الإرهـاب.. معالجـة دينيـة لظاهـرة لا ديـن لهـا (1)
أحمد الشرقاوي
الحديث عن الإرهاب أصبح يصيب القراىء العربي بالغثيان لكثرة ما يتناوله الإعلام في عناوينه الرئيسة كل صباح، هذا التداول الإعلامي الكبير للظاهرة والحدث، أنتج نوع من التضخم الذي بلغ حد التخمة لوفرة المعلومات وكثرتها.. لكن الأخطر، هو التأثير البليغ التي تتركه مشاهد المذابح المقدسة في وعي الناس على إمتداد جغرافية العالم.
ما نفتقر إليه اليوم، هو مقاربة شجاعة وخلاقة لمعالجة ظاهرة الإرهاب في عالمنا العربي من جذورها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بفهم الظاهرة فهما صحيحا ومعرفة بواعثها وأسبابها ومسبباتها، ومن ثم إعادة تعريفها بعيدا عن التخمينات الظنية والتصورات الهلامية والأحكام القيمية الجاهزة.
كثيرة هي الدراسات التي تناولت هذه الظاهرة من كل جوانبها و وفق منطلقات أصحابها، لكنها إختلفت حول جذورها وأسبابها ومحدداتها، ومعظمها تجنب، لإعتبارات سياسية، تحديد من له مصلحة في تجنيد الإرهاب؟.. ولماذا؟.
ومن هنا كذلك، نفهم الدواعي السياسية التي حالت دون صدور تعريف دولي للإرهاب من قبل الأمم المتحدة متفق عليه، باعتبارها مرجعية دولية تسمو قوانينها على قوانين البلدان الأعضاء فيها، وذلك بسبب الخلاف القائم بين الشرق والغرب حول مفهوم “الإرهاب” و مفهوم “المقاومة” ومفهوم “العنف السياسي”. حيث يعتبر الغرب المقاومة الفلسطينية واللبنانية “إرهابا” تقوم به جماعات ومنظمات متطرفة ضد المدنيين الآمنين في “إسرائيل”. أما إرهاب إسرائيل الكيان المحتل، فالقانون الدولي لا يعتبر الحكومات إرهابية بحكم أنه يخول لها حصريا الحق في إستعمال العنف ضد الأفراد والجماعات لحفظ الأمن والإستقرار وحماية المجتمع. في حين يعتبر الحرب على النازية في فرنسا مثلا “مقاومة وطنية”.
أما في المقلب الآخر، فنجد مشيخة ثيوقراطية رجعية كالسعودية التي تشكل القاعدة الثقافية العقائدية التكفيرية والقاعدة المالية المنتجة للإرهاب الوهابي العابر للأوطان والقارات، تعتبر إلى جانب بعض مشيخات الخليج مثلا، جماعة “الإخوان المسلمين” جماعة إرهابية على سُنّة ما شرّعته مصر في هذا الصدد، وهي طريقة سياسية ميكيافيلية لتحويل “العنف السياسي” إلى “إرهاب”، ومتابعة ومحاكمة المعارضين السياسيين للأنظمة الفاسدة والإستبدادية الرجعية بقانون الإرهاب، فُصّل على مقاس الحكام ضدا في حق الشعب الحصري في التشريع بإعتباره سيّد نفسه.
ولأن الإرهاب في الوطن العربي ليس ظاهرة فردية كما هو الحال في أوروبا في ما أصبح يعرف اليوم بظاهرة “الذئاب المنفردة”، حيث يقدم مجنون، أو مختل عقليا، أو جاهل أو يائس وحاقد، بتنفيذ جريمة مروعة في حق مدنيين لأسباب ذاتية.. بل هو ظاهرة منظمة تعمل من خلال “قطعان ضالة” يتم تجنيدها بالمال الحرام من قبل المخابرات، وغسل أدمغتها عقائديا من قبل فقهاء جهلة، وتدريبها عسكريا من قبل مرتزقة محترفين كالأفغان العرب، ومن ثم تنظيم الخلايا والمجموعات تحت أسماء إسلامية مظللة وإرسالهم لتنفيذ عمليات إجرامية بربرية يكون من طبيعتها إشاعة الرعب في القلوب والخوف في العقول، أو الدخول في حرب بالوكالة كما هو الحال اليوم في سورية، والأهداف لا علاقة لها بالله ودينه، بل بمصالح الغرب وإسرائيل والقوى العربية الصهيونية التي تقوم على خدمتها في المنطقة. بدليل أن هذه الجماعات الوهابية المجرمة تعمل في سورية تحت قيادة الموساد وتتعاون مع جيش العدو الصهيوني في تدمير سورية وقتل مواطميها الآمنين.
والدين هنا يلعب دور “المحفز” للفرد و “المحرك” للجماعة، وبالتالي، يعتبر الشاب الذي استقدم من وطنه لمحاربة النظام في دمشق مثلا، مجرد ضحية لجهله أولا، وضحية لظروف حياته السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية في بلده، والتي ولّدت لديه أزمات نفسية مركبة ثانيا، وضحية لرغبته في الهروب من واقعه السيىء وتحقيق حلمه المتمثل في الخلاص من أقصر الطرق، للظفر بنعيم الجنة ونكاح الحوريات، بدل قضاء العمر في المعاناة، فيفقد بالنهاية طيب العيش في الدنيا والنعيم الدائم في جنة الآخرة.
هناك في الغرب نظرية حول الإستراتيجية السياسية التي يجب إتباعها في دول العالم العربي والإسلامي، تقول، أن خلاص العالم العربي والإسلامي لن تكون إلا من خلال علمنته وصولا إلى إبعاد الدين عن السياسة، وتحرير المرأة، وإقرار الحقوق السياسية والمدنية للمواطنين بما فيها حق الفتيات في ممارسة الجنس قبل الزواج وحق المثليين في الزواج.
لكن وحيت أن الإسلام، وفق ما يدعيه عديد الفقهاء، لا يمكن فصله عن شؤون السياسة لأنه ينظم شؤون الناس في الدنيا ويضمن خلاصهم في الآخرة. وبالتالي، فلا حل في هذه الحالة إلا بإحداث ثورة على مستوى المفاهيم والقناعات. وحيث أن المسلمين في معظمهم شعوب جاهلة ومتخلفة، فلا تنفع معها ثورة ثقافية لتجديد المفاهيم، بل ينطبق عليها ما سبق وطُبّق في الغرب أيام الثورة الفرنسية التي كانت ثورة ضد الكنيسة ورجال الدين، وليس ضد الدين نفسه الذي هو علاقة بين العبد وربه ولا يجب للدولة التي هي كيان إعتباري رمزي التدخل في شؤون الدين وإكراه الناس على إعتناق عقيدة الحاكم.
ومعلوم أنه في الإسلام، لا يحاسب الله يوم القيامة الكيانات الإعتبارية كالدولة أو القبيلة أو الجماعة، بل فقط الأفراد لقوله تعالى “كل نفس بما كسبت رهينة”، لذلك تجد عديد الأنظمة العربية تبيح الربا في المعاملات وتجيز بيع الخمور للمسلمين، بل هناك من كان إلى وقت قريب ينظم مهنة الدعارة بتشريع رسمي كما فعل الزعيم التونسي الراحل بورغيبة. لدرجة أن المظاهر الغربية بكل سلبياتها أصبحت تؤثت المشهد الحياتي في العديد من البلدان العربية، ومنها على وجه الخصوص سورية ولبنان وبلدان المغرب العربى باستثناء ليبيا.. ومن اللافت أن الدولة الإستعمارية التي عملت على علمنة هذه الدول هي فرنسا صاحبة نظرية “الثورة الدينية” وراعية الإرهاب اليوم في سورية ومالي ودول جنوب الصحراء.
والذين يتهمون المسلمين اليوم بالإرهاب يقولون ما لا يعلمون وتجاهلون عن عمد تاريخ الحروب المقدسة التي خاضها فرسان الصليب ضد المسلمين، من الحروب الصليبية إلى إستعمار الحقول والعقول.. وهي كلها كانت حروب بوازع ديني مقدس، أي في ذات الله، ولعين الله، وفي سبيل الله.. وكانت الكنيسة تقول أن فرسان الحروب المقدسة هم من يحملون مفاتيح الجنة.. وعليه، فأعظم القربات إلى الله بالنسبة للصليبي هو ذبحه لأكبر عدد من المسلمين. والوقت لا يسمح هنا لسرد عديد الوقائع بالتواريخ والأرقام.
كما وأن الغرب عرف كذلك فتنته المذهبية التي أستمرت لأزيد من قرنين من الزمن بين الكاثوليك والبروتيستانت، والتي كان هدفها الإكراه في الدين ورفض المخالف في العقيدة والمذهب. ويمكن التخمين، أن تقدير ثعلب السياسة الأمريكية ‘كيسنجر’ بوقوع حرب سنية شيعية بين المسلمين تدوم 100 عام، لم يكن تقديرا من فراغ، بل الرجل السياسي الداهية هو من يستطيع فهم ميكانزمات التاريخ كيف تعمل، لذلك استند لتجربة الحروب المذهبية في أوروبا للقول بما قاله، لكن خطأه كما خطأ العديد من المنظرين الغربيين الذين يشتغلون على الشأن الإسلامي، هو عدم تماثل التجربة المسيحية مع التجربة الإسلامية، لأن الأولى مرت من خلال مؤسسة رسمية إسمها الكنيسة، في حين أن لا رهبانية في الإسلام، ولا يمكن لدولة أو جهة إدعاء تمثيل المسلمين والحديث بإسمهم، لذلك نجد اليوم لدينا إسلام وهابي، وإسلام إيرانيـ وإسلام مصري، وإسلام مغربي، وهكذا وصولا إلى أندونيسيا… وفي كل بلد تجد الإسلام الرسمي والإسلام الشعبي وإسلام الجماعات السياسية والزوايا الصوفية.
كما وأن لنا في محاكم التفتيش الأوروبية في العصور الوسطى المثال على ما يحدث اليوم من شبه مع الجماعات التكفيرية، لجهة التّطاول على إختصاص الله تعالى ومحاكمة الناس على إيمانهم فيما سمي بـ”قانون الإيمان”، والذي على أساسه كانت الكنيسة تعدم الملحدين، ونفس القانون نجده يطبق اليوم من قبل التكفيريين الذين يعدمون ليس الملحدين، أو الصهاينة، بل المسلمين الذين يختلفون معهم في العقيدة والرأي ولو كانوا من “أهل السنة والجماعة”.. وهكذا، وصولا إلى طرد المسلمين واليهود من الأندلس، حيث كان المسلم يوضع أما خيارين، إما إعتناق المسيحية للبقاء في أرضه بين أهله أو الرحيل.. ناهيك عن المذابح المقدسة التي ارتكبت في حق المسلمين آنذاك بأمر من الملكة ‘إيزابيل الكاثوليكية’ التي كانت تأتمر بأوامر الكنيسة.
المشكلة اليوم مختلفة، وما يُعقّد معالجتها هو أن الإرهاب وليد غير شرعي يصنع في أقبية المخابرات العربية والأجنبية، ويستعمل ضد الأبرياء وفق منطق إنتهازي براغماتي، يتحدد على ضوء المصالح السياسية الآنية والغنائم الإقتصادية المرتقبة.
وبهذا المعنى، فمحاولة معالجة الظاهرة على مستوى العالم الإسلامي، كما يقترح مؤتمر الإمارات الذي بدأ الأحد وضم حوالي 250 “عالم معتدل” من مختلف الدول العربية والإسلامية، لـ”رسم خارطة طريق للمجتمعات الاسلامية من أجل العيش بسلام وتناغم حسب المبادئ الاسلامية الجوهرية التي تتساوق مع المفاهيم العالمية”، كما قال وزير الخارجية الاماراتي الشيخ ‘عبد الله بن زايد’ في كلمته الإفتتاحية لأشغال المؤتمر، إنما هي محاولة للقفز على الحقائق وتزيف الواقع ومعالجة الطاعون بالماء.
لأن جوهر المشكل لا يكمن في الدين حتى يجتمع 250 “عالم” ليس لهم من العلم بالمعنى الموضوعي إلا الإسم، ومعظمهم من فقهاء السلاطين، تم جلبهم بقرار سياسي من قبل مشيخة الإمارات بالوكالة عن السعودية المرعوبة من تبعات الإرهاب الذي يتهددها، لتكرار نفس الخطأ الذي وقعت فيه الأمم والحضارات السابقة، عندما حوالت السيطرة على الدين، باحتكار الخطاب الديني، وإنتاج المعنى، خوفا على عروشها من ثورة المستضعفين، فوفّرت بذلك الأسباب الموضوعية لولادة الحركات الجهادية التي بدأت كحركات سياسية سلمية معارضة للسلطة.. لكن في غياب الحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية وإحترام مبدأ الاختلاف بين الناس، بالرغم من أن الله جعلهم مختلفين، ولذلك خلقهم كما يقول تعالى في قرآنه، تحولت هذه المعارضات السياسية إلى جماعات عنيفة تسعى إلى التغيير عن طريق العنف الذي يسمى “إرهابا” عندما يكون موجها ضد النظام الذي صنعه، و “جهادا” عندما يكون موجها ضد عدو هذا النظام.
وبالتالي، فما هو إرهاب من وجهة نظر النظام السوري مثلا، يعتبر جهادا من وجهة نظر النظام السعودي الذي صنعه، لكنه وبمجرد أن أصبح يهدد أمن مملكة الرمال ومشيخات الزيت وحكومات الغرب التي إستعملته كسلاح لإسقاط سورية بالوكالة، تحول هذا “الوحش” إلى زنّيم غير شرعي من الواجب محاربته، باعتباره شرا وضلالا لا علاقة له بالدين السمح الحنيف، فبدأ الجميع يتبرأ منه ويطالب بمحاربته قبل أن يصل إلى فناء القصر في عمان وفي الرياض.
وحيث أن الإرهاب ظاهرة لا دين لها كما يؤكد الجميع، فكيف يمكن والحال هذه، معالجتها من خلال مؤتمر ديني؟.. هذا هو السؤال الحقيقي الذي في حال تم طرحه، سيكشف عن البعد الإنتهازي الذي يستغل الدين في السياسة، وينسف مؤتمر الإمارات من أساسه.
هذه ليست المرة الأولى التي يتطاول فيها السياسي على الديني، فقد سبق وأن قررت منظمة المؤتمر الإسلامي إلغاء مصطلح الجهاد من بيانها الختامي عقب إجتماعها في ‘داكار’ بالسنغال سنة 1991م، مخافة الظلال السلبية التي ألحقها الخلط في المفاهيم بين مصطلح “الجهاد” الذي تحول بعد سقوط الإتحاد السوفياتي في أفغانستان إلى “إرهاب”، لأنه إستدار بعد عودته من محاربة “الشيوعية” لمحاربة الأنظمة العربية التي صنعته، وعلى رأسها مملكة الشر الوهابية، التي يمتح الإرهاب من أدبياتها الإديولوجية الرجعية.
صحيح أن هناك فرقا كبيرا من وجهة نظر المفاهيم القرآنية بين “الجهاد” و “القتال”، والجهاد هو غير القتال، لأن الله جل جلاله يختار كلماته إلى عباده بدقة متناهية تليق بمقامه وسعة علمه و واسع رحمته، والجهاد كما عرّفه القرآن معناه المُجاهدة وبدل الجهد في الحياة الدنيا في العمل الصالح الذي ينفع الناس، بإعتباره الركن الثالث في الإسلام بعد الإعتقاد بوجود الله وحتمية اليوم الآخر. وهي غير “أركان الإيمان” الستة التي حددها القرآن في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره، وهي أيضا غير “مقتضيات الإيمان” التي جعلها الله مُجسّدة في طقوس عبادته من صلاة وزكاة وصوم وحج، لأن الأمر يتعلق باختلاف مستويات الفهم بين المسلم والمؤمن والمحسن، أو بعبارة أدق، بين المسلم بالوراثة، والمؤمن عن قناعة وإقتناع، والمحسن الواصل الذي عرف نفسه فعرف ربه كما يقول الرسول الكريم (ص).
هذا يعني، أن أركان الإسلام الخمسة التي إبتدعها فقهاء بنو أمية ووضعوا لها حديثا منسوبا للرسول (ص)، لا تُعبّر عن حقيقة مفهوم الإسلام، وهي للإشارة تعتبر من “مقتضيات الإيمان” وتعني حصريا الشخص وعلاقته مع ربه دون وسيط، لكنها تتجاهل عن عمد وسبق إصرار علاقة الإنسان بواقعه ومجتمعه ونظامه السياسي الذي يحكمه، والقيم التي يكون من واجبه الدفاع عنها بالسبل الشرعية والمشروعة عند الضرورة.. بدليل أنك لن تجد في حديث الأركان الخمسة ركنا واحدا يعطي الحق للمسلم لتقرير مصيره ومستقبل عياله، وهي الخدعة التي إنطلت على المسلمين لقرون عديدة، دون أن يقف فقيه ورع واحد ليقول للناس أن هذا الحديث يخدم الإقطاع والفساد والإستبداد ولا علاقة له برسالة محمد (ص) وثورته على الإقطاع والفساد والظلم، ولا بمهمة الخلافة التي كلف الله بها الإنسان في الأرض ليعيش حرا كريما في كنف الله وتحت أعينه.
وهنا تبرز شرعية “القتال” كواجب وفرض عين على كل مؤمن عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن النفس والعرض والمال والأرض، ومقاومة المحتل والمعتدي حصريا، وهو القتال الذي كتبه الله علينا وهو كره لنا، لكن فيه خير كثير لا تقوم لنا دنيا ولا تكون لنا آخرة من دونه. والقتال بمعناه القرآني العام يتساوق مع مفهوم “المقاومة” التي جعلها الله وسيلة “دفاع” و “تدافع” لمواجهة المعتدي الخارجي. وكل ما يقال عن القتال لنشر الإسلام بالسيف هو إكراه في الدين حرمه الله تعالى، ويستحيل على نبيه الكريم أن يشرع للمسلمين ما يتعارض مع جوهر المبدأ القرآني القائل “لا إكراه في الدين، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفرـ إن الله غني عن العالمين”.. فاين نذهب من هنا؟..
أما في الشأن الداخلي فقد شرّع تعالى مبدأ ‘الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، ووضع هذا السلاح في يد المؤمن من خلال النصيحة بالتي هي أحسن، وفي يد السلطة الشرعية الممثلة للمجتمع، والتي تمتلك وحدها الحق في إحتكار القوة وإستعمال العنف عند الضرورة لمحاربة كل ما يهدد أمن وسلم المجتمع، وهو ما أصبح يعرف اليوم في أدبيات الفقه المقارن بـ” فقه السلم” لمواجهة الافكار المتطرفة وانتشار العنف الذي يتجاوز حدود الدول التيوقراطية الرجعية المنتجة له، ليطال كل دول العالم.
ولعل اللبس القائم بين مفهوم “الجهاد” ومفهوم “القتال” ومفهوم “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” التي أغفلها حديث “الأركان الخمسة”، والتداخل القائم بينهما فيما يمكن وصفه بالمساحات الرمادية المتداخلة بين هذا الثالوث في مجال التشريع، هو الذي أنتج مجموع الفروق والإختلافات التي نلحظها على مستوى الأفهام عندما يتعلق الأمر بطرح نظرية موحدة وجامعة لفهم الدين، ما جعل الباب مشرعا على “الإجتهاد” الذي اصبح يتطاول عليه الجهّال من أشباه العلماء الذي يحتلّون اليوم مواقع الرّيادة ومنابر الفتيا في وسائل الإعلام المتنوعة، وخاصة منها الخليجية لأسباب سياسية لا علاقة لها بالدين.
والمعضلة أنه لا سبيل للخروج من وضعية الحيرة والإلتباس والغموض التي تسيطر على عقول الناس بسبب تداخل الديني في السياسي، سوى بالفصل بينهما، وعدم تحميل الحدث الإرهابي بعدا دينيا يؤدي إلى قناعات زائفة وردود إنفعالية تتميز بالتسرع واللا عقلانية.
وهذا ليس بالطريق السهل المتاح من دون الغوص حد التسكع في معاني آيات الله الظاهرة والباطنة، بعيدا عن أدبيات الهاجس الأمني وحفظ الإستقرار والأمن والتسامح والإعتدال، التي تتلاعب بالدين وتسعى لإخضاعه لإكراهات السياسة، وتخويف الناس من خوض المغامرة المعرفية لتدبر القرآن كما أمرهم تعالى، فيسود الجهل وينتشر الفساد ويتأبّد الإستبداد.
بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر/أيلول 2001، إنكب كتاب وباحثون كبار في الغرب على تحليل ظاهرة الإرهاب الإسلامي وأسبابه، وخلص بعض المغرضين منهم إلى القول أن المشكلة في الإسلام لا تكمن في المسلمين بل في “القرآن”، لأنه كتاب يلغي العقل ويحرض على العنف.. وقد بلغ تأثير هذا القول في عقول المواطنين الغربيين، أنهم بمجرد ما يسمعوا أحدا يتلو القرآن في مكان عام، إلا وينتابهم الخوف ويمتلكم الرعب فيسارعون للهروب مخافة أن يكون ملك الموت حاضرا لسماع النداء المقدس “الله أكبر”. وبلغ الحد بالعديد من الأسر الغربية أن غيّرت سكناها لمجرد وجود مواكن مسلم يقطن بينها في الحي.
في إحدى الندوات التي نظمتها الكنيسة المسيحية للطلبة بإحدى الجامعات الأوروبية، وكان لكاتب هذا المقال شرف حضورها، سألني أحد الطلبة عن السبب في عدم وجود مرجعية دينية موحدة، وتفسير واحد متفق عليه للقرآن الكريم يعتمده العالم الإسلامي، فيوضع بذلك حد لإختلاف القراءات وتعدد التأويلات، ما سيقطع الطريق حتما أمام الجماعات المتطرفة التي تستغل فهما متشددا للدين للتأثير على الشباب وإستغلالهم كوقود لحروب دينية مدمرة؟…
قلت: “لا يوجد في هذا العالم من يستطيع تفسير هذا الكتاب.. حتى لو اجتمع لذلك كل المختصين من مختلف المعاهد العلمية”. سألني عن السبب، فقلت: ” الإيمان ليس شيئا موضوعيا يقينيا يمكن دراسته و تفسيره بشكل علمي وعقلاني مقبول من الناحية الأكاديمية”.
بمعنى، أنه لا يمكن من الناحية العلمية تفسير القرآن تفسيرا صحيحا لدرجة حصول اليقين بصحة المعنى. وهذا ما يؤكد استحالة فهم الحقيقة الإلهية المتعلقة بعوالم الغيب عن طريق المحسوسات العينية المحدودة، أو بأدوات العقل وآليات المنطق التي تشتغل على القياس فلا تعداه إلى عالم الخيال الذي وحده يتيح للإنسان تصور العوالم الكامنة خلف الحُجُب.
وهذا ما سنتطرق إليه بتفصيل في الجزء الثاني من هذه المقالة بحول الله.
خاص بانوراما الشرق الاوسط - نسمح باعادة النشر شرط ذكر المصدر تحت طائلة الملاحقة القانونية
Read more: http://www.mepanorama.net/427433/%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b1%d9%87%d9%80%d8%a7%d8%a8-%d9%85%d8%b9%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%80%d8%a9-%d8%af%d9%8a%d9%86%d9%8a%d9%80%d8%a9-%d9%84%d8%b8%d8%a7%d9%87%d9%80%d8%b1%d8%a9-%d9%84%d8%a7-%d8%af%d9%8a/#ixzz2wUg2hmBz
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق