم نعد ضيوفا عندهم. وبالفعل فوجئت من هذا التصرف الذي توقعه ياسر عبد ربه حين قال "خربت بيتنا".

وصباح اليوم التالي غادرنا إلى المطار. ولم يحضر أي من المسؤولين لتوديعنا أو على الأقل لتوديع ياسر عبد ربه عضو اللجنة التنفيذية ونايف حواتمة وضيف وزير الإعلام الليبي. وفي المطار أخذوا حقيبة اليد التي نضع فيها بعض الملابس واختفت الحقيبتان في التفتيش وغادرت الطائرة المتوجهة إلى أثينا وبيروت. وقلنا لهم مستعدون للسفر إلى أي مكان وعلى أي طائرة المهم أن نغادر. وبعد سبع ساعات ومع اقتراب المساء، وجدوا لنا مكانين، ولكن في طائرتين مختلفتين واحدة إلى بلغراد والثانية إلى براغ.

كان عام 1979 عام غياب الهوامش أمام فتح. فالسادات وقع معاهدة السلام المصرية _ الإسرائيلية في أيلول 1978. وتبخر الأمل الضعيف في التزام السادات بما قاله في خطابه في الكنيست عن الدولة الفلسطينية والانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967. والميثاق القومي أكتوبر 1978 بين البعثيين اعتبر قضية فلسطين قضية قومية. ومعنى قومية هنا مصادرة القيادة والقرار وإسقاط القيادة الوطنية وهي فتح واستبدالها بقيادة تابعة للبعثيين. وهنا نلاحظ أن الفصائل عامة ضعيفة الإيمان بجدوى الاستقلالية الفلسطينية وأمام أي بصيص أمل تترك فتح وحدها تدافع عن استقلالية الحركة الوطنية الفلسطينية وتجري وراء سراب قومية المعركة. وحصل الشيء نفسه في أول اجتماع لجبهة الصمود والتصدي حيث كان الهدف من الاجتماع الانقلاب على فتح وإسقاط قيادتها. وفضح أحد الحاضرين لياسرعرفات وقائع الاجتماع السري طوال الليل مع الفصائل بمشاركة القذافي والأسد والهدف الوحيد كيف يمكن التخلص من فتح وياسر عرفات.

بعد عودتي إلى بيروت من  لقاء الجزائر وما حدث معنا في ليبيا، كتبت افتتاحية في "فلسطين الثورة" اليومية والأسبوعية وكانت تحت عنوان: ماذا فعلتم ضد كامب ديفيد؟ وأثار المقال ردود فعل غاضبة وخاصة من البعثيين في سوريا والعراق والعقيد القذافي. ولكن أبو عمار هذه المرة لم يعترض وينتقد ولم يوجه. ولهذا استرسلت في كتابة المقالات وقضايا الثورة حول كل صغيرة وكبيرة توجه ضد الاستقلالية الفلسطينية. وفي جلسة مع محمود درويش ومعي في قاعة فندق شيراتون بدمشق في ظل الميثاق القومي وانعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في أواخر يناير 1979، فضح سعدون شاكر وزير الداخلية العراقي الخطة المرسومة لإعادة تشكيل اللجنة التنفيذية بأغلبية الفصائل التي تلهث وراء السراب. وقد أخبرت أبو عمار بكل تفاصيل لقائنا مع سعدون شاكر.

 وحين عرض زهير محسن خطة التشكيل الجديد للمنظمة ومعه الفصائل وجبهة الميثاق القومي، رفض أبو عمار الخطة ووقف وقال: من كان مع فلسطين ومع فتح فليغادر هذه القاعة وفي اللحظة نفسها بدأت على الفور الهتاف داخل القاعة "غلابة يا فتح غلابة" وأنا ابن فتح ما هتفت لغيرها. "وحملني عبد المحسن تل الزعتر على أكتافه وسار بي بين صفوف الأعضاء الذين وقفوا جميعا وغادروا القاعة. وانهارت الجلسة وانهارت المؤامرة على الشرعية وعلى حق الشعب الفلسطيني في أن يكون له حركته الوطنية وقرارها المستقل. وأعاد أبو عمار تشكيل اللجنة التنفيذية برئاسته ومشاركة الفصائل، واحتفظت المنظمة باستقلاليتها ورفض احتوائها من قبل أية جهة سواء كانت من دعاة قومية المعركة  في جبهة الصمود والتصدي أو جبهة الرفض الفلسطينية المدعومة من العراق.

وخرجت فتح سالمة من هذا المجلس الوطني الذي كان الأسد يسعى من ورائه إلى احتواء الثورة الفلسطينية وتقييد ياسر عرفات إن لم يستطع تغييره. وفي ذروة هذا الانتصار الذي حققته الحركة الوطنية بتأكيد استقلاليتها وقعت جريمة اغتيال أبو حسن سلامة مسؤول قوة ال (17) حيث جرى تفجير سيارته "بالرموت كونترول." فاستشهد ومن كان معه من حراسه. وكان أبو حسن سلامة قريبا جدا من أبو عمار وموضع ثقته والقوة التي باليد، كما كان يقول أبو عمار، وقد أدى اغتياله إلى فقد أبو عمار لفارس من فرسانه وإصابته صدمة شديدة. وعدت معه من دمشق إلى بيروت في ذلك المساء الحزين. وذهبت مباشرة إلى مكاتب "فلسطين الثورة" وكتبت مقالا في الجريدة اليومية بعنوان: "أيها الكبير تجمل بالصبر" وقد استعرت حديث الرسول الكريم وهو يتحسر على وفاة إبنه إبراهيم " إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون. " وفي المساء بعد التشييع رأيت أبو عمار يقرأ ما كتبت ويقول لي "بارك الله فيك." هذا هو الوفاء، وهذا هو قانون المحبة.

كانت خسارة أبو حسن بالنسبة لأبو عمار لا تعوض، كونه الذراع الأمني الضارب في الوضع الداخلي في غابة البنادق في جمهورية الفاكهاني. وأيضا كان أبو عمار يكلفه بإجراء الاتصالات مع حزب الكتائب ومع الجبهة اللبنانية للتوصل إلى اتفاق معهم يبعدهم عن إسرائيل ويضع حدا لخطة حافظ الأسد لاحتواء لبنان بمن فيه، ويصادر بالتالي الاستقلالية الفلسطينية واللبنانية سواء على الأرض أو في المجال السياسي. وقد تولى أبو حسن إجراء الاتصالات السرية مع المخابرات المركزية (CIA) لتأمين خروج الأمريكيين من بيروت وقدم الحماية للسفارة الأمريكية حين أصبحت بيروت ساحة حرب بين الغربية والشرقية خاصة مع انفجار  "معركة الفنادق"وبرج المر. أما الأمريكيون  فلم يقدموا شيئا للفلسطينيين بل ظلت عبارة بريجنسكي الشهيرة "باي باي PLO"على مدى سنوات تلخص الموقف الأمريكي والقيد الذي قيد  به كيسنجر السياسة الأمريكية بعد توقيع اتفاقية سيناء الثانية، حيث وافق للإسرائيليين على عدم الاتصال الأمريكي بالمنظمة أو دعوتها لمؤتمر جنيف إلا بعد موافقتها على شروط تعجيزية ما كان يمكن للمنظمة أن تقبلها وهي تخوض الحروب على كل الجبهات. ولهذا ضاعت النوايا الطيبة للرئيس كارتر ووزير خارجيته "سايروس فانس " بفعل صلابة القيد الذي وضعه كيسنجر. وعلى الرغم من أن الوعي الوطني العام ومنذ عام 1974 وبرنامج النقاط العشر أصبح أكثر واقعية لإدراك الحقيقة التاريخية المرة أن تحرير فلسطين  من البحر إلى النهر ومن رأس الناقورة إلى رفح أصبح هدفا مستحيلا، إلا أن الشروط الأمريكية _ الإسرائيلية كانت وراءها عقلية كيسنجر الشريرة، وهو العالم بأمور السياسة والصراعات في الشرق الأوسط، بحيث يضع شروطا لا يمكن لأبو عمار أن يقبلها لاستحالة تمرير هذه الشروط في الوضع الفلسطيني المعقد بحكم حالة التداخل والتشابك الصراعي بين أنظمة سايكس _ بيكو والثورة الفلسطينية. وحين خسرنا قاعدتنا الآمنة في لبنان بعد حرب عام 1982 كانت الانتفاضة الأولى في أواخر عام 1987 هي التي أنقذت الحركة الوطنية الفلسطينية وفتح وأبو عمار من الموت في المنفى. وعرف أبو عمار كيف يجعل منها الرافعة التاريخية لتحقيق أول إنجاز على أرض الوطن وهو قيام السلطة الوطنية الفلسطينية. فالانتفاضة وضعت في بياناتها المتتابعة الأهداف المحددة لها وهي طرد الاحتلال من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشريف وقيام دولة فلسطينية مستقلة، وبهذا حددت الانتفاضة جهارا نهارا ما كنا نمرره في بياناتنا وقراراتنا من وراء ظهر كل اجتماع يعقده أبو عمار لتحديد الموقف السياسي، أمام التصلب المستميت للتمسك بكل صغيرة وكبيرة تخص فلسطين تحت عنوان "الحقوق التاريخية. "وهكذا كانت لغة الرفض تنطلق من الحقيقة التاريخية بأن فلسطين للفلسطينيين إن إسرائيل اغتصبت فلسطين وأقامت دولتها بقوة الاستعمار البريطاني والامبريالية الأمريكية.

 أما لغة السياسة الوطنية  البراغماتية فكانت تسعى لانتزاع ما تبقى من أرض فلسطين تاركة مهمة التحرير الكامل لفلسطين التاريخية للأجيال القادمة. فالصهيونية أقامت دولتها في فلسطين في ظل السيطرة الاستعمارية على العالم. ووجود دولة إسرائيل في فلسطين وفي ترسانتها القنابل الذرية لا يعني أن مصيرها محكوم بقوتها الذاتية وبدعم اليهود على مستوى العالم لها، وبأنها بالتالي دولة أبدية في فلسطين. فيهود اليوم هم غرباء عن يهود التوراة. إن هؤلاء من خارج نسيج الشرق الأوسط الذي تحدد خلال  أكثر من ألفي سنة، وهذا النسيج العربي هو الذي يشكل اليوم  الشرق الأوسط، ويهود إسرائيل  يرفضون الاندماج ويحاربون ضده. ولا يوجد في الأفق  أي استعداد لديهم  للاندماج في محيطهم. بل على العكس إنهم في حالة انكفاء متسارع. ولهذا يبقى يهود التوراة، يهود داوود وسليمان في توراة التاريخ. أما يهود الحاضر رغم لحاهم الطويلة ولباسهم الأسود فهم قادمون من بروكلين ومن وارسو. فهذا التمثل واستحضار شخوص الماضي  مسرحية هزلية لا تعدو تقليدا ساخرا لماض مضى ولن يعود. وخلاصة قصة الصراع هنا أن اليهود في فلسطين تحت اسم إسرائيل هم قوة استعمارية دخيلة ولا سبيل لبقائها إلا باندماجها في الشرق الأوسط. أما بالنسبة لنا نحن الفلسطينيين فالاعتراف بإسرائيل كان ولا يزال الشرط الاستعماري للاعتراف بوجود كيان وطني فلسطيني على ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية. وبدون هذا الاعتراف الاضطراري ما كان يمكن أن تقوم السلطة ولو على شبر واحد من أرض فلسطين. إن الاعتراف هو جواز المرور لإبقاء فلسطين على خارطة الشرق الأوسط في الزمن المستحيل. وهذه عبقرية ياسر عرفات الذي اجتاز حقول الألغام كلها حتى وصل إلى فلسطين. وإن خذله الحاضر فان التاريخ سينصفه في نهاية المطاف

الحلقة الحادية عشر: تفاصيل اغتيال القائد سعد صايل

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الحادية عشر: تفاصيل اغتيال القائد سعد صايل

الفصل الحادي عشر

اغتيال القائد سعد صايل


يوم أسود لا أنساه، إنه يوم 27 أيلول 1982، إنه يوم اغتيال العميد سعد صايل "أبو الوليد" في البقاع اللبناني. ظهرت صورة أبو الوليد على شاشة التلفزة، وكنت في ميلانو الإيطالية بدعوة من صحيفة "اليونيتا،" صحيفة الحزب الشيوعي الإيطالي. وقال لي أحد الشباب الفلسطينيين: إن الخبر غير مؤكد، بل يقول المذيع نقلا عن وكالات الأنباء انه تعرض لمحاولة اغتيال حيث أطلقت النار على سيارته في البقاع. وبدأت على الفور أبحث عن أي شخص في دمشق أو تونس لمعرفة ما الذي حدث؟ وهل أبو الوليد على قيد الحياة؟ وهل هو في المستشفى؟ ومن أطلق النار على سيارته؟ وقلت للشاب في دمشق:  أنا فلان، أريد أن أسأل ما الذي جرى مع أبو الوليد؟ فرد بصوت يملأه الحزن وقال "يسلم راسك"، ومعنى هذه الجملة أن أبو الوليد قد اغتالته يد آثمة في البقاع. ورغم التوتر العصبي الذي أصابني أعدت الاتصال ثانية وطلبت أن أتحدث مع أبو عمار مباشرة، وخلال ثوان معدودة كان صوت أبو عمار بلهجته المصرية يقول لي "يسلم راسك" خسرنا قائدا شجاعا، اغتالته الفئة الباغية، خسرنا الحبيب أبو الوليد، هذا شهيد الثورة، شهيد فلسطين، شهيد الأمة، ولن يفلت المجرمون من العقاب وستطالهم يد الثورة. وفي الواقع لم يكن ممكننا أن أسأل أبو عمار عن هذه الجريمة التي هزت كياني بل قلت لأبوعمار: سوف أحضر إلى دمشق لأودع الشهيد أبو الوليد ولا يمكنني أن لا أحضر جنازته. وقال أبو عمار: يا أحمد إخوانك كلهم يقومون بالواجب ولا حاجة لحضورك وأنت تعرف الأسباب. إلا إنني أكدت له تصميمي على حضور جنازة أبو الوليد، ولا يمكنني تحت أي اعتبار مهما كان أن أتغيب عن جنازة صديق عزيز علي وعلينا جميعا. وأمام إلحاحي، أدرك أبو عمار أنني مصمم على السفر إلى دمشق للمشاركة في وداع أبو الوليد. إنه الوداع الأخير لصديق أنقذني من موت محقق حين شدني من يدي قبل دقائق من القصف الإسرائيلي على غرفة العمليات التابعة للقطاع الغربي. وكان يمكنه أن يمضي ويتركني. وبينه وبين نفسه كان أبو الوليد يعتبر أن حياة جديدة قد كتبت له يوم "القنبلة الفراغية" التي أزالت بناية الصنايع من الوجود. وكان إصراري عليه لتناول الغداء معا في البناية القريبة من فندق "الكومودور"كان هذا الإصرار سببا في نجاته من موت محقق. والحقيقة أن العلاقة الشخصية والصداقة الوطيدة كانت قوية إلى درجة جعلتنا نفكر ونعمل بطريقة أن كل خطوة نخطوها في الحصار والحرب تفرض التفكير في الآخر. ولهذا اعتبرنا نحن، الاثنين، علاقتنا اليومية الدائمة سببا في نجاتنا من موت محقق. وبالطبع هذا الجنرال الفلسطيني، خريج الكليات العسكرية في بريطانيا وأمريكا، كان صارما إلى درجة القسوة مع الضباط والجنود الذين يقودهم، وليس لديه هامش لرفع الكلفة مع أي ضابط أو جندي ما دام يرتدي الزي العسكري. وكان يقول لي دائما: "الانضباط أساس الحياة العسكرية. " وأول من يجب أن يفرض عليه الانضباط هم الضباط في الجيوش. أسأل عن الضابط قبل الجندي. أخذت أستعيد علاقتنا وصداقتنا طوال اثني عشر عاما من أيلول 1970 وحتى أيلول 1982. وكنت أنتظر أن يتصل رئيس حرس الرئيس فتحي "سلبد" معي لتأمين وصولي إلى دمشق في اليوم التالي. اتصل فتحي وأخذ اسمي حيث كنت أحمل الجواز الجزائري، وأجرى الحجز المطلوب للسفر. وقمت على الفور بالتوجه إلى مطار ميلانو ومنها إلى فيينا، حيث قضيت تلك الليلة، وفي الحقيقة لم أنم طوال الليل، وقبل الفجر غادرت إلى المطار حيث تقلع الطائرة من مطار فيينا في السادسة والنصف صباحا إلى دمشق. وفي آخر اتصال بيني وبين فتحي قال لي: إن أحد الأصدقاء سيأخذك من باب الطائرة إلى مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك. 

حطت الطائرة على أرض مطار دمشق بعد العاشرة بقليل، وفتح باب الطائرة، وظهر شخص قبل أن ينزل الركاب وقرأ اسم التاجر الجزائري، فنهضت وسرت وراءه وهبطنا سلم الطائرة. كان جيب عسكري على مقربة من الطائرة، وركبت في المقعد الخلفي وانطلق الجيب العسكري إلى مخيم اليرموك ولم يسألني هذا الرجل أي سؤال طوال الطريق، ولم يتكلم مع السائق. وحين دخلنا مخيم اليرموك كانت الجنازة في طريقها إلى مقبرة الشهداء، وكان عشرات الآلاف يودعون هذا القائد الذي اغتالته يد آثمة. وقريبا من المقبرة قال لي الرجل: المقبرة قريبة، وقلت له ألف شكر. وقفزت من الجيب واندفعت بين الكتل البشرية باتجاه المقبرة. وقد وصلت في لحظة الدفن والناس كلهم يتدافعون لوداع أبو الوليد وأفسحوا لي المجال لإلقاء النظرة الأخيرة على النعش والناس يهللون ويكبرون وأنا يعتصرني الحزن والغضب. 

كيف حدث هذا معك يا أبو الوليد؟ وحين ظهرت أمام القبر مباشرة لمحني أبو عمار بعيون الصقر التي وهبها الله له، وكان يقرا الفاتحة بصوت عال. ودون أن أنتبه كان حارسان من حرس الرئيس يمسكان بيدي ويشقان الطريق إلى حيث أبو عمار وأعضاء القيادة الكثيرين. وقال أبو عمار: وصلت أخيرا، إبقى بجانبي. " وأبو عمار بذاكرته الجبارة لا ينسى أن المخابرات السورية اعتقلتني بعد جنازة عز الدين القلق الذي اغتالته جماعة أبو نضال في آب 1978. وكانت العلاقات مع نظام الأسد في أسوأ حالاتها بعد حصار بيروت ومغادرة أبو عمار إلى أثينا وتونس بدل دمشق. بعد الجنازة مباشرة توجه أبو عمار إلى نادي مخيم اليرموك القريب لتقبل التعازي من عشرات الآلاف الذين يتدفقون على المخيم لتقديم التعازي. ومن المعروف أن التعازي تستمر ثلاثة أيام إلا أن الذي حدث في ذلك اليوم جعل أبو عمار يوقف التعازي ويقرر المغادرة إلى تونس. وفي الطائرة، أخبرني أبو عمار أن عبد الرحمن خليفاوي رئيس الوزراء السابق الذي جاء لتقديم العزاء على رأس وفد كبير من وجهاء دمشق نصح أبو عمار بالاكتفاء بيوم واحد للعزاء ومغادرة دمشق ما دام الرئيس الأسد لم يستقبله ولم يرسل مندوبا عنه لتقديم التعازي. وقال عبد الرحمن خليفاوي لأبو عمار: لا بد من العمل على إعادة الثقة إلى العلاقات بينكم وبين الرئيس الأسد. وصلنا تونس مساء ذلك اليوم الأسود. فالثورة خسرت أبو الوليد والأسد لا يريد أن يرى أبو عمار في دمشق. والأزلام فيها أصبحوا اليوم جهابذة في البيانات الثورية، فهم ضد مغادرة بيروت، وهم ضد مبادرة ريغان. وبالطبع المتهم أبو عمار والمتهمة فتح.

 إنه الصراع المرير مع نظام حافظ الأسد الذي يصر على الاحتواء بنفس درجة إصرارنا على استقلالية القرار الوطني الفلسطيني. ويستمر هذا الصراع ولبنان تحت الاحتلال ودماء صبرا وشاتيلا لم تجف بعد، وهناك أكثر من أربعة آلاف شاب فلسطيني أسرى لدى العدو في معتقل بلدة الخيام وفي معتقل أنصار. ومن السذاجة بمكان أن يعتقد أحد في هذا العالم أن أبو عمار البعيد الآن آلاف الأميال عن فلسطين قد يهدأ له بال آو يقبل بالمصير الذي آل إليه. وفي أوتيل سلوى حول مكتبه المتواضع إلى مكتب القائد العام وأخذ يشكل اللجان العسكرية، هذه لجنة لبنان وهذه لجنة الأرض المحتلة وهذه لجنة القوات المنتشرة في أكثر من بلد عربي. ويرتب مكتب الرئيس ويجمع الكوادر في كل مجال. واذكر انه بعد عودتنا المحزنة من دمشق، وكنت إلى جانبه وهو يتمشى في اوتيل سلوى فإذا به يقول لي: ماذا تفعل أنت هنا؟ وقلت له: أوامرك. فأمر أحد المرافقين بإحضار طاولة وكرسي وقلم وورقة وقال لي إجلس، وأملى علي عدة أخبار عن المقاومة الفلسطينية اللبنانية لقوات الاحتلال الإسرائيلي في لبنان. وقال لي عليك إبراز أن عمليات المقاومة في الجنوب، هي عمليات القوات المشتركة الفلسطينية اللبنانية. وكان أبو عمار ومكتبه وطاقمه المصدر الوحيد للمعلومات والأخبار. وخلية النحل هذه تعمل ليل نهار في استقبال الاتصالات وفي رصد الإذاعات. وقمت ليوم أو يومين بإعادة صياغة هذه الأخبار. وهكذا عادت للصدور وكالة "وفا" للأنباء من تونس. وتولى زياد عبد الفتاح وفريقه  إصدارها  يوميا كما لو أنهم في بيروت.

وذات يوم، قلت لأبو عمار: مركز بيروت الإعلامي الذي خسرناه يجب تعويضه. وقدمت له المشروع الذي وافق عليه واستمر العمل فيه حتى قيام السلطة وانتقال أبو عمار ومركز القرار للداخل. فبالإضافة لصدور "فلسطين الثورة" من قبرص، فتحنا مركزا آخر في قبرص لتلقي الأخبار من لبنان ومن الداخل، وكذلك مركزا آخر في روما، ومركزا ثالثا في واشنطن. وكان الاقتراح الثاني أن نصدر مجلة أسبوعية في باريس ومجلة أو جريدة في لندن. وبالفعل قمت بالاتصال مع عبد الباري عطوان وبكر عويضة وهما يعملان  في صحيفة "الشرق الأوسط" وحضرا إلى تونس لهذا الغرض. وتبلور الاتفاق على إصدار "القدس العربي والدولي" اليومية من لندن بالاتفاق مع صاحبها محمود أبو الزلف والذي كلف ابنه وليد بهذا العمل. أما إصدار المجلة فقد اتصلت مع بلال الحسن الذي حضر إلى تونس وقدم مشروعه لإصدار مجلة في باريس باسم "اليوم السابع". وقد وافق أبو عمار على المشروعين لتعويض خسارتنا لمركز بيروت الإعلامي وهو المركز الأهم في الشرق الأوسط. وكان الاقتراح الآخر الذي قدمته لأبو عمار ووافق عليه، يتعلق بالشاعرين  العظيمين محمود درويش ومعين بسيسو، حيث قلت لأبو عمار أن محمود ومعين منارات مضيئة أينما ذهبوا وأرى أن يكون لمحمود درويش عنوان وإقامة في باريس، ولمعين بسيسو عنوان وإقامة في لندن. ويكفي أن يعرف الناس بوجودهم ويكفي أن يصافحوا الناس ويتكلموا معهم. ورحب أبو عمار بالفكرة وأصدر أمره لحكم بلعاوي ونحن في صالة الشرف في مطار تونس لتنفيذ المطلوب.

تولى حكم بلعاوي الإشراف بنفسه وطوال ثلاثة أشهر على إقامة البنية التحتية لحركة فتح والمنظمة في تونس فانتشرت المكاتب والمؤسسات من مركز القيادة ومقر القائد  العام في حمام الشط وحتى في قلب تونس في المنزه السابع وإلى المرسى وسيدي بو سعيد وقرطاج وصولا إلى وادي الزرقا حيث القوات العسكرية البعيدة عن العاصمة تونس أكثر من 100كم. بدأت الماكينة السياسية والإعلامية الفلسطينية بالعمل في كل الجهات، وبدأت الأضواء العالمية تتسلط على تونس. ففيها مقر الجامعة العربية التي يتولى الشاذلي القليبي أمانتها العامة منذ عام 1979 بعد توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وانتقال مقر الجامعة إلى تونس. والى تونس انتقلت منظمة التحرير الفلسطينية التي أخذت تحتل حيزا هاما في السياسة الدولية. وجاءت مجزرة صبرا وشاتيلا لتحرك على نحو غير مسبوق الرأي العام الدولي. وحتى في إسرائيل تظاهر أكثر من 400 ألف إسرائيلي احتجاجا على هذه المجزرة التي تبقى شهادة إدانة لإسرائيل على مدى التاريخ. فإسرائيل التي تحتل الأرض الفلسطينية وتنكر وجود هذا الشعب وتعمل على إبادته وتشريده تجد من يقدم لها الحماية في الولايات المتحدة الأمريكية وفي دول أوروبا الغربية.

وفي إطار فضح مجزرة صبرا وشاتيلا وفضح المسؤولية الكاملة لشارون وإيتان عنها، قمت بشراء مئات الصور من وكالة "سيجما" الفرنسية التي استطاع مصوروها أن يلتقطوا صور المجزرة لحظة وقوعها وأصدر "توماس فريدمان" تقريره الشهير عن مجزرة صبرا وشاتيلا والذي حصل على جائزة بوليتزر لأفضل تقرير صحفي لعام 1982. وأصدر الصحفي الإسرائيلي "أمنون كابليوك" تقريره التفصيلي بالساعة واليوم عن مجزرة صبرا وشاتيلا. وقد قمنا في الإعلام بترجمته ونشره، وكذلك تقرير فريدمان وتقرير جمعية الصداقة اليابانية مع الشعب الفلسطيني، والتقرير الصادر في إيرلندا عن المجزرة وأشرف عليه حامل جائزة نوبل "سين ماكبرايد." وبدأت المطابع ودور النشر التونسية تعمل معنا بكل حرية ودون رقابة وكانت تتقبل منا كل ما نود نشره أو طباعته وحتى أخذت تتولى توزيعه عالميا. وفي الذكرى السابعة عشر لانطلاقة فتح أشرفت على تنفيذ حملة إعلامية كبيرة لتعويض خسارتنا لموقع بيروت. واستعنت بالفنانيين التشكيليين من تونس ومصر وفلسطين وحتى البولنديين المشهورين في مجال الملصقات السياسية. وقد تعرفت على العديد من الفنانين حيث كنا قد  أقمنا في بيروت عام 1980 معرض الفن العالمي الذي أشرفت عليه الرسامة والنحاتة منى السعودي. وللأسف فان الغارة الإسرائيلية الأولى يوم الخامس من حزيران عام 1982 دمرت وأحرقت مركز الفن العالمي في بنايات الصادق القريبة من كلية الهندسة.

 ومن مقر أبو عمار في الفاكهاني، وفي إطار هذه الحملة أخذت موافقة أبو عمار على شراء أي كتاب يصدر عن فلسطين على مستوى العالم. وبدأنا بإرسال هذه الكتب إلى القيادات السياسية ومراكز الأبحاث والجامعات، وحتى مكتبة الكونغرس الأمريكي وكذلك الجامعات الفلسطينية والأعضاء العرب في الكنيست الإسرائيلي. وقرر أبو عمار إحياء الذكرى السابعة عشرة لانطلاقة فتح في مدينة عدن1/1/1983 ورحب رئيس اليمن الديمقراطي علي ناصر محمد بأبي عمار وبفتح في عدن، وهو شخصية وطنية تختلف بشكل ظاهر عن شخصية عبد الفتاح إسماعيل الذي كان يعتبر نفسه "سوسلوف" الماركسية اللينينية في اليمن الديمقراطي. وأراد علي ناصر محمد أن يدعم أبو عمار وفتح ردا على ما يمكن تسميته التحالف بين عبد الفتاح إسماعيل ونايف حواتمة وجورج حبش اليساريين.

وانتقلنا من صنعاء إلى عدن من خلال طائرة روسية الصنع ذات محركات. وكان أبو إياد وآخرون على متن الطائرة التي أخذت تتمايل وتهتز وتصعد وتهبط فوق سلسلة الجبال اليمنية. وقد وصلنا عدن بعد معاناة طويلة. وفي ساحة كبيرة في مدينة عدن جرى الاستعراض العسكري الكبير لقوات فتح والثورة وجيش التحرير. وأراد أبو عمار أن يوصل رسالة بالطبع لإسرائيل قبل غيرها أن القوة العسكرية الفلسطينية سليمة ومعافاة وقادرة على العمل. وأثناء الاستعراض العسكري الذي حضرته جماهير غفيرة يمنية وفلسطينية وقف أبو عمار إلى جانب رئيس اليمن علي ناصر محمد لأكثر من ساعتين حتى مرت كل التشكيلات العسكرية التي أحضرها أبو عمار من السودان وتونس والعراق لهذا الغرض. واللقطة الأخيرة في هذا الاستعراض أنه ركب سيارة مكشوفة مع علي ناصر محمد وطاف في مكان الاستعراض لتحية الجماهير المحتشدة.

وقد حضر العقيد أبو موسى من دمشق كما حضر أعضاء المجلس الثوري وأعضاء المجلس العسكري العام الذين توجهوا إلى دمشق بعد مغادرة بيروت. وكالعادة، استمع المجلس الثوري الذي انعقد في عدن للتقرير السياسي الذي يقدمه أبو عمار في العادة. والخلاصة أنه كان يستنهض الهمم ويحارب اليأس والإحباط دون أن يترك عليه ممسكا سياسيا كالذي تتحدث عنه سوريا وفصائل المعارضة. وكانت مفاجأة هذه الدورة للمجلس الثوري في عدن هي خطاب العقيد أبو موسى، وبالأصح مذكرة العقيد أبو موسى، التي وزعت على أعضاء المجلس مكتوبة ومطبوعة وجاهزة للتوزيع. وكان واضحا أن هذه المذكرة قد جرى إعدادها في دمشق قبل السفر إلى عدن. فأنا أعرف أبو موسى جيدا منذ عام 1970، بأنه شاب وطني، ولغته ومصطلحاته في العموم وطنية وليست فكرية وايديولوجية كتلك التي يحرص أبو خالد العملة أن يحفظها عن ظهر قلب ليبدو متميزا عن غيره. وكنا أنا وماجد أبو شرار نتغاضى عن هذه الفذلكة اللغوية ونقول هذه مدرسة أبو فارس وإلياس شوفاني. وحتى حين نزور أبو صالح في منزله نتندر معا حول عبارات أبو خالد الثورية ونقول: "رايح عالحج والناس راجعة" ولكن ما الذي جرى للعقيد أبو موسى حتى يكتب، أو يكتبون له، مذكرة موجهة للمجلس الثوري وهو أبعد ما يكون عن لغة ومواقف هذه المذكرة.

وقد كان أبو عمار قد رفض تعيينه رئيسا لغرفة العمليات المركزية بعد اغتيال العميد سعد صايل (أبو الوليد).

 وطوال فترة طويلة كانت رئاسة أركان جيش التحرير الفلسطيني وغرفة العمليات المركزية نقطة صراع بين كبار الضباط في جيش التحرير وفي حركة فتح. وكان أبو عمار، ومعه كل الحق في ذلك، يحرص على أن تكون هذه المواقع تحت إمرته المباشرة بسبب التدخلات العربية الرسمية في الشتات الفلسطيني. وحده العميد أبو الوليد كان موضع ثقة أبو عمار وأعضاء مركزية فتح لأنه رجل عاقل ومتوازن في قراراته وأحكامه. وضابط محترف وفلسطيني لا تلعب الأهواء والطموحات برأسه. ولديه تجربة طويلة وغنية في الحياة العسكرية والعامة. ولكل هذه الصفات كان موضع ثقة أبو عمار وموضع ثقة القيادة. أما بعد استشهاده فقد احتفظ أبو عمار فعليا بصلاحيات غرفة العمليات المركزية فهو القائد العام. فالصراع مع نظام حافظ الأسد والملك حسين جعل أبو عمار يخترع، في جيش التحرير، وظيفة مسير لشؤون جيش التحرير لإبعاد رئيس الأركان الموالي لنظام الأسد عن قيادة الجيش، وأسوأ هذه الصراعات بدأت منذ عام 1967 مع عثمان حداد وصبحي الجابي، ومصباح البديري، وكان آخرهم طارق الخضرا الذي اختتم دوره في خدمة نظام الأسد بأن أصدر البلاغ العسكري رقم واحد للانقلاب على أبو عمار أثناء مواجهة الانشقاق في طرابلس، وبالطبع هذا البلاغ العسكري جعل طارق الخضرا موضع سخرية القاصي والداني، وخاصة عندما شاهده الناس على شاشة التلفزيون السوري وبلباسه العسكري الكامل ويقرأ بلاغه العسكري رقم واحد لإطاحة ياسر عرفات  تماما كما كان يفعل ضباط الجيش السوري من عام 1949 وحتى عام 1971، حين أطاح حافظ الأسد بنور الدين الأتاسي وصلاح جديد وأقام حكما وراثيا تتقاطع  مصالحه مع مصالح القوى الإقليمية. وأذكر أن مصباح البديري قد جاء إلى بيروت في حزيران 1976 للسيطرة على الفاكهاني وطرد الثورة وأبو عمار. إلا أن هذا الصراع في جيش التحرير بين الاستقلالية الفلسطينية والاحتواء السوري، قد فضح مؤامرة مصباح البديري ومعه زهير محسن وأحمد جبريل وعاصم قانصو، وجاء إلى مقر فلسطين الثورة الضباط من جيش التحرير الذين يرفضون الوصاية وطلبوا مني أن أكتب لهم البيان المعروف ضد مصباح البديري حيث تم طرده وترحيله إلى دمشق. بعد اجتماع المجلس الثوري في عدن قال لي أبو عمار "خذ بالك المؤامرة كبيرة" وأضاف قائلا: أبو صالح وأبو موسى والعملة كانوا مع أحمد جبريل في ليبيا وقبضوا خمسة ملايين دولار. وكانت مبادرة ريغان فرصة لا تعوض لأبو عمار لايجا د موطئ قدم له وللمنظمة في الأردن. والملك حسين السياسي المجرب والمحنك كان قد أرسل أحمد اللوزي رئيس الديوان الملكي ومروان القاسم وزير الخارجية إلى أثينا لاستقبال أبو عمار وتهنئته على سلامته. وأن الملك حسين يرحب به في عمان. وقد استقبل الأردن بعد بيروت آلاف الأفراد والجنود والضباط والسياسيين من كل الفصائل ومن فتح. ولا يضير الملك حسين أن يعود هؤلاء إلى الأردن ما داموا أفرادا وليسوا مؤسسات تذكر الملك بالدولة داخل الدولة التي كانت قائمة في الأردن حتى أيلول الأسود 1970.

قبل أبو عمار دعوة الملك حسين فقام بهذه الزيارة في أكتوبر 1982، وكان يهدف من ورائها إلى ترطيب الأجواء مع الملك حسين ولم يقل يومها إنه يرفض أو يقبل مبادرة ريغان بل قال إنها تحت الدراسة ونحتاج إلى مزيد من التوضيح لبعض بنودها الغامضة. إنه ترك الباب مفتوحا مع الملك حسين ولا يريد أكثر من ذلك. وللتاريخ أقول هنا إن أبو عمار لم يطرح يوما قضية إسقاط النظام الملكي في الأردن ولم يكن يؤمن بهذه الشعارات الطنانة والفارغة التي ملأت رؤوس الكثيرين في فتح والفصائل حول قيام نظام حكم ديمقراطي في الأردن بعد أيلول 1970. وحين وافقني بعد معركة الأحراش في تموز 1971 على ما أعلنته في إذاعة درعا من إلغاء اتفاق أريحا وحل وحدة الضفتين قال لي: نحن نريد فلسطين وطننا والأردن هو الأردن وفلسطين هي فلسطين. وهذه الأوضاع العربية التي تشكلت بعد سايكس _ بيكو ليس من السهل إلغاؤها بالقول إن العرب أمة واحدة. هم نعم أمة واحدة. ولكن هناك أقطارا موجودة ولها خصوصياتها شئنا أم أبينا. وبسبب هذا الفهم العميق للواقع العربي كان أبو عمار ضد تجاوز الخطوط الحمر في لبنان. وترك أبو عمار في لقائه مع الملك حسين الباب مفتوحا على الحديث السياسي وعلى المستقبل أما الذي طلبه واستجاب له الملك حسين فهو أن يتردد أبو جهاد على الأردن تحت غطاء اللجنة المشتركة الأردنية الفلسطينية والموجودة من عام 1979. وهدفها صرف مبلغ مئة مليون دولار قررتها قمة بغداد لتعزيز صمود أهلنا في الداخل.

 ومن عمان توجه أبو عمار إلى بغداد. وكانت الحرب العراقية الإيرانية في ذروتها، والكفة راجحة لصالح الإيرانيين وقد أغلق الإيرانيون شط العرب واحتلوا ميناء "الفاو" وقد حاول أبو عمار في البداية التوسط لوقف الحرب ولكنه فشل تماما. وحين تقدم الإيرانيون في الأراضي العراقية وقف علنا إلى جانب العراق. وظل يطالب  بوقف الحرب، ولكن لا أحد يسمعه وهو الغارق حتى أذنيه في معضلة البقاء بعد خسارة بيروت. 

وفي زيارته لبغداد كان محمد أبو ميزر"أبو حاتم" ضمن الوفد الذي سيجتمع مع صدام حسين. وكانت هذه أول مرة أزور فيها بغداد منذ أكثر من ثماني سنوات. وكان العراق قد وافق على استقبال الآلاف من قواتنا التي غادرت بيروت. وأصدر صدام قرارا بمعاملتهم كما يعامل أفراد الجيش العراقي. وكان واضحا أن هذا اللقاء بين أبو عمار وصدام حسين يخدم الطرفين. فصدام يريد فلسطين إلى جانبه وأبو عمار يريد ملاذا له ولثورته في العراق. وكان اللقاء الثاني مع طارق عزيز حميما للغاية حيث هيأ طارق عزيز بتعليمات من صدام حسين مقرا دائما لأبو عمار وأهداه صدام طائرة خاصة لتنقلاته. وأراحه من العبء المالي الكبير للقوات التي وصلت العراق. وقد طلب مني أبو عمار أن اقنع محمد أبو ميزر "أبو حاتم"وهو على معرفة جيدة بصدام حسين أن يقبل تعيينه ممثلا لفتح والمنظمة في العراق. إلا أن أبو حاتم اعتذر. وكان أبو أكرم قد انتهت مدة انتدابه في العراق. وبقي عزام الأحمد الذي عينه أبو عمار بعد فترة وجيزة ممثلا لفتح والمنظمة في بغداد. كان عزام طالبا في العراق ومسئولا عن تنظيم فتح، وسجنه أبو نضال "صبري البنا" ولكنه ظل فتحاويا صلبا في بلد فيه حزب قومي عقائدي. وجماعة أبو نضال الإرهابية، ولم تكن لي أية علاقة مع العراق، بل كانت علاقة عدائية. فقد اغتالت المخابرات العراقية في بيروت مدير تحرير مجلة فلسطين الثورة "خالد العراقي"، وكنت بقرار من أبو عمار المسؤول عن العلاقة مع الشيوعيين العراقيين والمصريين على حد سواء. كما أن أبو نضال "صبري البنا" ومن مركزه في بغداد، اغتال سعيد حمامي وعز الدين القلق وهما من أعز أصدقائي من أيام الجامعة. واغتال نعيم خضر في حزيران 1981. وحين انتقل من بغداد إلى دمشق وأصبح يعمل مع المخابرات السورية اغتال في لشبونة في البرتغال د. عصام سرطاوي في نيسان 1983. وارتكب جريمته الكبرى باغتيال القادة التاريخيين أبو إياد وأبو الهول ومعهم ضابط الأمن أبو محمد العمري في تونس في 15 كانون الثاني 1991. 

 تجنب المسئولون العراقيون أي حديث عن وجود أبو نضال في بغداد، وتجنبنا من جانبنا أي إشارة له بل حرصنا على فتح صفحة جديدة مع حزب البعث في العراق.

وكانت ستة أشهر قد مضت بين قمة فاس وبين الدورة السادسة عشرة للمجلس الوطني في الجزائر والتي تقرر عقدها في 14-22 شباط 1983. ولم ينس أبو عمار أن قادة الفصائل، ومعهم أبو صالح، قد غادروا بعد القمة مدينة فاس المغربية في طائرة حافظ الأسد عائدين إلى دمشق. وطلب مني أبو عمار أن أسافر إلى الجزائر لترتيب الأمور بالنسبة للصحافة العالمية. وقدم الجزائريون لنا كل التسهيلات، والموافقة على أي صحافي أو شبكة تلفزيون نطلب السماح لها بدخول الجزائر لتغطية دورة المجلس الوطني الأولى بعد زلزال بيروت 1982. ولم أكن أعلم أن اللجنة المركزية لفتح قد جمدت عضوي اللجنة المركزية أبو صالح وسميح ابوكويك (قدري). وحين سألني مسؤول الأمن الجزائري عن الموقف من أبو صالح الذي يصل ليلا إلى عنابة برفقة نايف حواتمة ومنها إلى الجزائر، قلت له، وكنت صادقا، لا علم لدي. وكانت لديه معلومات أفضل مني. فقال إنه ليس عضوا بالمجلس الوطني وليس مدعوا لحضور المجلس. وبدا أن مسؤول الأمن الجزائري يعرف أمورنا أكثر مني. ولهذا لم أفتح فمي بكلمة ولم أجتهد بشيء. بل قلت له: لست مسؤولا عن هذه الأمور، مسؤوليتي تنحصر بترتيب أمور المراسلين والصحافيين. وتركته وذهبت إلى الفيلات التي يقيم فيها أبو عمار وباقي أعضاء القيادة واختليت بأبي عمار لمدة دقيقة ولم أكد أنطق اسم أبو صالح حتى قال لي: يجب أن يعود من حيث أتى، إنه ليس عضوا في المجلس، وكان في قمة العصبية والغضب. وتركني وعاد إلى الصالون حيث القيادات وأعضاء من المجلس يناقشون افتتاح دورة المجلس يوم غد 20/2/1983. وبناء على طلب أبو عمار، أعيد أبو صالح من حيث أتى وبقي في مطار عنابة حتى موعد إقلاع الطائرة العائدة إلى دمشق. ولم تسمح له السلطات الجزائرية بالوصول إلى مدينة الجزائر العاصمة.

بدأت المؤسسات والإدارات المختلفة تعمل كالمعتاد في تونس منذ أكتوبر 1982 إلا أنها تشكو من "كعب أخيل" فلا توجد مخيمات ولا توجد معسكرات تدريب، ولا أشبال أو زهرات. علمت أن أبو عمار بدأ العمل وأنشأ بيت أطفال الصمود لأبناء الشهداء ومدرسة القدس لأبناء المقاتلين والعاملين في المؤسسات والإدارات. ومطار تونس يستقبل يوميا الشباب والعائلات الذين تقطعت بهم السبل بعد رحيل الثورة من بيروت عام 1982، وقيادات المنظمات الشعبية وهي بنص أبو عمار قاعدة من قواعد الثورة وقاعدة من قواعد المنظمة. 

أتت هذه القيادات كلها إلى تونس وأصبح لها مقرات، وترسل الوفود إلى الخارج وتستقبل الوفود الأجنبية بكل حرية وتصدر البيانات وتوقع الاتفاقات المشتركة. وقد أوجد أبو عمار الأطر التنظيمية التي يستطيع من خلالها ربط هذه المنظمات بالمستوى السياسي. إلا أن الخروج من ممر الماراثون، وهي الحدود والمناطق المتاخمة  لفلسطين إلى تونس وإلى السودان وإلى الصحراء الليبية على حدود تشاد والصحراء الجزائرية وإلى اليمن بشطريه الشمالي والجنوبي، لا يمكن تعويضه بحيوية أبو عمار لإبقاء الأطر والكادر في حالة استنفار وخوفا من الترهل الذي يتسلل إلى البشر في غياب المهام اليومية. ولهذا وجدت أن علي أن أكتب ردا على الأصوات التي خرجت من دمشق وقالت "ماذا يفعل ياسر عرفات في تونس؟ إنه يقضي وقته على شواطئ تونس،، وكتبت هذا الرد في جريدة الصباح التونسية وهي الجريدة الأولى في تونس. وأذكر أنني قلت في الرد: ليس المهم البعد أو القرب الجغرافي من فلسطين، إنما المهم هو استقلالية الإرادة والقرار من أجل تحرير فلسطين. فهل المتشدقون في دمشق يجرؤون على إطلاق طلقة واحدة أو قذيفة واحدة من الجولان ضد إسرائيل؟ وقرأ أبو عمار التعليق المنشور في جريدة الصباح التونسية وأمر بتوزيعه على القوات والمكاتب عله يجيب على الأسئلة التي جعلت بعض الشباب يغادر المعسكرات ويطلب اللجوء السياسي في أوروبا. وفي الحقيقة فإن خط الاستقلالية الوطنية في الوجود والقرار والفعل كان يلقى صدى إيجابيا وتقبلا من أغلبية الكوادر القيادية. ولهذا ظل الإطار القيادي قويا ومتماسكا رغم هذا التشتت لقواتنا وكوادرنا في الدول العربية. والذي أنقذ وضعنا في هذا التشتت ليس حملتنا الإعلامية والتعبئة السياسية وحدهما بل إصرار أبو عمار على العمل في أقسى الظروف ومن حيث يظن العدو أن وسائله قد انتهت وما عليه سوى أن يقبل بالمصير الذي آل إليه، وهو في أحسن الأحوال اللجوء السياسي.

خرج أبو عمار من دورة المجلس الوطني السادسة عشرة منتصرا. وهذا عزز مكانته العربية والدولية، وفتح صفحة جديدة مع الملك حسين ومع صدام حسين. وكان قد عينني ناطقا رسميا باسم المجلس الوطني الفلسطيني وكانت المهمة سهلة مع الصحافيين والمراسلين الأجانب. إلا أن مشكلة صغيرة قد واجهتني وكانت تتعلق بإصرار د. عصام السرطاوي على الحديث في المجلس الوطني أو عقد مؤتمر صحافي. وهذه كانت مسؤوليتي. وقد أخبرت أبو عمار بما طلبه د. السرطاوي. فقال لي: ليس هذا وقت حديث السرطاوي في المجلس، ولا تدعو له الصحافيين حتى لا يبدو وكأن ما يقوله هو موقف رسمي لفتح أو المنظمة. وقد حاولت إقناع الدكتور السرطاوي ولكن عبثا. وغادر الجزائر غاضبا وفوجئت في الأسبوع التالي أن مجلة "الحوادث" اللبنانية قد أجرت معه حديثا مطولا. ولم يترك تهمة إلا والصقها بي، وليس أقلها أنني يساري وأنني مرتبط مع المخابرات السوفيتية. ولسوء الحظ فلم يتسن الوقت للقائه أثناء حضوره إلى تونس وهو يواصل عمله في الاشتراكية الدولية. ففي نيسان 1983 وكان يحضر في لشبونة مؤتمر الاشتراكية الدولية أطلق عليه النار أحد القتلة من جماعة أبو نضال فأرداه قتيلا. وقد ألقي القبض على القاتل وسلمته البرتغال لمنظمة التحرير الفلسطينية حيث جرت محاكمته واعترف بجريمته ونال العقاب الذي يستحق. ويبدو أن أبو نضال "صبري البنا" قد بدا في تلك الفترة بنقل جماعته من بغداد إلى سوريا ولبنان وأن اغتيال د. عصام السرطاوي كان وراءه قرار سوري.

وفي آذار 1983 سافر أبو عمار إلى دمشق. وقام بجولة في منطقة البقاع، وأحس بما يحاك في الخفاء ضد وحدة فتح. فأصدر القرارات الشهيرة بالتنقلات العسكرية، ومنها  إلحاق أبو موسى وأبو خالد بمقر القيادة. وأما زياد الصغير فعينه ملحقا عسكريا في باكستان وعبد المنعم ملحقا في ألمانيا الديمقراطية.

كانت هذه الضربة الإستباقية من أبو عمار كافية لكشف مؤامرة الانشقاق. فرفض أبو موسى وأبو خالد هذه القرارات حتى ولو كان من أصدرها هو القائد العام. ورفضها أبو صالح وقدري. ورغم تراجع أبو عمار عن الكثير من هذه التنقلات بين الضباط، إلا أن أبو صالح وقدري ومعهم أبو موسى وأبو خالد، طالبوا بعقد مؤتمر عام للحركة خلال شهر وطالبوا بتسمية نصف أعضاء المؤتمر، وبموقع نائب القائد العام، وبمواقف سياسية تجعل من حركة فتح والمنظمة مجرد بوق للسياسة السورية. ولم يمض غير أسبوعين حتى كان أبو موسى يذهب إلى البقاع ويسيطر على مقر كتيبتين من كتائب قوات اليرموك ويعلن أنه يقود حركة تصحيحية للقضاء على الخيانة والانحراف. كان هذا الإعلان يوم 9/5/1983. واستطعت في ساعة متأخرة من الليل أن أتحدث مع أبو عمار وكان في دمشق، ولم يكن بحاجة إلى تشجيعي الذي سمعه مني في دقائق معدودة. وقاطعني كعادته وقال أنت جاهز؟ قلت له: أوامرك سيدي القائد العام. فقال لي: لاقيني في طرابلس بأسرع وقت ممكن. فقلت له غدا سأتوجه إلى قبرص ومنها إلى طرابلس. وسمعته يقول بارك الله فيك وهو يغلق الخط الهاتفي


الفصل الثاني عشر:

صراع الأخوة الأعداء 


غادرت تونس صباح 11/5/83 إلى أثينا وفي اليوم نفسه وصلت قبرص. ففي الأشهر الأخيرة أصبحت أتردد كثيرا على قبرص حيث تصدر المجلة المركزية "فلسطين الثورة " وقضيت ليلة واحدة في نيقوسيا. وفي اليوم الثاني قال لي "ملاذ" القائم بأعمال سفارتنا في قبرص، أن أبو عمار قد طلب منه أن يؤمن نقلي إلى طرابلس على أول سفينة متوجهة إلى هناك. وودعت الشباب في المجلة وغادرت مع القائم بالأعمال  إلى "لارنكا،" وخلال وقت قصير كان ملاذ قد رتب كل شيء، وأخذني بيده إلى حيث السفينة المتوجهة إلى طرابلس. كانت سفينة صغيرة ويملكها شباب من طرابلس. ولم تكن كتلك السفينة اليونانية التي غادرنا فيها بيروت إلى أثينا في 30 آب 1982. وقال أحد قادة  الزوارق "قد تعترضنا الزوارق الإسرائيلية " إحنا وحظنا." ولم يكن في هذه السفينة مكان للنوم أو الراحة. فالرحلة لا تستغرق غير ساعات قليلة. 

السفينة في الواقع سفينة تهريب، ومحملة بأجهزة التلفزيون وأدوات كهربائية وثلاجات وكراتين سجاير لا تعد ولا تحصى. وبالطبع كل هذا لا يعنيني. أما الذي كان يقلقني حقا فهو ماذا لو فوجئنا بالزوارق الإسرائيلية هنا في عرض البحر؟ ماذا سنقول لهم؟ ومرت الأمور دون مفاجآت من هذا النوع الثقيل. وحوالي منتصف الليل وصلت السفينة العتيدة إلى شواطئ المنية شمال طرابلس، ولكنها ابتعدت عن كل منطقة يظهر فيها ضوء. وأكاد أقول أنها تسللت إلى منطقة مظلمة بحيث لا يراها أحد. وسرعان ما تحركت قوارب صيد صغيرة كانت تقف في هذه المنطقة المظلمة. وكنت أول من صعد إلى القارب الذي نقلني إلى الشاطئ. وكان ينتظرني الصديق العزيز العقيد منذر أبو غزالة وهو شقيق الشهيد مازن أبو غزالة. وبعد عام من هذا اللقاء بيننا في هذه المنطقة المظلمة من " شاطئ المنيه." كان العقيد منذر أبو غزالة وزهير اللحام مدير اللاسلكي العام والعقيد جمعة غالي قائد البحرية يتناولون العشاء عندي في المنزل في تونس، وعرفت منه أنه مسافر في اليوم التالي إلى اليونان. وكالعادة قلت له: أثينا الآن في قبضة الموساد، وقد اغتالوا الصديق العقيد مأمون مريش قبل أشهر في أثينا أثناء حصار طرابلس. وفي عام 1982، وأثناء الحصار، اغتال الموساد كمال مسؤول تنظيم فتح في إيطاليا، ونظير الطالب من الأرض المحتلة، والضابط في القطاع الغربي إسماعيل درويش وهو شقيق الإعلامي المعروف نبيل درويش، في روما، وقبل عام اغتال الموساد ماجد أبو شرار عضو اللجنة المركزية لفتح ومساعد أبو جهاد في القطاع الغربي في 9/10/1981 بوضع عبوة ناسفة تحت سريره في الفندق الذي نزل فيه وكان يحضر مؤتمرا في روما لدعم الثقافة الفلسطينية ورفض التطبيع مع إسرائيل. وفي باريس  اغتال الموساد "فضل" وهو ضابط  يعمل مع أبو إياد، وفي باريس نفسها اغتالوا نائب أبو إياد عاطف بسيسو ومن قبله محمود الهمشري عام 1972. أما جماعة أبو نضال "صبري البنا" فقد اغتالت في باريس عز الدين القلق ونائبه عدنان حماد، وسعيد حمامي في لندن، ونعيم خضر في بروكسل وعصام السرطاوي في لشبونة.

سافر منذر في اليوم التالي إلى أثينا. وبعد يومين اغتاله الموساد في الشارع العام بواسطة دراجة نارية حيث أطلقوا عليه النار  وهو في السيارة واختفوا من المكان. ولا أنسى ليلة وصولي إلى طرابلس حيث أخذني منذر أبو غزالة في سيارته من المنية إلى منزله. ولم أكن قد زرت طرابلس من قبل ولا أعرف عن المخيمات حول طرابلس غير أسمائها، مخيم نهر البارد ومخيم البداوي. وفي يوم 14/5/1983 التقيت مع أبو عمار وكان قادما من البقاع وقبلها كان في دمشق والأسد لم يستقبله ولم أسأله شيئا عن الوضع السياسي وعن المنشقين ومن معهم من الفصائل. إلا أنني وكنت قد قمت بجولة في المخيمين أعددت خطتي للعمل الإعلامي ضد مؤامرة الانشقاق. ويكفي أن يقرأ أبو عمار كلمة "مؤامرة الانشقاق " حتى يعرف مدى تصميمي على تدمير حركة المنشقين لدى الرأي العام الفلسطيني والعربي والدولي. ودون نقاش وافق أبو عمار على استئجار خمسة شقق في بنايات "أبو النعيم" لإصدار وكالة الأنباء "وفا" ولإصدار الجريدة اليومية بالحجم المتوسط وثماني صفحات فقط. أرسلت برقية إلى نائبي في الإعلام في تونس سامي سرحان وكان قد سجن معي في سجن المزة عام 1973 وإلى محمد سليمان مدير التحرير المسؤول عن "فلسطين الثورة" في قبرص، وقلت لهم: من يريد من الشباب أن يأتي إلى طرابلس فأهلا وسهلا ولا تكرهوا أحدا على الحضور. وحضر عدد كبير من الشباب العاملين في الإعلام أكثر مما طلبت أو توقعت وبدأت ماكينة الإعلام بالعمل. وكان أحمد الأسعد ضابط الأمن في المخيمات وطرابلس على صلة وثيقة بكبار القوم في طرابلس. واستطاع خلال يومين أن يؤمن لي الخط الدولي الذي تبرع به رئيس الوزراء السابق رشيد كرامي وعلى حسابه الخاص. أما أبو عمار فكان لديه خط هاتف من نوع جديد من خلال الأقمار الصناعية ولأنني كنت سابقا على صلة قوية مع العقيد أبو موسى وأقل قليلا مع العقيد أبو خالد فقد اجتهدت وقلت على طريقة أبو عمار "اللهم إني قد بلغت" ولهذا جلست مع المقدم "داوود أبو الحكم" المحسوب على أبي صالح وقلت له إنني سأكتب رسالة إلى أبي موسى وأبي خالد وأبي صالح  وأشرح لهم فيها خطورة ما هم مقدمون عليه. وكتبت في الرسالة أن الإصلاح الذي تطالبون به هو كلمة حق أريد بها باطل. وهل يتحقق الإصلاح في حضن المخابرات السورية؟ وهل نسيت يا أبو موسى معركة صيدا، وهل نسي أبو خالد معركة الجبل؟ ومن منع إنقاذ مخيم تل الزعتر غير حافظ الأسد؟ وقلت لهم إن كل مؤامرة الانشقاق التي يقف وراءها نظام الأسد هو لمنع فتح والثورة من العودة إلى لبنان لمقاومة إسرائيل.

 بالفعل، سلمت الرسالة إلى المقدم داود أبو الحكم وكان من المفروض أن يعود إلينا في طرابلس، إلا أن أخباره قد انقطعت تماما فلم أسمع منه كلمة ولم أسمع له صوتا مع المنشقين وسنوات عديدة تمضي قبل أن أعرف شيئا من أخباره. لقد طلق زوجته الفلسطينية وتزوج انكليزية وحصل على الجنسية البريطانية وطويت إلى الأبد صفحة هذا الضابط داود أبو الحكم. 

هناك الآن مناوشات في البقاع منذ منتصف أيار بعد بيان الانشقاق "الإصلاحي" يوم 13/5/1983 ولكنها لا تغير شيئا في  المواقع العسكرية على الأرض. فقد كان يقود قواتنا الفدائي القديم العقيد "عبود" وكان هناك العقيد نصر يوسف والعميد زياد الأطرش والعميد علاء حسني. وفي تلك الأثناء اكتشفت سلاحا إعلاميا آخر لتحطيم معنويات المنشقين. فقد وضعت مسؤولة اللاسلكي رائدة جهازا خاصا تحت تصرفي كل يوم لأكثر من ساعة ونصف الساعة. بحيث أتحدث مع المنشقين كبيرهم وصغيرهم، وقالت رائدة أن كل الوحدات من المنشقين وجيش التحرير وحتى جماعة جبريل يفتحون أجهزة اللاسلكي للاستماع إليك. وفي الثمانينات كانت إذاعة مونت كارلو هي الإذاعة الأولى المسموعة عربيا، وقد تفوقت على إذاعة لندن. وكان فيها الإذاعي الشهير نبيل درويش وهو شقيق الضابط إسماعيل درويش الذي اغتاله الموساد في روما بعد أعوام. وبفضل هذا الهاتف الدولي الذي قدمه لنا دولة رشيد كرامي وعلى حسابه الخاص بواسطة الضابط أحمد الأسعد، كنت على اتصال يومي مع إذاعة مونت كارلو. وبالطبع هذه الحرب الإعلامية ضد المنشقين وأسيادهم لم تقتصر على نشاطنا في مخيم البداوي ونهر البارد وطرابلس فهناك الى جانب إذاعات الثورة، المراكز الإعلامية الثلاثة في قبرص وروما وواشنطن، وهناك وكالة "وفا" والإعلام الموحد في تونس. وكانت الصحافة العربية المهاجرة تقف الى جانبنا ما عدا مجلة في قبرص وصحيفة في لندن تابعة للقذافي الذي، ودون مبرر، وقف الى جانب الانشقاق وأرسل القوة الليبية الموجودة في البقاع لقتالنا الى جانب المنشقين.

كانت قوة موقفنا وحجتنا تعتمد أساسا على مقولة الاستقلالية والهوية الوطنية والعصبية لفتح. وكانت قد سقطت أوهام كثيرة في السنوات الماضية وخاصة بعد التدخل السوري عام 1976 في لبنان ضد الثورة حول البعد القومي وقومية المعركة. وأصبح التمايز الوطني الفلسطيني مسألة مسلما بها من قبل الرأي العام الفلسطيني وحتى العربي. وأن حركة المنشقين ليست حركة أصيلة بل موحى بها من المخابرات السورية وهدفها الوحيد ليس الإصلاح بل إغلاق الساحة اللبنانية في وجه فتح. وحملتنا الإعلامية جعلت المنشقين يقفون عراة أمام الشعب الفلسطيني. إن المثقفين الفلسطينيين كانوا السباقين لإدانة الانشقاق والمنشقين، وتحدوا المنشقين في قلب دمشق عندما هاجم هؤلاء مكاتب فتح والمؤسسات والمكاتب والمخازن وأسر الشهداء والدائرة المالية والعقارات وحتى البيوت الخاصة، وأطلقوا النار على العاملين فيها. وكانت المخابرات السورية تنذر شباب فتح إما الانضمام للمنشقين وإما مغادرة سوريا. فلبنان الآن مغلق. وسجلهم في الأردن يجعلهم مطلوبين للمخابرات الأردنية. إن نيران الأنظمة تحيط بهم من كل جانب والسبب أنهم الرقم الصعب في هذا المحيط الرسمي الذي لا مكان فيه لحركة وطنية فلسطينية مستقلة  تناضل من أجل وطنها. وفي ذلك الوقت كانت الجوازات اليمنية الديمقراطية هي المتوفرة بكثرة لدى شباب فتح. فأصدرت المخابرات السورية أمرا باعتقال كل من يحمل الجواز اليمني باعتباره عضوا ملتزما بحركة فتح. والذي لم يفهمه نظام حافظ الأسد ولا العقيد القذافي أن الوطنية الفلسطينية قد أصبحت واقعا فعالا في الحياة السياسية. فهذه الحرب ضد الاستقلالية الوطنية التي تجسدها فتح دفعت الكثيرين حتى في أكثر الفصائل معارضة لفتح إلى مساعدة شباب فتح، ناهيك عن الفصائل القريبة من فتح. والسبب في الحقيقة يعود إلى تجذر الوطنية الفلسطينية في الكوادر والقواعد. فالقائد العسكري للجبهة الديمقراطية ممدوح نوفل وضع كل إمكانات الجبهة لمساعدة شباب فتح ومقاتليها. وكذلك أبو علي مصطفى وهو نائب جورج حبش في الجبهة الشعبية. أما القيادة العامة فرغم شراسة العداء الشخصي من أحمد جبريل لأبو عمار وفتح وولائه الشخصي لسوريا كما كان يقول "ظالمة أو مظلومة" فإن القيادة العامة تعرضت لعدة انقسامات وانشقاقات بسبب انحيازه لسوريا وعدائه لفتح ولأبو عمار بوجه خاص. وهو يتهم أبو عمار أنه كان وراء إبعاده عن قيادة فتح في عام 1965 حيث كانت هناك حوارات لدمج تنظيمه الخاص "ج.ت.ف" مع فتح. إلا أن أبو عمار أصر على إبعاده. وهذا الرجل الذي يكن كل هذا العداء لأبو عمار ودعم المنشقين وفتح لهم الباب الليبي وحارب إلى جانبهم بل في مقدمتهم في طرابلس، فوجئت به في عام 2002 في ذروة الانتفاضة يتصل معي. وسألت من المتحدث فقال أبو جهاد "أحمد جبريل." وكانت القوات الإسرائيلية يومها تهدد بنسف المقاطعة على أبي عمار ومن معه لأنه رفض أن يسلمهم أحمد سعدات والمجموعة التي اغتالت "زئيفي" في القدس، وفؤاد الشوبكي "أبو حازم المالية " الذي يتهمونه بالمسؤولية عن السفينة "كارين A." وسألني أحمد جبريل عن الوضع فقلت له أنه في غاية الخطورة والمجرمون الاسرائيليون بقيادة شارون يهددون بنسف المقاطعة، وأنت تعرف أبو عمار لن يقبل على نفسه أن يسلم أحمد سعدات والآخرين لشارون ويفضل الموت على أن يرضخ لشروط شارون.

فقال أحمد جبريل نحن مستعدون للعمل لتخفيف الضغط الإسرائيلي عليكم، ولكن أطلب منك أن تتصل مع سلطان أبو العينين قائد فتح في لبنان للتعاون معنا. قلت له على الفور. وبالفعل اتصلت مع سلطان للتعاون مع أحمد جبريل. وكانت هناك عمليات قصف قوية للمستعمرات الإسرائيلية. وبعد فترة اغتالت المخابرات الإسرائيلية جهاد أحمد جبريل بسيارة مفخخة في بيروت. وهذا مثال آخر على عمق وتجذر الوطنية الفلسطينية. في الواقع لا أحد مع المنشقين غير حافظ الأسد ومعمر القذافي. أما فلسطينيا فالرأي العام توحد على نحو غير مسبوق ضد المنشقين. وظهر صوت الداخل الفلسطيني في إجماع هذا الضمير العربي وحرك الدول العربية للضغط على سوريا لوقف حربها ضد فتح. فهذا مفتي القدس والأراضي المقدسة الشيخ سعد الدين العلمي يصدر فتوى علنية لإهدار دم حافظ الأسد الذي يذبح الفلسطينيين في طرابلس والمخيمات كما فعل شارون في مجزرة صبرا وشاتيلا. وفي قلب دمشق خرجت جماهير مخيم اليرموك غاضبة ضد جريمة الانشقاق والمنشقين وضد نظام الأسد. واقتحمت مخابرات حافظ الأسد المدعومة بالقوات الخاصة مخيم اليرموك، وقتلت واعتقلت لإسكات الصوت الفلسطيني المستقل. وحتى في البقاع حيث مخيم "ويفل" جاء المنشقون لفرض وجودهم والسيطرة على المخيم. فتصدت لهم نساء المخيم وطردتهم. وكانت المنظمات الشعبية كلها ودون استثناء قد أعلنت وقوفها مع الشرعية الفتحاوية والوطنية وضد الانشقاق وضد الوصاية سواء كانت سورية أو أردنية او عراقية او ليبية. والأفراد من بين هذه المنظمات الشعبية الذين لأسباب مختلفة أخذوا موقفا سلبيا كانوا وحيدين ومعزولين، ولم يكن معهم قاعدة تدعم مواقفهم بل قواعد تدينهم، وتدعم الشرعية. وفي النهاية لم يكن أمامهم غير العودة إلى الشرعية وإلى فتح.

وهذا هو سر انتصار فتح وبقائها في وجه كل هذه المؤامرات. فقد أصبح مستحيلا على  العدو الإسرائيلي أولا وعلى أنظمة الواقع العربي أن تحقق هدفا سياسيا من وراء معاركها العسكرية ضد فتح. وهي تملك القوة العسكرية الكافية والقادرة على هزيمة فتح عسكريا. أما سياسيا فكانت فتح هي المنتصرة دائما. فمناحيم بيغن الذي حاصر بيروت أصيب بالصدمة والاحباط ليس فقط بسبب خسائره البشرية بل بسبب العزلة التي أحاطت بإسرائيل وهو قال يومها: هل أنا أحاصر "ذو اللحية" في بيروت أم هو يحاصر تل ابيب؟

وفي حالة الانشقاق الذي دبره نظام الأسد ضد فتح، فقد افتضح أمره على الأرض أولا. فلولا القوات السورية لما خرجت قواتنا من البقاع. إنها الدبابات السورية التي حاصرت قواعدنا في مجدل عنجر وسعد نايل وجديتا والروضة، وهي التي اعتقلت اللواء نصر يوسف وتوفيق الطيراوي وهي من اغتالت مسؤول العلاقات الدولية مع حركات التحرر المناضل "حليم"، ومن كان على رأس القوات المهاجمة للمخيمات في طرابلس غير غازي كنعان الذي قيل إنه انتحر بعد جريمة اغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان في 14 شباط 2005. أما على الصعيد السياسي فقد أثبتت الهوية الوطنية الفلسطينية أنها البيت الفلسطيني الجامع ومن يخرج على هذا البيت فمشكوك في أمره، ومن ينادي بالإصلاح فعليه أن يبقى داخل هذا البيت ويعمل من داخله. أما حين يقول أبو صالح أنه وسوريا حلفاء ضد عرفات، فهذه رصاصة الرحمة ضد الإنشقاق. ومن مهازل تاريخ هذا الإنشقاق والمنشقين أنه بعد خروجنا من طرابلس 20/12/1983 توهم حلفاء الأسد كما ادعى أبو صالح وأبو موسى وأبو خالد العملة أنه يمكنهم الآن العودة إلى بيروت. وأحدهم كتب على سياراته العسكرية لتضليل الناس "قوات العودة إلى لبنان وقوات العودة إلى بيروت،، وفي نفس هذه اللحظة كان أبو صالح ومن معه يغادر دمشق ويتوجه إلى لبنان وعند نقطة الحدود السورية اللبنانية ( المصنع )  اعترضته القوات السورية وظهر غازي كنعان حليفه في معركة طرابلس ليقول له بكل وقاحة:  لدي تعليمات عليا بأنه ممنوع عليك وعلى كل القيادات الفلسطينية العودة إلى لبنان. وأعيد أبو صالح وفرضت عليه الإقامة الجبرية إلى أن  توفي بالسكتة القلبية في عام 1991 ونسي حافظ الأسد حليفه الذي تبجح بأنه والأسد حلفاء ومعهم موسكو.

وفي الفترة الممتدة من 12/5/1983 وحتى 24/6/1983 كانت اللجنة المركزية لفتح قد بذلت كل جهد مستطاع لاحتواء الإنشقاق. وفشلت كل هذه الجهود سواء حول إلغاء التنقلات أو حول الإستعداد لعقد المؤتمر العام، أو حول ضبط الإدارة ومحاربة الفساد "كما كانوا يدعون " والإستعداد لضبط الموقف السياسي واستعادة التحالف مع سوريا. وكأن المسألة أننا لا نريد التحالف مع سوريا بينما الحقيقة أننا نتعرض للتصفية كحركة وطنية لإلحاقنا ورقة ضغط أو حجر شطرنج أو بيدق بيد نظام حافظ الأسد. وفي الواقع كان لفتح قيادة مؤهلة وأصيلة ومتجذرة في وطنيتها. وليس في مواقفها ما يعيبها أو يضعف من قدرتها على المواجهة لحماية الحركة الوطنية الفلسطينية التي ترفع راية الاستقلال في القرار والعمل. وكان لظهور أبو عمار ومعه أبو اياد وأبو اللطف وأبو الهول في البقاع في أواخر أيار 1983 في جولة على قواعدنا في البقاع أكبر الأثر في تصليب إرادة المقاتلين في وجه المنشقين والقوات السورية التي تنصب لهم الحواجز وتعتقلهم. ولا تعترف إلا بأوراق الإجازة والتحرك الصادرة عن المنشقين وبتوقيع أبو موسى.

وفي الوقت الذي كانت حركة فتح تتعرض لاتهامات الإستسلام كانت قوات فتح تقاتل قوات الإحتلال الإسرائيلي في لبنان وفي الأرض المحتلة وتأسر تسعة جنود إسرائيليين في الجبل. وبالصدفة أعطى شباب فتح ثلاثة منهم لمجموعة تابعة لأحمد جبريل لأن السيارة لا تتسع لأكثر من ستة جنود في لحظة عصيبة في معارك الجبل في أواخر عام 1982 وبعد خروجنا من لبنان. في العشرين من حزيران 1983 توجهت من طرابلس مع أبو عمار إلى دمشق لحضور اجتماع المجلس الثوري هناك وكنت منذ عام 1980 وبعد المؤتمر الرابع قد عينت عضوا في المجلس إلى جانب نبيل عمرو وأمين الهندي وهواري. وكان الجو العام في دمشق خانقا حقا، فالشعارات الثورية التي تطلقها إذاعة وتلفزيون دمشق ومقالات الصحف الرسمية الخاضعة بالمطلق لسيطرة المخابرات تكاد توهمك أنك في فيتنام، علما أنه لا يسمح بطلقة واحدة لتحرير الجولان. وهناك ضحايا كثيرون لهذا النمط المزيف من أنظمة الحكم، سرقت الشعارات الثورية وتبني الإشتراكية الكاذبة للسيطرة على الإقتصاد الوطني وعلى الأرض حرب طاحنة ضد من يعمل قولا وفعلا لتحرير فلسطين أو على الأقل حتى لا تموت قضيتها بانتظار تحقيق ادعاء الأسد بأنه سيحارب عندما يحقق التوازن الإستراتيجي مع العدو. وهل يمكن لعاقل أن يصدق هذا الإدعاء ما دامت إسرائيل في حقيقتها لسيت إلا ولاية أمريكية موجودة جغرافيا في الشرق الأوسط. وجدت شبابنا في دمشق وهم كوادر قيادية يجمعون تصريحات منسوبة لأبو عمار وأبو إياد وصور عن لقاءات هنا وهناك وعن اتصالات  سرية مع مصر بعد كامب ديفيد، ويضعون هذه القصاصات المزورة في وجوهنا وفي مقابل ما يبدو على السطح وفي الظاهر أنه الموقف السوري الذي ضد إسرائيل وضد الإمبريالية. وقلت لهم: ولكن هل يمكنكم الذهاب إلى لبنان إلا تسللا، وهل قواتنا التي عادت إلى سوريا خرجت من معسكرات الإعتقال التي وضعت فيها.؟ وتعالوا إلى طرابلس وتعالوا إلى البقاع لتروا بأعينكم أن كل ما تسمعونه ليس إلا مجرد  أكاذيب وتضليل. المعركة يا شباب ضد فتح لأن فتح هي الحركة المستقلة التي تناضل من أجل فلسطين، وعلى الأقل حتى  لا تموت قضيتنا بسبب هزال هذه الأنظمة التي لا تجد وسيلة لحماية بقائها من إسرائيل غير القضاء على فتح.

 وأدركت في حواراتي مع هؤلاء الشباب أنهم لا يؤيدون المنشقين بل يدفعون عن أنفسهم الإتهامات التي تروج ضد  فتح لأنها تمسهم شخصيا. ورغم كل الجهود الصادقة لتهدئة الخواطر وإظهار خطورة الإنشقاق وبأنه عمل من أعمال المخابرات السورية، ففي جلسة المجلس الثوري قرأ أبو خالد الصين وهو كادر قديم مذكرة باسم خمسة أو ستة من أعضاء المجلس، كانت في غاية القسوة والسلبية. ولكن صلابة أبو عمار وقدرة الإقناع عند أبو إياد أعادت الأجواء الصحية للمجلس الثوري. وغادرنا دمشق مع أبي عمار ليلا إلى طرابلس مساء يوم 22/6/1983، وفي منتصف الطريق أمر أبو عمار بتغيير الطريق من طريق حمص المعتادة إلى طريق بعلبك - الهرمل، وهي طريق وعرة وخطيرة بين الجبال. وقد وصلنا طرابلس عند الفجر. وكانت الصدمة مذهلة حين علمنا أن بقية الموكب التي تابعت سيرها على طريق حمص قد تعرضت لكمين على الطريق حيث أطلقت النار على الموكب فقتل أحد المرافقين وجرح خمسة آخرون ودمرت السيارات بقذائف "آر بي جي" ولم يكن أمامي غير الإدلاء بتصريح بالهاتف لإذاعة مونتي كارلو قلت فيه إن المخابرات السورية قد دبرت الكمين لإغتيال أبو عمار. ولا يعقل أن يكون هناك كمين على هذا الطريق الدولي دون علم المخابرات السورية. وبعد ساعات اتصل رفعت الأسد وطلب حضور أبو عمار إلى دمشق لمقابلة الرئيس الأسد. وبالمناسبة كان موقف رفعت الأسد ضد موقف الرئيس الأسد في هذه المعركة ضد فتح. وفيما بعد قام رفعت الأسد بزيارة سرية إلى تونس وتحدث طويلا عن معارضته لمواقف أخيه والتي انتهت بتجريده من كافة صلاحياته وسلطاته وطرده خارج سوريا. وفي هذه الزيارة أهداه أبو عمار سيفا مذهبا تقديرا لمواقفه ومساعدته أثناء حصار طرابلس. وصل أبو عمار دمشق مساء 23/6/1983 بناء على طلب رفعت الأسد وذهب لمقابلته في بيته في منطقة المزة. وبعد اللقاء عاد أبو عمار إلى مقره المعروف بال "23"في السبع بحرات وسط دمشق. ولكن أخبار الكمين الفاشل كانت قد غطت نشرات الأخبار في مونت كارلو ولندن وحتى الإذاعات  العربية وكل أصابع الإتهام توجه إلى المخابرات السورية. ويبدو أن الرئيس الأسد قد اشتبه أن شقيقه رفعت الأسد هو من سرب خبر الكمين لأبو عمار. ولهذا لم يكن أمامه غير إلحاق إهانة بياسر عرفات فأصدر أمره بإبعاد أبو عمار من سوريا، واعتبار أبو جهاد شخصا غير مرغوب فيه وتمكين المنشقين من السيطرة على ما تبقى من مؤسسات فتح. وبالفعل غادر أبو عمار دمشق مطرودا وعلى الطائرة المدنية المتوجهة إلى تونس. هذا القرار شكل صدمة كبيرة لأبناء فتح الصامدين في طرابلس وصدمة لأهلنا في الداخل ولأهلنا في المخيمات والشتات. وجاء هذا القرار الطائش ليؤكد كل خطابنا الدعائي ضد المنشقين وأنهم ليسوا إلا معول هدم بيد حافظ الأسد ضد فتح، وأن القتال الذي يجري في البقاع هو هجوم غادر من القوات السورية ضد قواعد الفدائيين. وما الذي يجعل حافظ الأسد يوجه الجيش السوري لمحاربة فتح بدل أن يحرر الجولان أم أن الجولان ليس قطعة من أرض سوريا؟ وهل أصبح الفدائيون اليوم هم الخطر الأكبر على نظام الأسد وليس الإحتلال الإسرائيلي؟ وأليست هذه الحرب التي يشنها الأسد ضد فتح وأبو عمار هي استمرار لحرب إسرائيل وشارون ضد الثورة في عام 1982؟ وحين نقلت الإذاعات قرار طرد أبو عمار وانتشر الخبر الصاعق لم يكن أحد من اللجنة المركزية في طرابلس. كان أبو جهاد في البقاع وكذلك أبو الهول. وخشيت في الواقع من هذا الفراغ القيادي الذي يمكن أن يؤثر على معنويات القوات والمقاتلين. ولهذا لم أنم تلك الليلة أبدا. وبدأت أبحث عن الرتبة العسكرية الأعلى لتحريكها على مستوى القوات والقيام بجولات تفقدية على كافة المواقع. وقد ساعدني في هذه المهمة فؤاد الشوبكي "أبو حازم المالية " وهو رجل عمل لا يكل ولا يمل ويقضي الأن عقوبة لمدة عشرين عاما في سجون الإحتلال بسبب سفينة الأسلحة كارينA . وقال أبو حازم: أمس وصل عبد الرزاق المجايدة وهو أعلى رتبة عسكرية وكانت تربطني باللواء أبو العبد المجايدة علاقة طيبة منذ دورة التعبئة العامة للعاملين في الأجهزة المدنية في بيروت شباط 1982. وقد كلفني بإلقاء كلمة الخريجين بعد انتهاء الدورة. ذهبت إليه مع فؤاد الشوبكي " أبوحازم المالية" وتحدثت معه عن عدم وجود أحد من اللجنة المركزية في طرابلس والشمال بعد قرار حافظ الأسد طرد أبو عمار هذا اليوم، وأبو جهاد مع القوات في البقاع وكذلك أبو الهول مسؤول الأمن. ولهذا فمسؤوليتنا جميعا في هذا الوقت العصيب أن نثبت لحافظ الأسد وأزلامه وعملائه أننا سندافع عن فتح وعن قرارنا الوطني وعن حقنا في الوجود فوق كل أرض عربية لمحاربة إسرائيل. ويخطئ حافظ الأسد إذا اعتقد أن إبعاد أبو عمار سيؤدي إلى انهيار فتح في طرابلس والمخيمات. ومن هنا علينا أن نتحرك ونعزز المعنويات في المخيمات وبين القوات. كما تحدثت مع قائد الكفاح المسلح أبو طعان  لنفس الغرض وقد اعتقلته القوات السورية فيما بعد وقضى في السجون السورية عشرين عاما وكذلك مع الضابط الشجاع بلال أبو زيد قائد الميليشيا ومع العقيد عبد المعطي السبعاوي ومع قائد ال "17" فيصل أبو شرخ، ومع المفوض السياسي مازن عز الدين ومع مسؤول التنظيم أبو رفعت. وأدى أبو العبد المجايدة دوره على أكمل وجه، فقام في اليوم الثاني بجولة على القوات في محيط مخيم البداوي وفي جبل "تربل" وفي مخيم نهر البارد وصولا إلى نقطة الحدود السورية وتدعى"تلال العبدة." وواصل أبو العبد المجايدة مسؤوليته القيادية الأولى لمدة ثمانية أيام حيث وصل أبو جهاد يوم 3/7/1983 إلى طرابلس قادما من البقاع. وحين إغتالت إسرائيل أبو جهاد في تونس في 16/4/1988 بعد عملية "ديمونا" كانت وصيته أن يدفن في دمشق. فخرج في جنازته مليون شخص تكريما من الشعب العربي السوري لقائد فتحاوي شجاع لم يكن يستحق أبدا أن يعتبره حافظ الأسد شخصا غير مرغوب فيه وممنوعا من دخول سوريا. وهدأت أعصابنا جميعا بوصول أبو جهاد الى مخيم البداوي. فهذا القائد المؤسس هو العمل الدؤوب وهو المثابرة المستميتة على البقاء والإستمرار والفعل والعطاء. إنه "دينامو" فتح الذي يعمل ليل نهار. مسكون بفتح ومسكون بفلسطين. وفي الواقع لم أكن محسوبا على أبو جهاد، بل كنت مع ماجد أبو شرار قريبين من أبو صالح.

 وحين حضر أبو جهاد لمركز الإعلام في بنايات أبو النعيم وكان معه المجايدة وفؤاد الشوبكي " أبو حازم المالية"، شكرني أبو جهاد "على الدور الذي يقوم به الإعلام في فضح المؤامرة التي يقودها حافظ الأسد للقضاء على ثورتنا."وقلت لأبو جهاد: أنا مع كل الدعوات الإصلاحية ومع تصليب فتح، ولكن لن يكون هناك إصلاح من خلال نظام حافظ الأسد. وأنا أعرف هذا النظام الذي اعتقلني مرتين في 1973و1978، إنهم لا يعترفون بنا أبدا. وأبو صالح ومن معه ليسوا إلا خونة، ولن يكون مصيرهم غير مزبلة التاريخ.

وتناول أبو جهاد العشاء معنا في الإعلام. وكنت قد هيأت الدور الأرضي ليكون مركزا للتموين وقاعة طعام ومطبخا يعمل "24"ساعة بإشراف المرأة العظيمة من مخيم البداوي "أم محمد"طيب الله ثراها. وقد اكتسبت هذه الخبرة من أبو عمار الذي كان يشرف بنفسه على كل صغيرة وكبيرة وفي تموين القواعد والمقاتلين ويقول: الجيوش لا تزحف على بطونها. "ولم يقبل يوما أن يتناول طعامه لوحده أو أن يقدم له طعام خاص، وإذا حصل شيء من هذا، يقوم بنفسه بتوزيع هذا الصنف من الطعام على جميع الجالسين على المائدة العامرة دائما والمتاحة لكل من يكون موجودا.

في الواقع تولى أبو جهاد قيادة القوات في طرابلس وفي البقاع من 3 تموز 1983 وحتى 20 أيلول 1983 حين عاد أبو عمار إلى طرابلس عن طريق البحر. وهذا الحدث الدرامي سيأتي الحديث عنه لاحقا أما الآن وطوال شهري تموز وآب 1983 كان أبو جهاد يتولى الإشراف اليومي على التحصين والتدريب والتسليح. وبدأ أبناء فتح يتدفقون على طرابلس بحرا وبرا غير آبهين بالخطر الحقيقي الذي ينتظرهم في طرابلس. وكل شاب من نهر البارد أو البداوي يتقدم للإلتحاق بالقوات، يتم قبوله فورا وإلحاقه بمعسكر التدريب ويخضع لدورات عسكرية مكثفة. ووصل من قوات عين جالوت بمساعدة مصرية، ضباط محترفون ومنهم الضابط في المدفعية "عبد الرحيم."وتلقينا سفينة محملة بالسلاح والذخائر من ألمانيا الديمقراطية أرسلها لنا الرئيس إريك هونيكر. ولم ينس أبو عمار هذا الصديق للشعب الفلسطيني بعد إنهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين وتوحيد ألمانيا حيث سقط النظام الإشتراكي وأعتقل "هونيكر"لبعض الوقت ولكن السلطات الألمانية أفرجت عنه بسبب حالته الصحية. وظل أبو عمار يسأل عنه حتى وجده في جمهورية تشيلي عند إبنته المتزوجة هناك. فأرسل له المساعدة الضرورية لحياته وعلاجه. وأمر أبو عمار بإستمرار هذه المساعدة ألى أن وافت المنية هونيكر في تشيلي.

كما وصلت سفينة أخرى تحمل شحنة من الصواريخ من كوريا الشمالية. أما على الصعيد السياسي، فأبو عمار من تونس حرك الدنيا كلها ضد حافظ الأسد. فالجزائر وقفت علنا ضد الانشقاق، واليمن بشطريه أدان الانشقاق ووقف مع الشرعية. والاتحاد السوفياتي أخذ يبتعد عن الموقف السوري ويدين الإقتتال ويدعو إلى الوحدة. وحده العقيد القذافي وقف مع الأسد وهدد بتدمير طرابلس على رؤوسنا، وهو نفس الموقف الذي أبلغه خدام لقادة فلسطينيين حيث قال: "طرابلس ليست أعز علينا من حماة او من حلب."

وفي معركة الرأي العام، كان المنشقون يرددون أسماء العقداء الذين انضموا للانشقاق للإيحاء بأن الضباط الكبار قد التحقوا بالمنشقين وأن فتح أصبحت بلا ضباط برتبة عقيد. ولهذا قررت وحدي ودون أن أستشير أحدا. وأعلنت من إذاعة مونت كارلو قرارا باسم القيادة بتعيين الضباط الثلاثة التالية أسماؤهم على النحو التالي:

_ العقيد عبود قائدا لقوات الكرامة 

_العقيد زياد الأطرش قائدا لقوات القسطل 

_ العقيد علاء حسني قائدا لقوات الكرمل

وما دمت قد أعلنت هذا القرار باسم قيادة قوات العاصفة، فقد اعتقد أبو جهاد أنني تلقيت هذا القرار من أبو عمار الموجود في تونس. وقد طلبت من نبيل درويش أن يكرر التصريح والقرار في نشرات الأخبار الرئيسة. وحين حضر أبو جهاد في المساء كان سعيدا بالقرار ولكنه اعتقد أن مصدره أبو عمار. وهو الحريص كل الحرص على عدم الاقتراب من صلاحيات القائد العام أبو عمار وكان إذا أراد القيام بعمل لا يتردد في الإتصال مع أبي عمار وأخذ موافقته. وكانت هذه الثقة المطلقة بين الرجلين هي الأرضية الصلبة التي تقف عليها فتح. وحين قلت لأبو جهاد أنني أتحمل وحدي كامل المسؤولية عن هذا القرار بعد أن وجدت أن هناك ثغرة في موقفنا لدى الرأي العام وهي النقص الواضح في العقداء مقابل ما يردده المنشقون يوميا عن أسماء العقداء الذين يشكلون قيادتهم. وكانت فرحة أبو جهاد لا توصف، وضحك من قلبه. وحين أجرى أبو جهاد الإتصال اليومي مع أبو عمار كان رد أبو عمار على هذا القرار "على بركة الله. " إلا أنه كعادته أخذ يستفسر عن القوات والمواقع والتحصينات ويكرر "خذ بالك يا أبو جهاد" ،"خذ بالك يا خويا." وبهذا القرار الذي اكتسب الشرعية بفرحة أبو جهاد وبركة أبو عمار أغلقت ثغرة كنت أراها في حملتنا الإعلامية لعزل المنشقين وإفقادهم أي تأثير أو أي صوت في أوساط الرأي العام الفلسطيني.

وكان أبو جهاد رغم حملتنا الضارية لفضح الدور السوري الذي يقف وراء الإنشقاق وفضح أهدافه لا يترك فرصة لتوجيه رسالة للمسؤولين السوريين الذين يعرفهم إلا ويغتنمها على أمل التوصل إلى حل وسط مع حافظ الأسد بحيث لا تخسر فتح كل الأرض المحيطة بفلسطين. وسوريا هي القلب بين لبنان والأردن. أرسل أبو جهاد رسائل إلى عبد الحليم خدام وإلى مصطفى طلاس وإلى حكمت الشهابي. أما على الأرض في البقاع والشمال وفي الجبل حيث قواتنا في المتن وبحمدون وعالية، فقد استطاع أبو جهاد أن يكون على اطلاع كامل على تحركات حلف الشيطان الذي يجمع أحمد جبريل والمنشقين والصاعقة والليبيين. ولهذا كانت تحركاتهم مكشوفة. ولولا تدخل الدبابات السورية في البقاع لما استولى المنشقون على أي قاعدة من قواعدنا. وهنا لا بد من الاعتراف أن كافة القواعد الفدائية في البقاع من كل الفصائل كانت تقف مع فتح، على الرغم من صمت  قياداتها في دمشق على جريمة المنشقين، وحين اشتد الضغط العسكري السوري في أواخر آب وأوائل أيلول 1983 على قواعدنا، انشقت الصاعقة وجبهة التحرير الفلسطينية والقيادة العامة وجبهة النضال الشعبي. وأما جيش التحرير فقد رفض العديد من ضباطه وجنوده مهاجمة طرابلس والبارد والبداوي بل قاموا بالالتحاق بفتح بكامل عدتهم وعتادهم وبدباباتهم. وهذه شهادة للتاريخ أن مرافقي الشخصي الضابط جمال مغامس وهو من مخيم نهر البارد والأصل من صفوريا قد قاد دبابة من هذه الدبابات وأوصلها إلى مخيم البداوي. وشكل وصولها فرحة عارمة للمقاتلين ولأهل المخيم. وقد استشهد المقدم جمال مغامس أثناء العدوان الإسرائيلي  على قطاع غزة في يناير 2009 وكان يعمل منذ دخول السلطة في الحرس الخاص بالرئيس أبو عمار. كما استشهد في مواجهة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المناضل الكبير "رزق أبو الكاس" أحد أبطال أيلول الأسود والذي بعد خروجه من سجن عربي قال لي أبو إياد خذه عندك في الإعلام. فقد تكتشف الأجهزة المعادية هويته الحقيقية إذا عاد للعمل في الأمن الموحد.

في أواخر آب 1983 حضر أبو جهاد إلى مركز الإعلام في بنايات أبو النعيم وقال لي: ما رأيك في زيارة زغرتا والإجتماع مع رئيس الجمهورية السابق سليمان فرنجية؟

وقلت لأبو جهاد: هذا أسوأ رئيس عرفه لبنان، وهو كما تعلم مع حافظ الأسد وضدنا.

قال أبو جهاد: لقد رتبت اللقاء مع جماعة المردة وهي القوة العسكرية لسليمان فرنجية. وفهمت أن سليمان فرنجية قد وافق على استقبال أبو جهاد، بفعل جهود قادة المردة الذين تعرضوا لضربة قاتلة من بشير الجميل الذي هاجم زغرتا وقتل طوني فرنجية وزوجته وأكثر من 400 مقاتل من ميليشيا المردة، وفيما بعد ارتكب مذبحة ضد جماعة كميل شمعون حيث قضى على دوري شمعون وأباد قوته العسكرية ليصبح الحاكم المطلق للمناطق المارونية وينتخب فيما بعد رئيسا للبنان ولو لأيام قليلة حيث تم اغتياله مساء 14/9/1982 بتفجير بيت الكتائب المركزي حيث كان بشير الجميل يعقد اجتماعا لأركان قيادته. ودبر شارون مجزرة صبرا وشاتيلا في 17/9/1982 انتقاما لإغتيال بشير الجميل وقد قام بارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا "ايلي حبيقة"وعصاباته إلا انه لقي المصير الذي يستحقه حيث  تم اغتياله بعد سنوات بعبوة ناسفة لاصقة في سيارته قضت عليه ومزقته أشلاء.

هذه هي الحياة في لبنان. وليس عليك أن تتوقع أمنا أو استقرارا في بلد تسكنه الطوائف وتتقاسم السلطة فيه وتجاوره سورية التي تتصرف على أن لبنان جزء من سوريا اقتطعه الإستعمار ليحول جبل لبنان الماروني والدرزي إلى دولة. وهناك فلسطين التي أغتصبت من الحركة الصهيوينة وشعبها لن يهدأ إلى الأبد حتى يستعيدها. وحتمية تاريخية وقومية وجغرافية أن يتحرك هذا الشعب في المحيط العربي المجاور لفلسطين باتفاق أو بدون اتفاق، وفي ظل حرب شاملة أو سلام دائم، هذه هي حقيقة الحياة في الشرق الاوسط.

خرجنا من طرابلس باتجاه زغرتا وهي منطقة جبلية عالية وكان يسير أمامنا دليل حتى لا نقع في كمين، فالمنطقة أرخبيل مسلح وكله عداوات وثارات لا تنتهي. واقتربنا من المنزل وهو عبارة عن بيوت عادية تماما مبنية على مرتفع من الأرض وحولها سور متواضع لا يوحي بالفخامة أو الأبهة. وكان الوقت صيفا والحرارة شديدة. ولهذا كان اجتماعنا مع سليمان فرنجية في "عريشة"أمام المنزل مطلة على منطقة مشجرة تحيط بالمنزل. وخلال دقائق خرج أبو طوني من المنزل وتوجه إلى العريشة حيث رحب بفتور ودون مصافحة وجلس، وقبالته جلس أبو جهاد وأنا إلى جانبه. وبدأ أبو جهاد حديثه بشرح مأساة الشعب الفلسطيني المشرد على أمل أن يستدر عطف أبو طوني بحيث يتوسط مع حافظ الأسد لوقف هذه الحرب علينا. وأننا مستعدون لأية ترتيبات سواء داخل المنظمة أو مع سوريا ولكن، كما ترى يا فخامة الرئيس، فالقضاء علينا إنما يخدم مصلحة إسرائيل. كان الرئيس السابق للبنان سليمان فرنجية يستمع وبيده مسبحة يحركها بعصبية، وكأنه غير مرتاح لما يسمع على الرغم من الطاقة العاطفية الهائلة عند أبو جهاد وهو يشرح مأساة شعبه. صمت أبو جهاد بعد حديث استغرق أكثر من ربع ساعة متواصلة، ورفع سليمان فرنجية نظره ووجه كلامه مباشرة إلى أبو جهاد وقال: ما دام هذا الرجل يقودكم فلا أمل لكم مع سوريا، أبو عمار لا يثق به أحد من الحكام العرب، إنه ينقض كل اتفاق ولا يحترم كلمته، إنه رجل خطير وهو وراء حرب 1967 ووراء حرب 1982 واحتلال بلدنا لبنان، وهو الذي يتحمل مسؤولية الحرب الأهلية التي دمرت هذا البلد، وانا أعرف حافظ الأسد وهو لا يطيق أن يسمع إسم ياسر عرفات. ولقد ذهبت باسم العرب جميعا لدعم حقوقكم في عام 1974 وتعرضت للإهانة من الأميركيين لأنني كنت إلى جانب ياسر عرفات في الأمم المتحدة في ذلك العام.

وعلى كل حال، أنا أقدرك، وما دام أبو عمار بعيدا في تونس، وأنت تتولى الأمور قد يكون هناك فرصة لتهدئة الوضع مع السوريين. أنا أرى أنه منذ إبعاده يسود الهدوء بينكم كفلسطينيين في البقاع، وإسرائيل بدأت تنسحب من الجبل ومن صيدا ومن صور ومن النبطية. وأنا ضد اتفاقية 17 ايار 1983 التي وقعها أمين الجميل. ولولا السوريون ودعم الروس لهم لظلت لبنان محتلة كفلسطين. أنا كلبناني لا أريد سلاما مع إسرائيل، وقد يكون ممكنا أن يقبلك السوريون ولكنهم لن يقبلوا ياسر عرفات. جربوه مئات المرات وكل مرة يكذب عليهم. أنا سأذهب الى دمشق وأنقل له ما سمعته منك حول استعدادك لتنسيق الأمور كلها معهم، وسوف ينقل لك شباب المردة ما سيقوله الرئيس الأسد.

انتهى اللقاء الذي لم يزد عن أربعين دقيقة وأعتقد أن القهوة لم تمس. فأبو جهاد لا يشرب القهوة  أبدا، وأنا لم أجد من المناسب أن أتصرف وكأن الوضع طبيعي في هذا اللقاء المؤلم مع هذا الرجل الذي يحمل أبو عمار مسؤولية فشله كرئيس للجمهورية. وحين وقف أبو جهاد، نهض سليمان فرنجية متثاقلا وقال له أبو جهاد، شكرا على استقبالك لنا ونأمل بمساعدتك، وكن مطمئنا أن ما طلبه شباب المردة في طريقه إليهم الآن.

وظهر رجاله الذين كانوا يجلسون تحت العريشة واصطحبوا أبو جهاد وأنا إلى السيارات وساروا أمامنا في طرق متعرجة لضمان عودتنا سالمين إلى طرابلس. أما أبو جهاد فقد قال لي ونحن في السيارة: على أمل أن نكسب بعض الوقت، قلت له: ولكن ما تفسيرك لهذا الهدوء بيننا وبينهم لمدة أكثر من أربعين يوما.

قال أبو جهاد: السوريون مشغولون الآن باستعادة مواقعهم في الجبل ويتابعون الانسحاب الإسرائيلي من المناطق الدرزية ومن مدن الجنوب. ولكنهم سيرتدون علينا. فلم يبق لنا قواعد إلا في شمال البقاع وفي الهرمل. وقد أعطيت أمرا بعدم الاشتباك مع القوات السورية. ولكنهم يعملون كالجرافة أمام المنشقين في بر الياس وسعد نايل وتعنايل وتعلبايا. والدبابات السورية، وليس المنشقين، هي التي هاجمت مواقعنا في مجدل عنجر.

عدنا إلى مخيم البداوي، واستمر العمل كالمعتاد على الأرض. ومن جهته أبو عمار في تونس يجمع الشخصيات الفلسطينية وتتحرك الوساطات باتجاه دمشق. واستطاع أبو جهاد أن ينقل الجنود الإسرائيلين الأسرى وعددهم ستة جنود من الجبل وحتى طرابلس. وكان هذا العمل انجازا عظيما لنا، حيث كان هناك خوف أن القوات السورية التي تقيم مئات الحواجز من أجل هذا الغرض قد تأخذهم من شبابنا. وبالطبع إذا كان هناك أسرى إسرائيليون فالصليب الأحمر الدولي يتدخل، وسفراء الدول ووزراء خارجيتها يذهبون ويجيئون من أجل هؤلاء ذوي الدم الأزرق. أما أسرانا عند إسرائيل فلا أحد يكترث لهم غير نقل الرسائل من الأسير إلى ذويه. كان الأسرى الستة ورقة ثمينة بيد أبو عمار. فأرسل وفدا إلى جنيف لإجراء محادثات مع الصليب الأحمر الدولي لهذا الغرض وفي الإتصالات يقول لأبو جهاد: دير بالك على الأمانة التي بطرفك "وهؤلاء غدارون. "

وفي الأيام الأولى من أيلول 1983 وصل فتحي الرازم "سلبد" إلى مخيم البداوي قادما من تونس عن طريق البحر. وحين جاء لزيارتي حرص أن نجلس وحدنا في غرفة مغلقة وقال لي: طلب مني أبو عمار أن أتحدث مع أبو جهاد ومعك، ويجب ألا يعرف أحد بهذا الحديث. وسألني فتحي عن الأوضاع على الأرض وعن علاقتي مع أبو جهاد. فشرحت له بالتفصيل ما تم إنجازه على الأرض في حدود ما لدي من معلومات وأوضحت له أسباب تعيين العقداء الثلاثة وقلت له: أبو جهاد يحاول كسب الوقت ولهذا الغرض يحاول تهدئة الأوضاع مع السوريين وقد زرت مع أبو جهاد سليمان فرنجية لهذا الغرض فعلاقته جيدة مع السوريين. وقلت للشباب أن يجمعوا أعداد الصحيفة اليومية ليأخذها فتحي معه إلى أبو عمار. فقد خشيت أن يشعر أبو عمار أننا نتصرف بمعزل عنه أو أننا قد نسيناه وفي الحقيقة لم يصدر عدد واحد من الصحيفة إلا وصورته في الصفحة الأولى وتحت تصريح له قاله أو قولته إياه. فأبو عمار بالنسبة لفتح هو الروح الخلاقة التي تبعث الحياة في فتح بل وفي شعبنا.
وفاجأني فتحي بهذا السؤال 
_ هل ترى ضرورة أن يحضر أبو عمار إلى طرابلس؟
ولم أتردد في القول: يجب أن يحضر حتى ولو هبط بالمظلة من السماء.
وأعاد فتحي السؤال بطريقة أخرى وقال: هذا رأيك النهائي؟
قلت له: وأنا أعتقد أن أبو عمار لن يقبل لنفسه أن يكون بعيدا عن هذه المعركة، فهو قائد معاركنا كلها، وهذه معركة البقاء ومعركة القرار الوطني المستقل

أحمد عبد الرحمن يروي تفاصيل وصول أبو عمّار إلى طرابلس من قبرص .. ما قصة "السمك" ؟ وحكاية "العالم الجزائري" ؟

أحمد عبد الرحمن يروي تفاصيل وصول أبو عمّار إلى طرابلس من قبرص .. ما قصة "السمك" ؟ وحكاية "العالم الجزائري" ؟
صورة حصرية لدنيا الوطن اثناء وصول عرفات الى طرابلس

الفصل الثالث عشر

فعل الشجاعة الأكثر تألقا في حياته

بعد هدوء استمر شهر آب 1983 بكامله أصدرت القيادة العسكرية السورية برئاسة غازي كنعان قرارا نهائيا بإخراج قواتنا من جميع مناطق البقاع. وكانت الأوامر من أبو عمار ومن أبو جهاد بعدم الاشتباك مع القوات السورية. وبدأت قواتنا التي يزيد تعدادها على ألفين وخمسمئة مقاتل تتحرك في جبال الهرمل بعيدا عن الطرق الرئيسة لتجنب الاحتكاك مع القوات السورية. أما بعض الوحدات في الجبل فقد استقرت في المناطق الدرزية بعد إخراجهم على يد القوات السورية من المتن والبقاع. وتسلل المئات من بحمدون وعالية إلى داخل المخيمات في بيروت، برج البراجنة وصبرا وشاتيلا، وعدد آخر وصل إلى مشارف صيدا، أما الجسم الأكبر فكان يقطع جبال الهرمل في مسيرة كبيرة باتجاه طرابلس  ومخيم نهر البارد والبداوي. وبعد هذا القرار الخطير الذي أصدره غازي كنعان تصاعدت حملتنا السياسية والإعلامية ضد النظام وضد حافظ الأسد، وتضاءل اهتمام وسائل الإعلام بالمنشقين. وتوضحت صورة الصراع على حقيقتها إنه نظام الأسد الذي يكمل المهمة التي بدأها شارون قبل عام واحد فقط. وسقطت دعوات التصحيح والإصلاح التي تشدق بها المنشقون. ووقفت حركة الانشقاق عارية مكشوفة ومفضوحة أمام الرأي العام الفلسطيني بأنها مجموعة من عملاء المخابرات السورية.

 وفي تلك الأيام الصعبة سمعت تصريحا لقدري "سميح كويك" وهو إلى جانب أبو صالح الذي أعطى شرعية ولو وهمية للمنشقين وقد قال قدري في تصريحه: إن حركة التصحيح تمسك الآن بزمام المبادرة التاريخية، وكتبت تعليقا ساخرا أقول فيه: وأخيرا فهم هذا الدعي أن زمام المبادرة التاريخية هو أن يكون ومن معه، أحجار شطرنج في يد المخابرات السورية، ونقول له: يا ليتك تمسك بزمام المبادرة التاريخية وأنت تقاتل إسرائيل وليس وأنت ألعوبة في يد المخابرات السورية ضد فتح يا ناكر الجميل، وهل سألت نفسك إلى أين ستصل بهذا التاريخ الذي تمسك بزمام مبادرته؟ وأنتم أيها المنشقون لستم إلا حصان طروادة للوصاية السورية وقد نسقط شهداء في هذا القتال دفاعا عن حركتنا الوطنية وعن قرارنا الوطني المستقل وعن حقنا في الكفاح المسلح من كل الأرض العربية ضد إسرائيل. أما أنت ومن معك فماذا سيقول عنكم التاريخ.؟ سأقول لك من الآن إن التاريخ سيكتب عنك وعن أمثالك كلمتين فقط "خائن الشعب."

وكنا في أوائل أيلول نتابع رحيل قواتنا بالأوامر السورية من شمال البقاع  إلى طرابلس. وفي الوقت نفسه فهناك معارك تشارك فيها قواتنا في الجبل في بحمدون وعالية والمناطق الدرزية لطرد قوات الكتائب اللبنانية التي احتلت هذه المناطق مع القوات الإسرائيلية. وقد شكلت قواتنا مع الشعبية والديمقراطية قوة حقيقية في الجبل تعمل مع وليد جنبلاط لتطهير المناطق الدرزية من سيطرة حزب الكتائب. واستطاعت إخراج الكتائب من كل هذه المناطق. وفي يوم 20 أيلول 1983 وفي الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم المشهود قطعت إذاعة مونت كارلو نشرة الاخبار ليقول المذيع جاءنا الآن ما يلي: "قال مسؤول سوري كبير إن ياسر عرفات شوهد ظهر اليوم في جزيرة قبرص وأنه قد يكون توجه بحرا الى طرابلس."

نزل الخبر علي كأنه الصاعقة. وأسرعت أبحث عن أبو جهاد، وحين وجدته كان في حالة عصبية. فهذا الخبر معناه دعوة إسرائيل المسيطرة على البحر أن تقوم بإعتقال أبو عمار وربما قتله. وعدت إلى مركز الإعلام واتصلت مع نبيل درويش ورجوته أن يتوقف عن إذاعة الخبر في نشرات الأخبار اللاحقة. وتمكن من إقناع مدير الإذاعة بذلك. وأجريت اتصالا مع حكم بلعاوي في تونس وهو الذي يتولى الإشراف الكامل على دخول وخروج أبو عمار من تونس. فأبو عمار كان يجب أن يذهب الى جنيف لحضور مؤتمر للتضامن مع الشعب الفلسطيني. وفهمت من حكم أن الحديث عن مؤتمر التضامن ليس إلا للتضليل. والآن انكشف الأمر وقد يقع أبو عمار في الأسر. وعدت لمقر أبو جهاد. وكان يجري اتصالاته مع رجاله في قبرص لمعرفة أخبار أبو عمار وأعلن حالة الإستنفار على طول سواحل طرابلس وأمر بتحريك كافة السفن وقوارب الصيد باتجاه قبرص لتضليل الزوارق الإسرائيلية التي ربما بدأت البحث عن سفينة أبو عمار بعد خبر مونت كارلو.

ولكن إذا كان أبو عمار قد تحرك ظهرا من قبرص باتجاه طرابلس فهناك سبع أو ثماني ساعات كانت سفينة أبو عمار خلالها قد قطعت تقريبا كل المسافة بين قبرص وطرابلس. ولا بد أنهم اختاروا سفينة سريعة، وليس سفينة تهريب محملة بالثلاجات وأجهزة الكهرباء.

وانتشرت الدوريات البرية على طول الشاطئ وظل الاستنفار قائما. ولكن أبو عمار لم يصل. وفي العاشرة ليلا عدت إلى الإعلام لمزيد من الإتصالات والأخبار ولكن لا جديد ولم تمض غير دقائق معدودة حتى كان فتحي رئيس حرس أبو عمار يقف أمامي ضاحكا  "الحمد لله وصل أبو عمار بسلام". قال فتحي.

_ أين هو الآن؟

وخرجت مسرعا مع فتحي. وكان المكان الذي وصله أبو عمار في مخيم البداوي لا يبعد سوى عشرات الأمتار عن بنايات أبو النعيم حيث الإعلام. دخلت وكان أبو جهاد قد سبقني، إلا أن الرجل الذي صافحته وعانقته طويلا كان قليل الشبه بأبو عمار. فلم يكن قد خلع ملابس التنكر التي وصل طرابلس وهو يلبسها، ملابس مدنية ولفة بيضاء مزركشة وغريبة الشكل على رأسه. ولكن فرحتنا بوصوله سالما جعلتنا ننسى الإحباط الذي أصابنا بعد خبر مونت كارلو. وما ألطف الحوار الذي يمكن أن تسمعه بين الرجلين أبو عمار وأبو جهاد. وقرأ أبو جهاد هذا الاستغراب في عيني حول هذه الهيئة الغريبة لأبو عمار. فقال أبو جهاد ضاحكا _ يا أخ... هذا عالم جزائري لا تستغرب !!

ولدى أبو عمار الجواب ويقول لي مازحا: أنت لا تعرف شيئا، فمنذ فترة طويلة يأتي طلاب جزائريون لمعاهد دينية في طرابلس وهناك علماء جزائريون يأمون طرابلس لنفس الغرض، هذا تبادل ثقافي على مستوى العلماء من قديم. وحين أذاعت مونت كارلو الخبر عن مشاهدتي في قبرص كنت قد أصبحت قريبا من الشاطئ وعندها تركنا السفينة واستأجرنا قاربا صغيرا لصيد السمك، ودفعنا للصياد مائتي ليرة واشترينا ما كان اصطاده من السمك، وسيكون عشاؤكم هذه الليلة السمك الذي اصطاده. ودخل العالم الجزائري غرفة نومه وخرج علينا بعد لحظات بملابسه العسكرية ومسدسه الذي لا يفارقه واختفى العالم الجزائري ووصل القائد العام. الختيار أبو عمار إلى طرابلس في رحلة بحرية قال عنها محمود درويش: فعل الشجاعة الأكثر تألقا في حياته. واحتل خبر وصول أبو عمار إلى طرابلس صدر الصحافة العالمية والإذاعات ومحطات التلفزة وملأت صورته الصفحة الأولى من "فلسطين الثورة" وتحتها التصريح التالي: إن منظمة التحرير الفلسطينية ثورة عملاقة ولا يستطيع أحد أن يحتويها ولا يستطيع أحد أن يسيطر عليها، وسنحافظ على قرارنا الوطني المستقل، ولسنا اقليميين، ونحن ندعم القرار الوطني اللبناني. عودة أبو عمار أشاعت جوا من الثقة والأمل. ولكنها في الوقت نفسه جعلت غازي كنعان يتوجه بأمر من الأسد ليشرف بنفسه على القضاء النهائي على ياسر عرفات بعد هذا التحدي الذي أقدم عليه بالعودة إلى طرابلس. 

كان ضباط سوريون وضباط من جيش التحرير ينقلون لأبو عمار وأبو جهاد أولا بأول كل التحركات العسكرية باتجاه طرابلس ومخيمي نهر البارد والبداوي. وكانت هناك قاعدة للقيادة العامة على مشارف مخيم البداوي من جهة الغرب، وهي ملاصقة تقريبا لبنايات أبو النعيم التي تحولت إلى قاعدة لنا، ففيها مكاتب الإعلام. وفي إحدى البنايات هناك العقيد عبد المعطي السبعاوي وضباط آخرون حولوا عدة شقق  إلى مكاتب لهم ولوحداتهم العسكرية وهناك من الجهة الجنوبية أرض واسعة مزروعة بأشجار الزيتون. وذات مساء في أواخر أيلول 83 سمعت إطلاق نار قريب، واستنفر الشباب والمرافقون. وتبين أن النار أطلقت من الجهة الجنوبية حيث أشجار الزيتون الكثيفة بإتجاه بناية أبو النعيم حيث نقيم ونعمل، وأن عدة رصاصات قد حطمت زجاج نافذة المطبخ المطل على الجهة الجنوبية. وما هي إلا دقائق حتى عاد شباب الحراسات ومعهم شاب قد ربطوا يديه، وكان في حالة مزرية حقا وتبين بعد الفحص أن الرصاص أطلق من الكلاشنكوف الذي كان بحوزته. وتسلمه العقيد عبد المعطي السبعاوي للتحقيق معه ولمعرفة الجهة التي ينتمي اليها ومن أمره باطلاق النار. وقال عبد المعطي: إنه من جماعة أحمد جبريل ومن القاعدة التي بجوار بنايات أبو النعيم. وحين علم شباب القيادة العامة أن أحدهم قد أمر هذا الشاب بإطلاق النار، دب الخلاف فيما بينهم. ومن كان ضد إطلاق النار غادر القاعدة، ولم يبق في القاعدة إلا عددا قليلا ولا أقول أنهم كانوا مع إطلاق النار ولكنهم ليسوا مستعدين للإلتحاق بجماعة أبو العباس. وفي النهاية كان لا بد من السيطرة على القاعدة. وبالفعل وفي نفس الليلة تم تجريد القاعدة من السلاح وترك الحرية لمن كان فيها بأن يذهب حيث يشاء. وقد ادعى أحمد جبريل أنه سقط شهداء كثيرون. وأما الحقيقة فلم يستشهد أحد على الإطلاق. وهذه الحادثة جعلتنا نشدد الحراسة على المكاتب والمراكز في مخيم البداوي.  وبعد شهرين حين سقط مخيم البداوي في يد القوات السورية والمنشقين وجبريل، أصر أحمد جبريل أن يأخذ صورة له وهو يقف في شرفة مكتب الإعلام في بنايات أبو النعيم، في رد على السيطرة على قاعدته بجانب مخيم البداوي. 

أما في دمشق فقد أمر الأسد بمصادرة كل أملاك فتح في سوريا. وتحركت المخابرات السورية، ومن ورائها المنشقون، لاحتلال كل مكاتب فتح ومكاتب المنظمة في دمشق بما فيها مكتب الإعلام ومكتب وكالة الانباء الفلسطينية "وفا". وحمل هذا التصعيد في دمشق نذر المواجهة الوشيكة في الشمال. والمعلومات التي تصلنا تؤكد أن المعركة واقعة لا محالة. وفي أوائل أكتوبر 1983 وكان أبو عمار في جولة على القوات في جبل "تربل"الإستراتيجي طلب أبو عمار دعوة الضباط إلى اجتماع عاجل تحت أشجار الزيتون في سفح جبل تربل. وحضر الضباط والمسؤولون من كل المواقع من نهر البارد والبداوي وشواطئ طرابلس وجنوبها وقائد الميليشيا بلال أبو زيد ومسؤول التنظيم "أبو رفعت. "وتحدث أبو عمار بلغة عاطفية، وخشيت أن يفهم الشباب أن هذه اللغة تنم عن ضعف في موقفنا ولهذا طلبت الكلمة، وقلت لأبو عمار بالحرف الواحد: "أخي أبو عمار أنت اليوم قائد عام ولست قائد ثورة ولست رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، أنت جنرال يقود معركة، وعلى أساس هذه المعركة يتحدد مصير الثورة ومصير المنظمة ومصيرك ومصيرنا جميعا، فإما أن نعيش أحرارا وإما عبيدا لنظام الأسد. وهذه المعركة نخوضها بالسلاح، ولا توجد معركة في التاريخ دون ضحايا ودون إراقة دماء. نحن على حق وهم على باطل، وليس أمامنا إلا المواجهة في طرابلس كما واجهنا شارون في بيروت، وأنت قائدنا إلى النصر. هذه الكلمات جعلت أبو عمار يطير فرحا، فأنا قلت الكلمات التي يريدها لتعبئة الشباب. وقال كعادته في المواقف الصعبة "هبت رياح الجنة. "

وفي المساء أطلق المدفعي "عبد الرحيم"قذيفة إصابت مقرغرفة عمليات  قيادة المنشقين وقتلت عددا منهم. أما العقيد أبو طعان قائد الكفاح المسلح وهو قد سجن عشرين عاما في سوريا بعد هذه العملية، فقد هاجم كتيبة من المغاوير في الجيش السوري في منطقة "تلال العبدة"وأوقع في الكتيبة اصابات كثيرة، ولكن وقع في حركتنا فتح ما لم يكن في الحسبان. فقد قرر أربعة من الضباط الشباب ترك وحداتهم العسكرية والتوجه إلى دمشق. لأنهم ضد الاقتتال بين الأخوة وضد إراقة الدماء بين أخوة السلاح في حركة فتح. والضباط الشباب هم كمال الشيخ وعمر أبو ليلى وشاستري وأبو نضال بانكوك. وكانوا يعتقدون أنهم بهذا الموقف والذهاب إلى دمشق قد يحقنون الدماء. وقد اجتمعوا في دمشق مع أبو صالح وأبو موسى وأبو خالد العملة ومع أحمد جبريل. ويبدو أن أحدهم قد روى ما قلته أمام اجتماع الضباط مع أبو عمار في سفح جبل تربل تحت أشجار الزيتون. وسواء تمت الرواية هذه أمام أبو صالح أو أحمد جبريل، فقد وصلت على الفور إلى عبد الحليم خدام الذي تحدث في اليوم التالي أمام مجلس الشعب السوري وقال: إن أحمد عبد الرحمن قد طالب بإراقة الدماء. وأما أحمد جبريل فقد تحدث في مقابلة مع إذاعة مونت كارلو عن اجتماع الضباط مع أبو عمار وعن مطالبتي كما ادعى بإراقة الدماء. وكان الهدف واضحا تماما، فالقيادة السورية والمنشقون قد أعدوا العدة لمهاجمتنا في طرابلس، وهذا الاستغلال لما قلت، إنما يهدف إلى تحميلنا مسؤولية إراقة الدماء في هجومهم الوشيك على المخيمات وطرابلس.

وقد أجرى نبيل درويش مقابلة معي بعد حديث أحمد جبريل مباشرة وقلت في ردي عليه: إن من قام بالإنشقاق هو المسؤول عن إراقة الدماء. ومن يا أحمد جبريل نسف البناية في الفاكهاني؟ ومن دبر جريمة اغتيال حليم مساعد أبو جهاد في البقاع؟ ومن يطلق النار في قلب دمشق ويقتل شباب فتح وهم في مكاتبهم ومراكزهم؟ ومن يحشد قواته الآن حول المخيمات ومدينة طرابلس؟

ولم يطل الوقت حتى بدأ الهجوم السوري ومعه المنشقون وجبريل والليبيون على مخيم نهر البارد وعلى جبل تربل. واستخدم المنشقون والسوريون راجمات الصواريخ وقصفوا أحياء المخيم. وقد قام غازي كنعان بزج جيش التحرير الفلسطيني في هذه المعركة. ومساء يوم "17"اكتوبر 1983 فوجئنا بالتلفزيون السوري يقدم طارق الخضراء قائد جيش التحرير في سوريا. وإذا بهذا الضابط المغلوب على أمره والذي عليه أن ينفذ أوامر حافظ الأسد، يظهر بكامل ملابسه العسكرية ويقرأ البلاغ العسكري رقم واحد ضد أبو عمار. بما يذكرنا بالإنقلابات العسكرية التي شهدتها سوريا لسنوات طويلة. وكانت كلمته من التلفزيون السوري أكبر دليل على ضلوع نظام الأسد في المؤامرة للقضاء على الثورة وعلى فتح. وبدأ طارق الخضراء بتنفيذ البلاغ العسكري رقم واحد بتوجيه راجمات الصواريخ لقصف مخيم نهر البارد. واعتقد أحد المنشقين أن سكان المخيم يرحبون بهم، فدخل المخيم عن طريق الحدود السورية. وبالصدفة كان هناك أشبال المخيم يقومون بنشاط في شوارع المخيم وما أن عرفوا هذا المنشق حتى هجموا عليه وطردوه ومزقوا قميصه وأحضروا قطعة من القميص إلى مخيم البداوي وقدموها إلى أبو عمار. وأخذ أبو عمار يردد مقولته الشهيرة "إن شبلا أو زهرة سيرفع علم فلسطين فوق كنائس ومساجد وأسوار القدس، يرونها بعيدة ونراها قريبة وإنا لصادقون. "

ورغم اشتداد الهجوم على نهر البارد المستمر منذ عشرين يوما إلا أنني لم أنس صياد السمك الذي نقل أبو عمار في قاربه حتى أوصله سالما إلى اقرب نقطة إلى مخيم البداوي. وأخيرا ظهر صياد السمك الطرابلسي. وذكرتني ملامحه برواية الشيخ والبحر لأرنست همنجواي. إنه يعشق البحر منذ نعومة أظفاره، ووالده كان صيادا قبله، والمهنة "أكل العيش "لا أكثر. واصطحبته معي إلى حيث أبو عمار. وكنت قد رتبت مع التلفزيون الفرنسي أن ينقل هذا اللقاء بين أبو عمار وصياد السمك وصافحه أبو عمار ورحب به وكانت يد الصياد مشدودة تماما وكأنه قد شعر بالإرباك من هذا اللقاء غير المتوقع، ولكنه قال والتلفزيون الفرنسي يسجل: قلت في نفسي إنك رجل غريب، ولماذا تأتي في الليل وليس في النهار. ورغم أنك قلت لي إنك جزائري، ولكنني في ظل هذه المشاكل قلت في نفسي هذا الرجل فلسطيني.

وسأله المذيع: والآن ما هو شعورك حين عرفت أنه أبو عمار؟

_ وجاء جواب الصياد مذهلا: سأعيد له المائتين  التي أخذتها منه، فالله رزقني في تلك الليلة ما لم أحلم به في حياتي، أن أنقل أبو عمار في قاربي. وصافح أبو عمار الصياد وقبله وشكره. وأمر في اليوم التالي بشراء قارب للصياد من نوع جديد يعمل بالموتور وليس بالمجاذيف وقدمه هدية لهذا البحار الطرابلسي الذي لا ينسى.

وظهر في تلك الفترة مع فريق أبو جهاد الذي وصل معه من البقاع شاب لم أكن قد رأيته من قبل وهو عراقي الجنسية وإسمه "خالد سلام."وكان يعمل مع أبو جهاد في القسم الإعلامي وأحسست أن أبو عمار يريد إلحاق هذا الشاب بمكتبه وفريقه. وذهبت إلى أبو جهاد واقترحت عليه أن يعمل خالد سلام مع أبو عمار، ويبقى في الوقت نفسه على مرتب أبو جهاد. وكان هذا أغرب قرار اخذته لإزالة اية حساسية قد تنشأ. وفيما بعد، وبعد سنوات كنت وراء إلحاق خالد سلام بمكتب أبو عمار في تونس ليعمل إلى جانب بسام أبو شريف ومروان كنفاني وسهى الطويل، الذين شكلوا فريقا نادرا في مجال الإعلام. وفوجئت بعد فترة أن أبو عمار قد عين خالد سلام مستشارا اقتصاديا له. وحين لمع نجمه في مجال الإقتصاد والمال، لم تعد لي أية علاقة معه. 

استمرت معركة مخيم نهرالبارد وجبل تربل حتى يوم السادس من نوفمبر 1983. وقرر أبو عمار إخلاء المخيم من المقاتلين، لأن المنشقين والسوريين وجبريل كانوا يقصفون المخيم ويوقعون الإصابات بين المدنيين ويعطلون الحياة، وقد أعلنوا أن القصف لن يتوقف عن المخيم إلا إذا خرجت "زمرة عرفات." وفي اليوم نفسه وقعت مظاهرات احتجاج غاضبة في مخيم اليرموك ضد هذه الجريمة التي يرتكبها النظام في سوريا ضد مخيم نهر البارد. واقتحمت القوات السورية مخيم اليرموك وأطلقت النار على المحتجين واعتقلت المئات. إلا أن هذا العدوان على مخيم نهر البارد قد حرك قادة العرب ووصل عدد من وزراء الخارجية من السعودية والجزائر والكويت واليمن الشمالي والجنوبي إلى دمشق وتم الاتفاق على وقف جديد لإطلاق النار بعد ثلاثة أيام من سقوط مخيم نهر البارد. وأعلن الملك حسين إدانته للعدوان وعبر عن تأييده للمنظمة. إلا أن نظام الأسد كان مصمما على مواصلة المعركة ضدنا لإخراجنا من طرابلس وكل شمال لبنان. ولم يصمد وقف إطلاق النار سوى أسبوع واحد حيث واصلت القوات السورية هجومها على مخيم البداوي ومنطقة القبة المحاذية للمخيم. وفي معركة البداوي التي استمرت عشرة أيام رفض جنود وضباط جيش التحرير أوامر اطلاق النار واقتحام المخيم وانضم خمسمائة ضابط وجندي إلى الشرعية وإلى المنظمة وبعضهم وصل إلى البداوي بالدبابات وبالسيارات العسكرية وبكامل أسلحتهم. وهذه هي المرة الثانية خلال شهرين يتمرد جنود وضباط جيش التحرير على أوامر غازي كنعان وطارق الخضراء وأحمد جبريل.

 ومرة أخرى انشقت الصاعقة والقيادة العامة. وأما جبهة النضال فقد تراجعت مجموعتها إلى البقاع ورفضت القتال. و أصبحت القوة الأساسية هي القوة السورية بقيادة غازي كنعان، وتحت الضغط العربي والدولي حيث أصدر مجلس الأمن الدولي قرارا بوقف اطلاق النار وافق الأسد على إتفاق جديد لوقف اطلاق النار يوم 24/11/1983. إلا أن ضابطا من ضباط جيش التحرير وكان قد حضر اجتماعا مع قادة المنشقين وطارق الخضراء يوم 22/11/1983 نقل الخطة الجديدة التي يعدها غازي كنعان لمواصلة الهجوم على البداوي وحتى مدينة طرابلس فجر يوم 25/11/1983. وتقوم الخطة على اتهام أبو عمار بأنه جند خمسمئة من الإخوان المسلمين من سوريا والأردن ولا يمكن وقف الهجوم إلا بتسليمهم للقيادة السورية. وهذه الأكذوبة المفضوحة كانت لتبرير الهجوم الوشيك. إلا أنه في اليوم السابق للهجوم المقرر أي في 25/11/1983 تمت صفقة تبادل الأسرى بين المنظمة وإسرائيل حيث تقوم إسرائيل بإطلاق سراح أربعة آلاف فلسطيني اعتقلتهم رهينة من مخيمات لبنان حتى تقايض عليهم لاستعادة جنودها الستة الذين كانوا لدينا في طرابلس. وكانت الصفقة انتصارا مدويا لأبو عمار ولفتح وللمنظمة لدى كل أبناء الشعب الفلسطيني حيث تحركت المخيمات في لبنان تهلل وتكبر وتدعو بالسلامة لأبو عمار ومن معه فهو الذي أعاد أبناء المخيمات من الأسر الإسرائيلي. والآن أصبحت قوتنا وقيادتنا في مدينة طرابلس نفسها وفي حي الزاهرة بعد إخلاء مخيم البداوي بسبب القصف بالصواريخ والمدفعية لإرغامنا على إخلاء المخيم. وهذا ما أجبرنا عليه بالفعل. إلا أن نتائج المعركة السياسية كانت على النقيض من نتائج المعركة العسكرية. وهذه حالة نادرة في عالم السياسة أن تشكل معركة عسكرية خسارة كاملة للمنتصر فيها. بينما المهزوم عسكريا هو المنتصر سياسيا. ففي كل مكان يقف الشعب الفلسطيني مع ياسر عرفات ومع فتح ومع المنظمة ومع الشرعية. وأما الجبهتان الشعبية والديمقراطية وكانت لهما قيادة موحدة فقد أخذتا تصعدان ضد المنشقين وضد مهاجمة المخيمات وتقدمان العون لفتح حيثما أمكنهم ذلك وبخاصة من القائد العسكري للديمقراطية ممدوح نوفل، ومن نائب الأمين العام للجبهة الشعبية أبو علي مصطفى. وفي الأرض المحتلة أخذت البلديات والجمعيات والقيادات الوطنية تصدر البيانات التي تدين هذا المنشق المارق "أبو موسى." وكان مفتي القدس سعد الدين العلمي قد أصدر فتوى لإستباحة دم حافظ الأسد. وذكر استطلاع للرأي أن شعبية أبو عمار في الأرض المحتلة فاقت نسبة 90%. وقد نقلت هذه التحليلات لنتائج المعركة لأبو عمار. فنحن أولا وأخيرا نريد الحفاظ على الشرعية وعلى قرارنا المستقل. وأما المنشقون فقد انتهى أمرهم كبديل لفتح وبديل لمنظمة التحرير.

وفي تلك الفترة وصلت سفينة مصرية إلى طرابلس وعليها أكثر من خمسين شخصية مصرية تمثل الأدباء والفنانين والسياسيين جاءوا تعبيرا عن وقوف الشعب المصري مع ياسر عرفات ضد هذه المؤامرة الدنيئة. وأذكر أن أحدهم قال لأبو عمار: مصر أكبر من كامب ديفيد والشعب المصري معكم وكامب ديفيد شقة مستأجرة في القاهرة وليست كل مصر. وكان أبو عمار يستمع لكل كلمة بكل جوارحه وعبر عن سعادته بما سمع وشكرهم على تحمل هذه الأخطار المحدقة نتيجة القصف السوري والإسرائيلي ووصولهم إلى طرابلس للتعبير عن هذا التضامن الرائع مع ثورة الشعب الفلسطيني. ولكن بعد عملية تبادل الأسرى في 24/11/1983 وسيطرة القوات الخاصة السورية على المخيمين البارد والبداوي، أصبح من الواضح أننا سنغادر طرابلس في نهاية الأمر. وبدأت الإتصالات السياسية مع السعودية ومع فرنسا ومع إيطاليا لترتيب الضمانات المطلوبة لخروج أبو عمار ورجاله دون أن تعترضهم القوات البحرية الإسرائيلية. وفي تلك الأيام من شهر ديسمبر 1983 راجت أخبار أن حافظ الأسد مريض وهو في غيبوبة، وأن رفعت الأسد قد تسلم السلطة وأن سرايا الدفاع تقوم بتوزيع صور رفعت في الأماكن العامة في دمشق. ولكن محاولات المخابرات السورية لقتل أبو عمار لم تتوقف ولهم رجالهم في طرابلس لرصد تحركات أبو عمار.

 وذات يوم كنا نتحرك في طرابلس باتجاه مكان آمن في إحدى البنايات، إلا أن لحظة نزولنا من السيارة قد رافقها قصف مدفعي وسقطت القذائف في ذات المنطقة التي كنا فيها وتحطمت إحدى السيارات التي أصابتها قذيفة مباشرة. إلا أننا أصبحنا الآن في الدور الأرضي تحت البناية المذكورة، وكان هذا المكان عبارة عن نادٍ ليلي مهجور ومليء بصور الممثلين والمغنين العرب والأجانب. وبجوار هذه البناية ترتفع مئذنة مسجد وفيها مكبرات للصوت بحيث يسمع الآذان في كل طرابلس. وفجأة سمعنا صوت رجل يقول بصوت عال من مكبرات الصوت الله أكبر الله أكبر جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، اليوم مات الطاغية، اليوم مات حافظ الأسد، والله انتقم للمظلومين من هذا الظالم. ومن كل أنحاء طرابلس بدأ الناس يعبرون عن فرحتهم باطلاق النار، ملايين الطلقات أطلقت خلال ساعة واحدة، وأبو عمار مذهول من هذا الذي يحدث فلو كان الخبر صحيحا فهو أول من يعرف. وأرسل أبو عمار مرافقيه لإحضار هذا الرجل الذي أعلن الخبر من مكبرات الصوت في  المسجد وجاء مع المرافقين رجل في الثلاثينات من عمره ولحيته تغطي وجهه والعرق يتصبب منه رغم برودة الجو. وسأله أبو عمار ومن أين يا بني عرفت هذا الخبر؟ ولم يتردد الرجل في القول إنها رؤيا يا أبو عمار، حافظ الأسد مات بفضل الله الذي انتقم للمظلومين من هذا الظالم. وقال أبو عمار لهذا الرجل: حافظ الأسد مريض وهذا صحيح ولكنه لم يمت ولو مات لعرف الناس جميعا وليس أنت وحدك، وأخلى أبو عمار سبيل هذا السلفي الذي جعل الناس يبددون أكثر من مليون طلقة وهم في أمس الحاجة للذخيرة. فطرابلس هي هدف حافظ الأسد ما دام فيها ياسر عرفات ورجاله. وكان القصف العشوائي لمدينة طرابلس وكذلك قطع الماء والكهرباء يهدف إلى تحريك السكان ضد أبو عمار ورجاله. ولكن طرابلس احتضنت أبو عمار كما فعلت بيروت. إلا أن للصمود والقدرة على الإحتمال حدودا. فالحرب الدائرة في طرابلس والمخيمات وكل مناطق الشمال في عكار وتربل والضنية كانت مكلفة للمواطنين فقد عطلت الحياة العامة وشلت عجلة الاقتصاد وأوقعت الضحايا دون تمييز. فطرابلس كما قال خدام لوفد من اللجنة التنفيذية ليست أعز على الأسد من حماة التي ألحق بها الأسد دمارا لم تعرفه في كل تاريخها الحديث. 

ورغم هذا الحصار والقصف المستمر من ثلاثة أشهر فقد عبرت طرابلس بمليون طلقة عن فرحتها بموت حافظ الأسد، وبالتالي وقوفها الكامل مع ياسر عرفات وثورته. وبفعل صفقة تبادل الأسرى في 24/11/1983 والتدخل العربي وقطع المساعدة الكويتية عن سوريا والضغط السوفياتي والتحرك في مخيم اليرموك وغيره من المخيمات وارتفاع أصوات سورية شجاعة ضد جريمة الأسد في طرابلس، ومن بين هذه الأصوات صوت المناضل "ميشيل كيلو،" الذي كان يرسل لي من دمشق المقالات والتحليلات السياسية الموجهة للرأي العام السوري، وبالطبع دون إسمه. كل هذه التحركات جعلت من الممكن مغادرة طرابلس بأمان وبشكل مشرف في الوقت الذي كانت فيه المخابرات السورية تواصل عبر عيونها في طرابلس تتبع تحرك أبو عمار بهدف قتله قبل المغادرة. وفي يوم 17/12/1983 غادرت السفينة الأولى التي تحمل الجرحى ميناء طرابلس. وفي اليوم الثاني دمرت القذائف السورية والإسرائيلية السفينة التي تنقل المعدات والأجهزة والسيارات ودمرت ما كنا نسميه ميناء أبو عمار في طرابلس والذي تم إنشاء رصيف له لتفريغ السفينة التي تحمل السلاح المرسل من ألمانيا الديمقراطية، وكذلك السفينة التي تحمل الصواريخ من كوريا الشمالية. وفي الحقيقة فإن القصف الإسرائيلي بعد تبادل الأسرى قد تضاءل كثيرا، أما القصف السوري فقد تواصل واشتد طوال الأسبوع الأخير الذي سبق مغادرتنا لطرابلس. وفي يوم 18/12/1983 رافقت أبو عمار لزيارة مينائه والذي تقترب منه السفن التي ستقلنا. وفي لحظة اقترابنا من الميناء أخذت القذائف تتساقط على الرصيف وعلى الشوارع المحيطة وكان واضحا أن هناك رصدا دقيقا لتحركات أبو عمار بهدف قتله والتخلص منه قبل موعد مغادرته صباح يوم 20/12/1983 وكانت الساعات الأربع والعشرين ساعات مصيرية  فهل تغادر الشرعية الوطنية طرابلس وعلى رأسها قائدها ياسر عرفات أم أن حافظ الأسد سيتمكن في هذه الساعات العصيبة من التخلص من ياسر عرفات بقذيفة مدفعية أو بطلقة قناص. ولهذا كانت الاحتياطات الأمنية تقضي بإلغاء كل النشاطات العامة لأبو عمار في هذا اليوم. وعدم استقبال أحد سواء كان مودعا أو صاحب حاجة. ولمزيد من الحماية تم إيجاد مكان آمن لأبو عمار خارج منطقة الزهراء. والشخص الوحيد الذي قابله في ذلك المكان وهو دبلوماسي سعودي قدم من بيروت لينقل لأبو عمار التطمينات والضمانات الأمريكية والفرنسية ومرافقة السفن الحربية للبواخر من لحظة مغادرتها. أما الدور المصري فقد اتصل لطفي الخولي قبل أيام وأكد أن مصر سترسل طرادين لمرافقة السفن. أما المكان الذي بقي فيه أبو عمار هذه الساعات المصيرية فكان في وسط طرابلس وهو عبارة عن محل تجاري لبيع الأقمشة وله بابان، ويمتد من الشارع العام إلى الداخل عشرات الأمتار. والبنايات هناك متلاصقة ولا مجال لأي قذيفة أو صاروخ للوصول إلى أبو عمار. وبالطبع لم تتوقف القذائف العشوائية عن التساقط في الشوارع وفي الأحياء وكان التركيز على منطقة الميناء حيث لدى المخابرات السورية إقتناع بأن أبو عمار سيكون في أقرب نقطة من البواخر. ولهذا كان التركيز على هذه المنطقة بكل شوارعها وأحيائها. إلا أن أبو عمار كان في منطقة بعيدة تماما عن منطقة الميناء. وبعد انتهاء  اللقاء مع المندوب السعودي غادر من الباب الخلفي ونقلته سيارة أجرة إلى منطقة الزهراء حيث مركز قيادة أبو عمار ومن هناك عاد إلى بيروت. وفي صباح اليوم المشهود يوم 20 ديسمبر 1983 وفي الساعة العاشرة صباحا تحركت السيارة التي تقل أبو عمار من وسط طرابلس ومن الشارع الخلفي لمحل بيع الأقمشة ووصلت بأمن وسلام إلى الميناء الذي كان يعج بآلاف الناس الذين جاءوا لوداع المقاتلين وكلهم يهتفون بحياة أبو عمار. توقف أبو عمار لدقائق يودع الناس ويلوح لهم بيده ثم صعد إلى السفينة المتوجهة الى ميناء الحديدة في الجمهورية العربية اليمنية. وقبل أن أصعد السفينة والحق أبو عمار جاء أبو جهاد وقال لي كلمة واحدة: "اتفقنا على الإسماعيلية "ومضى مسرعا إلى السفينة التي ستنقله وأبو الهول إلى تونس

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الرابعة عشر: الوصول إلى بر مصر

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الرابعة عشر: الوصول إلى بر مصر
·                            
·                           0
·                            
تاريخ النشر : 2013-12-07
كبر الخط صغر الخط
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

الفصل الرابع عشر:

الوصول إلى بر مصر 


في 30 آب 1982 كان رحيل أبو عمار عن بيروت وفي 20 كانون أول 1983 كان رحيل أبو عمار عن طرابلس. وهنا تكمن مأساة فلسطين. في هذه المعادلة المستحيلة لإخراج فتح من الجغرافية المحيطة بفلسطين، لأنها بالمطلق حركة مقاومة وطنية ومستقلة لاستعادة  فلسطين، بعد أن سقطت الأوهام والآمال المعلقة على الآخرين. وفتح تعني فلسطين ومعناها الوحيد بعث الحياة في فلسطين ورفض موتها. وهذا لن يكون بغير العمل من أجلها في مطلق الأحوال والظروف وتفجير المستنقع الآسن المحيط بفلسطين. ولهذا كانت الحروب وستظل دائما ضد فتح التي لا تقيم وزنا لغير فلسطين. وقبل أن يصعد إلى السفينة في رحيله  العربي بعد رحيله الإسرائيلي يقول أبو عمار: أنا ذاهب إلى فلسطين. والمعنى البعيد إن فتح ستبقى مكرسة من أجل  فلسطين ولن تتغير أبدا. وفي السفينة التي تحركت في مياه البحر الأبيض المتوسط، كانت غرفتي بجانب غرفة أبو عمار، وبين الغرفتين غرفة طعام مشتركة. وقلت لأبو عمار بعد أن أخذت السفينة طريقها إلى مصر الآن أهنئك على سلامتك، فقد كان التخلص منك هو الهدف الأكبر لحافظ الأسد. ويرد علي أبو عمار بقوله: الأعمار بيد الله. وأحاول طمأنته بالقول عودتك إلى طرابلس وصمودنا بقيادتك طوال هذه المدة قضت على المؤامرة التي دبرها حافظ الأسد. ويتنهد أبو عمار ويرد علي بقوله: المؤامرات على الثورة لن تتوقف ما دمنا خارج وطننا وفتح يتآمرون عليها لأنها النقيض للواقع الإسرائيلي وللواقع العربي على حد سواء، وأقصد الواقع العربي الرسمي. ويتصل حكم بلعاوي من تونس ويقول: الشعب المصري أعد لك يا أبو عمار استقبالا في بور سعيد وأما الاستقبال الرسمي فسوف يكون في مدينة الاسماعيلية. ولم أقل لأبو عمار ما قاله لي أبو جهاد: اتفقنا على الاسماعيلية. وقال لي حكم بلعاوي إن لطفي الخولي قد أبلغه إن عشرة ألاف يرحبون بأبي عمار في بور سعيد. ويعود أبو عمار بذاكرته إلى عام 1956 يوم وقع العدوان الثلاثي على مصر ويقول إنه كان من أوائل المقاتلين الذين دخلوا بور سعيد بعد انسحاب قوات العدوان الثلاثي. وهو لديه وثيقة أنه مواطن شرف في بور سعيد تقديرا من أهالي بور سعيد لدوره في مقاومة المعتدين الإنكليز والفرنسيين. وبعد منتصف الليل كانت السفينة تدخل المياه المصرية بحراسة الطرادين من البحرية المصرية بعد أن غادرتنا السفن الحربية الفرنسية لحظة دخولنا المياه المصرية. وكم أسعدني هذا الترحيب بأبي عمار على الطريقة المصرية، مئات السفن وآلاف البحارة أطلقوا صفارات سفنهم ترحيبا بوصول أبو عمار. وخرج أبو عمار من غرفته وكعادته بكامل ملابسه العسكرية وبدا لي أنه لم ينم أبدا، وأخذ يلوح بيده للبحارة المصريين الذين يلوحون بالأعلام تحية له وكانت الساعة الثانية صباحا حيث وقفت السفينة ونزل أبو عمار وأنا معه للسلام على المسئولين المصريين الذين سهروا طوال الليل لاستقباله والسلام عليه. وكان أول من كان بانتظار أبو عمار أخته أم ناصر واحتضنها وقبلها وأمسك بيدها إلى حيث المسئولين المصريين في بور سعيد، وقال محافظ بور سعيد مرحبا بأبي عمار: أهلا بك في مدينتك بور سعيد، فأنت المواطن الأول فيها وهذا شرف كبير لكل أهالي بور سعيد أن تكون بينهم اليوم. وبور سعيد ترحب بك وكل مصر ترحب بك ومصر بلدك وبلد كل فلسطيني شريف. شكره أبو عمار على هذا الترحيب الحار وقال: شعب مصر لن يتخلى عن فلسطين هذه حتمية تاريخيه وعبر التاريخ كانت جبال فلسطين هي الحدود الطبيعية لأمن مصر.

 ومرة أخرى صافح أبو عمار مستقبليه وودع شقيقته أم ناصر وعدنا إلى السفينة التي واصلت سيرها باتجاه قناة السويس متجهة إلى الاسماعيلية حيث الاستقبال الرسمي لأبو عمار. وكان الفجر يقترب وأبو عمار لم ينم طوال الليل وكنت أدخل غرفتي ثم أعود إلى الغرفة المشتركة أو أقف قرب النافذة أنظر إلى مصر العظيمة وأستعيد تاريخها الطويل مع فلسطين، فمصر عبر التاريخ تخوض كل معاركها في فلسطين، وحين تنكفئ مصر على نفسها تضعف وتفقد مجالها الحيوي وازدهارها، وتطمع فيها القبائل وتهاجمها من الغرب ومن الصحراء ويطمع فيها الهكسوس والمغول والتتار والأتراك، وسيناء احتلها الصهاينة مرتين خلال عشر سنوات 1956 /1967. لكن الإنسان المصري أسطورة بطولة عز نظيرها هذا ما تقوله قناة السويس. المواطن المصري المدرب جيدا يقطع قناة السويس ويقاتل ويعود بالأسير الإسرائيلي وهو يجره وراءه ويسبح وصولا إلى الضفة الغربية لقناة السويس. هذه هي معجزة الإنسان المصري، المتجذر في هذه الأرض والذي، في أول الزمان أو في آخره، في هذا القرن أو في غيره، في زمن ما سيتحرك حركته التاريخية المعتادة في اتجاه الشرق. هذه تهويمات تعوضني عن فراغ الحاضر المر، ونحن في سفينة مطرودة من الشرق إلى أقاصي الجزيرة العربية. وكنت أسبح في هذا التاريخ وهذه الآمال كما السفينة في مياه قناة السويس، واعتبر الخديوي إسماعيل رجلا عظيما  والمهندس "دي ليسيبس" عبقريا، حين سمعت أبو عمار ينادي أحد مرافقيه ويطلب منه أن يسأل ربان السفينة عن موعد وصولنا بالضبط إلى الاسماعيلية. والربان الذي يقود السفينة ومركز قيادته تحت الغرفتين الهامتين لأبو عمار ولي ويمكن الوصول إليه عبر درجات لا يزيد عددها على أربعة أو خمسة. وعاد الشاب المرافق وقال خلال ساعة من الآن نصل الاسماعيلية. وفجأة قال لي أبو عمار: الرئيس مبارك بارك الله فيه قرر أن يأتي إلى الاسماعيلية هذه مصر العظيمة تؤكد بهذا الاستقبال من بور سعيد وعلى طول قناة السويس وحتى الاسماعيلية بأنها لن تتخلى عن الشعب الفلسطيني.

 يقف أبو عمار أمام المرآة ويرتب الحطة والعقال والأوسمة التي على صدره. وكان قد ارتدى بدلته العسكرية الشهيرة وهي عنده منذ سبع سنوات. بدا الزامور والصفارات تنذر بدخولنا ميناء الاسماعيلية حيث نقلتنا القوارب إلى حيث الاستقبال الرسمي لهذا الرجل الذي أنقذته اليقظة وإرادة الله من قذائف وصواريخ حافظ الأسد وشارون في طرابلس. إنني أسير وراء أبو عمار مباشرة. وهذا رئيس الوزراء "فؤاد محيي الدين" وهؤلاء كبار الضباط وهذا محافظ الاسماعيلية وهناك لمحت الدكتور أسامة الباز، وإلى جانبه يقف نبيل شعث وبجواره زهدي القدرة. لم ينزل أحد من السفينة غير الحاج إسماعيل ومازن عز الدين وأنا والمرافقين الأربعة. ولا أدري هل هو دوار البحر الذي يتحدثون عنه أم قلة النوم لأكثر من 48 ساعة جعلتني أفتقر إلى التركيز في هذه اللحظة. ولا أدري هل مرت عشرة دقائق أم أقل أم أكثر حيث شدني أبو عمار من يدي وقال: لا بد أن نذهب للسلام على الرئيس مبارك وشكره، والمروحية جاهزة. وفي تلك اللحظة تذكرت ما قاله أبو جهاد ونسيته وأبو عمار يمسك بيدي إلى المروحية التي انطلقت بمجرد صعودنا. رئيس الوزراء  المصري فؤاد محيي الدين وأسامة الباز ونبيل شعث وأنا إلى جانب أبو عمار ومروحية أخرى نقلت المرافقين وبقية المستقبلين ولم تستغرق الرحلة إلى القاهرة طويلا ربما أربعون دقيقة.

 إننا الآن في قصر القبة الشهير. فالمروحية هبطت وهناك استقبال وتحية عسكرية لأبو عمار وكان الرئيس مبارك وإلى جانبه بطرس غالي في الصالة الرئيسة في قصر ألقبة.عناق بين أبو عمار والرئيس مبارك، وجلسة بين الرئيسين لم يشارك فيها أحد من المسئولين. ولكن بعد نصف ساعة دخلنا غرفة الاجتماع فقال لي أبو عمار: اجلس مع أخيك د. بطرس غالي لصياغة بيان عن الزيارة ولا بد أن تركز على شكر مصر والرئيس مبارك والمرافقة الأمنية للبواخر من طرابلس حتى قناة السويس وسحب مصر للسفير من إسرائيل أثناء حرب 1982 وزيارة الوفد الشعبي المصري لنا. وكنت أحرص في الحقيقة على أن يتضمن البيان جملة واحدة والجملة هدف الزيارة هي التالية: إن الرئيس مبارك يجدد دعمه لمنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة أبو عمار باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ويدين الرئيس مبارك المحاولات الرامية لضرب منظمة التحرير الفلسطينية ويؤكد الرئيس مبارك دعمه للكفاح العادل للشعب الفلسطيني من أجل تأمين حقوقه الوطنية وعلى رأسها حق تقرير المصير وحق العودة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

وأضفت جملا أخرى في إدانة صريحة لنظام حافظ الأسد والمنشقين والعقيد القذافي وإسرائيل وأمريكا، وجلست مع د. بطرس غالي وقلت له: تفضل واكتب فأنت المشهور بالحنكة السياسية من قبل الجميع. ضحك بطرس غالي وقال لي أشكرك ولكن دعنا نكتب صيغة سياسية تفيدكم ولا تضرنا وقلت له: ولكن كما تعلم هذه الزيارة خروج على قرارات القمة العربية وحتى في المنظمة وفتح كثيرون ضدها، ونريد موقفا مصريا يدعم المنظمة ورئيس المنظمة والحقوق الوطنية والأهداف الوطنية في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وقال بطرس غالي: هناك اتفاق كامب ديفيد ومعاهدة السلام بيننا وبين إسرائيل والمادة السادسة في المعاهدة تنص على عدم إقامة علاقات مع أي طرف يعادي الطرف الآخر في المعاهدة. وأخيرا بعد صياغته للبيان حول زيارة أبو عمار ولقائه الرئيس حسني مبارك في القاهرة توقفنا عند النقطة الجوهرية وهي دعم مصر والرئيس مبارك لمنظمة التحرير برئاسة ياسر عرفات في الواقع لم يرفضها د. بطرس غالي، ولكنه قال الأفضل أن نعرضها على الرئيس مبارك لأنه هو صاحب القرار الأخير. ولكن أطمئنك ما دام قد استقبل أبو عمار فلن يكون لديه اعتراض على هذا البيان بالنص الذي اتفقنا عليه وانتهت لجنة الصياغة المشكلة من بطرس غالي ومني من صياغة البيان في شكله النهائي  وهو لا يتعدى عشرة أسطر وحان موعد الغداء. وعرض د. بطرس غالي النص على الرئيس مبارك الذي قال: "موافق اللي بيطلبو أبو عمار إحنا موافقين عليه. "

 تناولنا الغداء وصدر البيان الذي يحمل تأييد الرئيس مبارك ومصر للمنظمة برئاسة أبو عمار وبالطبع كنت قد أطلعت أبو عمار على النص الأخير الذي اتفقنا عليه والذي  تضمن  شكر أبو عمار والشعب الفلسطيني لمصر والرئيس مبارك وعبر أبو عمار عن رضاه على البيان بقوله "هذا سيقلب الطاولة." لم تستغرق الزيارة أكثر من ساعتين، وحملتنا المروحيات إلى الاسماعيلية لنواصل رحيلنا الثاني إلى ميناء الحديدة في الجمهورية العربية اليمنية. ولدى صعودنا إلى السفينة، أبو عمار وأنا، أمسك أبو عمار بيدي. وأدركت على الفور أنه قلق ومرتبك بعد هذه الزيارة التي قلبت الطاولة كما قال. إلا أنه يحسب حساب كل صغيرة وكبيرة في هذا الزمن الرديء، واعتقدت للحظة أن لديه خشية أن يكون الضباط والمقاتلون على سفينتنا ضد الزيارة ولهذا فور دخولنا السفينة كنت أمسك بيده وكأنني أشد أزره وهو في قمة اضطرابه العصبي وكأنه يرتجف حتى وصلنا للغرفتين. وحين دخل لغرفته كان الحاج إسماعيل قد وصل وهو أعلى رتبة عسكرية على السفينة وقلت له المطلوب رفع معنويات الرئيس. والحاج إسماعيل فدائي قديم ولماح وقال لي أولا: كيف الزيارة؟ قلت له: البيان تضمن المطلوب وهو تأييد المنظمة برئاسة أبو عمار وقد قال لي أبو عمار عن البيان أنه سيقلب الطاولة وقلت للحاج إسماعيل نتحدث في السياسية فيما بعد ولكن الآن أريد حركة من الشباب  في الباخرة تعبر عن تأييدها لأبو عمار أريد أن يسمع أبو عمار هتافات، أناشيد، أريد حركة تأييد قوية لأبو عمار، أشعر أنه مضطرب وقفز الحاج إسماعيل وقبل أن يغادر أبو عمار غرفته تحولت الباخرة إلى مظاهرة صاخبة تؤيد أبو عمار. وبسبب هذه الأصوات وحتى دقات الطبول، خرج أبو عمار من غرفته مزهوا وقد استعاد تماسكه. وسألني ما هذا؟ وكان بالطبع يميز بين هتافات التأييد وبين  نقيضها فقلت له الشباب سعداء بنجاح زيارتك للقاهرة وسعداء بتأييد مصر والرئيس مبارك للمنظمة برئاستك. وفي الواقع الشباب كانوا لا يعلمون شيئا عن البيان ولكنهم مع أبو عمار أخطأ أو أصاب ولساعات طويلة جاء الشباب على شكل مجموعات صغيرة للسلام على أبو عمار ولا أعرف من أين توفرت هذه الكمية من الحلويات والشوكولاتة التي يجري توزيعها في كل أنحاء الباخرة.

 ولأن الثورة، أي ثورة، تحمل في طياتها غير المتوقع دائما فقد قفز شابان من السفينة الثانية المتوجهة إلى عدن إلى قناة السويس والسبب أن أسرهم في  مصر وهذه أول مشكلة. أما المشكلة الثانية فقد اعترض أحد الضباط على الزيارة بصوت مسموع في تلك السفينة وتولى الطيب عبد الرحيم وزياد الأطرش السيطرة على الموقف ولكن بدأت الأصوات ترتفع من باخرة أبو جهاد وأبو الهول تعلن اعتراضها وعدم موافقتها على الزيارة، هذا بيان منهما وصل الآن،  ومن اللجنة المركزية ومن أبو إياد وأبو اللطف تصريحات ضد الزيارة والجنون كل الجنون يأتي عادة من دمشق ومن فيها من الفصائل، والفصائل عليها أن تعلن أقصى درجات تطرفها وتفقد عقلانيتها حتى يرتاح حافظ الأسد. أما أن يظهر بصيص من العقلانية لديها، فهذا معناه حرمانها في سوريا وحتى طردها. وغلاة المتطرفين من الفصائل كما هي تقاليد الساحة هي الجبهة الشعبية وبلسان جورج حبش الذي وصل في تهجمه على أبو عمار وعلى الزيارة إلى حد اتهام أبو عمار بالخيانة العظمى. وكادت ردود الفعل على الزيارة أن تكون نسخة طبق الأصل عن ردود الفعل حول زيارة السادات مع فارق بسيط إن الحملة على زيارة أبو عمار تتركز في سوريا وليبيا. أما العراق فهو غارق حتى إذنيه في الحرب مع إيران ولكن لا بد من بصيص أمل يرفع المعنويات. ونحن على ظهر الباخرة المتوجهة إلى ميناء الحديدة وقد جاءت البشرى الأولى من نبيل عمرو مدير إذاعات الثورة الفلسطينية فأصدر بيانا أعلن فيه إن إذاعات الثورة الفلسطينية في العراق واليمن والجزائر تؤيد الزيارة وتؤيد أبو عمار، والبشرى الثانية كانت من حكم بلعاوي الذي أرسل لنا برقية يقول فيها إن الاتحاد السوفيتي يؤيد الزيارة. وأخذت برقيات التأييد تنهال علينا من التجمعات الفلسطينية المنتشرة حول العالم. 

وفي المساء وأمام ما أعلنه جورج حبش عن اتهام أبو عمار بالخيانة العظمى أو بأنه سادات فلسطين أعلن أبو إياد في حديث لإذاعة مونت كارلو رفضه لهذا الموقف وظهر من حديث أبو إياد أنه كعادته يقوم باحتواء الموقف وأنه في الجوهر ليس ضد الزيارة إنما هذه حال الساحة الفلسطينية يتحرك صانعو الأحداث السياسية فيها ليس فقط من الحرص على المصلحة الوطنية كما يقولون. فهنالك أولا الصراع على الزعامة في الساحة وهناك حيث يقيمون وما تتطلبه الإقامة في سوريا أو ليبيا من ولاء لحكام دمشق ونفاق زائف للعقيد القذافي. أما نايف حواتمة فلديه من البراعة السياسية ما يجعله بعيدا عن الشعارات الجوفاء ولا يقطع في المقابل شعرة معاوية مع الشرعية ولا يعطي الأسد ذريعة للتضييق على الجبهة الديمقراطية. أما الجبهة الشعبية فقد بلغت حملتها ذروتها بوضع صورة أبو عمار على غلاف مجلة "الهدف" وتحتها كلمة واحدة "المنبوذ" مرفقة بتصريح لجورج حبش بأن أبو عمار هو السادات الفلسطيني وهذه الحملة جعلتني أكتب فيما بعد ردا في افتتاحية "فلسطين الثورة" كادت تجبر أبو علي مصطفى على قطع محادثات عدن للحوار الوطني، التي شاركت فيها إلى جانب أبو جهاد وأبو الهول. أبو عمار استعاد ثقته بنفسه بالهتافات المؤيدة له والتي تقول: أبو عمار سير سير واحنا معاك للتحرير. " وأخذ أبو عمار  يغير موضوع الحديث معي من قلب الطاولة على رؤوس المتآمرين إلىحرصه على تقديم الشكر لمصر على المرافقة الأمنية للباخرة من طرابلس وحتى مصر. وتجاهل كل البعد السياسي للزيارة، وهو الهدف الحقيقي، حيث أراد أن يضمن تأييد مصر لقيادته والمنظمة سواء كانت مصر في كامب ديفيد، أما أن كامب ديفيد ليست أكثر من شقة في القاهرة. وفي طرابلس مع وفد التضامن المصري كان يوافقهم أنه من الظلم للشعب الفلسطيني أن يخسر تأييد مصر. ولا أحتاج إلى وقت طويل لمعرفة بوصلة أبو عمار وإلى أين تتجه؟ إنه بقوله أنه جاء يشكر مصر إنما يحاول إسقاط كل الاتهامات الفلسطينية والسورية بأنه خرق القرار العربي بمقاطعة مصر بسبب كامب ديفيد. وبأنه بالتالي لم يفعل شيئا غير تقديم الشكر لمصر. وحول ما قاله لي أبو جهاد في وقت سابق بأن اتفاقنا على اللقاء سيتم في مدينة الاسماعيلية لم يكن ليحدث لأنه من غير اللائق أن نضع شرطا على الرئيس المصري في تحديد مكان اللقاء، فالقاهرة عاصمة مصر ومن الطبيعي أن نشكر الرئيس مبارك في عاصمته وأمام كل المصريين. وفي الحقيقة بدأنا خارج هذا الموقف الذي يصر عليه _ نبحث ردود الفعل في اللجنة المركزية بعد بيان أبو جهاد الغاضب وتصريحات أبو إياد الغاضبة والاحتوائية على السواء. واتفقنا أنه لن يكون هناك انشقاق آخر في فتح وهم غاضبون في تونس لبعض الوقت ولا يريدون أن يقع انقسام آخر في الساحة وهم غاضبون كذلك لان تحذيراتهم بعدم اللقاء لم يأخذ بها أبو عمار. وقلت لأبو عمار بعد نقاش طويل إن ميزان الساحة العربية لن يكون لصالح سوريا بعد هذه الزيارة، وبالتالي لن تستطيع سوريا تشكيل منظمة تحرير جديدة تدور في فلكها ولا بد من تهدئة الخواطر في اللجنة المركزية حتى  تستقيم الأمور تدريجيا في الساحة العربية حيث تشكل حالة فتح الداخلية الأساس للحالة الفلسطينية العامة. فإذا اهتزت وحدة فتح سرعان ما تتشظى الساحة الفلسطينية، وأكبر مثال تجربة الانشقاق وكيف أخذت تؤثر على الفصائل كلها سواء بانشقاقاتها وخاصة الموالية لسوريا والأخرى باضطراب سياستها لتحفظ بقائها في سوريا بعد خسارة لبنان وإغلاق الساحة اللبنانية سوريا وإسرائيليا.

ومع أن أبو عمار قلب الطاولة بزيارة القاهرة، إلا أننا واجهنا في البحر الأحمر خطر الموت غرقا في هذه الأمواج العاتية التي لم نشاهد مثلها في البحر الأبيض المتوسط. فالباخرة  التي تنقلنا إلى ميناء الحديدة أخذت تواجه أمواجا عالية والموج يرتفع حتى يصل إلى كابينة القبطان تحتنا مباشرة والسفينة تهتز على نحو خطير للغاية وكأنها على وشك الغرق. ومرت ساعات على هذا المنوال وبدأ أبو عمار يقلق ويحاول التدخل في خط سير السفينة ويقول لي بالانكليزية انه "navigator " ومعناها انه ملاح بارع ويعرف الاتجاهات تماما ولكنه في الحقيقة أصيب "بدوار البحر " ودوار البحر هذا يؤدي إلى اضطراب الحركة، وعلى المرء أن يجلس بهدوء، وهناك بعض الحبوب الخاصة التي تصلح لتهدئة المصاب بدوار البحر ولم يتناول أبو عمار حبة الدواء هذه إلا باعتبارها مجاملة لي لأني بدوري أخذت هذه الحبة، وبعدها شراب لونه أصفر لا أعرف ما هو، إلا أن الأمواج العالية واضطراب السفينة وتمايلها يمينا ويسارا جعل حالتنا تزداد سوءا. ولم يكن أمامنا غير الجلوس على الكراسي البلاستيكية في غرفة الطعام بين غرفتينا وأبو عمار يستغرب هذه الأمواج العاتية تارة، وتارة أخرى يقول هذا يحدث في البحر الأحمر. واكتشفنا عند الفجر أن ثماني ساعات قد مضت والسفينة تسير في الاتجاه الخاطئ إنها تقترب من بورسودان بدل الخط البحري المعروف بخط جدة في السعودية. وأدرك ربان السفينة أنه كان على خطأ وبدأ يقطع عرض البحر الأحمر ليعود إلى  الخط البحري التقليدي بين جدة وميناء الحديدة. وأيضا واجهت السفينة أمواجا عاتية مرة أخرى وقضينا أربع ساعات حتى استقام سير السفينة باتجاه الحديدة التي وصلناها عند الظهر بفارق تأخير عشر ساعات على الأقل. وكانت المفاجأة السارة في ميناء الحديدة مبادرة شجاعة من حكم بلعاوي وعديد من القيادات والكوادر وعلى رأسهم اللواء أبو المعتصم والشاعر معين بسيسو الذي سبقته ملحمته الشعرية والتي أولها "كم من ضلوعك والحصار يضيق قد وقفت معك،" فقد استأجر حكم طائرة خاصة من تونس إلى الحديدة وحملت كل كوادر وقيادات فتح في المؤسسات والأجهزة والنقابات وكان معهم ابني "يزن" وكان طفلا صغيرا وأسعدني حضوره بعد أن مرت لحظات صعبة في طرابلس كنا فيها قريبين من موت محقق وكانت الطائرة الرئاسية اليمنية بانتظار أبو عمار فأخذت "يزن" ابني معنا في الطائرة من الحديدة إلى صنعاء. وأبلغنا الوزير اليمني الذي استقبل أبو عمار: إن الرئيس علي عبد الله صالح يدعو أبو عمار ورفاقه لتناول الغداء في قصر الرئاسة وتوجهنا مباشرة حيث استقبلنا الرئيس علي عبد الله صالح بالعناق الحار والترحيب والإشارة بشجاعة أبو عمار وخاصة في زيارة مصر والاجتماع مع الرئيس مبارك. وبعدها عدنا إلى بيت الضيافة الذي خصصه الرئيس علي عبد الله صالح لإقامة أبو عمار وبدل أن أذهب إلى الفندق أصر أبو عمار أن أنزل في غرفة ملاصقة لغرفته في بيت الضيافة ومعي ابني "يزن" وهو طفل صغير وكان أبو عمار يعرفه من بيروت ويضع صورته في إطار خاص في مكتبه.

الفصل الخامس عشر:

الرؤية أوضح في تونس
 

عاد أبو عمار إلى تونس بعد خمسة أيام من المحاولات التي بذلها الكثيرون لإقناعه بالعودة إلى تونس والاجتماع مع أعضاء اللجنة المركزية. وفي الحقيقة هناك من أجرى اتصالا مع الرئيس علي عبد الله صالح للضغط على أبو عمار للسفر إلى تونس. وفعلا هذا ما حدث. وعاد أبو عمار إلى مقر قيادته. وهذه اللجنة المركزية التي قادت فتح هي فعلا قيادة تاريخية بكل معنى الكلمة. فالغضب بينهم يقف عند حد، والخلاف السياسي يقف عند حد، ومهما ظهر بينهم من جفوة وتباعد وحتى قطيعة في الكلام والاتصال فيخطئ من يراهن عليه ويبني حساباته أن هذه القيادة قد فقدت وحدتها وتفرقت أيدي سبا. ويقف محمود عباس (أبو مازن) في نقطة الوسط. وحين يضمن صفاء الأمور بين أبو عمار وأبو إياد تصبح مهمته لعقد اجتماع اللجنة المركزية قريبة المنال. وبصمته الشديد يفاجئنا بأن اجتماع اللجنة المركزية سيعقد هذه الليلة، فيجري تنفيس الاحتقان الداخلي. وتسقط السدود بين المعسكرات. وهكذا ساد في فتح لسنوات طويلة اعتقاد أن أبو عمار وأعضاء اللجنة المركزية يوزعون الأدوار فيما بينهم.

 ومع أن أبو عمار وصل تونس غاضبا من التصريحات والبيانات التي صدرت من عدد من أعضاء المركزية للتنصل من زيارته للقاهرة بل ولإدانتها، فانه يرصد أوضاع اللجنة المركزية. فإذا أصيب أحدهم بالزكام يقوم بزيارته. وإذا وقعت مناسبة عائلية يكون ورد أبو عمار وهداياه المتواضعة في المقدمة. وإذا حضر ضيوف أجانب أو من عمان أو بيروت فيقوم حكم بترتيب غداء في منزله ويحضره الجميع، أعني أعضاء المركزية. وإذا حضر من كنا نسميهم "الكمبرادور "وهم حسيب الصباغ، وسعيد خوري، ومنيب المصري، وصبيح المصري، وعبد المجيد شومان، وزين مياسي، وباسل عقل،  هؤلاء موضع احترام وثقة من أعضاء اللجنة المركزية وأنهم يتركون أعمالهم ويتفرغون كليا لإصلاح ذات البين في لجنة فتح المركزية. ويجب ألا ننسى أبدا الدور الرائع لهذا القائد اللبناني الشجاع محسن إبراهيم القادر بثقافته وتجربته السياسية الطويلة على إزالة الجليد بين أعضاء اللجنة المركزية. ولا تستغرق كل هذه الجهود أكثر من أسبوع وبعدها يلتئم شمل اللجنة المركزية، وهذا هو الأهم. وأبو عمار لا يقول في الاجتماع أكثر من أنه وجد من واجبه أن يشكر مصر ورئيسها على دعمهم وتقديم الحماية الأمنية للبواخر التي غادرت طرابلس. وكان هناك تهديد إسرائيلي بالسيطرة عليها، وأخذ أبو عمار أسيرا. ويقول أبو عمار: "نعم، الزيارة قرار شخصي وليست قرار القيادة". فلم يكن هناك مجال لعقد اجتماع وأنا في البحر. والاتصالات التي جرت ليست كافية لتوضيح الأمور كلها للأخوة. والبيان الذي صدر عقب اجتماع اللجنة المركزية كان له هدف أبعد من التأكيد أن الزيارة شخصية وهذه قيادة لها خبرة في شؤون الساحة الفلسطينية. ولذلك حين أكد البيان أن الزيارة شخصية فهذا فتح الباب لاستعادة الحوار مع الفصائل. فلو قيل مثلا إن اللجنة المركزية توافق على الزيارة فان الفصائل وخاصة الشعبية والديمقراطية تصبح في وضع صعب للغاية، وهي المقيمة في دمشق. وهذا البيان الذي صدر بعد اجتماع اللجنة المركزية وفهمه الكثيرون انه مساس بمكانة أبو عمار كقائد للثورة ورئيس للمنظمة إنما يعكس النظرة الثاقبة التي ينظر فيها أبو عمار إلى الأمور. فهو من جهة حقق بزيارة القاهرة اختراقا لصالح الشعب الفلسطيني، ومن جهة أخرى ترك الباب مفتوحا لحماية الوحدة الداخلية في الساحة الفلسطينية. والشرعية التي يصر عليها أبو عمار لا يمكنها أن تدوم بدون الوحدة الوطنية. فالوحدة الوطنية لا تتحقق لأنها تمثل المصلحة العليا للشعب الفلسطيني، بل يتطلب تحقيقها بالإضافة إلى الأهداف السامية والمثل العليا الوطنية الصحيحة القائمة على الاستقلالية، والعمل الجاد لتعديل موازين القوى الداخلية لصالح الجسم المركزي وشحن ديناميكيته وحركيته لإدامة قدرته على جذب الأفلاك إلى دائرته وإطاره. وإذا كان أبو عمار في كل هذه المعارك التي يقودها قد حقق إنجازا لا تراجع عنه فهذا الانجاز هو تكريس الهوية الوطنية وتكريس الاستقلالية الوطنية وتكريس القرار الوطني المستقل. وهذا تم بالعمل والمبادرة. والمنشقون سواء وقفوا على يساره أو على يمينه فلا أثر لهم يحسب حسابه في الأوساط الوطنية التي أصبحت تعي خصوصيتها. فهذا الانجاز السياسي، وأعني به الخصوصية الوطنية الفلسطينية كانت تربته جاهزة لمن يحسن زراعتها. وهذا ما أدركته بوعي عميق النواة الأولى لحركة فتح التي أحسنت مخاطبة الفلسطينيين ولم تكن حركة تبشير بل كانت حركة عمل وفعل، وخدمها التاريخ من حيث لا تحتسب في هذه الحرب الكارثة عام 1967 التي وسط الدمار والضياع والاحتلال لكل فلسطين التاريخية، أوجدت الشرط الموضوعي والتربة الخصبة لظهور العامل الفلسطيني  بكل خصوصيته. وقد أسقط من وعيه أوهام الماضي ورهانات المستقبل وهو يخوض صراع البقاء في الزمن العربي الرديء، زمن القبائل والكيانات الهزيلة.

 وإذا كان العمل وليس التبشير هو أداة القياس لكل الأفكار فمن غير أبو عمار يمكنه القول أنه دخل مرتين إلى فلسطين لتعبئة الخلايا المقاتلة لحركة فتح، وظلت لغة أبو جهاد تحمل هذه الشحنة العاطفية منذ بدأ كتاباته الأولى في مجلة "فلسطيننا "في عام 1959 وحتى رسالته الأخيرة لقادة الانتفاضة في عام 1988 يوم اغتياله على يد الموساد في 16 نيسان 1988. ويمكننا أن نفهم عمق وتجذر الهوية والخصوصية الفلسطينية حين يصرح أبو إياد بأننا سنعقد المجلس الوطني على سفينة في البحر الأبيض المتوسط ولن نقبل من أحد أن يفرض علينا شروطه. وكمال عدوان الذي كان يردد دائما "عقيدتي فلسطين وكل العقائد في خدمتها. " والمساهم الأبرز في صياغة البرنامج السياسي والجملة السياسية بدعم قوي من أبو عمار وأبو إياد  هو محمود عباس ( أبو مازن ) الذي حفر عميقا في تاريخ اليهود والحركة الصهيونية في دراسة أكاديمية أوصلته إلى الواقعية السياسية العارية ليجد لشعبه مكانا في التاريخ بحكم أنه أحد القادة المؤسسين لفتح. فإنه حين وضع ثقله إلى جانب الواقعية السياسية وجدت الجملة السياسية الفلسطينية مكانها المركزي والمحوري في البرنامج الوطني العام. ولم تكن هذه المساهمة بالمهمة السهلة ولازالت تلقى المعارضة من مزيفي التاريخ.

إن السياسية الوطنية، الصحيحة القائمة على استقلالية الإرادة والقرار، هي مصدر القوة الأساسي لحركة "فتح" لدى الشعب الفلسطيني. وهذه السياسة أصبحت خيارا لا رجعة عنه بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية. أما القضية الأهم وهي تعديل موازين القوى الداخلية، فإن أبو عمار بعد الخروج من طرابلس وزيارة القاهرة وحيث أصبحت تونس مركز قيادته، لم يهدأ ولم ينم على حرير استطلاعات الرأي التي أعطته تأييدا شعبيا غير مسبوق. إنه يعطي الوقت- كل الوقت- لإعادة بناء "فتح" بعد كارثة الانشقاق. والانشقاق له تداعيات بعيدة المدى. فهو انشقاق داخلي وانشقاق مع سوريا وقبل عشر سنوات كان انشقاق مع الأردن. وفي القواعد والبنية التحتية. هذه الانشقاقات المتتالية تقع ،عادة، في الأداة الفاعلة، فهي أصابت كوادر عليا في الجسم العسكري والمدني والمنظمات الشعبية. ولحسن الحظ أنها انشقاقات أفقية وليست عمودية بمعنى أنها تنحصر في فرد أو أفراد. والمنشق يخرج وحده من جسم "فتح". وهذا لا يمس التفاف الجماهير حولها وكانت هذه الخصوصية الوطنية التي جسدتها "فتح" هي القوة الحاسمة لعزل أي انشقاق، حتى لو كانت معه سوريا اللاعب المؤثر في الشأن الوطني الفلسطيني، بحكم موقعها في ساحة الصراع، وبحكم مواقفها التي لا تكلفها شيئا حين تقف على يسار "فتح" التي ترفع راية الاستقلالية الوطنية وتعتمد البرجماتية السياسية منهجا في عملها وعلاقاتها.

ورغم الرحيل القهري عن بيروت وطرابلس في عامين متتاليين، فإن عزيمة أبو عمار لم تضعف أبدا. فحيث هناك احتلال هناك مقاومة للمحتلين، وحيث هناك فلسطينيون هناك "فتح". ولا يمكن أن يرضخ أبو عمار لأية قوة تحاول إبعاده عن شعبه. وإذا كانت هناك مقاومة في جنوب لبنان فهي مقاومة فلسطينية - لبنانية ولا يقبل أي تسمية أخرى. وحين عاد الوئام إلى اللجنة المركزية، عاد أبو عمار إلى نظام حياته: المقاومة ثم المقاومة ولا شيء غير المقاومة. فالمقاومة أساس وجوده وجذر شرعيته وبدونها لن يكون أبو عمار، وبعد أن شكل من الضباط الكبار الهيئات المختلفة، كرس كل وقته للجنة لبنان، والمقاتلون يجب أن يعودوا إلى لبنان، لأنه لا يمكن أن نترك شعبنا تحت رحمة المنشقين وحركة "أمل" و"جبهة الإنقاذ" التي أرادها حافظ الأسد أن تكون بديلا لفتح ولمنظمة التحرير الفلسطينية. ولهذا يأمر "فتحي" و"جمعة "المسئولان عن القوة البحرية بشراء السفن، ويتدفق مئات المقاتلين إلى المخيمات في بيروت والجنوب. ويأمر أبو عمار الوحدات التي كانت في الجبل بالتسلل إلى مخيمات بيروت. وترتكب حركة "أمل" بأمر من الأسد جريمتها في حرب المخيمات ضد ما تسميه "زمرة العرفاتيين."و تتلقى التسليح والدبابات من سوريا. والمهم ألا تعود "فتح" إلى لبنان. 

ويضم الأسد كتيبة الأسد واللواء السادس من بقايا الجيش اللبناني لقوات "أمل" لمواصلة جريمتها في حرب المخيمات على مدى ثلاثة أعوام، وتتعرض المخيمات في بيروت والجنوب للقصف والحصار، وحتى تمنع  وكالة الغوث من تزويد مخيم الرشيدية بالمواد الغذائية. وفي مخيم برج البراجنة أصدر رجال الدين فتوى لأكل لحوم الكلاب والقطط بسبب وطأة الحصار. وفشلت حركة "أمل" في فرض سيطرتها رغم آلاف الأرواح بين قتيل وجريح، وبعد حركة "أمل" جاء دور المنشقين الذين اغتالوا علي أبو طوق قائد الصمود في شاتيلا وصبرا في آخر كانون الثاني 1987 الذي وقف في وجه قوات أمل واللواء السادس. ومرة أخرى أخرجت قوات "فتح" من مخيمات بيروت إلى مخيمات الجنوب تحت ضغط النظام السوري. وكان لا بد من الرد على وحشية وغطرسة حركة "أمل". وتحقق الرد في قرية مغدوشة أيلول 1986 حيث وجهت قوات فتح والجبهة الديمقراطية ضربة موجعة لحركة أمل في هذه المعركة الحاسمة وهي القرية الإستراتيجية التي تسيطر على الطرق إلى بيروت والجنوب. وبالطبع يجب أن لا ننسى المساعدة التي تلقتها قوات فتح من الحزب التقدمي الاشتراكي، ومن التنظيم الناصري بقيادة مصطفى سعد. وهكذا عادت فتح إلى المخيمات في الجنوب دون أن يتوقف أبو عمار عن المحاولات الدءوبة لاستعادة السيطرة على مخيمات بيروت. وظل أبو عمار يحرك المقاتلين والسفن إلى شواطئ لبنان، وإسرائيل تعترض السفن وتصادرها، وتزج بالمقاتلين في سجونها، وحركة "أمل" والمنشقون و"كتيبة الأسد" من بعثيي لبنان يرصدون حركة أبناء "فتح"  للانقضاض عليهم كلما تلقوا الأمر بذلك من دمشق، فالكابوس الذي يؤرق الأسد هو عودة فتح إلى لبنان.

مع انهيار أوهام أبو صالح حول علاقته  مع الأسد وموسكو وفرض الإقامة الجبرية عليه، وصراع أبو موسى وأبو خالد على الزعامة، وتماسك حركة "فتح" قيادة وكوادر في لبنان وكل المخيمات،عادت إلى الحياة والعمل العلاقات بين الفصائل الأساسية "فتح" والشعبية والديمقراطية والحزب الشيوعي وجبهة التحرير الفلسطينية وجبهة النضال وتم عزل الصاعقة والقيادة العامة والمنشقين. 

لم يجد حافظ الأسد غير التهديد بأن من يغادر دمشق للالتحاق بياسر عرفات في تونس فلن يسمح له بالعودة إلى دمشق. هذا القرار معناه تعطيل اللجنة التنفيذية وتعطيل المجلس المركزي وهما أهم إطارين قياديين في الساحة الفلسطينية. وفي هذه الحالة تصبح شرعية اللجنة التنفيذية مهددة فعلا بحيث لا يتوفر النصاب لدى أي طارئ. وأصبح الوضع خطيرا فعلا حين صادرت المخابرات السورية جواز سفر محمد زهدي النشاشيبي ومنعته من مغادرة دمشق، وليس أمام أبو عمار إلا دعوة المجلس الوطني الفلسطيني في دورة عادية أو استثنائية لحماية شرعية اللجنة التنفيذية لتواصل قيادة الشعب الفلسطيني. وتدخل الأسد لمنع عقد المجلس في الجزائر. وذهب بنفسه في 27 آب 1984 إلى الجزائر. وأقنع الشاذلي بن جديد بالاعتذار عن الموافقة السابقة لعقد المجلس في الجزائر. وذهب أبو إياد إلى الجزائر وإلى اليمن الديمقراطي، ولم يجد غير الاعتذار من اليمن كما من الجزائر. ولهذا أدلى بتصريحه الشهير في ذلك الوقت "بأننا من أجل الحفاظ على الشرعية الفلسطينية وعلى القرار الوطني المستقل سنعقد المجلس الوطني على ظهر سفينة في البحر الأبيض المتوسط". وكان لا بد من إحياء العلاقات الداخلية بين الفصائل تمهيدا لعقد المجلس الوطني. ولهذا بدأت القيادة بإجراء الاتصالات لمباشرة الحوار الوطني في عدن في شهر نيسان 1984. وفي الجزائر وفي براغ تموز 1984. وفي عدن كنت إلى جانب أبو جهاد وأبو الهول في هذا الحوار مع الشعبية والديمقراطية. وفي براغ كان أبو مازن يدير الحوار مع ممثلي الفصائل في جولة أخرى. وفي الجزائر وضعت اللجنة المركزية كل ثقلها لإنجاح الحوار. وبالفعل، تم التوقيع على اتفاق عدن - الجزائر على أساس جملة من المواقف السياسية المتشددة، ومنها رفض مبادرة ريغان، ورفض كامب ديفيد، ورفض العلاقات مع مصر، وإدانة زيارة أبو عمار إلى مصر. 

في عدن وقعت مشكلة مع أبو علي مصطفى كنت طرفا فيها، حيث واصلت مجلة "الهدف"حملتها على أبو عمار وتحت صورته في المجلة كتبت بالخط العريض "المنبوذ."ووجدت المجلة أمامي في الفندق، فقرأت المقال السيئ جدا وجلست على الفور وكتبت افتتاحية "كلمة الثورة" لمجلة" فلسطين الثورة" وأرسلتها على الفاكس إلى المجلة في قبرص، وطلبت نشرها في الصحف اللبنانية. كما طلبت إرسالها إلى عدن حيث نجتمع في جلسات الحوار الوطني المليئة بالتوتر والاستفزاز لفتح. وأما أبو جهاد فكان يتجاوز هذا الاستفزاز. وفي المساء حين نشر ردي في "فلسطين الثورة "على ما نشرته مجلة "الهدف" ضد أبو عمار انفجرت الجلسة وتوقفت المحادثات وألغيت جلسة اليوم الثاني الصباحية، ما اضطر الرئيس علي ناصر محمد إلى دعوة الوفود كلها إلى جلسة مشتركة برئاسته لإصلاح ذات البين، وكانت له قدرة عالية على تذليل الصعوبات في العلاقات الشخصية بيننا نحن الفلسطينيين. ودعانا لتناول الغداء على مائدته، حيث عرفني على مستشاره السياسي وكان اسمه للمصادفة "أحمد عبد الرحمن. "وقد تم الاتفاق على رفع الجلسة في اليوم الثالث على أن يستأنف الحوار في الجزائر في منتصف تموز 1984. وبالفعل صدرت ورقة اتفاق في براغ حيث كان أبو مازن يرأس وفد فتح. وتم توحيد الأوراق وتوقيع اتفاق عدن- الجزائر في 20-7-1984، على أمل أن يتم عقد المجلس الوطني مباشرة في الجزائر. ولكن غياب خالد الفاهوم عن الحوار وهو رئيس المجلس الوطني وغياب "الصاعقة" و"القيادة العامة" وبعض جبهة النضال وجبهة التحرير الفلسطينية واستحالة قبول المنشقين في أي حوار أو أي مجلس وطني، جعل الأسد يتحرك لرفض عقد المجلس الوطني في الجزائر أو عدن. وبالتالي أصبح الموقف محرجا للشعبية والديمقراطية والحزب الشيوعي وبعض أطراف الفصائل الأخرى. إلا أن أبو عمار لن يسلم للأسد بوضع هذا "الفيتو" الخطير على الوحدة الوطنية. ولهذا قرر الاستمرار في الجهود لعقد المجلس الوطني وجاءته الموافقة من الملك حسين الذي رحب بعقد المجلس الوطني في عمان. وكان الملك حسين قد أعلن وقوف الأردن ضد المنشقين وضد محاولات نظام الأسد السيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية. وطلب مني أبو عمار الذهاب إلى عمان للتحضير لعقد الدورة السابعة عشرة للمجلس الوطني والتي عقدت تحت عنوان :"دورة القرار الوطني المستقل. "وهذا العنوان يعكس الصراع المتصاعد مع نظام حافظ الأسد. وفي يوم وصولي إلى عمان عقدت مؤتمرا صحافيا في فندق "عمرة"وقرأت نصاً مكتوباً عن أهداف هذه الدورة، وهي حماية منظمة التحرير الفلسطينية والتأكيد على استقلالية القرار الوطني، ورفض الوصاية والاحتواء والتبعية. وقد رتبت استقبال الصحافيين العرب والأجانب وقاعة الصحافة في مدينة الحسين الرياضية. وعزل الأمن الأردني مدينة الحسين الرياضية والفنادق المحيطة ووضع قيودا مشددة على الحضور للمنطقة. وبدون الأوراق الرسمية من لجنة المؤتمر لا يمكن أن يدخل أحد إلى المنطقة.

تحدث الملك حسين في الجلسة الأولى في 22/11/ 1984 وعرض أفكاره حول ضرورة التعامل مع قرارات الشرعية الدولية والقرارين 242 و338، والعمل المشترك الفلسطيني – الأردني. وفي الواقع لم يكن الهدف من وراء دورة المجلس الوطني في عمان أي تناول للقضايا السياسية الشائكة، بل كان الهدف ترميم اللجنة التنفيذية للمنظمة التي كادت تفقد نصابها بسبب قرار الأسد بأن من يغادر دمشق إلى تونس للمشاركة في التنفيذية فلن يسمح له بالعودة إلى دمشق. كما صادرت جواز عضو اللجنة التنفيذية محمد زهدي النشاشيبي. وفي الوقت نفسه قاطعت الجبهة الشعبية ولا زالت عضوا في "جبهة الإنقاذ" مع "الصاعقة"و"القيادة العامة" والمنشقين وأقسام من جبهة النضال وجبهة التحرير الفلسطينية. وبالطبع هناك ممثل الصاعقة مجمد خليفة وممثل القيادة العامة المخضرم طلال ناجي. وقد كنا في بداية عملنا أنا وطلال زملاء في الهيئة الإدارية لاتحاد طلاب فلسطين في سوريا. وكان طلال في ذلك الوقت يمثل جبهة تحرير فلسطين "ج.ت.ف "وأنا أمثل حركة "فتح". وبالإضافة إلى هؤلاء هناك خالد الفاهوم الذي "قلبه مع علي وسيفه مع معاوية"، لأنه محكوم عليه أن يقبل ما يقبله الأسد ويرفض ما يرفضه، وكان مكرها أن يكون طاقية الخفاء لعش الدبابير المسمى "جبهة الإنقاذ". أما عبد الرحيم أحمد ممثل "جبهة التحرير العربية" فكان مع الشرعية وعقد المجلس الوطني في عمان لتجديدها. وهو رجل دمث ومهذب. وقد كان يشكو لي من الاتصالات الهاتفية أثناء دورة المجلس من الصحافيين والضيوف الذين يخلطون بين اسمينا عبد الرحيم أحمد وأحمد عبد الرحمن. وأرد عليه بأن مواقف الجبهة العربية الآن تؤهله تماما ليقوم بدور الناطق الرسمي للمجلس الوطني. فهناك انسجام كامل في المواقف بين "فتح"والعراق. والجبهة العربية في هذه الحالة مع الشرعية وتوقع على بياض لأبوعمار.

 أما الأمر الملفت في هذا التعاون مع الأردن فهناك جيل جديد من الصحافيين على صلة قوية مع النظام وقد جلسوا طويلا معي وأراحهم موقفي حين كنت أؤكد أن أيلول الأسود لا يتحمل مسؤوليته طرف واحد، بل المسؤولية مشتركة بين النظام والمنظمة. والأهم أنني صرحت علنا بأن "الأردن هو الأردن وفلسطين هي فلسطين، والأردن وطن الأردنيين وفلسطين وطن الفلسطينيين". ورفضت الوطن البديل الذي صرح به شارون حلا للقضية الفلسطينية. ولكني أضفت أن الأردن بلد صغير، ولا يمكنه مجابهة إسرائيل عسكريا ولكن – وهذا هو الأهم- ألا يقبل أي تورط مع إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني. 

 وسنحت لي الفرصة للحديث المباشر مع الملك حسين، وتأثرت كثيراً بلطفه وأدبه وتواضعه. فهو لا يخاطب أي شخص ولا يرد عليه إلا بكلمة "سيدي"، كما لفت انتباهي فريق المسئولين المباشرين الذين يعملون في الديوان الملكي: إنهم نخبة راقية من الموظفين الحاصلين على الشهادات الجامعية من أميركا وبريطانيا. إلا أن هذه الواجهة من المثقفين ليست هي التي تقرر العلاقات مع الفلسطينيين، سواء كانوا في الأردن أو في الضفة أو من قطاع غزة، فهذه العلاقات بدا لي أنها محصورة بجهاز المخابرات الذائع الصيت في الأردن. وكلمة "عليك مراجعة المخابرات، أو سحب الجواز في المطار أو على جسر الملك حسين ثم مراجعة المخابرات، هي أمور روتينيه في علاقة الأردن بالفلسطينيين.

قرر أبو عمار أن تكون جلسات المجلس الوطني  الفلسطيني جلسات مفتوحة. ووافق الملك حسين على  طلب أبو عمار أن ينقل التلفزيون الأردني كافة الجلسات على الهواء مباشرة، بحيث يتابع أهلنا في فلسطين وفي الأردن وسوريا ولبنان وقائع المجلس وقضاياه أولا بأول. وتعرف الناس على القيادة وأعضائها وقضاياها ونظام عمل المجلس الوطني وكيفية انتخاب اللجنة التنفيذية وممن تتشكل وكيف ينتخب أبو عمار رئيساً للجنة التنفيذية ومن هم المستقلون وكيف يتم اختيارهم،وكيف لم يتمكن المجلس بسبب نظامه المعقد من إسقاط  عضوية أحمد جبريل أو جماعة "الصاعقة". واستمعوا لكل  النقاشات العلنية وهي غير مسبوقة في الحياة السياسية العربية. كل ذلك جعل الجماهير الفلسطينية تلتف بقوه حول المنظمة وحول الاستقلالية الوطنية التي أصبحت هي المحرك وهي القوه الدافعة لأي توجه في الساحة الفلسطينية.أما قضية توفير النصاب، وكانت هي نقطة التحدي، فقد وقف ممثلو الجبهة الديمقراطية على أهبة الاستعداد خارج قاعة المجلس أثناء تثبيت العضوية للتحقق من النصاب وللدخول إلى القاعة في حال حصل نقص في العدد المطلوب لإكمال النصاب. وقد نجحت جهود أبو عمار بحضور 260 عضواً من بين 370عضواً هم أعضاء المجلس. وبهذا تحقق النصاب المطلوب الذي بموجبه تعتبر دورة المجلس الوطني شرعيه على الرغم من مقاطعة "الشعبية" و"الصاعقة" و"القيادة العامة" وبعض جبهة النضال وجبهة التحرير الفلسطينية. ولأن أبو عمار لا يريد القطيعة التامة مع نظام الأسد ,فلم يوافق على جميع الاقتراحات ومشاريع القرارات لطرد أحمد جبريل قائد "القيادة العامة" من عضوية المجلس الوطني. أما بالنسبة لخالد الفاهوم وكانت له مكانة خاصة عند أبو عمار فلم يكن ممكناً بقاءه رئيساً للمجلس الوطني، وعليه تم انتخاب"الشيخ الأحمر" أي التقدمي عبد الحميد السائح رئيساً للمجلس والذي استمر رئيسا من عام 1984حتى عام 1991م، وبعده انتخب المجلس الوطني سليم الزعنون رجل القانون والقاضي والشاعر رئيساً للمجلس. وبالمناسبة، فرئيس المجلس الوطني هو في الوقت نفسه رئيس المجلس المركزي الذي ينعقد أربع مرات كل عام بواقع مرة واحدة كل ثلاثة أشهر.ويحقق أبو عمار في هذا المجلس ما سعى إلى تحقيقه وهو استعادة الشرعية بكامل قوتها وتحت رئاسته، وإسقاط "الفيتو" الذي اعتقد الأسد أنه سيعطل الشرعية الفلسطينية. وقد قلت له: إن الجماهير عبرت عن تقديرها لموقفه حين تمسك بنصوص القانون ورفض طرد أحمد جبريل وممثلي الصاعقة من المجلس قال لي "هذه شعرة معاوية مع معاوية. "

كانت دورة القرار الوطني الفلسطيني المستقل في تشرين الثاني 1984 توازي في أهميتها قرارات قمة الرباط في تشرين الأول عام 1974 التي نصت على أن المنظمة هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وبعد شهر كامل من انتهاء أعمال المجلس الوطني وبالتحديد في"يوم 29/12/ 1984" أقدم المنشق أبو خالد العملة على ارتكاب جريمة اغتيال رئيس بلدية الخليل المبعد فهد القواسمة، الذي انتخبه المجلس الوطني عضواً في اللجنة التنفيذية. وقد قوبلت هذه الجريمة الدنيئة باستنكار عارم من جماهير الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. وقد كتبت البيان الذي أصدرته القيادة حول هذه الجريمة وحملت المسؤولية لنظام حافظ الأسد.

 كانت حسابات  أبو عمار، وإلى جانبه أبو جهاد، أن هذه المصالحة الهادئة مع الملك حسين قد توفر المكان الأفضل لإدامة الاتصال مع الأرض المحتلة. وبالفعل، بدأ أبو جهاد عمله في عمان بهدوء تام، ووظف أموال اللجنة المشتركة في دعم الداخل، وأقام "حركة الشبيبة" ومئات اللجان والهيئات. وقد احتجت إسرائيل على نشاطات أبو جهاد الذي كان يعمل بهدوء وصمت. ودخل أبو عمار بكل ثقله على خط "القطاع الغربي" الذي يقوده أبو جهاد. وفي بغداد وفي تونس أخذ يستقبل كل أطياف الشعب الفلسطيني. فالبرتقال من غزة، يتعهد أبو عمار بتسويقه في الدول الاشتراكية، والزيت من الضفة تشتريه إيطاليا، و"مستشفى القاصد" تتولى السعودية تغطية نفقاته، والجامعات المتكاثرة في الضفة وغزة يجمع لها 60 مليون دولار ويمولها، والصحف ومكاتب الإعلام لا يبخل عليها باحتياجاتها، أما القادمون لمقابلة أبو عمار في تونس وبغداد فجوازات سفرهم لا تختم أبدا،ً ويتولى هذه الترتيبات عزام الأحمد في بغداد وحكم بلعاوي في تونس.

في بداية عام 1985كان أبو عمار عزز شرعية قيادته، واستعاد العلاقة مع مصر، وتصالح مع الأردن عن طريق عقد المجلس الوطني في عمان وعبر الدبلوماسية المرنة للمصالحة التي اتبعها مع الأردن ومصر. وعلى المستوى الدولي، كان يسعى لتعويض خسارة الثورة لقاعدتها في لبنان والعلاقة مع سوريا بكل ما تمثله من أهمية حاسمة في الشأن الفلسطيني. ومع القرار الذي مرره في المجلس الوطني حول الكونفدرالية بين الأردن وفلسطين كان لا بد من خطوة مشتركه لإثارة الاهتمام الدولي، وأقدم أبو عمار على الخطوة التي فجرت الموقف من جديد وأعني توقيع الاتفاق الأردني –الفلسطيني في 11/2/ 1985، وتصاعد الغضب وردود الفعل بسبب أمرين أثنين: عدم وضوح أن الاتفاق ينص على دولتين مستقلتين، والثانية التضمين للقرار 242 دون ذكره نصاً عند الحديث في نص الاتفاق حول قرارات الشرعية الدولية وهذا القرار المشئوم هو القنبلة المتفجرة في الساحة وأي اقتراب منه يعني تفجير الساحة الفلسطينية، ومن يقبل من الفلسطينيين بعد جراح أيلول 1970 أن يكون للملك أي دور في الشأن الفلسطيني: هذه محرمات والذي يقترب منها إنما يقترب من حقل ألغام لا يخرج منه سالماً.. إلا إذا كان في دهاء ياسر عرفات. وقد عاد من عمان بعد أن وقع الاتفاق وهو يقول أن إل "S "موجودة في نص الاتفاق وقد يكون الأردنيون أسقطوها سهواً أو عمداً. وفي الانجليزية يقال (Two states) ولكن "لا حياة لمن تنادي" وفشلت هذه المحاولة فشلاً ذريعاً، فاللجنة المركزية رفضتها في بيان علني إثر اجتماعها في الكويت، وحاول  أبو إياد وأبو لطف في زيارتهما إلى عمان تعديل نص الاتفاق وتهدئة الأجواء مع الملك حسين، ولكن الملك لم يكن يملك هامشاً واسعاً لمواصلة التحرك السياسي مع المنظمة من جهة، ومع أميركا وإسرائيل من جهة أخرى. فكان هناك قيد كيسنجر الذي يحمل الإكراه والإملاء. فلا كلام مع المنظمة قبل أن تعترف بحق إسرائيل في الوجود وبالقرار 242 وتنبذ الإرهاب وإلا (باي باي





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق