تتار القرم المسلمون...خوف متجذر من السيطرة الروسية
يشكل تتار القرم المسلمون ثالث أكبر مجموعة سكانية في شبه جزيرة القرم في أوكرانيا، بعددهم البالغ نحو 250 ألف نسمة. لكنهم باتوا يخشون من تعرض حقوقهم للانتهاك في حال جاءت نتيجة الاستفتاء المقرر إجراؤه يوم السادس عشر من شهر آذار/ مارس 2014 لصالح روسيا. كما يشعر الملايين من تتار القرم المسلمين القاطنين في المنفى داخل تركيا بخشية كبيرة من سلطة بوتين وأنصاره. لويزه زامان تسلط الضوء لموقع قنطرة على وضع التتار المسلمين في شبه جزيرة القرم.
"الحفاظ على الهدوء" - هذا هو المطلوب الآن في شبه جزيرة القرم، حيث من الممكن أن تؤدِّي هناك في هذه الأيَّام كلمة خاطئة أو حركة خاطئة إلى عواقب وخيمة. بيد أنَّ "الحفاظ على الهدوء" مطلوب أيضًا في أنقرة التي تقع على بعد أكثر من ألف كيلومتر. وذلك لأنَّ ما يحدث الآن في شبه جزيرة القرم من الممكن أن يكون له عاجلاً أم آجلاً عواقب خطيرة بالنسبة لتركيا أيضًا - التي تعدّ موطن الملايين من تتار القرم.
قد تسعى القوى الأجنبية إلى تحويل أزمة القرم إلى أزمة تتارية-روسية أولاً، ومن ثم إلى جعلها في آخر المطاف أزمة تركية-روسية، وفق تحذير وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو خلال زيارته للعاصمة الأوكرانية كييف قبل بضعة أيَّام.
وقال أوغلو ضمن هذا السياق: "نحن لن نسمح بذلك". وأضاف أنَّ "وحدة التراب الأوكراني والسلام والاستقرار في أوكرانيا أمور في غاية الأهمية بالنسبة لتركيا. منطقة القرم بالذات تعني الكثير بالنسبة لنا، وذلك لأنَّها تمثِّل بوّابة أوكرانيا، وكذلك أيضًا من أجل تتار القرم الذين يعيشون هناك والإرث التركي".
جلال إيتشين، رئيس جمعية تتار القرم في اسطنبول، مُمْتـَـنّ لهذه الكلمات التي صرَّح بها وزير خارجيته، حتى وإن كانت تبدو دبلوماسية وغير صريحة تمامًا. وفي هذا الصدد يقول جلال إيتشين: "يمكن لتركيا ويجب عليها أن تلعب دورًا فعّالاً في هذا الصراع". ففي آخر المطاف تعدّ مجموعته العرقية، على حدّ قوله، من الشعب التركي، وتعتبر بمثابة الأخ الصغير بالنسبة للأتراك. وهذه المجموعة العرقية الآن في خطر!
مضطهدون ومنسيون
منذ بداية أزمة القرم يطلب جلال إيتشين وغيره من ممثِّلي تتار القرم الأتراك المساعدة من الحكومة في أنقرة. والوضع هناك بالنسبة لهم واضح: فكلما كسب الروس المزيد من السلطة في شبه جزيرة القرم، التي تعدّ منطقة أوكرانية منذ عام 1954، ازداد الخطر بالنسبة لأقلية تتار القرم هناك. وعن ذلك يقول جلال إيتشين: "نحن نخشى على حياة أقاربنا هناك".
يعتقد جلال إيتشين البالغ من العمر تسعة وخمسين عامًا أنَّ عدد تتار القرم الذين يعيشون اليوم في تركيا يصل إلى سبعة ملايين شخص. ومع أنَّه لم يتم إحصاؤهم منذ عام 1927؛ لكن من الواضح على الأقل أنَّ عددهم في تركيا أكثر بكثير مما هو عليه في شبه جزيرة القرم. توجد في تركيا 45 جمعية تتولى المحافظة على تراثهم، وتقوم كذلك بتنظيم عملية التبادل للطلبة بين وطنهم القديم والجديد، وتعمل على تنظيم الأمسيات الثقافية والمحاضرات، وتعتبر نفسها أخيرًا وليس آخرًا كجمعيات للدفاع عن مصالح أقاربهم وحمايتها في شبه جزيرة القرم.
لا يذكر جلال إيتشين مثل غيره من تتار القرم المنفيين شيئًا حسنًا عن الروس. ويعتقد مثل الكثرين من تتار القرم أنَّ بوتين يعمل على زيادة حدة الأزمة الحالية من أجل تبرير التدخل العسكري الروسي في شبه جزيرة القرم. يتساءل جلال إيتشين منفعلاً بغضب على كرسيه: "لماذا يجب علينا أن نحب هؤلاء الأشخاص؟" ويضيف: "نحن اليوم أمة يعيش معظم أبنائها بعيدين عن وطنهم. ولكننا لدينا مكان ننتمي إليه: القرم هي أرضنا".
وفي الواقع يعدّ أسلافه لدى المؤرخين السكَّان الأصليين لشبه جزيرة القرم. وأمَّا كونهم لا يشكِّلون اليوم إلاَّ نحو اثني عشر في المئة من سكَّان شبه جزيرة القرم في جنوب أوكرانيا، فهذا يرجع قبل كلِّ شيء إلى المواجهات العديدة التي دارت مع الروس وكانت تؤدِّي دائمًا إلى نزوح موجات من اللاجئين إلى الدولة العثمانية. إنَّ آخر صدمة كبرى أصابت تتار القرم كانت عندما اتَّهمهم ستالين في عام 1944 بأنَّهم متعاونون مع القوات المسلحة الألمانية ورحَّل منهم أكثر من 180 ألف شخص للعمل القسري في سيبيريا وآسيا الوسطى. وأسفر ذلك حينها عن موت الآلاف منهم بصورة بشعة في داخل القطارات المكتظة.
"وكذلك لم يحصل أي منهم على قبر أو جنازة"، كما يشكو جلال إيتشين في اسطنبول. وحتى بعدما سُمح للناجين في عام 1988 بالعودة إلى شبه جزيرة القرم، بقي الكثيرون منهم في المنفى، حيث كوَّنوا لأنفسهم منذ فترة طويلة حياة جديدة. يتناول جلال إيتشين وعاءً زجاجيًا من أمام واجهة زجاجية كان جمع فيه ترابًا من شبه جزيرة القرم. وجلال إيتشين يسافر عدة مرات في العام بين اسطنبول ووطن أجداده وأسلافه، الذين يتحدَّث لغتهم بطبيعة الحال بكلِّ طلاقة ويعرف تاريخهم أفضل من معرفته التاريخ التركي.
"نحن تتار القرم مواطنون أوروبيون"
إنَّ سلخ شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا والتقارب مع روسيا، كما تهدِّد الأوضاع منذ بضعة أيَّام، سيشكِّل "النهاية لتتار القرم"، كما صرَّح في الأسبوع الماضي تونجر كالكاي، رئيس جمعية تتار القرم في أنقرة. يوافقه في هذا الرأي جلال إيتشين ويقول مؤكدًا مرة أخرى: "نحن تتار القرم مواطنون أوروبيون". وبهذه الصفة يطالب تتار القرم بأن تكون شبه جزيرة القرم مقربة من أوكرانيا وليس من روسيا. ويقول جلال إيتشين غاضبًا: "اُنظروا إلى روسيا. انظروا كيف يعيش هناك تتار الفولغا؛ فهم لا يتلقون التعليم بلغتهم الخاصة، وكذلك لقد تم إغلاق معهد لغتهم في الجامعة، بغية إذابتهم! أو انظروا إلى ما حدث في الشيشان...!"
لقد ترسَّخت كراهية الروس لدى تتار القرم في تركيا في فترة مبكرة جدًا، وحتى بشكل أكبر من ترسخها لدى أقاربهم في شبه جزيرة القرم، الذين اضطروا دائمًا وعلى الرغم من كلِّ شيء إلى التصالح مع جارتهم الكبيرة، روسيا، وعاشوا في آخر المطاف في سلام مع الأغلبية الروسية في شبه جزيرة القرم. ومع ذلك فإنَّ جلال إيتشين مشغول كثيرًا في هذه الأيَّام - في تنظيم المظاهرات وفي الاجتماعات مع السياسيين وكذلك في التصريحات الصحفية. تتار القرم الأتراك لا يتعبون ويعملون بجد ونشاط من أجل لفت الأنظار إلى وضع أقاربهم الصعب والحرج.
وعلى الرغم من الكلمات المفعمة بالأمل التي صرَّح بها مؤخرًا وزير الخارجية التركي لتتار القرم، يبقى الخطر السياسي والاقتصادي بالنسبة لأنقرة كبيرًا. إذ إنَّ العلاقات الجيدة والطويلة الأمد مع روسيا باتت الآن مهدَّدة بخطر تدخّل واضح جدًا في هذا الصراع - وهذا في الوقت الذي تفقد فيه وبشكل متواصل حكومة إردوغان المزيد من حلفائها في الأوساط الدولية.
لويزه زامان
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق