مقابلة مع عزمي بشارة من عام 1996
ترجمة وتعقيب: رجاء زعبي عمري
أجريت المقابلة في 24.6.1996،ونشرت باللغة الانجليزية في مجلة ميدل إيست ريبورت، عدد أكتوبر – ديسمبر 1996، ص27-30.
مؤيدو التجمع هم “العناصر القومية التقدمية المتنورة في المجتمع، تلك التي لا تصوّت بدافع مصالح موجّهة طبقيًا”.
إننا بحاجة إلى “مشروع سياسي غير مرتبط بالاتحاد السوفياتي ولا بالقومية العربية ولا بمنظمة التحرير، فهذه كلها مشاريع انهارت”..
اختلاف حاسم بيننا وبين الرؤى الدينية، وفي المستقبل يفترض تحالف تنظيم يهودي معنا.
بسبب الهجوم على لبنان قررنا مقاطعة الانتخابات، ولكن لكي ننقذ شمعون بيرس، لم نجند فعليًا للمقاطعة.
في قضايا الوضع الدائم، لا فرق كبير بين حكومة الليكود وحكومة العمل.
في التجمع “مؤيدون لأوسلو، ومعارضون لأوسلو، ومتحفظون من أوسلو”.
مقدمة مجلة ميدل إيست ريبورت، بقلم جويل بينين:
عزمي بشارة كان نجمًا شابًا صاعدًا في الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح). ومنذ ترك الحزب في أعقاب اضطرابات 1989، فكر ومعه مثقفون فلسطينيون آخرون في تأسيس حزب سياسي عربي جديد بتوجّه قوميّ/تقدّميّ. بعد نقاش كثير وبدايات ليست هي، أقيم حزب التجمع الوطني الديمقراطي في آذار 1996، قُبَيل الانتخابات الإسرائيلية. يضمّ التجمع أعضاءًا ومؤيدين سابقين للحزب الشيوعي، وميثاق المساواة – تنظيم عربي يهودي أقامه بشارة في 1991، والحركة التقدمية (بمن فيهم محمد ميعاري، نائب سابق عن الحركة التقدمية للسلام)، وحركة أبناء البلد، وآخرين.
الهدف الرئيسي لحزب التجمع (الذي يعرّف نفسه حزبًا قوميًا قيد الإنشاء) التصدّي لتهميش و”أسرلة” المواطنين العرب في الدولة اليهودية. يطرح الحزب الجديد الأوتونوميا الثقافية للجماعة العربية كاستراتيجية لتحويل إسرائيل من دولة الشعب اليهودي إلى دولة جميع مواطنيها (عربًا ويهود). المطالب المطروحة في البرنامج الفوري: 1) أن يضع المجتمع العربي مناهج التدريس في المدارس العربية. 2) إقامة محطة تلفزيون عربية مستقلة غير حكومية. 3) مشاركة السكان العرب في قرارات متعلقة بتطوير الجليل والنقب – مراكز سكن العرب. 4) إلغاء مفهوم الأرض القومية اليهودية، الذي لا يمكن للمواطنين العرب الإفادة منه. 5) قطع الروابط بين المؤسسات الصهيونية ودولة إسرائيل، مؤسسات مثل: الوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي.
قبيل الانتخابات الإسرائيلية عقد التجمع اتفاقاً مع الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، (بقيادة الحزب الشيوعي) لإقامة قائمة انتخابية مشتركة تدعى “الجبهة والتجمع”. حصلت القائمة على 3% من مجمل الاصوات وانتخب 5 أعضاء كنيست منهم عزمي بشارة – بعضوين أكثر مما حصلت الجبهة عندما خاضت وحدها انتخابات 1992.
في 24/6/1996 أجرت سارة سكالينغ وستيف روثمان المقابلة التالية مع عزمي بشارة في مكتبه في الكنيست:
س: صف لنا هذا الحزب الجديد وبرنامجه.
بشارة: قبل نحو سنة ونصف بدأنا نشعر أنه يجب أن يكون للعرب في إسرائيل مشروع سياسي غير مرتبط بمشاريع من قَبيل الاتحاد السوفييتي أو المشروع القومي العربي او منظمة تحرير فلسطين، فهذه كلها مشاريع انهارت. الآن يواجه العرب في إسرائيل أزمة تخصّ مستقبلهم. لقد فكرنا أنه قد آن الأوان لتشكيل حركة قومية عربية داخل إسرائيل تأخذ بعين الاعتبار البُعد المدني بكوننا مواطنين إسرائيليين، والبُعد القومي بكوننا جزء من الأمّة العربية والشعب الفلسطيني. في السنوات الاخيرة بدأنا نلاحظ تصاعد عملية الأسرلة – تهميش الفلسطينيين في المجتمع الإسرائيلي والانضمام التدريجي للأحزاب الصهيونية. ظهر ذلك بشكل أساسي في الانتخابات التمهيدية لحزب العمل حيث انضم نحو 60.000 عربي فلسطيني إلى صفوف حزب العمل. كان ذلك تعبيرًا عن الأزمة في الهوية الوطنية والسياسية. ردًا على ذلك تحرّكنا لتشكيل مشروع سياسي جديد: تحويل المواطنة (الإسرائيلية) إلى أساس حقوقنا في هذه البلاد، خلافاً للمعيار الحالي وهو الرابط الإثني، القومي، أو الديني. ثانيًا: نريد التشديد على البُعد القومي: العرب هم أقلية قومية وليسوا مجموعة أقليات دينية. هذه قضية سياسية كما هي ثقافية. ما نوع المجتمع الذي نريد بناءَه هنا، مجتمعًا قوميًا معترفاً به من قبل الدولة بصفته هذه، أم جماعة من الأقليات الدينية؟. الأقليات القومية، بالإضافة إلى حقوقها الفردية المدنية لها حقوق جماعية نريد التأكيد عليها للعرب في إسرائيل. نريد أن نجمع سوية الحقوق الليبرالية الفردية كمواطنين والحقوق الجماعية كأقلية قومية. للمرّة الأولى قد شكلنا حركة قومية في إسرائيل بهذا التوجه المزدوج. رؤيتنا هي تحويل مسألة العرب في إسرائيل إلى مسألة تخصّ المجتمع الإسرائيلي كله؛ لنطوّر رؤية مختلفة للمواطنة وللحقوق المرتبطة بها.
س: لماذا دخلتم في كتلة واحدة مع الجبهة، وكيف تسير هذه العلاقة بعد الانتخابات؟
بشارة: الدخول مع الجبهة حفّزه أولاً المطلب الشعبي الراغب في الوحدة. هنالك شعور لدى السكان العرب في إسرائيل أن أصواتنا تضيع عندما نشكل قوائم صغيرة لا أمل لها في الوصول إلى الكنيست. كان هذا منذ البداية اعتبارًا تكتيكيًا لنري جمهور الناخبين العرب شعورنا بالمسؤولية بحيث لن نضيّع أصواتهم. لأننا حزب جديد، والانتخابات جاءت مبكرة، لم يكن لدينا وقت لتحصيل أصوات بقوانا الذاتية. ثانيًا، برنامج الجبهة الانتخابي، في الوسط العربي على الأقل، هو الأقرب إلى برنامجنا، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واستعدادهم للتخلص من الميول الستالينية. وبينما الجبهة تمثل بعض رؤانا التقدمية للمجتمع العربي، فهي على الأقل غير دينية وتشارك في المجتمع الإسرائيلي العام.
س: من كان المؤيدون الرئيسيون للتجمع في الانتخابات العامّة؟
بشارة: يصعب القول الآن. شعوري أننا وصلنا إلى ما أسميه العناصر القومية التقدمية المتنورة في المجتمع، تلك التي لا تصوّت بدافع مصالح موجّهة طبقيًا. إنه جمهور ناخبين متعدد جدًا طبقيًا، يشمل عناصر من الطبقة الوسطى والبرجوازية والعمال. لقد وصلنا إلى جمهور أيد سابقاً حزب العمل وميرتس، كما إلى جمهور قومي يصوت للمرة الأولى، حيث كان حتى الآن نقديًا جدًا تجاه المشاركة في الانتخابات الإسرائيلية. الجبهة والتجمع سوية أخذا 5 مقاعد في الكنست، وكان 5 آلاف صوت بيننا وبين المقعد السادس.
في الكنيست نحن كتلة برلمانية واحدة تدعى “حداش – بلد” (المختصر العبري لأسماء القائمتين). لم يعد اسمها الجبهة. أنا لست من الجبهة. خارج البرلمان، سوف نناقش كيفية تعاوننا على أساس عينيّ. التعاون سوف يعتمد على الظروف العينية. في الكنست، من الواضح أننا سنكون معًا طيلة 4 سنوات. الذهاب للانتخابات القادمة سوية، سوف ننظر في شأنه لاحقاً. يعتمد ذلك على مدى نجاح تعاوننا معًا.
س: ما الفرق بين التجمع وأحزاب برلمانية عربية أخرى، خصوصًا الجبهة العربية الموحدة؟
بشارة: في البرنامج لا شيء، لأنهم نسخوا برنامجنا. وهذه واحدة من علامات قوة خطابنا السياسي، فالتقليد هو نوع من المديح. لقد طوّرنا هذا البرنامج تأسيسًا على المواطنة والأوتونوميا القومية، بعد سنوات كثيرة من الكتابة والتنظير له. والجبهة العربية الموحدة هي في الواقع انتهازية جدًا، ولم تكن لها أية فرصة للفوز في الانتخابات لولا الصفقة مع الحركة الإسلامية. نحن نختلف طبعًا عن الحركة الإسلامية في كثير من المسائل الأيديولوجية والسياسية. نحن حزب عربي قومي برؤىً تقدمية ديمقراطية في قضايا العائلة وقضايا المرأة. هنالك اختلاف حاسم بيننا وبين الرؤى الدينية. في المستقبل يفترَض تحالف تنظيم يهودي معنا، ولكننا لن ننظمه بدلاً عنهم إذ عليهم ان ينظموه بأنفسهم، وعندها سنرى كيف نتعاون بيننا.
س: هل يمكن أبدًا أن تتعاون مجموعتك مع الإسلاميين في قضايا عامّة مشتركة؟
بشارة: في الكنيست سوف يكون هنالك الكثير من العمل المشترك. أمّا التعاون في نشاطات سياسية عينية خارج البرلمان فحاليًا هو ليس خيارًا استراتيجيًا.
س: ماذا كان موقفكم بخصوص انتخابات رئاسة الحكومة، وما موقفكم من حكومة نتنياهو؟
بشارة: ردًا على الهجوم الإسرائيلي على لبنان قررنا الدعوة لمقاطعة بيرس ونتنياهو معًا، ولكننا أوقفنا الحملة ضدّ بيرس عشرة أيام بعد وقف النار. لم نغيّر موقفنا ولكننا بكل بساطة لم نطلق حملة تجنيد لصالح موقف المقاطعة(*). عندما سبق نتنياهو بيرس في بعض الاستطلاعات في الوسط اليهودي، موقفنا أصبح معناه التجنيد لصالح نتنياهو. وبرأيي، لو جنّدنا فعليًا ضد بيرس ونتنياهو لكان هناك زيادة عشرات آلاف في الأوراق البيضاء. وإذ نحن لم نتمكن – إحصائيًا – من إنقاذ بيرس، فإننا نولي أهمية سياسية وثقافية وأخلاقية لحقيقة أنه ليس 100% من الفلسطينيين صوّتوا لبيرس وحزب العمل، في تلك الظروف. حزب العمل لا يستحق المزيد من الدعم؛ وإذا كان يستحق شيئًا، فقد استحق دعمًا أقلّ من نسبة الـ 95% التي حصل عليها من أصوات الناخبين العرب. في نهاية الأمر، كانت هزيمة حزب العمل في الوسط اليهودي أسوأ بكثير مما توقعوه. لقد كنا مؤثرين جدًا في زيادة نسبة تصويت العرب بعشرة في المئة، وحزب العمل يعرف أن ذلك كان مفيدًا جدًا لبيرس.(**)
حكومة نتنياهو هي حكومة يمينية تشكلت بتحالف مع الأحزاب الدينية. هي حكومة لا تملك أي تصور أو رؤية توجّهها في مشروع السلام. وهي في الوقت نفسه براغماتية بما يكفي لتكون قابلة للضغط عليها وإعطاء تنازلات معينة. إن جدول أعمالهم هو الحفاظ على الوضع القائم المتمثل في مآزق ميزان القوى بين إسرائيل والعالم العربي. هنالك قضايا أيديولوجية قد تتحول إلى مسائل سياسية، بما في ذلك توسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان، “تهويد” اليهود، وتكثيف مخططات البناء شرقي القدس. وسوف نكون في صراع مع هذه الحكومة على هذه القضايا.
الحكومة الجديدة هي مؤشر على تردّي العلاقات العربية الإسرائيلية كما تردّي احتمالات السلام في الشرق الأوسط.
في القضايا الرئيسية المتعلقة بمحادثات الوضع الدائم، الفرق بين هذه الحكومة وبين حكومة العمل (سابقتها) ليس كبيرًا بقدر ما يظن كثيرون. حكومة برئاسة العمل كانت ستسمح للكيان الفلسطيني أن يسمي نفسه دولة، ولكن ما كانت لتسمح بأي استقلال حقيقي. حكومة الليكود سوف تصرّ على حكم ذاتي ولكن هذا سيحلّ مشكلة السيادة.
من الواضح جدًا أن نتيجة هذا الوضع الجديد سوف تعتمد على نشاطنا كمعارضة في البرلمان الإسرائيلي، كما على الموقف العربي في العالم العربي. وسوف تعتمد النتيجة إلى حدّ معيّن على الفلسطينيين فمجال تأثيرهم السياسي اليوم أكثر محدودية بكثير عن ذي قبل. إن أي نشاط سياسي سيجد نفسه في مواجهة الشرطة الإسرائيلية والفلسطينية معًا.
س: ما هو توجّهكم نحو السلطة الفلسطينية، وما سيكون شكل العلاقة المثالية بين الفلسطينيين في إسرائيل والفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة؟
بشارة: مع أن موقفي نقديّ جدًا تجاه السلطة ودورها، فإنها الآن قوة سياسية حقيقية جدًا وتمثل الفلسطينيين في المناطق المحتلة، وسوف يكون علينا تنظيم علاقتنا معها، عبر منظوري التعاون والنقد. لا نريد مع السلطة علاقة رعاية أبوية. نحن نعرف محدودياتها سياسيًا وغياب السيادة واعتمادها على إسرائيل.
مع ذلك، على السلطة أن تفهم أننا لن نقبل إملاءً من أيّ نوع. يجب أن تكون بيننا علاقة احترام متبادل بحيث لهم حرية نقدنا ولنا حرية نقد أفعالهم. القوى السياسية الأخرى في الوسط العربي داخل إسرائيل لديها توجّه آخر في هذه المسألة، فهم يؤيدون اتفاق أوسلو تأييدًا أعمى وبلا تحفظ. نحن لدينا تحفظات ونقد على أوسلو. وحول هذه المسألة حركتنا ليست موحدة بقدر ما هي موحدة حول مسائل أخرى. فلدينا مؤيدون لأوسلو، ومعارضون لأوسلو، ومتحفظون من أوسلو. اتفاق أوسلو لا يجب أن يكون أساسًا لبرامجنا السياسية.
س: أيّ تغيير كنت تودّ أن تراه يجرَى على اتفاق أسلو؟
بشارة: لا أدري. هنالك إمكانيّتان فإما ان نتحرك باتجاه سيادة فلسطينية كاملة في دولة فلسطينية ديمقراطية، وإمّا أننا متجهون نحو نظام أبارتهايد. والنضال ضدّ الأبارتهايد يعني نضالاً لأجل المساواة. ولا زلت أقول هذا الكلام منذ سنين كثيرة. أنا أدعم النشاط الذي يعترف بوجود حالة الأبارتهايد ويعارضها.
* * *
ملاحظات وتعقيب رجاء زعبي عمري:
- كانت هذه الانتخابات المبكرة لانتخاب رئيس حكومة لإسرائيل، خلفاً لرئيس الحكومة المقتول إسحق رابين. (والهجوم على لبنان يقصد به مجزرة قانا الأولى).
- كانت هذه الانتخابات المبكرة لانتخاب رئيس حكومة لإسرائيل، خلفاً لرئيس الحكومة المقتول إسحق رابين. (والهجوم على لبنان يقصد به مجزرة قانا الأولى).
- كثير مما جاء في المقابلة يستحق التعقيب والتوضيح. أسئلة مثل: لماذا هبّ تجمّع بشارة الجبهة لإنقاذ بيرس لأجل الحفاظ على حكومة حزب العمل، مادام يدرك ويبيّن انعدام الفرق بينه وبين الليكود في قضايا الوضع الدائم – التي يفترض أنها تخصّ مستقبل الشعب الفلسطيني في مواجهة النظام العنصري الصهيوني في فلسطين كلّها. ومثل: لماذا إضافة إلى معازل الضفة والقطاع، أقام بشارة حزب التجمع، معزل الأقلية العربية في دولة الأغلبية اليهودية، ما دام يرى أهمية النضال ضد واقع الأبارتهايد. ولماذا برنامج الحزب يؤيد حل الدولتين ما دام يرى أنه لن تكون دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة إسرائيل (وقد كتب عن ذلك منذ 1991 – يمكن النظر في دراسته عن “القضية الفلسطينية في المرحلة الراهنة” على موقع أجراس العودة هنا http://ajras.org/?page= show_details&Id=54&CatId=& table=studies ، وموقفه من أوسلو واستحالة الدولة الفلسطينية المستقلة، في أجراس العودة هنا: http://ajras.org/?page= show_details&Id=11&CatId=& table=table_151
ومع ذلك، ملاحظاتي هي بشأن مسألة المقاطعة تحديدًا، وأوضح السبب بعد الملاحظات:
(*) (ليلة القبض على النشرة): تأكيدًا على كلام عزمي بشارة، أضيف أن الحملة الفعلية التي أدارها تحالفه الوحدوي الداعي إلى المقاطعة كانت ضد المقاطعة أصلاً. فاستنادًا إلى موقف المقاطعة المعلن، قبل محرّر النشرة الانتخابية للتحالف نشر مواد تجند للمقاطعة اقترحتها عليه، فخصص صفحة كاملة أعددتها وكتبتها بنفسي، واشترط أن تكون بدون اسمي فوافقت. واتكلت النشرة على الله وذهبت إلى المطبعة، و”انطبعت” وجرى البدء بتوزيعها. ولكن التحالف أعلن حملة “مطاردة” النشرة واستنفر كوادره التي جابت لا أدري كم بلدًا، وقبضت على النشرة أمام أبواب الدكاكين عند الفجر قبل أن تصل إليها أيدي القرّاء. ثم سمعنا أنهم أمروا بإحراقها، كما يليق بتجمع وطني ديمقراطي وبجبهة ديمقراطية. وتأكيدًا على كلام بشارة عن حاجة بيرس الماسّة إلى الإنقاذ، أذكر أنها كانت عليه ليلة ليلاء فعلاً، فقد جاب شمعون بيرس القرى العربية ليلتها، وصعد التحالفيون إلى مآذن الجوامع يدعون الناس أن هلمّوا إلى صناديق الاقتراع. هذا مثال واحد فقط من أمثلة كثيرة على كيفية عمل الـ”ديمقراطية بلا ديمقراطيين” – والتعبير أستعيره من بشارة نفسه، إذ يستخدمه في هجومه الدائم على الديمقراطيين الليبراليين من منافسيه، أو الديمقراطيين الماركسيين الذين لم يخترق “واقع” المرحلة “وعيهم” بعد، سواء في الوطن العربي أو في فلسطين…
(**) (العرب في إسرائيل ونظام الوشاية): على سيرة “أخلاقية”، يحسن مقارنة أقوال بشارة أعلاه مع ما كتبه عن “مقاطعة” انتخابات الكنيست الصهيوني 2001 في كتابه “لئلاّ يُفقد المعنى” ص143، في مقالة عنوانها: “بين مقاطعة الانتخابات وتعيين وزير عربي في حكومة إسرائيلية”. يبدأ بالقول: “… اتفقت الأحزاب العربية.. على مقاطعة الانتخابات.. ولم يخرج عن هذا القرار إلاّ الجبهة.. وبعض المرتبطين مع الأحزاب الصهيونية، خاصة حزب العمل وميرتس”. (ويكثر بشارة في تلك المقالة من نقد ثقافة الوشاية، كعادته). ويتابع فيما بعد ص145 مبيناً من ناحية سبب موقف المقاطعة، ومن ناحية ثانية سبب دعم التصويت بـ”الورقة البيضاء”: “الخطابات التي ألقيت ضد باراك بعد استشهاد 13 مواطناً عربيًا برصاص شرطته سوف تتحول إلى مهزلة إذا دعا هؤلاء الخطباء للتصويت لباراك”… “تبين لنا فيما بعد، نحن الذين لم نعارض الورقة البيضاء، كونه تعبيرًا مشروعًا عن مقاطعة باراك وشارون، أن الدعوة في الواقع هي للتصويت لباراك – عندها أكدنا مع غالبية القوى السياسية العربية، بشكل واضح على قرار المقاطعة والتزمت الجماهير العربية (82% من أصحاب حق الاقتراع) بهذا القرار”. — يجب القول هنا أيضًا أن التجنيد لحملة المقاطعة لم يكن، وأن الجماهير قاطعت ليس استجابة للدعوة تلك، وأن ابتسامة بشارة و”تطعوجاته”، وإصراره على التمتمة بقول غير ملزم، عندما تحلق حوله الإعلام الصهيوني يسأله عن موقف المقاطعة هي أمور شهدها الجميع على شاشات التلفزيون.
هذه الملاحظات أوردتها، أولاً بسبب أهمية التغير المرتقب – منذ زمن – في موقف حزب التجمع وأحزاب عربية أخرى من المشاركة في انتخابات الكنيست. فقد قيل دائمًا في مناقشة الحملة الشعبية لمقاطعة انتخابات الكنيست الصهيوني التي تقودها حركة أبناء البلد، إنه سيأتي وقت يكون من الملائم طرح موقف المقاطعة كموقف سياسي، ولكن ليس الآن. وقد مرّت عشر سنوات على ما أسموه “اهتزاز أسس المواطنة” بعد مجازر أكتوبر 2000، ومع ذلك فهنالك انتظار…
وبالتالي، ثانيًا: هذه الملاحظات هي مقدمة لخوض مسألة الانتخابات المباشرة للجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل، والمطروحة منذ سنين تحت عنوان “التحول الديمقراطي” للجنة المتابعة.. ماذا تعني؟ وماذا تنتظر؟ خاصة وأن الحركة الإسلامية الجنوبية – التي تشارك في انتخابات الكنيست الصهيوني – أرادت إيفاد أحد أعضائها إلى مؤتمر حيفا الثاني ليشرح طرح الحركة الإسلامية للدولة الواحدة في فلسطين، ولكن لم تُقبل مشاركتهم.. رغم قول من اقترحوها – وهم في اللجنة التحضيرية لمؤتمر حيفا الثاني – إن الحركة الإسلامية الجنوبية على وشك الانسحاب من الكنيست. ويرتبط ذلك بتصريحات السيد رجا اغبارية في الصحافة: إن الانتخابات المباشرة للجنة المتابعة باتت مسألة وقت. كل هذا نتركه لمعالجة خاصة.
:::::
المصدر: موقع “أجراس العودة”
(***)
مصالحة الإستعمار دون خروجه…تقاسم الوطن مع العدو:
عزمي بشارة كحالة دراسية *
د. عادل سمارة
رام الله المحتلة
ملاحظة من “كنعان”:
منذ أن رحل د. عزمي بشارة عن أرض الوطن، تعددت التفسيرات وتباينت التأويلات وتراوحت المواقف بين مدافع حنى الاستماته عن بطل وطني/قومي كاد يقع فريسة للمحتل الباطش فآثر النجاة بجلده، وناقد رأى أن لحظته قد حانت لفضح حقيقة دور وسيرة وخلفيات الرجل.
آثرنا في “كنعان” ان ننحو منحى يتوخى تناول قضية د. عزمي بشارة من مدخل يتجاوز الشخصنة ويتحاشى إختراع البطولات (والمعارك) الدونكشتية، ويسعى الى رؤية هذه القضية من خلال المعطيات الموضوعية المادية، كي يستطيع المواطن والمثقف أن يفهم معنى هروب بشارة من ساحة الوطن، كما يقول الزميل عادل سمارة في خلاصته، في سياق دخوله الى الكنيست وقسم يمين الولاء للدولة اليهودية وفي إطار الفهم الشامل لطبيعة الصراع في بلادنا.
هيئة تحرير “كنعان” الالكترونية
* * *
تشتد وتمتد هجمة العدو المعولمة ضد الوطن العربي هذه الأيام لتصل من أقصاه إلى أقصاه وتفيض. قوى من الداخل وأخرى من الخارج، طبقات محلية وأمم أجنبية وقوى استيطانية، مجهزة كلها بأكثر مما يلزم، وليس على حسابها، بل من ثروة الأمة، ومن أجل هذه الثروة. وهذا يطرح التحدي الدائم: كيف تقاوم، من اين ومع من؟ ويكون الجواب دوماً: حتى لو كنت وحدك، فلا بديل عن المنازلة! ولكنهم لا يمهلوك كي تختار الموقع فهم كثيرون مثل عديد الشرور، مثل شياطين المؤمنين، وهنا تكون المشكلة: كيف يمكنك اغتنام لحظة صغيرة تركز فيها الذهن والأعصاب لتختار أية معركة تدخل. وفي كثير من الأحيان تدخل معارك عنوة وقسراً، لكنها مع ذلك هي مقاومة، وتصبح أكثر جمالاً وأهميّة لأنها في حقبة العولمة. هذا شعور قوى المقاومة سواء حاملي السلاح أو القلم حين مواجهة وباء مثقفي التسوية، والعولمة.
لعل الأشد خطورة في معسكر العدو، هو الشر الناعم الذي يحاول اختراق نسيج الطبقات الشعبية العربية عبر الفضائيات كالمرض الخبيث. يدخل الأمة باسم الأمة، ويدخل الطبقات الشعبية باسم الحرص عليها، نعم فلا أخطر!
(1)
نظرية ما بعد الاستعمار…دون أن يخرج الإستعمار
أصبح لا بد من مدخل نظري لتفكيك خطاب مثقفين متصالحين مع الإستعمار الإستيطاني. مثقفون فلسطينيون، وطنهم مغتصب، وشعبهم مطرود إلى منافي الفقر والمذلة والجوع، بينما يتصرف هؤلاء كما لو كانوا ابناء شعب يعيش حياة طبيعية، ولا يشغله سوى نكد بعض المشاكل الحدودية التافهة مع الجيران.
يذكرني هذا بسؤال من طالب في جامعة ماكماستر في كندا، حيث دعاني الصديق د. عاطف قبرصي للحديث في القاعة العامة عام 2001، وهناك سألني طالب مستهجناً:
” ولماذا لا يلعب الشباب الفلسطينيون كرة القدم بدل أن يرجموا جنود الجيران الإسرائيليين بالحجارة؟”
نعم، حينما انتصر التيار الرسمي الفلسطيني والعربي وتفَّه حقوقنا إلى : “إزالة آثار العدوان عام 1967″ رسخ في روع العالم أن الإحتلال الأول 1948 هو “أرض إسرائيل”، ولاحقاً، أن اتفاق أوسلو قد أعطى الفلسطينيين دولة! فيا للمصيبتين! كم نحتاج من الوقت والجهد كي نعيد للعالم حقيقة أن أرض فلسطين احتلت استيطانيا عام 1948، وأن بقيتها احتلت عام 1967 والمهم أن الإحتلال كاستعمار استيطاني لم يخرج، ولذا، فإن تصرف مثقفين فلسطينيين من طراز عزمي بشارة وإدوارد سعيد ومحود درويش ومريديهم، (كما لو أن المشكلة هي في 1967، وأن أوسلو قد حلتها بدولة، وما يجب استكماله هو تجاوز بعض الإشكالات)، هو تصرف كارثي. لقد تصرف هؤلاء كما لو أن أوسلو تعني زوال الإستعمار أو أن الفلسطينيين دخلوا مرحلة ما بعد الإستعمار. لذا، كان لا بد أن تكون الحلقة الأولى من هذه الورقة تناولاً أو الاتكازاً على نظرية ما بعد الإستعمار، في حدود تعلقها بموضوع المعالجة.
لم يخرج الإستعمار من الوطن العربي، وإن خرج من بعضه فجزئياً، وفي البعض وإلى البعض عاد، وربما كان هذا الوطن الوحيد الذي يجمع بين:
- وجود استعمار استيطاني (فلسطين والجولان)؛
- استعمار مزدوج بين الإستيطان والاستعمار الكلاسيكي (الأهواز وإنطاكية؛ وسبتة ومليلة وطنب الصغرى والكبرى وابو موسى)؛
- وخروج شكلي للإستعمار (مختلف القطريات العربية- والخروج من سيناء الذي يشتمل على خروج مصر كذلك!)؛
- واستدعاء الإستعمار (مختلف القطريات النفطية والقطريات التي تتمدد على شرفها قواعد أميركية هي الأكبر في العالم)؛
- واستدعاء الإستعمار دون قدرته على الرجوع (لبنان)؛
- وعودة الإستعمار بشكله العسكري (العراق والصومال).
أما وهذا حال الوطن العربي، بكل هذه البشاعة والفظاعة، فليس هناك ما يمنع تجريم المثقف الذي لا ينتمي إلى الأمة بلا تردد. لا يمكن قبول ستائر من طراز التأدب الأكاديمي، والحوار العلمي، والترفع عن ذكر الأسماء كي لا تُدرج الكتابة في قائمة التشهير الشخصي…الخ.
في هذا الصدد ستكون معالجتنا لهذه المسألة التي تحتاج إلى مجلدات، مقسمة إلى ثلاثة أقسام:
الأول:التستر وراء نظرية ما بعد الإستعمار وخاصة إدوارد سعيد.
والثاني:وقائع حالة د. عزمي بشارة نموذجاً.
والثالث:السيناريوهات لرحيل بشارة الطوعي.
فشل التستر بما بعد الإستعمار
لعل الميدان الرئيسي لمنظري ما بعد الإستعمار هو رفضهم للإستعمار من جهة، وعجزهم عن تفهم العالم الثالث في وضعية ما بعد الإستعمار من جهة ثانية، مما يضعهم في التحليل الأخير كمن يتفجعون على الإستعمار نفسه، اي ينحازون في التحليل الأخير للسيد باسم تمثيل المضطَهَدين! وكأننا أمام حالة من دونية المحيط الثقافية لثقافة المركز. وهو الأمر الذي وإن زعم منظرو ما بعد الإستعمار التوقف عنده، بما هم مرتكزون ومركزون على الثقافة والخطاب، فهم إنما يخدمون مصالح المركز الطبقية الراسمالية وهذا بيت القصيد، وهذا ما يرفضون رؤيته لأن اعترافهم برؤيته يدينهم بشدة.
يشير ألان والد إلى:
” العلاقة بين من حاولوا تجاوز الماركسية بالمابعديات ما بعد البنيوية وما بعد الماركسية وما بعد الحداثة والمسماة “نظام النجوم” والتي كان المشاركون الراديكاليون فيها بعيدين على الأغلب عن المنظمات الإشتراكية والنضالات العادية للشعب العامل. لقد قام الجيل الجديد من الأكاديميين ذوي النفوذ بإعادة التفسير وبتوسيع نطاق الكتابة عن المنظرين الذين كتبوا نظريات ثقافية ضدالاستعمار ليحشروا تحت عباءة نظرية ما بعد الإستعمار مناضلين نشيطين أمثال فرانز فانون، في “معذبو الأرض” (1963) ، وأميلكار كابرال في “العودة إلى المنبع” (1973) … وكانت نتيجة هذا التمطيط والمزاوجة أن طلاب نظرية ما بعد الإستعمار قد أخذوا يتكلمون لغة خفية لا يسهل فهمها إلا على القوم ذوي الإمتيازات[1]“.
والسؤال هو: ماذا حينما نربط الأمر بالفضائيات العربية وما تصنعه من نجومية لا سيما في بلدان تفتقر حتى لأكاديميا حقيقية؟ لقد خلقت الفضائيات العربية مثقفين فضائيين يجري تلميعهم في حدود انسجامهم وتماهيهم مع سياسة الأنظمة العربية التي في النهاية قرارها أميركي.
وتكون اللعبة أخطر حين يصبح المثقف ليس مجرد نجم فضائي “صورة” يلمع لأنه على الشاشة بغض النظر عن ما يقول، بل حينما يسقط في هواه العديد من المثقفين والأكاديميين العرب محفوزين بلا وعي ولا ضوابط في حمأة:
- البحث عن بطل “فكري محلي” لموازاة ما لدى الغرب الراسمالي.
- محاولة الوصول إلى احترام الأكاديميا الغربية عبر المثقف المقبول من هذا الغرب.
هنا، نجد هؤلاء المثقفين وقد استبطنوا الدونية بمرتبتين مما يحول دون قدرتهم على تفكيك هذا المثقف أو حتى مناخ بروزه وإبرازه. وعليه، حتى وهم لا يستطيعون الدفاع عن مواقفه وأطروحاته، فإنهم لا يتزحزحوا عن محض ولائهم فاصلين بين ما يقوله وبين ما يصرخ به واقع الوطن والأمة مما يضع هذا المثقف حقاً في صف الأعداء، ويضع كذلك تلامذته، وتابعيه ومريديه العاجزين عن التخطي علماً بأن التخطي شرط الإبداع والتطور، في حالة من الوعي الجبان، والجهل المتعالم!
في هذا السياق كان الغفران للمرحوم إدوارد سعيد الذي توسط بين الإدارة الأميركية والأكاديميا الغربية، وبين الإدارة الأميركية والمقاومة الفلسطينية، وقبل عضوية المجلس الوطني الفلسطيني بالتعيين، وعمل مستشاراً للسيد ياسر عرفات قبل أن يستقيل ويشن الحملة على إتفاقية أوسلو، ودعا الفلسطينيين العرب داخل الكيان للمشاركة في انتخابات الكنيست الصهيوني ليصوتوا لصالح عزمي بشارة الذي استخدم القومية العربية للوصول إلى الكنيست. كانت جماعة بشارة قد استضافته في الناصرة، بينما عارضت زيارة درويش الأخيرة إلى حيفا. وبهذا كان إدوارد سعيد، الأول بين منظري ما بعد الإستعمار الذي أرسى حجر الأساس لتجاهل وجود استعمار إستيطاني في فلسطين.
وعلى الأساس نفسه كان الغفران لمحمود درويش الذي غادر الوطن بعد أن غنى له طويلاً، وما زال كثيرون يغنوا للوطن على تفعيلات غناء درويش، أي بعد أن أصبح الوطن بالنسبة لدرويش لغة وقصيدة وحياة مرفهة، يشرب الإسبرسو دون أن يدفع الثمن، كما كتب عنه أحمد أشقر، وما زالوا يغنون، بل ويسمعوا الهجران الفعلي من محمود للوطن، ولا يتوقفوا عن ضجيج الغناء، ربما كي لا يسمعوا[2]. كما عاد درويش بالتطبيع من خلال اوسلو، وانتهى إلى الدعوة لوطن رمزي ونضال رمزي، ونقل الجدل من النضال اليومي للطبقات الشعبية إلى نقاش فني مجرد مما يعفيه واعفاه من اي نقد بل أنه ومن على صفحات صحيفة “هآرتس” مؤخرا رفض فكرة الحوار مع حماس، واشترطها باعتذارها وتسليم المقار “الأمنية” في غزة إلى فتح.. ويكون بذلك قد ردد ما قاله محمود عباس في شرم الشيخ.
ولكن، لنتحدث قليلاً عن نظرية ما بعد الإستعمار.
تشكل فلسطين حالة فريدة في كثير من جوانب قضيتها. فهي آخرحالة للإستعمار الإستيطاني زمنياً. لكنها حالة تواصل مع استعمار استيطاني محتمل في العراق وأفغانستان مثلاً. قد يكون هذا الحديث عجيباً. ولكن ما معنى قرابة مئتي ألف جندي أميركي في العراق بكل مستلزماتهم؟ هناك كيانات عربية في الخليج يبلغ تعداد سكانها أقل من هذا العدد. وما معنى حديث وزير الحرب الأميركي جيتس: “اننا باقون هنا لسنوات طويلة قادمة”. وما معنى إقامة سبع قواعد هي بمثابة سبع مدن للجيش الأميركي في العراق. إذن، وجود الكيان الصهيوني وعدم قدرتنا على تحرير فلسطين، كان مثابة تمديد لحالة الإستعمار الإستيطاني.
والجانب الإستعماري الكلاسيكي في حالة فلسطين هو فريد ايضاً، بمعنى أنه في حين يتجاوز العالم مرحلة الإستعمار، بقي الإستعمار في فلسطين، وهو ما مهد نفسيا وعمليا لعودته، وها هو يعود إلى العراق وأفغانستان والصومال، هذا إذا لم نقل إلى أوروبا الشرقية بأسرها.
وهكذا، فالكيان الصهيوني هو مثابة جسر يمتد، لكي يجدد، من مرحلة الإستيطان الأبيض القديم إلى تجديده، ومن مرحلة الإستعمار إلى استمراره في حقبة الإمبريالية، وتجديده في حقبة العولمة. وربما كانت هذه من أخطر وظائف هذا الكيان. وما اتفاق أوسلو إلا محاولة من محاولات تجديده وإعادة إنتاجه حيث يعزز الإستيطان في الضفة الغربية نفسها.
ليست صحيحة مزاعم منظري ما بعد الإستعمار حين يُدرجوا فرانز فانون كأب روحي لهم[3]. فرانز فانون، نموذج المثقف الثوري الواقعي بتحدٍ وامتياز. فقد تجاوز اصله الدموي “جزر الأنتيل” ليؤكد مواطنته وانتمائه العربي الجزائري[4]. فالانتماء القومي هو حالة كفاحية في المكان والمرحلة بالنسبة لفانون. ولأنها كذلك، فإن قناعته القومية ليست محصورة في الفهم المصلحي البرجوازي، فهي قومية كفاحية بالإمتداد والديمومة، ولذا يرى أن الأممية الحقة هي النتاج الطبيعي والضروري للقومية الكفاحية. والحقيقة، أن تكويناً كالذي توفر لفانون أو خلقه لنفسه هو من الأمور أو الحالات النادرة. فهو يجمع بين تاريخية هيجل، ومادية ديالكتيك ماركس، وعلم النفس الفرويدي، وميدانية ونضال حرب الغوار لدى تشي جيفارا وبشرته هو السوداء.
لقد انتهى فانون إلى أن القومية هي المدخل الطبيعي والعملي إلى الأممية. ومن هنا كان تفهمه للأمر وانتمائه القومي مع الحفاظ على النظرة لما بعد. ولأنه أراد للقومية مرحلة جذرية، فقد قطع مع الثقافة الأوروبية وقطع مع الإستعمار تماماً.
ما الذي يجمع فرانز فانون مع هومي بابا الذي يرفض بوضوح كافة القوميات من موقعه في المنفى، بينما قرر فرانز فانون الإنتقال الكلي من المنفى إلى الميدان. هذا إضافة إلى أن فكر هومي بابا في النهاية أكاديمي بحت، يصلح للنقاش او مواجهة اللغة باللغة في الصف الأكاديمي ولا يصمد في معركة التطبيق.
بالنسبة لهومي بابا، فإن المنفى أو الشتات، تحرر المثقف من الحاجة إلى التماهي او التماثل مع الجمهور ، أي يحرّره من الإرتباط بالمشروع العملي الجماعي.
فتحت العنصرية المجتمعية في أميركا من جهة، والدعم الطبقي الحاكم الأميركي، والكتابات الصحفية والسياسية في أميركا ضد العرب في أعقاب هزيمة 1967 من جهة أخرى عيون إدوارد سعيد على كونه عربياً تربى وتثقف في المنفى. ومنها تدرجت وطنيته “قوميته” التي توقفت في منتصف الطريق بين الشعور الإنساني، أكثر مما هو القومي تجاه فلسطين، وطن المولد أو الأصل من جهة، والحذر من الإشتباك الفعلي مع الصهيونية الذي يتطلب أبطالاً من طراز فرانز فانون كي يدفعوا ثمن مواجهة قوتها في المركز الراسمالي من جهة ثانية.
أما والثمن عالٍ إلى هذا الحد، فقد قرر إدوارد سعيد اللجوء لانتقائية انهته بلا هوية نضالية. فهو لم يشارك في الكفاح المسلح ولم يدعمه، بل كان ممن أوقعوا به وأغووه للتورط في المساومة، وهو قد دفع باتجاه الحوار مع الصهاينة حتى وهم لا يريدون حواراً، وهو ممن شعروا بأن حق العودة عبئاً ثقيلاً، لا يسهل حمله، كما لا تتوفر لديه الجرأة على المجاهرة بنبذه أو النصح بذلك، وهو الذي رأى أن الحل يتمثل في المماثلة بين نكبة الفلسطينيين من جهة والمحرقة النازية لليهود من جهة اخرى، وطالب أن يسعى كلا الطرفين الى الاعتراف بمأساة الآخر كي يتسنى الاقتراب من الحل. نعم انتهى ضد كافة اشكال القوميات زاعماً أن فيها النزوع والقابلية لمرض القوة، لذا فهو اساسا لا يرتاح للإستراتيجيات القومية وخاصة بعد حصول توقف الإستعمار، علماً بأنه لم ينته في فلسطين!
وكذلك ينتهي إدوارد سعيد إلى القول أن القومية مثل كل الخطاب/ات التي تخلق وهم الإستقرار او الهوية الاجتماعية المتماسكة، لذا، لا بد من فضحها لأنها تهدد بخلق ذاتية زائفة. ويرى سعيد ان القومية تهديد لحقوق الإنسان، لذات الفرد، لأنها تميل إلى وباء القوة بمعنى سياسي محدد وانها خطرة بشكل خاص على حقوق مجموعات الأقليات التي يفترض ان تكون جماعات شفافة ومستقرة.
نظرية ما بعد الإستعمار هي جوهرياً، تصالحية لصالح الاستعمار وفكفكة جميع أشكال المقاومة والممانعة. فأحد الأهداف الأساسية لنظرية ما بعد الإستعمار هو متابعة كيفية تشكيل كل من عالم الإستعمار والمستعمرات للآخر سياسياً واقتصاديا وفوق كل شيىء ثقافياً. ومن هنا لجوء إدوارد سعيد إلى “الإنسانية” مقابل القومية من جهة والأممية الشيوعية من جهة ثانية.
فلا تتصور ما بعد الاستعمار انفكاك ثقافة الطرفين عن بعضهما. يرتكز كتاب سعيد الثقافة والإمبريالية اساساً على عملية التبادل الثقافي بين المركز الإستعماري والمحيط المستعمر. لذا يركز على ظهور معارضة المستعمَر إلى المركز والتشرب اللاواع واستدخال قيم الإستنارة والإنسانية العالمية في النضال الهادف إنهاء الإستعمار، وتطوير تحالف أخلاقي مع القوى التقدمية في المجتمع المستعمِر باسم او نيابة عن الحرية للمستعمَر. أما دور الإمبريالية الأميركية وتصدرها للحروب في ارجاء الأرض الأربعة وحتى في الفضاء، فلم يقل لنا عنها سعيد شيئاً.
وهكذا، فإن هذه المدرسة، إذا جاز التعبير، لم تجمع على تحليل متقارب من مسألة القومية في بلدان ما بعد الاستعمار بل ما توصلت إليه هو تعميمات متشككة ومتخاصمة. وعليه، فالثابت بالنسبة لها هو نقد قومية ما بعد الإستعمار، ونقل العلاقة إلى التلاقح الثقافي الذي في جوهره تعميم ثقافة المركز على المحيط، وهي في النهاية ثقافة راس المال من جانب الإستهلاك وتقويض الإنتاج.
وهكذا، فإن مدرسة ما بعد الإستعمار عجزت عن توفير أو بلورة موقف أو بلورة إشكالية الموضوع، ولعل أهم إخفاقاتها عجزها عن التعامل مع المسألة القومية بشكل متماسك كونها مشكلة سياسية وأخلاقية برأيهم وحسب.
قد يكون لهذا الوضع علاقة بطبيعة الدور الشخصي (المقصود الموقع) للمنظرين أنفسهم. فسعيد وهومي بابا عملياً تربيا في المنفى، وبالتالي فإن علاقة كل منهما بالمنطقة الأصل هي علاقة انتساب لا علاقة نضجت في معمعان الصراع. وهذا الفارق بينهما وبين فانون، الذي تحدد موقفه بالموقع عبر الحيّز، وليس عبر الموقف الفكري المجرّد فجاء أكثر اصالة. على أن هذا ليس قانوناً عاماً فإن منفى اللاجئين وشباب المخيمات لم يمنعهم من حمل عبء المقاومة، مع أنهم كانوا خارج “المنطقة الأصل”، وكان لهم عبر المنفى “انتماء” لا “انتساب” إلى المنطقة بوصفها وطنًا سليبًا – فلنقل: منفى عن منفى يفرق، على راي غسان كنفاني: “خيمة عن خيمة تفرق”.
وقد يتقاطع هذا مع استنتاجنا فيما يخص كثرة من منظري مدرسة التبعية في التنمية[5] Dependency School الذين بالغوا في الدور القومي والتنموي لأنظمة برجوازية المحيط. فلو كانوا من مناضلي الطبقات الشعبية لتوصلوا باكراً إلى عجز هذه البرجوازية عن حمل مشعل التنمية، ولعرفوا أن قومية الطبقات الشعبية وحدها التي تقود إلى التنمية. وهكذا، فنحن أمام فهمين خاطئين لدور برجوازية المحيط، كل خاطىء من مدخل واساس آخر.
ولكن،
ونحن نعيش حقبة العولمة بما فيها من عودة واستدعاء للاستعمار، وبالمقابل، انتفاضة أممية ضد الحرب والعولمة من جهة، واندفاعة في الوطن العربي والعالم الإسلامي لأكثر من إسلام، منه السياسي والتكفيري والجهادي والمقاوم، فأين يقف من اعتقدوا أن الاستعمار قد انتهى خلال حقبة الإمبريالية، ودعوا إلى التفاعل الثقافي والتصالح؟ ما قولهم والاستعمار بدأ وخرج وعاد لأهداف اقتصادية ومصالح مادية، وأن الثقافي ليس إلا مكياجاً للوجه القبيح؟ هم لا يخفون أن الجانب الثقافي من مشروعهم وظيفته ترويضيّة، وليست تجميلية وحسب.. لأنه لكي يقنع الاستعمار الشعوب المنهوبة بأنه يعمل لصالحها، عليه أولاً أن ينهب وعيها بمشروعه الثقافي.. وأن يقنع هذه الشعوب أن “ميراثها الثقافي” يفرّخ الإرهاب. هكذا يصبح الاستعمار “شراكة” كما هي في صيغة كولن باول.
بل ماذا لديهم ليقولوه بشأن تنظيرات المخابراتي صامويل هنتنجتون الذي يستخدم الثقافي للحرب وليس للتفاعل؟ وفي حقيقة الأمر، فإن إبراز الثقافي من قبل المركز، وتقديمه على أساس دعوة مفتوحة للمحيط لإلتهام ثقافة المركز، فإن المركز لا يعني ذلك قط ولا يؤمن بنشر ثقافته ولا يعتبر المحيط مؤهلاً لذلك[6].
وهنا مركز الإشكالية، وربما ليس ذنبهم بل ذنب موقعهم. فالوصول إلى بديل عملي، والانتقال من الحالة الوسطية أو الـتأبد فيها يحتاج إلى انخراط في الواقع كي يحلحله.
يحصر منظرو ما بعد الإستعمار موقفهم من القومية في قومية بلدان المحيط بعد الإستقلال، وهي ما نعتبرها الحقبة الثانية للقوميات، على اعتبار أن الحقبة الأولى كانت في أوروبا منتصف القرن التاسع عشر. وحيث لا يتطرقوا للحقبة الأولى، فإنهم يتجنبوا الحديث عن دورها الإستعماري وخاصة عن استمرار هذا الدور إلى درجة عودة الإستعمار من جهتها واستدعائه من جهة القومية الكمبرادورية في المحيط. فالدولة القومية في المركز لم تفقد دورها، وإن كان خطابها مغلفاً بشكل ناجح.
ومما يزيد إشكاليتهم، ان العالم يعيش اليوم حقبة القومية الثالثة، القومية في حقبة العولمة، حيث ترتد القومية البرجوازية في المحيط لاستدعاء الإستعمار. فإذا كانت موجة القومية الثانية تقدمية وثورية، رغم مصيرها المنحط، فإن موجة القومية الثالثة بدأت في معظمها “عميلة”، حيث يقوم المركز الرأسمالي نفسه بتحريك برجوازيات إثنية هنا وهناك كي يفتت دولاً لم تنضوي تحت عباءته (العراق، السودان، روسيا، يوغسلافيا…الخ)[7]. بعبارة أخرى وبقدر ما كان منظرو ما بعد الإستعمار ضد الإستعمار، أو هكذا يبدون، فإنهم كانوا ايضا ضد قومية ما بعد الإستعمار في المحيط ولا سيما إدوارد سعيد وهومي بابا حيث اعتبرا هذه القومية عدوانية بالضرورة.
ولعل الجانب الذي لم يتطرقا له هو وجوب الفصل بين القومية تحت الإستعمار بما هي ثورية وتقدمية، والقومية ما بعد الإستعمار، التي ليست عدوانية بالضرورة والقطع. ضمن القومية تحت الإستعمار، تندرج القومية العربية، قومية الطبقات الشعبية التي يتهمها منظروا ما بعد الإستعمار بأنها عدوانية وقامعة للأقليات غير العربية. والحقيقة أن هذا موضوع يطول فيه الحديث، ولكنه يفتح على موضوعنا في هذه المقالة بشكل واسع. فالقومية العربية متهمة بالشوفينية بينما أجزاء واسعة من وطنها تحت استعمار متعدد ومتنوع في حين يتم عرض الصهيونية كما لو كانت حركة “تحرر وطني” إنسانية بريئة تتحفز القومية العربية لالتهامها. بهذا ننتقل إلى مثقف آخر يوظف مزاعمه القومية في خدمة الصهيونية.
(2)
بعض الوقائع والهروب المحصن بالضجيج والدخان
كما كان إميل حبيبي معلم محمود درويش وسلفه الصالح، فإن إدوارد سعيد السلف الصالح ونموذج الهروب والتبرير لعزمي بشارة في مسألة القومية، مع فارق تبني سعيداً لها في المنفى والوساطة وامتطاء بشارة لها في خلق حزب برلماني في دولة الإستيطان الأبيض الكنيست وبين الأنظمة الرسمية العربية وهما موقعان يسمحان بتمطيط المسألة إلى عكسها ومقتلها.
بدأ بشارة حياته الثقافية منذ المرحلة الثانوية في الشبيبة الشيوعية وكان رئيس اتحاد الثانويين القطري عن الجبهة الديمقرطية للسلام والمساواة، ثم عضو في الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي بدأ بالاعتراف بالكيان الصهيوني على أنقاض الأرض العربية الفلسطينية. وهذا جوهريًا تجاوز للاستعمار وما بعد الاستعمار، نفي للمسألة الوطنية والوجودية الفلسطينية واختزال الصراع والتناقض التناحري إلى مجرد المساواة بين الأقلية القومية العربية في الإحتلال الأول (1948) وبين الأكثرية الصهيونية، وهو الشعار الذي نقله بشارة إلى شعاره المعروف: “دولة كل مواطنيها” وليس دولة أهلها أي المشردين الفلسطينيين.
تعني دولة كل مواطنيها، أنه لا يوجد استعمار لا كلاسيكي ولا استيطاني، وإنما “قوميتان” سائدة وأكثرية، ومسودة وأقلية، وبالتالي مطالبة بتعايشهما على أساس المواطنة المتساوية.
ودولة كل مواطنيها تخفي أساس الوجود “تخفي جذور وجود الكيان الصهيوني ككيان خارجي استيطاني ووظيفي لصالح المركز الإمبريالي. إنه شعار يخفي هوية هذه الدولة، وهي هوية تؤكد حينما تُعلَن أنها هوية لا بد من شطبها لأنها أداة للمركز ولأنها استيطانية ولأنها تسعى لتبقى وحدها “دولة يهودية نقية أو بشكل استثنائي” في ما اغتصبته. وهكذا، كي يريح بشارة نفسه من مهام ضخمة كهذه، بدأ من الإعتراف بما هو قائم واعتباره نقطة البدء.
ولكي تكون مناورة بشارة قوية ومؤثرة ومغطاة، فقد انتقل من الشيوعية إلى القومية العربية. لقد طرح حزبه كحزب قومي وعلق صورة عبد الناصر في مكتبه في الكنيست، ولكن بعد أن اقسم يمين الولاء للدولة اليهودية، ليكون عبد الناصر مجرد صورة على الجدار.
وهنا لا يهمنا موقف عزمي بشارة الذي هو جوهرياً صهيوني، وإلا فمن الذي يقر بدولة يهودية ويقسم يمين الولاء لها غير الصهيوني، بل إن ما يهمنا، اثر ذلك وتأثيره على الأجيال الشابة حين تُثقف بأن الدولة اليهودية دولة عادية في فلسطين.
ولكي يسوّق نفسه لدى الصهاينة، فإن بشارة لم يتردد في اعتبار الصهيونية حركة تحرر وطني[8]. قد تكون المفارقة خجولة أو بسيطة إذا ما فعل ذلك نوعام تشومسكي[9] مثلاً. أما عزمي بشارة الذي يعتبر نفسه منافحاً قومياً عربياً، فكيف له أن لا يرفض اعتبار الصهيونية لنفسها كحركة تحرر وطني[10]؟ ليس هذا أغرب ما في الأمر، بل الأغرب أن لا يربط كثير من المثقفين العرب بين هذين التناقضين لدى بشارة، وهم بهذا إنما يلوثون الوعي العربي الشاب، وهنا الخطورة. إنهم مثقفون جبناء بلا مواربة، فهم لا يربطون بين ما يقوله بشارة، وما يفعله على الأرض، يفصلون بين زعمه أنه قومي عربي، وبين كونه عضو كنيست أقسم يمين الولاء للدولة اليهودية. لا يجرؤون على تفكيك خطابه ومواقفه. ولا شك أن هؤلاء أعجز من تفكيك خطاب الأنظمة التي يعيشون تحت نيرها.
لعل الفارق في مسألة سعيد وبشارة من القومية أن الأول تنكر لها قبل استقلال بلده، أما الثاني فتغاضى عن وجود الإستعمار الإستيطاني من أصله وتصرف كما لو أن البلد عادي.
وبرحيل عزمي بشارة إلى الوطن العربي وهو يحمل تاج فضائيات التطبيع العربي الرسمي، فإنه “يرتفع” في الدرك الأسفل من عرّاب قطري إلى قومي أملاً في أن يلحق بإدوارد سعيد في التطبيع المعولم. مشكلة بشارة أنه باسم القومية يتجاوز عليها ويتصالح مع الإستعمار الإستيطاني وهو موجود على الأرض، وهذا ربما الحبل السري بينه وبين إدوارد سعيد. إنما هو بشكل اقل أخلاقية وأكثر خبثاً من إدوارد سعيد. أكثر خبثاً لأن بشارة أدرك أن القومية ما زال هذا عصرها، وبالتالي كان بليغاً وماهراً بلا شك حيث زعم الإنتماء العروبي في الوقت الذي كان ما فعله هو اغتصاب للقومية تماماً كما تفعل أنظمة الكمبرادور العربية التي استضافته ليكون أحد الركائز الفكرية للقومية الحاكمة على حساب القومية الكامنة، قومية الشعوب والطبقات الشعبية العربية.
فهو يقول: “… لا شك ان لهذه الأقلية القومية مشاكل حول الأرض، ولكن بمعنى التخطيط والبناء“.
فهو يقول: “… لا شك ان لهذه الأقلية القومية مشاكل حول الأرض، ولكن بمعنى التخطيط والبناء…”[11] أي أن عرب 1948 هم جزء من دولة على ارضها وفي أرضها، وما يطالب به الفلسطينيين العرب فيها هو توسيع مسطحات البناء في مدنهم وقراهم، وليس أن المستوطنين اليهود احتلوا ارضهم وطردوا شعبهم!
ما طالب به بشارة لفلسطينيي 1948 لم يرق إلى حق تقرير المصير، ولم يلامس حق العودة، بل حصره في: “اعتقد اننا نتحدث عن اقلية قومية ليس أكثر”.
يقول بشارة في مقابلة مع صحيفة يديعوت أحرونوت 11-5-2007:
“خلقت موقعا يمكن منه رؤية المشروع الصهيوني الذي أرى إليه مشروعا كولونياليا، كما أرى إلى تلوّن اللبراليين في داخل المؤسسة، وكذلك الديمقراطية التي رأيت فيها ديمقراطية قبلية – إثنية”.
نلاحظ هنا تناقضاً تاماً بين أن يعتبر الصهيونية، أو يجيز لأهلها اعتبارها حركة تحرر وطني دون أن ينفي ذلك، كما أدرجنا أعلاه، وبين أن يقول لاحقاً انها مشروع كولونيالي!
ويقول بشارة في مقابلة معه كما تذكر الجارديان قوله: ” كلما استمر الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فإن العرب الإسرائيليين والفلسطينيين في المناطق المحتلة سيصبحوا أكثر تقارباً وسيقوى النقاش حول الدولة ثنائية القومية[12] وهو الجدال الذي يؤيده. ويضيف:
“إذا ما استمر على هذا النحو، فإن قضية العرب في إسرائيل والفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة سوف تلتقيان، إن ثنائية القومية تعني أن العرب عليهم أن يعترفوا كذلك أن اليهود قومية. إنها لا تعني تدمير الدولة. إنها تعني كيانين سياسيين عليهما ان يعيشا معاً، إنها مساومة هائلة[13]“.
الزعيم: من الإلتفاف على القومية إلى الهروب أو تغيير الدور؟
مَن الأجدر بالهروب من فلسطين؟ ابناؤها أم المستوطنون؟ ما هو النسق الدارج، هروب المستوطنين من الجزائر وروديسيا وجنوب إفريقيا أم هروب المواطنين؟ كم كان هروب بشارة هدية للكيان الصهيوني وحتى للمؤرخ الجديد بني موريس الذي زعم أن الفلسطينيين هربوا طوعاً من فلسطين عام 1948. وهي المسألة التي حسمها مؤخراً إيلان بابيه الذي اثبت أن ما حصل للفلسطينيين كان تطهيراً عرقياً. ومع ذلك لم يغير هذا في مواقف الفلسطينيين والعرب الصهاينة قيد أنمله، وبقي اعترافهم بالكيان “راسخاً كالطود”.
مرة أخرى، لعل المفارقة أن كثيرا من المثقفين العرب قد سقطوا في فخ الأنظمة فتعاملوا مع بشارة كما لو كان منفياً. أُخذ هؤلاء بالبغتة الإعلامية، وبالنجومية الفضائية، فبرروا الهروب كما برروا القطرية والحكام! مما يذكرنا بما قالوه عندما رحل محمود ردويش في أواخر ستينيات القرن الماضي.
ساد لغط كثير في علاقة بشارة بالمؤسسة الصهيونية الحاكمة منذ عدة سنوات، وزعمت هذه المؤسسة أنها سوف تحاكمه، واستجوبه الشاباك عدة مرات “كما زعم هو وهم”، ولكن لم تتم المحاكمة! وبقي الأمر بين شد وجذب ربما حقيقي أو إعلامي إلى أن هرب الرجل.
ولكن، قبل تحليل المسألة، دعنا نتعامل مع بعض الوقائع موثقة كما وردت.
في تقرير نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت 2-7-2000، كتبه كل من: أورون مئيري، وحاييم شيفي، وميخال جولدبيرغ:
“قال عزمي بشارة اثناء التحقيق معه انه لم يعترف بأية مخالفة أو تهمة وادعى بأن لقاءاته مع زعيم حزب الله والجبهة الشعبية ورئيس سوريا كانت في إطار وظيفته كعضو كنيست وليس لهدف المس بأمن دولة إسرائيل. وقال انه يعلم انه فيما إذا كان عضواً في اي برلمان عربي فبالتأكيد لا يمكنه أن يفعل ما يفعله في إطار ديمقراطية دولة إسرائيل، اي في سوريا مثلاً”.
نسوق هذه الواقعة ليقرأها المثقفون العرب الذين يجعلون من بشارة صنماً جديداً في حقبة لم تعد فيها اصناماً، ولكن، يبدو أن لا بد للعبيد من صنم يعبدونه.
أما عن لاديمقراطية البلدان العربية، وهي حقاً لاديمقراطية، فإن بشارة نفسه قد غير قناعاته لاحقاً، فقرر تحويل الأنظمة العربية إلى ديمقراطيات، اي انتقلت من القمع إلى الديمقراطية ما بين عامي 2000 إلى 2007.
من مراسل القدس الخاص في عمان عبد الله القاق: 22/5/2007: في محاضرة في منتدى الدستور الثقافي في عمان قال بشارة:
” انه لن يعود إلى إسرائيل ليسلم نفسه للسلطات الإسرائيلية لأنه يعرف أن الأجهزة الأمنية والمخابراتية الإسرائيلية وضعت التقارير الأمنية التي تدينه بالرغم من أنه يؤمن بأنه لم يفعل أي شيء سوى الدفاع عن القضية الفلسطينية والوقوف في وجه العنصرية الإسرائيلية.
” وسخر بشارة من الأقاويل التي يطلقها البعض من أنه لا منابر في الوطن العربي كإسرائيل وقال: بالعكس لقد وجدت العديد من المنابر العربية مفتوحة أمامي وأن هناك ديمقراطية في حرية الرأي بالوطن العربي وليس في إسرائيل وحدها… فهناك حرية في العالم العربي تستطيع أن تعبر عن رأيك واقوالك كما تشاء”.
هل يُعقل هذا! ربما يمكن للمرء أن يقبل أي شيء سوى أن الأنظمة العربية ديمقراطية. فهذه الأنظمة نفسها قد لا تقول عن نفسها ما يقوله بشارة. والخطورة هنا هي في تأثير حديث هذا النجم الفضائي على عقول الجيل الشاب. فهذا الجيل سيعتبر أن الإرهاب المتواصل في الوطن العربي، والحرب الأهلية التي تشنها الطبقات الحاكمة ضد الأمة هي الديمقرطية. الا يعني هذا إقناع الجيل الشاب بوجوب الإستسلام للأنظمة؟ وهل من خدمة تُسدى لهذه الأنظمة أكثر من هذه؟ قد تكون المنابر مفتوحة أمام السيد بشارة، فهل هي مفتوحة أمام المواطن العربي! وأبعد من هذا، هل هناك أي متحدث عربي على الفضائيات أو محطات الإذاعة أو الصحف بوسعه قول كلمة واحدة عن نظام حكم بلده طالما يعيش في نفس ذلك البلد؟ أليس كل واحد منا ناقداً لكل نظام عربي باستثناء تظام حكم بلده!
وفيما يخص حرية الصحافة الإسرائيلية والعربية قال:
“..إنها بوق قَبَليّ. أرني أين الرأي الآخر في وسائل الإعلام الإسرائيلية. متى سمع رأي آخر في زمن الأزمات؟.. في الإعلام العربي ظهر الكثير من الآراء في زمن الحرب. مع وضد حزب الله.. لقد نضجنا منذ أكتوبر 2000. انخفض سقف تحملنا.. يتبارى الصحفيون اليهود في ما بينهم أيهم يخلق أكثر من غيره شيطنة للعربي، للعدو”[14].
لعل بشارة قد انتقى اسوأ مثال في تاريخ الوطن العربي، اي توفير الأنظمة لحرية شتم المقاومة المنتصرة، وجعل انتصارها يتيماً. ليته لم يتورط في هذا المثال.
ورد في النشرة الإخبارية في القناة الأولى للتلفزيون الإسرائيلي 15-6-2001 تقريراً لأمنون أبراموفيتش يقول:
” 1- احتل عزمي بشارة مكان صالح طريف (من حزب العمل) كحلقة وصل بين أجهزة الأمن الإسرائيلية والنظام السوري، علماً بأن صالح طريف زار في حينه سوريا للقيام بهذا الدور، وتحديداً فيما يتعلق بالأسرى الإسرائيليين في لبنان. إلا أن ضغوطاً في حزبه أدت إلى أن يتنحى طريف جانباً لصالح بشارة الذي منذ ذلك الحين (أواخر التسعينات) كثرت زياراته لسوريا، وهو، حسب مصادر إسرائيلية يعتبر مبعوثاً إسرائيلياً غير رسمي لدى سوريا.
1- في البداية كان دور بشارة هو الوساطة (من جانب إسرائيل) لدى سوريا بخصوص الأسرى الإسرائيليين. وكان يقدم بعد كل زيارة تقريراً إلى رئيس المخابرات الإسرائيلية “داني ياتوم” وتقريراً إلى سكرتير الحكومة الإسرائيلية “هرتسوغ”، وكان هرتسوغ يعتبر تقارير بشارة “هامة وممتعة”.
2- وجاء في نفس التقرير: “اقر رئيس دولة إسرائيل “موشية كتساف” بأن بشارة يسافر إلى سوريا بالاستناد إلى “ترخيص غير رسمي” . ومن غير الواضح (حسب أبراموفيتش) ما المقصود بهذا التعبير سوى كون بشارة مبعوثاً!”
بالطبع، لم ينفِ بشارة هذه الأقوال التي أذيعت على الهواء، وكان بوسعه نفي ذلك دفاعاً عن نفسه، حتى لو كلفه ذلك اي ثمن. وفي الحد الأدنى كان بوسعه التوقف عن هذه الزيارات المكوكية. ما هو العمل القومي الذي يمكن أن يقدمه عضو الكنيست بكتابة تقارير للمخابرات وللسلطة الصهيونية؟ وما هو الأمر المشترك بين سوريا والكيان الصهيوني حتى تكون في هذه الزيارات خدمات له! ما يؤكده التقرير أن بشارة كان مبعوثاً إلى سوريا والسؤال هو: هل كان يكتب تقاريراً للمخابرات السورية كذلك، وهل كانت ممتعة أيضاً؟ هذا في ذمة تلك المخابرات؟ وهل هذا دور المثقف القومي[15]؟
“يوم 3-4-2007 أصدرت الشرطة الإسرائيلية أمر اعتقال دولي بحق عزمي بشارة (يو بي آي)، قالت صحيفة يديعوت أحرونوت 29-4-2007 ان الشرطة الإسرائيلية بصدد إصدار أمر اعتقال دولي بحق النائب السابق في الكنيست عزمي بشارة.
وكان رئيس الشاباك يوفال ديسكين قال ان العرب في اسرائيل هم الخطر الإستراتيجي البعيد المدى على إسرائيل.
وقال نائب رئيس الشاباك أمس أنه جرت جلستا تحقيق مع بشارة، وحول مغادرة بشارة اسرائيل قال ان بشارة ابلغنا بأن لديه التزاماً في الرياض، ووعد بالعودة لكنه لم يعد”.
تقول الجارديان في مقابلة مع بشارة:
“لم يكن هذا أول تحقيق معه، لذا، لم يستغرب أنه بعد الحرب بستة اشهر أُستدعي إلى مركز الشرطة في بتاح تكفا للإستجواب. وهناك استجوبه ضابطي شرطة وبعدها غادر على اعتبار انه ذاهب إلى الأردن لحديث كان مقرر مسبقا[16]ً”
هل حقاً ضحك بشارة على المخابرات الإسرائيلية؟ نحن لا ننسب لهذه المخابرات قوة خارقة ودقة لا متناهية، ولكننا نعرف أن كثيرين من المعتقلين الفلسطينيين حاولوا “الضحك” عليها ومخادعتها، وبالتالي لا يُلدغ “المؤمن” من جحر ألف مرة! فهل خرج الرجل بصفقة أم خرج ضمن مشروع؟
القدس العربي 10-5-2007 من زهير أندراوس:
الشابك يتنصت على هواتف النواب العرب في الكنيست
“…قالت إذاعة جيش الإحتلال أمس الأربعاء أن لجنة الكنيست وافقت بالأغلبية أمس على طلب رئيسة اللجنة روحاما أفراهام من حزب كاديما الحاكم، بعقد جلسة خاصة لبحث اقتراح قانون لمصادرة الحقوق المالية للدكتور عزمي بشارة ، التي يستحقها لأنه كان نائباً في الكنيست الإسرائيلي لمدة 11 عاماً، ووفق اقتراح النائبة، افراهام فإن من يدان بمخالفة جنائية ويحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات تكون المحكمة مخولة بسحب حقوقه المالية، على حد تعبير مشروع القانون، وتابعت النائبة…انها حقائق دامغة“.
وفي نشرة كاونتر بنش للأخبار 2/3 6-2007: CounterPunch Newsletter كتب أوري أفنيري:
“دق جرس هاتفي يوم الإنتخابات الساعة الرابعة بعد الظهر، كان على الخط من الجانب الآخر تال سلبرشتاين المستشار الأول لإيهود باراك وقال انه يهاتفني نيابة عن رئيسه. وقال انه حصل في الساعات الأخيرة تطور درامي لصالح باراك، ورجاني أن استخدم نفوذي وتأثيري لإقناع قادة الجماعة العربية أن يدعو الناخبين العرب بأن يذهبوا إلى صناديق الإقتراع، وأن يصوتوا لصالح باراك. بهذه الطريقة وحدها يمكننا الفوز. فقد كان من المفترض عموماً أن أكثرية المواطنين العرب سوف يتغيبوا عن الإنتخابات احتجاجاً على دور باراك في أعمال القتل في أكتوبر.
هاتفت عضو الكنيست عزمي بشارة وأخبرته بهذه المحادثة. فاجابني: واحد انها متأخرة جداً، وإثنين: أنا لا أصدقه“.
والسؤال هو: لو كان بشارة قائداً قومياً حقيقياً، لكان قاطع الإنتخابات، ولما كان بوسع أفنيري التحدث معه بهذا الأسلوب كما لو كانا من معسكر واحد لولا أن هناك سوابق تعامل مشترك. لماذا مثلاً لم يطلب زعيم من حزب العمل هذه الخدمة من صالح برانسي أو منصور كردوش ؟
بعد رحيل عزمي بشارة كتب يوسي بيلين في صحيفة معاريف، 13-4-2007 (و يوسي بيلين هو الشريك المضارب لياسر عبد ربه في وثيقة جنيف):
“إذا كان صحيحاً أن عزمي بشارة يدرس إمكانية الإستقالة من الكنيست وعدم العودة، أعتقد أن هذا الانفصال خطير على نسيج العلاقات بين اليهود والعرب في إسرائيل. وهذا أخطر من مجرد الجدل الدائر حول دولة يهودية ديمقراطية ودولة لكل مواطنيها.
إن عزمي بشارة يمثل وجهة نظر الدولة ثنائية القومية، ولكن مثل هذه الدولة يمكن أن تكون وصفة لتأبيد الصراع.
حينما يتحدث بشارة عن أمور اساسية تسأل نفسك، لماذا لا زال هنا؟ وعندها تجيب نفسك: هذا ما يميز ديمقراطيتنا التي لا بديل لها، وأنا افضل أن اسمع أعضاء الكنيست العرب حتى لو تفوهو بأمور يصعب عليّ سماعها أكثر مما اسمع أعضاء كنيست من الإتجاه المضاد أي اليهود المتطرفين.
أنا أعرف أن الأقوال البلهاء لأفيجدور ليبرمان واصدقائه لن تؤدي إلى ترانسفير طوعي، ولا اي اتفاق لتبادل أراضٍ مع سكانها مع الدولة الفلسطينية. فالعرب الذين بيننا سوف يستمرون في العيش بيننا ولكن السؤال هو: هل يسيرون في خط او طريق الإغتراب شأن الشيخ رائد صلاح، وينسلخون بالتالي عن البنى المشتركة ويعيشون في جيتو او منعزل خاص بهم. وهو ما سوف يتسبب لهم ولنا بأذى، أم أنه رغم الخلافات التي بيننا فإننا سوف نستمر في العيش معا ونتحاور ونجد الطريق للحياة المشتركة”.
ورد في جالي تساهل: (إذاعة الجيش الإسرائيلي): يوم 4-6-2007:
من التهم الموجهة ضد عزمي:
“1- تسريب معلومات لحزب الله أثناء الحرب وأنه كان يوجه عملية اطلاق الصواريخ الى حيفا كي تصيب بشكل دقيق.
3- استلام مئات آلاف الدولارات من حزب الله مقابل إعطاء معلومات”
” لقد ذكرت انه حصل على مئات آلاف الدولارات نقداً من خلال صراف في القدس الشرقية مستخدماً كلمة سر “كتاب” والتي تقول الصحافة انها تعني 50,000 دولار، وكلمة “انجليزي” تعني دولارات وكلمة “عبري” تعني شيكلات…بينما يقول هو انه كان يعير ويستعير كتباً من الصراف[17].”
أجرى مراسل يديعوت أحرونوت سعيد تلحمي مقابلة مع عزمي بشارة في عمان يوم 11-5-2007 جاء فيها:
“وأضاف: قلت في المكالمة التي سجّلوها: كيف تسقط الصواريخ على قرى عربية؟.. إننا نفهم، من وجهة نظر حزب الله، أنه يهاجم حيفا، لكن لماذا يطلقون على قرى عربية، ماذا يحدث هنا؟.. إنه حديث يومي تبادله كل عربي وعربي في تلك الأثناء. فهل هذا نقل معلومات لحزب الله؟“
العودة الغامضة[18]
“وأوضح بشارة أن رفضه تقديم تسويغات لموظفين صغار تطاولوا على قائد ومفكر هو ما يدعوه إلى إرجاء العودة مؤكداً أنها أكيدة وأن مكوثه في الخارج لن يدوم سوى بضعة أشهر. وأضاف: تفاجأت من الهجوم والنشر عنّي. من يقف وراء هذا الهجوم؟ ما نشر كان فظيعاً حقاً.. شكل الحملة ضدي هو ما خلق لدي أفكارا بعدم لعب هذه اللعبة. وفي الحقيقة، عندها بدأت أفكر بتأجيل عودتي إلى البيت[19]“.
ليس لدينا ما نضيفه هنا، فالعودة مرهونة باي سيناريو خرج بموجبه.
(3)
السيناريوهات
ليست الحياة سهلة تحت الإستعمار، فكيف إذا كان استعماراً استيطانياً وعنصرياً بالطبع، والأهم من ذلك يحظى بتقديس “أو يُرعب ” الكثيرين في العالم. هو الكيان الوحيد الذي أجمع النظامان الإشتراكي والراسمالي على تقديسه، وإذا كان المركز الرأسمالي قد قدسه لأنه وظفه، فإن النظام الإشتراكي قد قدسه من موقع الدونية أم الحلم باشتراكية في تشكيلة راسمالية استيطانية عنصرية بيضاء، فلا اكثر جهالة من هذا الحلم بل اي حلم اسود هذا؟ ولكن كيف تخيلوه وردياً.
من هنا يمكن للمرء أن يتفهم أهمية رفض عزمي بشارة ليهودية الدولة، فهذا بحد ذاته مقاومة. ولكن هذه تحديداً هي ما أغوت مثقفين عرباً، بل كثرة منهم، لإعتباره في صف أبطال حرب الشعب!. قد يكون هؤلاء معذورين، فهم في الوطن العربي قلما مارسوا المقاومة، وقلما تمتعوا بحق قول كلمة واحدة. لذا، فإن تمكن بشارة من نقد النظام الصهيوني، أبرز هذا النظام في نظر هؤلاء كما لو كان نظاماً ديمقراطياً!. ولا يخفى أن لنجومية الإعلام عامة والفضاء خاصة وقروسطية مستوى الحريات في الوطن العربي، دوراً اساسياً في إبراز أمثال بشارة، “وديمقراطية” الكيان.
هو سحر الإعلامي والثقافي، وتخلف وتهافت إعلام المقاومة وثقافتها، مما حال دون إبراز المقاومة الحقيقية ضد الكيان الصهيوني، وأقصد هنا مقاومتين:
الأولى:مواقف الجبهة العربية الشعبية في الأرض المحتلة عام 1948 التي قُمعت باكراً وتحولت لاحقا إلى حركة الأرض التي قمعت كذلك وكانتا منظمتين سياسيتين لا تعترفان بالكيان الصهيوني ومن ابرز قياداتها صالح برانسي ومنصور كردوش اللذان قضيا اكثر من عشر سنوات في المعتقل، “وما بدلوا تبديلا” [شارك الشيوعيون الصهاينة- على حد وصف بولس فرح- إلى جانب السلطة الحرب ضدهما..]. هذا ومن بعدهما حركة ابناء البلد قبل سقوطها في الإغواء[20] الإنتخابي للكنيست على يد انتهازيها بشارة نفسه. لم تحظ هذه الحركة ولا روادها باي تغطية إعلامية عربية لأنها نقيض استسلامية أنظمة هذا الإعلام.
والثانية:بطولات الكفاح المسلح سواء في 1948 او 1967، والتي اشتملت حتى على مشاركات، ولو محدودة، من عناصر يهودية.
قد يكون مناسباً الإدلاء ببعض مما أعرف في هذا السياق كشهادة شخصية، فقد عرفني بعزمي صديق من إحدى قرى حمص هو المرحوم الشاعر حنا عوض حوشان. كان ذلك عام 1987، بعد عودتي من لندن. وكان بشارة قد طلق الحزب الشيوعي وعاد لأصول فكرية هيجلية ولموقف سياسي قومي. لاحقاً عرض علي أن نصدر مجلة فصل المقال (كمجلة دورية) التي حاز على ترخيص لها، وأصدرنا العدد صفر منها أنا وهو وكتبنا فيه ولم يكتب شريكنا د. موسى البديري. كما اشتركت وبشارة وآخرين في تشكيل جبهة ضد التطبيع .
خلال تلك الفترة شارك بشارة في مؤتمر غرناطة لمثقفي التطبيع، وحين سألته لماذا حضر، قال لأعرف ماذا يقولون! (أكد لي صديق أن السيد عمر مصالحة مندوب فلسطين في اليونسكو أخبره أن عزمي إلى جانب 14 مثقفا عربيا و15 صهيونيا اجتمعوا بدعوة من اليونسكو في باريس. عندما أنهى بيرس حديثه صفق له الجميع بما فيهم عزمي. وعندما أنهى عرفات أحجم عزمي عن التصفيق له. وعندما عاتبه مصالحة وأدونيس والخولي، قال أنه يؤيد بيرس أكثر من عرفات!!
زارني بشارة ذات يوم في مكتب مجلة ” كنعان”، وتحدثنا ربما لساعتين متواصلتين، وكما يقول المثل “من الشام حتى حلب”. وفي آخر خمس دقائق:
قال لي حرفياً: “لا يهمني إذا هاجمني كل الناس، إلا إذا هاجمتني أنت”
قلت: ماذا اصاب عقلك؟ ما هو مبرر هذا الحديث؟
قال: الآن أنا مضطر للذهاب وسنتحدث لاحقاً.
ولم نلتق بعدها قط.
بعدها بايام قليلة، جائني صديق قديم، والصداقة في بلادنا تقوم على المواقف السياسية، وليد سالم قبل ان يغادر الجبهة الشعبية ويصبح من فريق كوبنهاجن، وأعطاني صورة لمقالة كتبها بشارة في الحياة اللبنانية، وهي نفسها كانت مداخلة قدمها في منتدى يرأسه الأمير حسن في عمان. ملخص المقالة دعوة للمشاركة في انتخابات الكنيست وانتخابات أوسلو في الضفة والقطاع. كتبت ردا على مقالة بشارة في مجلة كنعان ونشرته في الحياة اللندنية. وكان هذا آخر عهد علاقتنا.
إذن، انتقل بشارة إلى معسكر التطبيع عبر أخطر بواباته، عبر دخول الكنيست، وقسم يمين الولاء للدولة اليهودية، وهذا جوهر الصهيونية، اي إقامة دولة يهودية في فلسطين. ومن هنا، فإن من يؤيد قيام هذه الدولة، حتى دون عضوية الكنيست، هو صهيوني إيديولوجياً ، هكذا أصبح بشارة صهيونياً برضى خاطر.
يقول البعض، إن بشارة قد أحرج المؤسسة الصهيونية الحاكمة بطرحه مطلب دولة لكل مواطنيها، ولذا قرروا التخلص منه وذلك عبر اسلوب مرن مفاده أن يغادر هو البلاد برضاه دون أن يعلن الإتفاق.
لنقل هذا سيناريو، ربما، ولكن ما الذي يوجع النظام الصهيوني في هذا الشعار، طالما هو يستثني عودة اللاجئين؟ فالمقصود بمواطنيها هم من يعيشون في مناطق الإحتلال الأول 1948. وبراينا، فإن أخطر ما يخشاه الكيان هو حق العودة وليس “حق المساواة” وخاصة بالمفهوم الرأسمالي.[21]؟
ربما كان ما يقوله يهود صهاينة أخطر بكثير مما طرحه بشارة.
” في أوائل هذا الشهر (حزيران 2007) أعطى أبراهام بورغ الناطق السابق باسم الكنيست ورئيس سابق للوكالة اليهودية مقابلة هامة لصحيفة هآرتس الإسرائيلية شجب فيها تركيبة دولة إسرائيل حيث قال لا يمكن لهذه البنية ان تعمل لاحقا. ان تعريف إسرائيل كدولة يهودية هو مفتاح نهايتها. إن دولة يهودية حالة متفجرة. انها ديناميت” لقد دعى بورغ نفسه إلى تغيير قانون العودة”[22]
إذا كان خروج بشارة هو نهائياً، فلماذا لم يقطع مع المؤسسة الصهيونية ولماذا لم ينقد التجربة، ولا سيما عضوية الكنيست؟ فطالما ذهب في نيسان 2007 إلى السفارة الإسرائيلية في القاهرة وسلم كتاب استقالته، لماذا لم يقدم للعرب كتاب نقد التجربة والإعتذار؟ ولكن، ومن حقه التفكير بالعودة، إنما يبقى السؤال هل لم يقطع مع المؤسسة الصهيونية لأن العودة متفق عليها كما هو الخروج!
يعتقد البعض أن عضوية الكنيست ويمين الولاء مجرد تكتيك ليصل المرء إلى ذلك الموقع [انتهازيون]. ربما. ولكن ما الذي يمكن أن يحققه عضو برلمان من الأقلية في دولة أكثرية وعنصرية بالمطلق؟ فالمالوف أن دخول ممثلي الأقليات يكون بهدف تحقيق قضايا مركزية واساسية. لكن المالوف ايضاً أن برلمانات الأكثرية تحول دون ذلك. فلماذا لم ينقد بشارة التجربة ويؤكد أن لا مجال لنضال حقيقي تحت سقف الكنيست، هذا مع العلم أن مجالات النضال كافة لا تحتوي او تشترط تنازلات باستثناء النضال عبر الكنيست.
بما هو عضو في الكنيست فهو مضطر للإقرار بأن اليهود هم قومية في فلسطين. وهذه قضية إشكالية حتى لدى بعض اليهود. فذلك التجميع العسكري لقطع غيار شعبية متعددة الأصول لا تسمح بتسميتها قومية[23].
يقول البعض أن مسألة الأموال لها اساس، وأن بشارة خشي هذه القضية لأنها ذات مستوى رديء، وبالتالي فضل المغادرة على التعرض لمحاكمة مهينة. وهذه مسألة لا نستطيع الحديث ولا الفتوى فيها طويلاً، علماً بأن بشارة هو مصدر تمويل مؤسسة مواطن، إحدى اكبر وأغنى مؤسسات الأنجزة في الأراضي المحتلة، وهي ممولة من ألمانيا (ومدى الكرمل في حيفا من مؤسسة فورد)، كما أن دخله من عضوية الكنيست ومستحقاته لاحقا بالملايين كما تقول المصادر الصهيونية، فلماذا يتورط في بيع معلومات! في هذه الله أعلم! إلا أننا لا نسبعد ان الكيان سيعمد الى تلفيق وإلصاق تهم بعزمي بشارة أو بغيره من العرب.
هناك سيناريو آخر أن بشارة قد استنفذ الزعامة في منطقة محصورة، جمهور صغير في الأراضي المحتلة 1948، وأن ما حققته له الفضائيات العربية من نجومية أغوته بأن يخرج للفضاء العربي ليصبح زعيماً ومفكراً قومياً، وهذا طموح قد يكون مقبولاً ومبرراً عند الكثيرين. ولكنه جوهرياً، إخلاء موقع لصالح مستوطن. هذه من خصوصيات الساحة الفلسطينية، مسألة الديمغرافيا، ناهيك عن أن هروب “قائد” وكاتب و”مفكر” ليس كخروج شاب بسيط بحثاً عن عمل! إذا كان بوسع درويش تحويل الوطن إلى رمز، إلى مجرد جماليات لغوية، فليس بوسع عزمي تحويل المثقف والقائد إلى قائد رمزي ومجازي.
لعل ما يعزز هذا السيناريو ان بشارة مقبول لدى الأنظمة العربية، وبالتالي فإن فرص النجومية مؤكدة. ولكن ربما لم يتنبه الرجل إلى حقيقة أنه لن يحظى بكل ذلك اللمعان بعد أن يتقادم عليه الزمن في الوطن المنسي. كانت أهميته أنه يتحدث للعرب من الأرض المحتلة، وليس عن الأرض المحتلة، من خارجها! ولعل ما يميز خروج بشاره عن درويش ان خروج الاخير تزامن مع مرحلة تصاعد حركة المقاومة الفلسطينية بكل ما وفرته من مناخ للمعان ونجومية “شاعر الارض المحتلة”.
وعليه، اصبح بشارة ضيفاً عند الأنظمة ، اي تحت عبائتها، ولن يُسمح له باكثر من ذلك. ويا ويل المثقف الذي سيكون رهين المحبسين: ذاتية مفرطة ولكن تحت نظام كمبرادوري عربي.
قد يشتاق بشارة حتى للأضواء التي اعتاد عليها، فالأنظمة التي تكون ثلاثة أرباع نشراتها الإخبارية عن الرئيس أو الملك أو الأمير (قام وذهب وأكل وشرب، وصاهر وتبرع ,انعم واغدق وطار وحط وصار …” وبقية النشرة عن الولايات المتحدة ومن ثم خبر صغير عن البلد، هذه لن تعطي بشارة مساحة كافية كي يبرز فيها. اما زعمه عن ديمقراطية الأنظمة العربية فهي إما بأمر منها أو مجرد فشة خلق!
يتساءل البعض لماذا لم يذهب إلى سوريا أو إلى حزب الله، إذا كان جذرياً إلى هذا الحد؟ وفي اعتقادنا أن هؤلاء على درجة عالية من التفاؤل والوهم. ولكن كان بوسع بشارة ولا زال، أن يجد له كرسيا أكاديمياً في جامعة عربية أو أجنبية، وأن يكتفي بذلك دون أن ينتقل من دنس الصهينة إلى دنس الأنظمة العربية، وكلا الدنسين في النهاية مردهما الولايات المتحدة شيطان العصر. فهل يُعقل أن مفكراً لبرالياً ديمقراطياً وقومياً أن يلقي بنفسه في أحضان دويلة قطر التي تشغل إحدى القواعد الأميركية فيها ثلث أرضها، وهي القاعدة التي كانت لها اليد الطولى في تدمير العراق، وأن يصغر إلى درجة الحصول على جواز سفر منحته إياه دويلة تستقبل الصهاينة بحرارة أشد مما تستقبل العرب؟ وكم هو شعور بالمجد حين يحمل جواز سفر قطر؟
هل سيعود بشارة مع العودة إلى المبادرة الرسمية العربية؟ هل سيكون أحد خيول تمرير هذه المبادرة بما هو نجم من جهة ومن فلسطينيي 1948 من جهة ثانية؟ أليس من الواضح أن هجمة الاستسلام تستفحل هذه الأيام، وأن وزراء الخارجية العرب يزورون الكيان راجين منه استقبال المبادرة العربية كجزء من مشروع الشرق الأوسط الجديد؟ قد لا يكون بشارة قد خرج للمشاركة في تشجيع مشروع الإستسلام العربي، ولكن لا شك أنه في حال حصول تسوية كالتي يدور الحديث عنها، فلا شك أنه سيكون أحد رموزها. فاية تسوية في هذه الحقبة وتوازنات هذه الحقبة تعني بشكل اساسي شطب حق العودة والإعتراف المجاني بالكيان الصهيوني، وهذه أمور تنسجم مع قناعات بشارة، فلماذا لا يعود بعفو صهيوني؟
على المرء التذكر أن القضية الفلسطينية هي قضية عربية، تصل الحضيض حينما تنحصر في المستوى الرسمي العربي، وها هي فيه.
خلاصة القول، فإن المواطن أو المثقف العربي الذي لا يقف عند دخول بشارة الكنيست وقسم يمين الولاء للدولة اليهودية، لا يستطيع إدراك معنى هروب بشارة من ساحة الوطن، وبالتالي، لا يستطيع هذا المواطن أو المثقف فهم طبيعة الصراع، وكلما كثر الذين لا يفهمون مخاطر التطبيع، كلما كانت الأمة في خطر.
:::::
* نشرت هذه الدراسة في ثلاثة اجزاء في نشرة “كنعان” الالكترونية بتاريخ 4 و 5 و6 آب (اغسطس) عام 2007 على الرواط التالية:
الجزء الاول:
الجزء الثاني:
الجزء الثالث:
[1] نظر عادل سمارة، حدود البعد الثقافي: نقد أطروحات إدوارد سعيد، منشورات مركز المشرق/العامل للدراسات الثقافية والتنموية، رام الله 2000، ص ص6-7.
[3] أنظر مقالة هومي بابا، الهوية المغتالة، في مجلة العصور الجديدة، عدد ايلول 1999، ص ص 182-206.
[4] بالمقابل، فإن النزعة الإنسانوية لدى ألبير كامو وعضويته في الحزب الشيوعي ونضاله ضد الفقر والظلم وظروف حياته الفقيرة قبل أن يصبح كاتباً مرموقاً، وكتاباته المعارضة للسلطات الإستعمارية، كل هذه لم ترفعه للوقوف ضد الظاهرة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر فلم يتفهم مشروعية استقلال الجزائر وانفصالها عن فرنسا، فيما هو ينتمي إليها ويعتبرها وطنه الأكثر ألفة وحميمية. بعبارة أخرى، فإن إنسانوية كامو تعم العالم وتتوقف عند العرب!
Beyond del-Linking: Development by Popular Protection vs Development by State, Published byAl-Mashriq Al-A’amil for Cultural and Development Studies (Ramallah) and Palestine research and Publishing Foundation (USA),2005, p.40.
[6] نفس المصدر، الفصل 4
[7] نفس المصدر، الفصلل الأول.
[8] أنظر عاددل سمارة، ثنائية القومية، والحكم الذاتي الثقافي ودولة لكل مواطنيها -مشاريع صهيونية، كنعان العدد 85 نيسان 1997، ص ص 33-51.
<a name="_ftn9" href="http://kanaanonline.org/ e
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق