شخصيات وأعلام مقدسية
علماء القدس و أعيانها أيام الخلافة العثمانية/أفنديات القدس
أفنديات القدس
كانت مكانة القدس الدينية لأبناء الديانات السماوية الثلاث عاملاً أساسياً في تحديد مكانة علماء المدينة وأعيانها على مر العصور الإسلامية فبعد استعادة المدينة والمنطقة برمتها من أيدي الصليبين قام الأيوبيون ثم المماليك بتعزيز مكانة القدس وأكنافها الإسلامية وضمن هذه السياسة تم ترميم و إعمار المساجد والمدارس والزوايا الصوفية وغيرها من المؤسسات العامة0
كما رصدت الأوقاف لتلك المؤسسات لضمان عملها الدائم والمستقل عن الحكام وقد جذبت هذه المؤسسات العامرة أعداداً متزايدة من العلماء والصوفيين الذين نزلوا المدينة كزوار مجاورين أحياناً وكمقيمين دائمين أحياناً أخرى الأمر الذي عزز عدد سكانها المسلمين أما العثمانيون فأبدوا اهتماماً خاصاً بالقدس وسكانها في القرن السادس عشر فشهدت المدينة في ذلك العصر نهضة عمرانية وسكانية واقتصادية وحتى بعد تضاؤل اهتمام الدولة العثمانية بالمدينة في الأجيال التالية فإنها ظلت محط أنظار الحكام من جهة ومحط أنظار الزوار من جهة أخرى0
يعتبر كتاب تراجم أهل القدس في القرن الثاني عشر الهجري مصدراً مهماً لمعلوماتنا عن علماء المدينة وأعيانها البارزين والمؤلف حسن بن عبد اللطيف الحسيني لم يضمن كتابه ولو ترجمة واحدة لشخصية من رجالات الحكم والإدارة أو كبار التجار بل إن الذين شملهم كانوا جميعاً من فئة العلماء والأعيان أما بالنسبة إلى النقاش القائم بين الباحثين والمؤرخين في شأن تعريف هذه الفئة فإن هذه الدراسة المتخصصة بتاريخ القدس في فترة محددة لن تخوض هذا الحقل من التعريفات بفئة النخبة في المدينة الإسلامية وبدلاً من ذلك فإننا سنحاول تقديم صورة واضحة لتلك الفئة من خلال المصادر المخطوطة والمطبوعة وعلى رأسها سجلات المحكمة الشرعية0
تضم هذه الفئة أساساً والتي سميناها أفنديات القدس العلماء والأعيان الذين لم تكن الوظائف العسكرية أو الإدارية محط أنظارهم أو مصدر نفوذهم الأساسي حتى لو شغلوها أحياناً0
وكان بعض علماء القدس وأعيانها ضمن جهاز القضاء وما ارتبط به من وظائف كالإفتاء ونقابة الأشراف ففقراء الصوفية لم يشملهم تعريف العلماء السائد إلا إذا كانوا من كبار المشايخ الذين تخرجوا من المدارس الدينية المعروفة في إسطنبول ودمشق والقاهرة وغيرها أما الأعيان فهم أبناء النخبة الذين تقلدوا وظائف حكومية أو برزوا بمكانتهم الاجتماعية السياسية العالية والقيادية هذه التعريفات مطاطة فقد تشمل معينين في مكان وزمان ما لكنهم لا ينضوون تحت هذه الفئة في تعريفات زمان ومكان آخر من العهد العثماني فتعريفات العلماء والأعيان تضع حدوداً معينة بين الفئتين وتجمعها في أشخاص تطلق عليهم صفات كونهم من أبرز العلماء والأعيان معاً وإذا كان التمييز بين العلماء والأعيان صعباً للغاية في بلاد الشام عامة فإن ذلك صحيح بصورة خاصة في القدس في فترة هذه الدراسة كما سيجيء توضيح ذلك أدناه0
نشأت في القدس فئة قوية من الأعيان تعتمد في مكانتها ونفوذها على الوظائف العسكرية والإدارية كما أن عائلات العلماء المقدسية هي نفسها مصدر نشوء وبروز بعض الأعيان الذين لم يتخرجوا من مدارس دينية ولم يتقلدوا وظائف علمية وفي بعض الأحيان تشير المصادر إلى أشخاص كانوا نوابا للشرع أو مفتين وحتى مشايخ لطرق صوفية بأنهم من كبار الأعيان وأطلق حسن بن عبد اللطيف في تراجمه لأهل القدس صفات التفخيم والتعظيم على صغار العلماء من أئمة وخطباء مساجد ومتصوفين غير مشهورين وكان هؤلاء عادة أبناء أسر مقدسية عريقة يصفهم المؤلف المذكور بأنهم أكابر وأعيان0
وثمة اثنان من كبار العلماء في القدس هما الشيخ التافلاتي المفتي الحنفي والشيخ الصوفي محمد أفندي البديري أشير إليهما كعلماء فقط وحجبت عنهما صفة الأعيان وهذان العالمان هاجرا إلى القدس من شمال إفريقيا فسكنا المدينة وصارا من أبرز علمائها ولكن على الرغم من الاحترام الكبير الذي حظيا به من حسن عبد اللطيف وأهالي القدس عامة فإنهما اعتبروا عالمين فقط بسبب افتقادهما القاعدة الطبقية الملائمة اقتصادية واجتماعية التي كانت لأبناء الأسر المقدسية العريقة0
أطلق على أبناء النخبة المقدسية من علماء وأعيان لقب الأفنديات كصيغة جمع لصفة الأفندي التي لازمت أبناء هذه الفئة فبعكس آغاوات نابلس وبكواتها الذين سماهم إحسان النمر الأمراء أحياناً كان الأفنديات في معظمهم من أصحاب الوظائف العلمية وبالإضافة إلى الوظائف المرتبطة بالمحكمة الشرعية عمل بعض العلماء في التدريس والإمامة والخطابة في الجوامع وتولي الأوقاف وغيرها من الوظائف المرتبطة بالمؤسسات العامة وعلى الرغم التنافس في شأن تلك المناصب بين أفنديات القدس فإن أواخر القرن الثامن عشر شهدت إلى حد كبير تقسيماً ثابتاً للموجود منها بحيث استقر معظمها في عائلات تناقلتها بالوراثة وحتى حين اشتد التنافس في شأن بعض الوظائف أحياناً مثل نقابة الأشراف فإن ذلك لم يؤد إلى صراعات دموية مع إن مؤرخ جبل نابلس نعتها بالحرب الأهلية في تاريخ بلده0
أطلق على أبناء النخبة المقدسية من علماء وأعيان لقب الأفنديات كصيغة جمع لصفة الأفندي التي لازمت أبناء هذه الفئة فبعكس آغاوات نابلس وبكواتها الذين سماهم إحسان النمر الأمراء أحياناً كان الأفنديات في معظمهم من أصحاب الوظائف العلمية وبالإضافة إلى الوظائف المرتبطة بالمحكمة الشرعية عمل بعض العلماء في التدريس والإمامة والخطابة في الجوامع وتولي الأوقاف وغيرها من الوظائف المرتبطة بالمؤسسات العامة وعلى الرغم التنافس في شأن تلك المناصب بين أفنديات القدس فإن أواخر القرن الثامن عشر شهدت إلى حد كبير تقسيماً ثابتاً للموجود منها بحيث استقر معظمها في عائلات تناقلتها بالوراثة وحتى حين اشتد التنافس في شأن بعض الوظائف أحياناً مثل نقابة الأشراف فإن ذلك لم يؤد إلى صراعات دموية مع إن مؤرخ جبل نابلس نعتها بالحرب الأهلية في تاريخ بلده0
كما تجدر الإشارة إلى أنه بخلاف لواء نابلس لم يكن مشايخ نواحي القدس وقراها طرفاً في منافسات الأسر المقدسية بشأن المناصب العلمية والمكانة السياسية فقد نجح أفنديات القدس عامة في تحصين مكانتهم العالية وضمان وصولهم إلى الوظائف من دون الاحتكام إلى السلاح بل بقوة المال والجاه وشبكة العلاقات المتينة برجال الدولة في دمشق العاصمة العثمانية في بلاد الشام0
كان الثلث الأول من القرن التاسع عشر استمراراً طبيعيا لازدياد نفوذ أفنديات القدس في أنحاء اللواء وفي بقية الأولوية المجاورة التابعة لقضاء القدس فالمتسلم والموالى خلافة القاضي الحنفي اللذان مثلا الدولة العثمانية وعينا عادة من خارج صفوف النخبة المقدسية كانا بحاجة إلى تعاون الأفنديات للقيام بوظيفتهما وما عدا هاتين الوظيفتين أي إدارة اللواء وتولي القضاء في المحكمة الشرعية فإن بقية المناصب تقلدها مقدسيون في هذه الفترة وبالإضافة إلى أبناء عائلات الحسيني والخالدي وأبو السعود والعلمي وجدت أسر مقدسية أخرى أقل شهرة شغلت وظائف علمية مهمة وعائلات جار الله أبو اللطف والدجاني والموقت والإمام والجماعي الخطيب والشهابي والدبيري والفتياني والعسيلي هي أهمها وأبرزها وقد عايشت هذه العائلات فترات صعود وهبوط في مكانتها ونفوذها على مر الأجيال طوال العهد العثماني أما وسائل وآليات المحافظة على الوظائف والنفوذ خلال فترة هذه الدراسة فهذا ما ستحاول الصفحات التالية تقديمه وتوضيحه0
ذكر ابن خلدون في مقدمته أهمية العصبية كعامل أساسي في بناء المجد السياسي وفي إقامة الدول ثم زوالها بعد ركون أصحابها إلى الخمول والكسل وزوال عامل التعاضد و التناصر بين رجالاتها أما الأسر العريقة في المدينة الإسلامية فقامت ببناء مجدها والمحافظة عليه على أساس العلم والمال واقترانهما بالزعامة القائمة على العمل الزاهر والكرم الباهر والأعمال الحميدة فالعلم وحده من دون مال ولاجاه مرتبط بوظيفة وعلاقة حميمة بالدولة الثلاثة العلم والأخلاق أولاً ثم الوظيفة والجاه المرتبطان بخدمة الدولة وحكامها وثالثاً المال والغنى اللذان يبذلان في تحصيل الأبناء والأحفاد العلم والجاه فإنها القاعدة التي أقام عليها العلماء والأعيان مجدهم وزعامتهم وكان أفنديات القدس في العهد العثماني نموذجاً جيداً لهذه النخبة المدنية التي حافظت على مكانتها وتوارثتها جيلاً بعد جيل ولما كانت المصادر المتوفرة لا تسعفنا بالحديث عن أحوال الأسر المقدسية كافة ومجال هذه الدراسة لا يتسع لتغطية العهد العثماني بأجياله المتعاقبة فإننا سنكتفي بعرض نماذج لبعض عائلات الأفنديات وأهمها آل الحسيني وآل الخالدي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق