الأحد، 23 فبراير 2014

ويل للمثقفين !


يخطئ الناس حين يعتقدون أن الكاتب أو المثقف قادر على وضع حد لأزماتهم ولا تفيد كلمات اللوم الموجهة للمثقفين على نمط " ماذا فعلتم لنا " أو أنتم دائما تشخصون ولا تضعون حلولا أو عبارات شبيهة تطلب من تلك النخبة إجراء انقلاب ثوري وسريع في حياة الناس، صحيح أن في ذلك اللوم ما يعكس اعتقاد المحبطين بقدرة المثقف على التغيير وفي ذلك ما يعكس أيضا يأسها من النخب السياسية التي أوصلتها إلى هذا المستوى من البؤس ويأسها من الفصائل والأحزاب التي أودت بكل أحلامها البسيطة وداست بأقدامها المتصارعة على السلطة آمالهم التي كانت معلقة يوما حين يحررون وطنهم ويقيمون نظامهم السياسي الذي سيؤمن لهم استقرار وحياة كريمة.
أن يطلب الناس من المثقفين أن يلعبوا دورا سياسيا هذا يعني أن المسألة أبعد من نظام سياسي تجاوز حدوده وصلاحياته في علاقته بالسلطة وبالشعب وبالصلاحيات الممنوحة وبالقانون وبفهمه لمكانته الوظيفية، وفي ذلك ما يشي بأن الأزمة الحقيقية لدى الشعب الذي لا يعرف حدود قوته حين يظهر هذا القدر من العجز باحثا عن حلول لكل أزماته لدى كاتب في مقال هنا أو مساهمة تلفزيونية هناك، فكل ما يكتب أو يقال لا يغني عن فعل إذا قرر أصحابه فإنهم قادرون على تغيير وجه التاريخ، فالناس أعطوا أصواتهم للسياسيين، سلحوهم بكل أدوات القوة والسلطة، ووضعوا في أيديهم كل إمكانيات الوطن السياسية والاقتصادية وموارده الطبيعية والمالية ليتصرفوا بها لصالحهم، وحري أن يلاحقوا ويحاسبوا الذين فوضوهم أو أن يقيلوهم.
ليست وظيفة المثقف أن يقود الجماهير، ومن الخطأ أن يفكر المثقف الحقيقي في لعب هذا الدور، فهو تجاوز لحدوده ولصلاحياته ولثقافته، فدور المثقف ينحصر في إنتاج المعرفة وليس القيادة، إرشاد الناس والدفاع عنهم حين يتعرضون لظلم السياسيين وإضاءة طريقهم، فالمعرفة التي توجه الناس نحو مصالحهم حين تختلط عليهم الأمور ويصبحون غير قادرين على التمييز وعاجزين عن الفعل، هنا يأتي دور المثقف أن يساعدهم، أن يرسم لهم خارطة الطريق ويدلهم على ممكنات قوتهم التي لو استخدموها مرة فإنهم سيطيحون بكل العروش وبأعتى الجيوش.
هكذا قالت تجربة التاريخ الحديثة، فقد تغيرت تونس حين أدرك الشعب التونسي أنه هو القوة الأبرز في تونس، هو الذي يمنح السلطات وهو الوحيد القادر على نزعها، وحين أدرك الشارع المصري مرتين أن الحل موجود في ميدان التحرير ولا يمكن للصحف والمقالات أو شاشات التلفزيون أن تشكل بأي حال من الأحوال بديلاً لذلك الميدان، ولم يكن المثقفون هم طليعة ثورتي مصر الحديثتين بل القوى السياسية الأكثر اقترابا من آلام وآمال الناس، فالحزب السياسي هو أداة العمل السياسي وليس المثقفين الذين ربما يشكل فعلهم وكتاباتهم عنصر تحريض مهماً يسبق التغيير، هكذا كان دور مثقفي فرنسا قبل ثورة الباستيل ولكنهم لم يحملوا معاولهم لهدم رمز الاستبداد الفرنسي.
وعندما يكتب الكاتب يعتقد أن هناك من يجب أن يقرأ ويلتقط الراية، ولكن حين يصبح كل إنتاجهم المعرفي ليس أكثر من صوت صاروخ في البرية فعلى الشعب أن يلوم نفسه، أن يراجع تجربته أو أن يقبل بواقعه رفعا راية استسلامه أمامه وأمام قوى تقاتل بأسنانها وبأظافرها حتى تبقى في السلطة، فأي حزب سياسي في السلطة يحلم بتأبيد الحالة بلا تغيير، فلماذا يذهب لانتخابات فيها احتمال أن يخسر موقعه ودوره الوظيفي طالما أن هناك بديلاً يوفره عجز الشارع، يبقى هذا المسؤول أو ذلك الحزب في موقع النخبة المقررة في الوطن والتي تتحكم بموارده وكيفية توزيعها ويحتكر القوة والقانون وأجهزة الأمن، فلماذا يعود مواطنا مثلا ..!
وماذا بإمكان المثقف حينها أن يفعل أكثر من أن يدعو الناس لاستعادة سلطتهم ونزع صلاحية من تجاوز صلاحياته؟
لكن أزمة المثقف الحقيقية في العالم العربي أكبر من ذلك بكثير حيث الأحزاب السياسية هي منتج لحالة بدوية عشائرية بثقافتها وممارستها وتركيبها وكل منها يريد للمثقف، أن يبقى شاعرا للقبيلة، فالنقد وسط هذه الثقافة هو نوع من التربص والاستهداف وربما تصل الاتهامات للارتهان للخارج، وقد سمعنا كثيرا من الاتهامات بحق كتاب من الوطن العربي باعتبارهم جزءا من المؤامرة على أوطانهم لأنهم تجاوزوا حدود القبيلة.
في حالتنا حيث الصراع على السلطة تبدو الأزمة أكبر في ظل حداثة التجربة السياسية وتداخل الوطني بالديمقراطي والسلطة بالمعارضة، والانقسام والتشوه المسيطر على النظام السياسي والخوف من كل كلمة وتعقيدات الحالة الفلسطينية، على الكاتب أن يحل لغزا أكثر تعقيدا، فلدينا سلطتان ومعارضتان، فحركة حماس هي سلطة ولكنها معارضة وكذلك حركة فتح سلطة في الضفة ومعارضة هنا في غزة، ودائما الكتاب هم أقرب للمعارضة وخصوم للسلطة، وإذا كان كل ما لدينا هي مجموعة معارضات من فتح لحماس للجهاد وحتى اليسار وصولا للسلطتين فما العمل ؟
على الكاتب في أن يجد معادلة معقدة بين كل تلك الألغام الجاهزة للانفجار في وجهه، وأن يمشي بين حبات المطر دون أن يبتل أي انتقاد لحركة فتح ولإدارتها، هذا يعني المس بالمناعة الوطنية في ظل معركة المفاوضات التي تخوضها ببسالة، وأي انتقاد لحماس هذا معناه انتقاد المقاومة، وكشف ظهرها يعني اختراق الجبهة الداخلية وإضعافها، وهذه تهمة تصل حد الخيانة العظمى والمؤامرة على الشعب الفلسطيني بالرغم من أن كل من القوتين ساهم بتجربته في إيصال الوضع الفلسطيني إلى هذا المستوى من الانكشاف، سواء أمام إسرائيل أو حالة التآكل الداخلي وعزوف الناس عن المشاركة حتى بالتظاهرات في ظل حالة الفقر والحصار وانعدام الكهرباء والبطالة ومجموعة الأزمات التي تسببها جهل الإدارة وتسير بخط بياني هابط نحو الانحدار.
ووسط تلك المعادلات المركبة والتي تحتاج إلى "لوغاريتمات" لحلها ولأنه لا يوجد أدنى أمل بالحل، فمن الأفضل للكاتب أن يكتب متحررا من حسابات الفصائل، أن يكتب هموم ومشاكل الناس، لا أن يكون حسان بن ثابت لأنهم ببساطة ليسوا أنبياء، وعلى الناس أن يتوقفوا عن تحميل الكتاب كل مآسيهم أو ينتظروا منهم تقديم الحلول، فالكتاب يصفون الواقع ...يشخصون، فالتشخيص الدقيق هو مدخل العلاج الصحيح والطبيب هو الشعب، ففي الأزمات الوطنية المريض طبيب نفسه.!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق