قصة الإذاعة الفلسطينية - إذاعة الثورة الفلسطينية - (1968-1982)
د. محمد ناصر الخوالده
من لقاء مطول وهام مع الأخ المرحوم فؤاد ياسين ، اول مدير مسئول للإذاعة الفلسطينية .( تحرير).
الانطلاق:
كان كل شيء معدّاً في "معسكر الإذاعة" بأسلوب ما تعد به قافلة فدائية تنطلق في مهمة ثورية حسبت فيها كل الأرقام، ورسمت لها كل الخطوط، واختير لتنفيذها القادرون على أدائها، ووضع أمامها كل احتمال طارئ وكيف ينبغي له أن يعالج. والمكان: بهو الإذاعة في الطابق الثالث من المبنى رقم 4 في شارع الشريفين في قلب القاهرة، والزمان: الساعة السابعة والدقيقة الخامسة والعشرون من مساء يوم الحادي عشر من أيار / مايو 1968. والشخوص: أفراد الدورية الإذاعية في حالة انتشار، والأخ أبو جهاد وقد اتخذ له مقعداً في جوف البهو، وعلى وجهه ترتسم علائم انفعال وقلق يحاول إخفاءهما تحت ابتسامة وادعة على شفتين مزمومتين لا تنبسان وهو يقلّب عينيه في زوايا البهو وسقفه وفي وجوه الجالسين أو الواقفين أو من يعبر أمامه مسرعاً أو مبطئاً.. والأخ أبو الهول ولم يكن يقوى على الجلوس، فهو في حركة دؤوب إلى هذا لركن أو تلك الزاوية يحاول أن يتظاهر بهدوء مصنوع يغطيه بحكايات متداخلة لا تكتمل إحداها حتى تبدأ الأخرى، وينظر إلى ساعة في الجدار أكثر من عشرين نظرة في الدقيقة الواحدة.
والأخ أبو هشام وفيه كل صبوة فتى الثورة الذي ينتشي بالحركة والإيقاع والسكنة والنغم، وقد جلس على كرسي بدا وكأنه برغم الجلوس وفي فمه كلام كثير، وربما قصيدة في دور المشروع قيد الإعداد، وعيناه تبرقان من تحت نظارة الإبصار التي كان يتكئ عليها من حين إلى حين فيحركها أو يداعبها أو يخلعها ويعيدها إلى موضعها، وكأنه يفرغ في كل ذلك شحنة عصبية لا يستطيع أن يخفيها. وشباب آخرون كثار، حالهم جميعاً حال من ينتظر في قاعة أمام غرفة التوليد. وأنا بينهم أحاول أن أكتم مزيجاً مختلطاً من المشاعر والأفكار التي جُبلت في عجنة غريبة على امتداد أربعة وعشرين يوماً، هي المدة التي استغرقها العمل وصولاً إلى تلك اللحظة التي نحن فيها – مسافة زمن امتدت بين هذه الساعة وبين الساعة العاشرة من صباح الثامن عشر من نيسان إبريل للعام 1968، قطعنا فيها ألف ساعة ونيفاً ونحن في معسكر عمل دؤوب لا ينقطع حتى خلال سويعات المنام، حيث كان للأحلام دورها في هذا العمل.
والتفت حولي، والساعة تخفق بعقرب الثواني الذي كان يخطو على صفحتها بوقع مسموع، محايداً ببرود لا يعنيه من أمر الذين يرمقونه شيئاً.. والساعة الآن، السابعة والدقيقة التاسعة والعشرون، الضوء الأحمر فوق باب الأستوديو، إنذار صريح بالصمت، الصمت الذي يسبق انفتاح السد، والمهندس ومساعدوه في الهندسة الضوئية في غرفة المراقة يتابعون الأضواء والأزرار وعقرب الثواني، وقسمات المذيع، ووجوه الجالسين والواقفين، وقلوبهم جميعاً معلقة بخيوط خفية مشدودة إلى الجدار. وأنا – رغم كل ما في أعماقي من اطمئنان، أزداد التصاقاً بعقرب الثواني وعقرب الدقائق يخالطني إحساس مركّب من اللذة والألم، فلم أكن من قبل أحس لهذه العقارب لدغاً، ولكنه اللدغ الذي يؤلمك ولا تستطيع منه فكاكاً. وصاح مهندس الصوت: استعداد، رغم أن الكل كانوا في حالة استعداد لم يدعوا إليها. وعلى السابعة والنصف من ذلك المساء، ضغط المهندس على زر في حجم أصغر رصاصة، وانفتح السد، وانطلق صوت العاصفة، وتشابك الحاضرون بالمصافحات والعناق والقبلات، ودموع تلح في المآقي وشفاه تتمتم بكلمات تفهم من غير أن تسمع وجمل تفيد قبل أن تُكتمل، ثم ران هدوء مباغت كأنه نذير بإصاغة اسمع، وجلس من وجد مجلساً، ووقف من لم يجد والكل تحوّل إلى آذان صاغية، هكذا كانت صورة اللحظة.
ومثل تلك الصورة، ببعض تفاصيلها مهما اختلفت التفاصيل أو تنوعت كانت ترتسم في أكثر من مكان على خريطة الوطن العربي وفي تجمعات الفلسطينيين وفي قواعد الفدائيين، وفوق أرض فلسطين ما احتل منها في العام 1967 ، أو ما احتلّ العام 1948، كان هناك من نما إلى علمهم بالموجة المتوسطة 344 متراً أو القصيرة 75ر30 من المتر أو من التقط إحداها بالصدفة عبر جهاز الترانزستر الذي أصبح في يد الفلسطيني مثلما كان القلم من قبل في جيبه.
صورة، لعلها التعبير عن الإحساس بالإنعتاق بعد الإنطلاق الذي ظلّ الفلسطيني محروماً منه لسنوات وسنوات، بل لقد كان محرّماً عليه. صورة، لعلها تجسد مطمحاً إنسانياً لدى الشعب الفلسطيني الذي حُرم من الوطن ومن العلم ومن الهوية ومن الرأي، وحتى من الصوت. وصور، وصور أخرى كثيرة ومنوعة. ولكنها جميعاً كانت بالنسبة لنا نحن في "معسكر الإذاعة" كما كان يحلو للبعض أن يسمي موقعنا، أو "قاعدة الإذاعة" كما يحلو للبعض الآخر أن يصفها، كانت أكثر من مجرد زخارف أو لوحات تزيين مترف. لقد كانت الهاماً لنا في كل ما نكتب أو نقول، وكانت حافزاً لكل منا على مزيد من الصدق في الانعتاق ومزيد من المسؤولية في انطلاقنا على امتداد مسافة الفكرة والكلمة والحرف.
على كل حال، كان إحساسنا "قاعدة الإذاعة" ومنذ تلك اللحظات بأن علينا واجباً يتواكب ويتوازى مع واجب ذلك الفدائي الذي لا نعرف اسمه ولم نبصر وجهه ولكننا نعرف أنه يحمل روحه على كفه تماماً كما يحمل جعبته في حزامه وسلاحه في يده وأثقال شعبه على كاهله وينطلق عبر الحواجز والسدود، ومن خلال الموانع الطبيعية والمصنوعة لكي يصل إلى هدفه وينفذ مهمته.
والكل تحول إلى آذان صاغية.. هكذا كانت صورة اللحظة.. ومثل تلك الصورة – ببعض تفاصيلها مهما اختلفت التفاصيل أو تنوعت كانت ترتسم في أكثر من مكان على خريطة الوطن العربي وفي تجمعات الفلسطينيين وفي قواعد الفدائيين .. وفوق أرض فلسطين ما احتل منها في العام 1967، أو ما أحتل العام 1944، كان هناك من نما إلى علمهم بالموجه المتوسطة 344 مترا أو القصيرة 30.75 من المتر أو من التقط أحداها بالصدفة عبر جهاز الترانزستر الذي أصبح في يد الفلسطيني مثلما كان القلم من قبل في جيبه. صورة .. لعلها التعبير عن الأحساس بالانعتاق بعد الإنطلاق الذى ظل الفلسطيني محروماً منه لسنوات وسنوات، بل لقد كان محرما عليه!
صورة.. لعلها تجسد مطمعاً إنسانياً لدى الشعب الفلسطيني الذي حرم من الوطن ومن العلم ومن الهوية ومن الرأي.. وحتى من الصوت.. وصور.. وصور أخرى كثيرة ومنوعة.. ولكنها جميعاً كانت بالنسبة للعاملين في " معسكر الإذاعة" كما كان يحلو للبعض أن يسمي هذا الموقع، أو " قاعدة الإذاعة" كما يحلو للبعض الآخر أن يصنفها، كانت أكثر من مجرد زخارف أو لوحات تزيين مترف.. لقد كانت إلهام لنا في كل ما نكتب أو نقول، وكانت حافزا لكل منا على مزيد من الصدق في الانعتاق ومزيد من المسؤولية في إنطلاقنا على إمتداد مسافة الفكرة والكلمة والحرف.
على كل حال.. كان الإحساس "قاعدة الإذاعة" ومنذ تلك اللحظات بأن الواجب يتواكب ويتوازى مع واجب ذلك الفدائي الذى لا نعرف إسمه ولم نبصر وجهه ولكننا نعرف أنه يحمل روحه على كفه تماماً كما يحمل جعبته في حزامه وسلاحه في يده وأثقال شعبه على كاهله وينطلق عبر الحواجز والسدود .. ومن خلال الموانع الطبيعية والمصنوعة لكي يصل إلى هدفه وينفذ مهمته ..
كنا نشعر أننا نتحدث إلى كل من يستمع إلى صوتنا، حيث يبث مباشراً وليس عبر تلك الآلة السحرية التي تسميها التكنولوجيا " الميكروفون" .. ويسميها فقهاء المجمع اللغوى " المسماع"! وهكذا.. كان شعورنا.. وهو ما حملنا أمانة ومسؤولية بأهظة الثقل، ولكننا لم نتململ لحظة تحت هذا العبء!
المواصفات:
لقد تم جعل معركة الكرامة ، تاريخا لهذا العمل والإعداد له، لم يكن ذلك ثرثرة تزيينية ولا فضلة من القول زائدة، ولا إقحام لعبارة يمكن إسقاطها، بل لقد ذكرتُ معركة الكرامة لأنها جاءت لتكون "الفعل العربي" الأول في المواجهة بعد هزيمة حزيران يونيو للعام 1967.. الهزيمة التي أريد لها – بل لقد أوشكت – أن تسقط كل مضامين " الفعل العربي" و "القول العربي" كذلك! جاءت "الكرامة" لتضع جواباً عن سؤال : هل ما يزال الإنسان العربي – بعد كل ما وقع – قادراً على الصدق في "الفعل" .. والقتال؟ وكان الجواب – كما صاغه ثوار الكرامة – بالإيجاب، في ملحمة ما نظن أن هناك من يفكر روعتها حتى في صفوف الأعداء. ورغم الفارق الهائل في ميزان القوى المتصارعة على أرض الكرامة في الأغوار، ورغم المخالفة السافرة لقوانين حرب العصابات وقواميسها، ورغم المناقشات المستفيضة حول التوفيق بين الرغبة والقدرة، ورغم كل شيء.. فلقد كان قرار المواجهة والصدام.. وكان ذلك إثباتاً عملياً على أرض الفعل بأن الإنسان العربي يمتلك الرغبة والقدرة معاً إذا ما توفرت لديه إمكانات الإرادة والقيادة، وإذا ما تهيأ له الميدان الطليق الذي لا يخضع لأوامر بقرارات مرتبطة بالانسحاب الكيفي تارة، وبوقف القتال الفورى تارة أخرى، وبغير هذا أو ذاك من الاعتبارات السياسية التي كانت دائماً قيداً ثقيلاً فوق يد المقاتل العربي يرهقه أو يشل قدرته فيمنعه من الضغط على الزناد!
ولا أطيل في وصف الحال الذي عانت منه جماهير الأمة العربية في تلك الحقبة من تاريخها، فذلك حديث مكانه غير هنا، ولكنما أردتُ أن أنبه إلى حقيقة.. أريد مجرد التفكير في إطلاق إرسال إذاعي على الهواء في تلك الفترة، هو بحد ذاته مغامرة ضخمة يمكن أن تتحول إلى مغامرة خاسرة، إذا لم يحسب لكل شيء حسابه، كيف؟؟
لقد كان من أخطر الإرتدادات التي عكستها هزيمة حزيران يونيو للعام 1967 "أزمة الثقة " في وسائل الإعلام العربي عامة، وفي الإذاعات المسموعة بوجه خاص، بعد أن فقدت هذه الوسائل معظم مصداقيتها لدى جماهير المستمعين، هذا إذا لم نقل كل مصداقيتها، بل إن أزمة الثقة التي كانت تُسمع يومياً بسيل جارف من بحور الكلام فوق أمواج الأثير، كانت أشد وأقسى منها في أية جهة أو إتجاه آخر، بما في ذلك الجهة العسكرية وجيوشها. وأنا من الذين عاشوا تلك التجربة.. وعايشوا تفاصيلها.. وعانوا من آلامها بعد عمل إذاعي أمتد بضع سنوات في إذاعة صوت العرب، وما حفلت به تلك السنون من أحداث جسام، جاءت هزيمة حزيران لتفرغ كل شيء من محتواه، ولتفقد الحرف العربي – مكتوباً أو منظوماً- كل مقدرته على التأثير فضلاً عن الإقناع.
هكذا كان السيناريو الذي تقرر فيه إطلاق إرسال إذاعة صوت العاصفة، وكان مطلوباً منها أن تكون الرد على تحدي "القول العربي" مثلما كانت معركة الكرامة الرد على تحدى " الفعل العربي". وما كان أضخم التحدى؟! وما كان أعظم الرد؟! فما هو السبيل إلى المواجهة؟ ومرّة أخرى، عودة إلى الكرامة!
فمثلما كانت الكرامة مخالفة سافرة لقوانين حرب العصابات ونواميسها، كذلك العاصفة لا بد أن تكون مخالفة سافرة لقوالب الفن الإذاعي وتقاليده المعلبة. ومثلما كانت الكرامة تجاوزاً للفارق الهائل في ميزان القوى المتصارعة على أرض الكرامة في الأغوار، لا بد أن تكون العاصفة قادرة على تجاوز هذا الفارق بينها وبين الحشد الحاشد من الأثيرات التي تزحم الغلاف الخارجي لهذا الكوكب الأرضي ! كيف، إذن؟
قلنا – أولاً- علينا بالصدق، حتى يُعاد إلى الكلمة العربية مصداقيتها، بعد كل ما تعرضت له من أزمات وهزّات. حتى أن الكثيرين كانوا يفهمون من الكلمة المكتوبة أو المنظومة عربياً عكس معناها عملياً.
قلنا: الخبر المؤكد فقط يذاع ، وأدنى شك في الخبر أو المعلومة كفيل بوقف إذاعته مهما كانت أهميته، ومهما بلغت جرعة الإثارة فيه.
وقلنا أيضاً: الصدق في الوصف.. وفي الوعد .. وفي المجاهرة بالحق والحقيقة معاً، فلا إسراف في بذل الوعود أو تزيين الأمنيات، ولا مبالغة في التهويل أو في التهوين، بل صراحة في وصف الساعة وجرأة في ذكر التضحيات..
وقلنا أيضاً: الصدق في الأداء .. فلا حماسة حيث لا يجب أن تكون الحماسة، ولا فرحة حيث ينبغي أن تكون المرارة، ولا مكان للإنفعال الإ بمقدار ما يكون التفاعل..
وقلنا ثانياً: علينا بالجدّة، نلتزم بأن نقدم الجديد المفيد الذي لا تهدده أخطار ملالة التكرار، ولا يبليه عبث الاستهلاك الخارجي أو الداخلي. الجدة في مواضيع الأخبار والمعلومات ومعها الجدّة في القوالب والصياغات على نحو لا يترك للمستمع وهلة للتثاوب فيطيح بمؤشر جهاز الالتقاط إلى يمين أو شمال أو إلى فوق أو تحت. والجديد في الكلمة المبثوثة لا يتوقف عند حدود تغييرها أو تلوينها بل إنه في جدة استخدامها وجدّة توظيفها وجدّة اختيار مضمونها على قدر حجم الإسم أو الفعل الذي تعبّر عنه. وإن "الجدّة" هي أقوى الركائز التي نعتمدها في إقامة البنيان الإذاعي فضلاً عن أنها أقوى نقاط الجذب والاستقطاب التي تتكئ عليها في أبسط أجنحة موجتنا الإذاعية.
وقلنا ثالثاً: علينا بالبساطة، فلا زخرفة ولا تعقيد، ولا أدنى قدر من التزيينات التركيبية التي كثيراً ما تغرق المستمع في الهوامش أو الحواشي بعيداً عن النصوص أو المضمون، بل إنها في حالات كثيرة تشد ذهن المستمع وتسحبه إلى الشرود في المفردات ومبانيها على حساب الأفكار ومعانيها. والبساطة هي الوضوح والابتعاد عن التغريب، والسهولة والإبتعاد عن التعقيد، الكلمة الواضحة المفهومة، الجملة البسيطة غير المركبة، الفكرة السهلة السائغة والتعبير السليم الخالي من كل التواءات الصنعة، أو تعاريج التصنع. على أن البساطة لا تتناقض مع الأناقة في تناول المعاني وصياغتها بنفس القدر من الإهتمام الحرص كما يصوغ الصائغ قطعة من جوهر ثمين بين يديه، بحيث يجعل كل شيء في موضعه وعلى قدّه.
وحتى في أناشيدنا وأهازيجنا وموسيقانا، لا بد أن تكون هذه البساطة مستوحاة من العمق الشعبي بلا أدنى قدر من الزخارف الزائدة أو المقدمات المطولة أو التراكيب الأوركسترا كلية المعقدة، وعليها أن تكون بسيطة في اللفظ، وفي اللحن وفي النغم وفي الأداء. وهذا كله يفترض في البساطة أن تُبعدنا عن كل ما يُستخدم في التقاليد الإذاعية من مؤثرات صوتية أو موسيقيات معاونة أو غير ذلك من المعهود في لعبة الإذاعة حتى لا نزج بأنفسنا في زحمة المناقشة مع الإذاعات الأخرى المألوفة.
وقلنا رابعاً: علينا بالتركيز، وهو لا يعني التلخيص الذي لا يكمل المعنى المفيد، كما أنه يتناقض مع التطويل الذي يجلب الملالة والسأم. التركيز يعني – في أوله وآخره – أن يكون "المعنى على قدر المبنى"، وتلك قاعدة في الإعلام، كان أول من تنبه لها ونبّه إليها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب حينما كان يوجّه ولاته إلى الأمصار فيوصيهم قائلاً: "إياكم وتطويل الكلام، فإن طويل الكلام يُنسي آخره أوله". وكان علينا أن نلتزم بهذه القاعدة الإعلامية اشد الإلتزام لكل أسبابها النفسية والفكرية والمنطقية من جهة، ومن جهة أخرى بسبب ضيق مساحة الزمن الذي نملكه ويحكمنا.
وقلنا خامساً: علينا بخريطة إذاعية متحركة، موادها أبعد ما تكون عن المواد المعلبة التي تفقد كثيراً من حيويتها ونفعها، وفقراتها دائماً متغيرة متجددة ومفاجئة فيها رونق اللا توقع، فيما عدا ركائز أو عضادات ثابتة هي عماد البناء الإذاعي. وما عداها فإنه ينبغي أن تكون طازجة دافئة نضرة تجيء في أرض الحدث بكل ما فيها من حيوية ومن منفعة.
وفي الحق، لم يكن شيئاً مثبتاً على الخريطة الإذاعية بعد الإفتتاح سوى الخدمات الإخبارية والتعليقات التي تلحق بها في بعض الأحيان. وكثيراً ما كان الخبر يُنقل عبر المسماع على الفور بمجرد تلقيه من غير انتظار لموعد الخدمة الإخبارية القادمة، حتى لو كان موعدها بعد بضع دقائق. بل إننا في حالات الطوارئ – وما كان أكثرها - كنّا نعيد بناءها الإذاعي لذلك اليوم من جديد بعد أن كنا صرفنا من الزمن ساعات عدة لإعداد برنامجنا لذلك اليوم الذي فاجأنا فيه حدث ما، ثم وجدنا أننا لا بد أن نلحقه.
وقلنا سادساً: علينا أن نحدّث من نحدّثهم عن أنفسهم، وأن نبحث دائماً عن الأسئلة التي تخطر في أذهان هؤلاء الذين يستمعون إلينا، ونجد لها الأجوبة الصحيحة الصادقة البسيطة الواضحة.
إن المتحدث يفقد خط ارتباطه مع من يحدثه في اللحظة التي يبدأ فيها الحديث عن نفسه، أو عن شيء بعيد عن اهتمامات من يتحدث إليه. ولقد اعتمدنا في ذلك على ما يردده خبراء علم النفس من أنك إذا أردت لمن تحادثهم أن يناموا فحدثهم عن نفسك، وإذا أردت غير ذلك فحدثهم عن أنفسهم.
وقلنا سابعاً: علينا بنكران الذات، فليس هناك مجال لإشهار الأسماء، مهما علا شأنها، عبر "العاصفة" إلا إسم الشهيد، وما عدا ذلك لا ، لا مذيع، لا معلق، لا ملحن، لا فنان...الخ. والتزمنا جميعاً بما قلنا، قناعة ويقيناً ، ذلك أن إذاعة الفدائيين لا بد أن تكون فدائية الإذاعيين.
تلك هي أهم الركائز التي قام عليها بنيان إذاعة صوت العاصفة، والتي استطاع بها هذا البنيان أن يجد ذاته في الزمان والمكان، صوتاً مميز النبرة، مميز الفكرة، مميز الأداء وأيضا مميز الإلتقاط.
ولقد ظلّت هذه الركائز زمناً ما هي عماد الجسور بين العاصفة وجماهير المستمعين الذين أحاطوا هذه الإذاعة بكثير من فهمهم وتفاهمهم وتجاوبهم واستجابتهم.
*****
كان هذا نص اللقاء المطول مع الأخ فؤاد ياسين من أجل توثيق قصة الإذاعة الفلسطينية - إذاعة الثورة الفلسطينية - (1968-1982) وهو موضوع عنوان اطروحتي لتحضير الدكتوراة . وقد تجلى عنه توثيق لقصة الإذاعة بعد الطلب للإجابة على الأسئلة المقترحة التي قدمت له من قبلي . .
من لقاء مطول وهام مع الأخ المرحوم فؤاد ياسين ، اول مدير مسئول للإذاعة الفلسطينية .( تحرير).
الانطلاق:
كان كل شيء معدّاً في "معسكر الإذاعة" بأسلوب ما تعد به قافلة فدائية تنطلق في مهمة ثورية حسبت فيها كل الأرقام، ورسمت لها كل الخطوط، واختير لتنفيذها القادرون على أدائها، ووضع أمامها كل احتمال طارئ وكيف ينبغي له أن يعالج. والمكان: بهو الإذاعة في الطابق الثالث من المبنى رقم 4 في شارع الشريفين في قلب القاهرة، والزمان: الساعة السابعة والدقيقة الخامسة والعشرون من مساء يوم الحادي عشر من أيار / مايو 1968. والشخوص: أفراد الدورية الإذاعية في حالة انتشار، والأخ أبو جهاد وقد اتخذ له مقعداً في جوف البهو، وعلى وجهه ترتسم علائم انفعال وقلق يحاول إخفاءهما تحت ابتسامة وادعة على شفتين مزمومتين لا تنبسان وهو يقلّب عينيه في زوايا البهو وسقفه وفي وجوه الجالسين أو الواقفين أو من يعبر أمامه مسرعاً أو مبطئاً.. والأخ أبو الهول ولم يكن يقوى على الجلوس، فهو في حركة دؤوب إلى هذا لركن أو تلك الزاوية يحاول أن يتظاهر بهدوء مصنوع يغطيه بحكايات متداخلة لا تكتمل إحداها حتى تبدأ الأخرى، وينظر إلى ساعة في الجدار أكثر من عشرين نظرة في الدقيقة الواحدة.
والأخ أبو هشام وفيه كل صبوة فتى الثورة الذي ينتشي بالحركة والإيقاع والسكنة والنغم، وقد جلس على كرسي بدا وكأنه برغم الجلوس وفي فمه كلام كثير، وربما قصيدة في دور المشروع قيد الإعداد، وعيناه تبرقان من تحت نظارة الإبصار التي كان يتكئ عليها من حين إلى حين فيحركها أو يداعبها أو يخلعها ويعيدها إلى موضعها، وكأنه يفرغ في كل ذلك شحنة عصبية لا يستطيع أن يخفيها. وشباب آخرون كثار، حالهم جميعاً حال من ينتظر في قاعة أمام غرفة التوليد. وأنا بينهم أحاول أن أكتم مزيجاً مختلطاً من المشاعر والأفكار التي جُبلت في عجنة غريبة على امتداد أربعة وعشرين يوماً، هي المدة التي استغرقها العمل وصولاً إلى تلك اللحظة التي نحن فيها – مسافة زمن امتدت بين هذه الساعة وبين الساعة العاشرة من صباح الثامن عشر من نيسان إبريل للعام 1968، قطعنا فيها ألف ساعة ونيفاً ونحن في معسكر عمل دؤوب لا ينقطع حتى خلال سويعات المنام، حيث كان للأحلام دورها في هذا العمل.
والتفت حولي، والساعة تخفق بعقرب الثواني الذي كان يخطو على صفحتها بوقع مسموع، محايداً ببرود لا يعنيه من أمر الذين يرمقونه شيئاً.. والساعة الآن، السابعة والدقيقة التاسعة والعشرون، الضوء الأحمر فوق باب الأستوديو، إنذار صريح بالصمت، الصمت الذي يسبق انفتاح السد، والمهندس ومساعدوه في الهندسة الضوئية في غرفة المراقة يتابعون الأضواء والأزرار وعقرب الثواني، وقسمات المذيع، ووجوه الجالسين والواقفين، وقلوبهم جميعاً معلقة بخيوط خفية مشدودة إلى الجدار. وأنا – رغم كل ما في أعماقي من اطمئنان، أزداد التصاقاً بعقرب الثواني وعقرب الدقائق يخالطني إحساس مركّب من اللذة والألم، فلم أكن من قبل أحس لهذه العقارب لدغاً، ولكنه اللدغ الذي يؤلمك ولا تستطيع منه فكاكاً. وصاح مهندس الصوت: استعداد، رغم أن الكل كانوا في حالة استعداد لم يدعوا إليها. وعلى السابعة والنصف من ذلك المساء، ضغط المهندس على زر في حجم أصغر رصاصة، وانفتح السد، وانطلق صوت العاصفة، وتشابك الحاضرون بالمصافحات والعناق والقبلات، ودموع تلح في المآقي وشفاه تتمتم بكلمات تفهم من غير أن تسمع وجمل تفيد قبل أن تُكتمل، ثم ران هدوء مباغت كأنه نذير بإصاغة اسمع، وجلس من وجد مجلساً، ووقف من لم يجد والكل تحوّل إلى آذان صاغية، هكذا كانت صورة اللحظة.
ومثل تلك الصورة، ببعض تفاصيلها مهما اختلفت التفاصيل أو تنوعت كانت ترتسم في أكثر من مكان على خريطة الوطن العربي وفي تجمعات الفلسطينيين وفي قواعد الفدائيين، وفوق أرض فلسطين ما احتل منها في العام 1967 ، أو ما احتلّ العام 1948، كان هناك من نما إلى علمهم بالموجة المتوسطة 344 متراً أو القصيرة 75ر30 من المتر أو من التقط إحداها بالصدفة عبر جهاز الترانزستر الذي أصبح في يد الفلسطيني مثلما كان القلم من قبل في جيبه.
صورة، لعلها التعبير عن الإحساس بالإنعتاق بعد الإنطلاق الذي ظلّ الفلسطيني محروماً منه لسنوات وسنوات، بل لقد كان محرّماً عليه. صورة، لعلها تجسد مطمحاً إنسانياً لدى الشعب الفلسطيني الذي حُرم من الوطن ومن العلم ومن الهوية ومن الرأي، وحتى من الصوت. وصور، وصور أخرى كثيرة ومنوعة. ولكنها جميعاً كانت بالنسبة لنا نحن في "معسكر الإذاعة" كما كان يحلو للبعض أن يسمي موقعنا، أو "قاعدة الإذاعة" كما يحلو للبعض الآخر أن يصفها، كانت أكثر من مجرد زخارف أو لوحات تزيين مترف. لقد كانت الهاماً لنا في كل ما نكتب أو نقول، وكانت حافزاً لكل منا على مزيد من الصدق في الانعتاق ومزيد من المسؤولية في انطلاقنا على امتداد مسافة الفكرة والكلمة والحرف.
على كل حال، كان إحساسنا "قاعدة الإذاعة" ومنذ تلك اللحظات بأن علينا واجباً يتواكب ويتوازى مع واجب ذلك الفدائي الذي لا نعرف اسمه ولم نبصر وجهه ولكننا نعرف أنه يحمل روحه على كفه تماماً كما يحمل جعبته في حزامه وسلاحه في يده وأثقال شعبه على كاهله وينطلق عبر الحواجز والسدود، ومن خلال الموانع الطبيعية والمصنوعة لكي يصل إلى هدفه وينفذ مهمته.
والكل تحول إلى آذان صاغية.. هكذا كانت صورة اللحظة.. ومثل تلك الصورة – ببعض تفاصيلها مهما اختلفت التفاصيل أو تنوعت كانت ترتسم في أكثر من مكان على خريطة الوطن العربي وفي تجمعات الفلسطينيين وفي قواعد الفدائيين .. وفوق أرض فلسطين ما احتل منها في العام 1967، أو ما أحتل العام 1944، كان هناك من نما إلى علمهم بالموجه المتوسطة 344 مترا أو القصيرة 30.75 من المتر أو من التقط أحداها بالصدفة عبر جهاز الترانزستر الذي أصبح في يد الفلسطيني مثلما كان القلم من قبل في جيبه. صورة .. لعلها التعبير عن الأحساس بالانعتاق بعد الإنطلاق الذى ظل الفلسطيني محروماً منه لسنوات وسنوات، بل لقد كان محرما عليه!
صورة.. لعلها تجسد مطمعاً إنسانياً لدى الشعب الفلسطيني الذي حرم من الوطن ومن العلم ومن الهوية ومن الرأي.. وحتى من الصوت.. وصور.. وصور أخرى كثيرة ومنوعة.. ولكنها جميعاً كانت بالنسبة للعاملين في " معسكر الإذاعة" كما كان يحلو للبعض أن يسمي هذا الموقع، أو " قاعدة الإذاعة" كما يحلو للبعض الآخر أن يصنفها، كانت أكثر من مجرد زخارف أو لوحات تزيين مترف.. لقد كانت إلهام لنا في كل ما نكتب أو نقول، وكانت حافزا لكل منا على مزيد من الصدق في الانعتاق ومزيد من المسؤولية في إنطلاقنا على إمتداد مسافة الفكرة والكلمة والحرف.
على كل حال.. كان الإحساس "قاعدة الإذاعة" ومنذ تلك اللحظات بأن الواجب يتواكب ويتوازى مع واجب ذلك الفدائي الذى لا نعرف إسمه ولم نبصر وجهه ولكننا نعرف أنه يحمل روحه على كفه تماماً كما يحمل جعبته في حزامه وسلاحه في يده وأثقال شعبه على كاهله وينطلق عبر الحواجز والسدود .. ومن خلال الموانع الطبيعية والمصنوعة لكي يصل إلى هدفه وينفذ مهمته ..
كنا نشعر أننا نتحدث إلى كل من يستمع إلى صوتنا، حيث يبث مباشراً وليس عبر تلك الآلة السحرية التي تسميها التكنولوجيا " الميكروفون" .. ويسميها فقهاء المجمع اللغوى " المسماع"! وهكذا.. كان شعورنا.. وهو ما حملنا أمانة ومسؤولية بأهظة الثقل، ولكننا لم نتململ لحظة تحت هذا العبء!
المواصفات:
لقد تم جعل معركة الكرامة ، تاريخا لهذا العمل والإعداد له، لم يكن ذلك ثرثرة تزيينية ولا فضلة من القول زائدة، ولا إقحام لعبارة يمكن إسقاطها، بل لقد ذكرتُ معركة الكرامة لأنها جاءت لتكون "الفعل العربي" الأول في المواجهة بعد هزيمة حزيران يونيو للعام 1967.. الهزيمة التي أريد لها – بل لقد أوشكت – أن تسقط كل مضامين " الفعل العربي" و "القول العربي" كذلك! جاءت "الكرامة" لتضع جواباً عن سؤال : هل ما يزال الإنسان العربي – بعد كل ما وقع – قادراً على الصدق في "الفعل" .. والقتال؟ وكان الجواب – كما صاغه ثوار الكرامة – بالإيجاب، في ملحمة ما نظن أن هناك من يفكر روعتها حتى في صفوف الأعداء. ورغم الفارق الهائل في ميزان القوى المتصارعة على أرض الكرامة في الأغوار، ورغم المخالفة السافرة لقوانين حرب العصابات وقواميسها، ورغم المناقشات المستفيضة حول التوفيق بين الرغبة والقدرة، ورغم كل شيء.. فلقد كان قرار المواجهة والصدام.. وكان ذلك إثباتاً عملياً على أرض الفعل بأن الإنسان العربي يمتلك الرغبة والقدرة معاً إذا ما توفرت لديه إمكانات الإرادة والقيادة، وإذا ما تهيأ له الميدان الطليق الذي لا يخضع لأوامر بقرارات مرتبطة بالانسحاب الكيفي تارة، وبوقف القتال الفورى تارة أخرى، وبغير هذا أو ذاك من الاعتبارات السياسية التي كانت دائماً قيداً ثقيلاً فوق يد المقاتل العربي يرهقه أو يشل قدرته فيمنعه من الضغط على الزناد!
ولا أطيل في وصف الحال الذي عانت منه جماهير الأمة العربية في تلك الحقبة من تاريخها، فذلك حديث مكانه غير هنا، ولكنما أردتُ أن أنبه إلى حقيقة.. أريد مجرد التفكير في إطلاق إرسال إذاعي على الهواء في تلك الفترة، هو بحد ذاته مغامرة ضخمة يمكن أن تتحول إلى مغامرة خاسرة، إذا لم يحسب لكل شيء حسابه، كيف؟؟
لقد كان من أخطر الإرتدادات التي عكستها هزيمة حزيران يونيو للعام 1967 "أزمة الثقة " في وسائل الإعلام العربي عامة، وفي الإذاعات المسموعة بوجه خاص، بعد أن فقدت هذه الوسائل معظم مصداقيتها لدى جماهير المستمعين، هذا إذا لم نقل كل مصداقيتها، بل إن أزمة الثقة التي كانت تُسمع يومياً بسيل جارف من بحور الكلام فوق أمواج الأثير، كانت أشد وأقسى منها في أية جهة أو إتجاه آخر، بما في ذلك الجهة العسكرية وجيوشها. وأنا من الذين عاشوا تلك التجربة.. وعايشوا تفاصيلها.. وعانوا من آلامها بعد عمل إذاعي أمتد بضع سنوات في إذاعة صوت العرب، وما حفلت به تلك السنون من أحداث جسام، جاءت هزيمة حزيران لتفرغ كل شيء من محتواه، ولتفقد الحرف العربي – مكتوباً أو منظوماً- كل مقدرته على التأثير فضلاً عن الإقناع.
هكذا كان السيناريو الذي تقرر فيه إطلاق إرسال إذاعة صوت العاصفة، وكان مطلوباً منها أن تكون الرد على تحدي "القول العربي" مثلما كانت معركة الكرامة الرد على تحدى " الفعل العربي". وما كان أضخم التحدى؟! وما كان أعظم الرد؟! فما هو السبيل إلى المواجهة؟ ومرّة أخرى، عودة إلى الكرامة!
فمثلما كانت الكرامة مخالفة سافرة لقوانين حرب العصابات ونواميسها، كذلك العاصفة لا بد أن تكون مخالفة سافرة لقوالب الفن الإذاعي وتقاليده المعلبة. ومثلما كانت الكرامة تجاوزاً للفارق الهائل في ميزان القوى المتصارعة على أرض الكرامة في الأغوار، لا بد أن تكون العاصفة قادرة على تجاوز هذا الفارق بينها وبين الحشد الحاشد من الأثيرات التي تزحم الغلاف الخارجي لهذا الكوكب الأرضي ! كيف، إذن؟
قلنا – أولاً- علينا بالصدق، حتى يُعاد إلى الكلمة العربية مصداقيتها، بعد كل ما تعرضت له من أزمات وهزّات. حتى أن الكثيرين كانوا يفهمون من الكلمة المكتوبة أو المنظومة عربياً عكس معناها عملياً.
قلنا: الخبر المؤكد فقط يذاع ، وأدنى شك في الخبر أو المعلومة كفيل بوقف إذاعته مهما كانت أهميته، ومهما بلغت جرعة الإثارة فيه.
وقلنا أيضاً: الصدق في الوصف.. وفي الوعد .. وفي المجاهرة بالحق والحقيقة معاً، فلا إسراف في بذل الوعود أو تزيين الأمنيات، ولا مبالغة في التهويل أو في التهوين، بل صراحة في وصف الساعة وجرأة في ذكر التضحيات..
وقلنا أيضاً: الصدق في الأداء .. فلا حماسة حيث لا يجب أن تكون الحماسة، ولا فرحة حيث ينبغي أن تكون المرارة، ولا مكان للإنفعال الإ بمقدار ما يكون التفاعل..
وقلنا ثانياً: علينا بالجدّة، نلتزم بأن نقدم الجديد المفيد الذي لا تهدده أخطار ملالة التكرار، ولا يبليه عبث الاستهلاك الخارجي أو الداخلي. الجدة في مواضيع الأخبار والمعلومات ومعها الجدّة في القوالب والصياغات على نحو لا يترك للمستمع وهلة للتثاوب فيطيح بمؤشر جهاز الالتقاط إلى يمين أو شمال أو إلى فوق أو تحت. والجديد في الكلمة المبثوثة لا يتوقف عند حدود تغييرها أو تلوينها بل إنه في جدة استخدامها وجدّة توظيفها وجدّة اختيار مضمونها على قدر حجم الإسم أو الفعل الذي تعبّر عنه. وإن "الجدّة" هي أقوى الركائز التي نعتمدها في إقامة البنيان الإذاعي فضلاً عن أنها أقوى نقاط الجذب والاستقطاب التي تتكئ عليها في أبسط أجنحة موجتنا الإذاعية.
وقلنا ثالثاً: علينا بالبساطة، فلا زخرفة ولا تعقيد، ولا أدنى قدر من التزيينات التركيبية التي كثيراً ما تغرق المستمع في الهوامش أو الحواشي بعيداً عن النصوص أو المضمون، بل إنها في حالات كثيرة تشد ذهن المستمع وتسحبه إلى الشرود في المفردات ومبانيها على حساب الأفكار ومعانيها. والبساطة هي الوضوح والابتعاد عن التغريب، والسهولة والإبتعاد عن التعقيد، الكلمة الواضحة المفهومة، الجملة البسيطة غير المركبة، الفكرة السهلة السائغة والتعبير السليم الخالي من كل التواءات الصنعة، أو تعاريج التصنع. على أن البساطة لا تتناقض مع الأناقة في تناول المعاني وصياغتها بنفس القدر من الإهتمام الحرص كما يصوغ الصائغ قطعة من جوهر ثمين بين يديه، بحيث يجعل كل شيء في موضعه وعلى قدّه.
وحتى في أناشيدنا وأهازيجنا وموسيقانا، لا بد أن تكون هذه البساطة مستوحاة من العمق الشعبي بلا أدنى قدر من الزخارف الزائدة أو المقدمات المطولة أو التراكيب الأوركسترا كلية المعقدة، وعليها أن تكون بسيطة في اللفظ، وفي اللحن وفي النغم وفي الأداء. وهذا كله يفترض في البساطة أن تُبعدنا عن كل ما يُستخدم في التقاليد الإذاعية من مؤثرات صوتية أو موسيقيات معاونة أو غير ذلك من المعهود في لعبة الإذاعة حتى لا نزج بأنفسنا في زحمة المناقشة مع الإذاعات الأخرى المألوفة.
وقلنا رابعاً: علينا بالتركيز، وهو لا يعني التلخيص الذي لا يكمل المعنى المفيد، كما أنه يتناقض مع التطويل الذي يجلب الملالة والسأم. التركيز يعني – في أوله وآخره – أن يكون "المعنى على قدر المبنى"، وتلك قاعدة في الإعلام، كان أول من تنبه لها ونبّه إليها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب حينما كان يوجّه ولاته إلى الأمصار فيوصيهم قائلاً: "إياكم وتطويل الكلام، فإن طويل الكلام يُنسي آخره أوله". وكان علينا أن نلتزم بهذه القاعدة الإعلامية اشد الإلتزام لكل أسبابها النفسية والفكرية والمنطقية من جهة، ومن جهة أخرى بسبب ضيق مساحة الزمن الذي نملكه ويحكمنا.
وقلنا خامساً: علينا بخريطة إذاعية متحركة، موادها أبعد ما تكون عن المواد المعلبة التي تفقد كثيراً من حيويتها ونفعها، وفقراتها دائماً متغيرة متجددة ومفاجئة فيها رونق اللا توقع، فيما عدا ركائز أو عضادات ثابتة هي عماد البناء الإذاعي. وما عداها فإنه ينبغي أن تكون طازجة دافئة نضرة تجيء في أرض الحدث بكل ما فيها من حيوية ومن منفعة.
وفي الحق، لم يكن شيئاً مثبتاً على الخريطة الإذاعية بعد الإفتتاح سوى الخدمات الإخبارية والتعليقات التي تلحق بها في بعض الأحيان. وكثيراً ما كان الخبر يُنقل عبر المسماع على الفور بمجرد تلقيه من غير انتظار لموعد الخدمة الإخبارية القادمة، حتى لو كان موعدها بعد بضع دقائق. بل إننا في حالات الطوارئ – وما كان أكثرها - كنّا نعيد بناءها الإذاعي لذلك اليوم من جديد بعد أن كنا صرفنا من الزمن ساعات عدة لإعداد برنامجنا لذلك اليوم الذي فاجأنا فيه حدث ما، ثم وجدنا أننا لا بد أن نلحقه.
وقلنا سادساً: علينا أن نحدّث من نحدّثهم عن أنفسهم، وأن نبحث دائماً عن الأسئلة التي تخطر في أذهان هؤلاء الذين يستمعون إلينا، ونجد لها الأجوبة الصحيحة الصادقة البسيطة الواضحة.
إن المتحدث يفقد خط ارتباطه مع من يحدثه في اللحظة التي يبدأ فيها الحديث عن نفسه، أو عن شيء بعيد عن اهتمامات من يتحدث إليه. ولقد اعتمدنا في ذلك على ما يردده خبراء علم النفس من أنك إذا أردت لمن تحادثهم أن يناموا فحدثهم عن نفسك، وإذا أردت غير ذلك فحدثهم عن أنفسهم.
وقلنا سابعاً: علينا بنكران الذات، فليس هناك مجال لإشهار الأسماء، مهما علا شأنها، عبر "العاصفة" إلا إسم الشهيد، وما عدا ذلك لا ، لا مذيع، لا معلق، لا ملحن، لا فنان...الخ. والتزمنا جميعاً بما قلنا، قناعة ويقيناً ، ذلك أن إذاعة الفدائيين لا بد أن تكون فدائية الإذاعيين.
تلك هي أهم الركائز التي قام عليها بنيان إذاعة صوت العاصفة، والتي استطاع بها هذا البنيان أن يجد ذاته في الزمان والمكان، صوتاً مميز النبرة، مميز الفكرة، مميز الأداء وأيضا مميز الإلتقاط.
ولقد ظلّت هذه الركائز زمناً ما هي عماد الجسور بين العاصفة وجماهير المستمعين الذين أحاطوا هذه الإذاعة بكثير من فهمهم وتفاهمهم وتجاوبهم واستجابتهم.
*****
كان هذا نص اللقاء المطول مع الأخ فؤاد ياسين من أجل توثيق قصة الإذاعة الفلسطينية - إذاعة الثورة الفلسطينية - (1968-1982) وهو موضوع عنوان اطروحتي لتحضير الدكتوراة . وقد تجلى عنه توثيق لقصة الإذاعة بعد الطلب للإجابة على الأسئلة المقترحة التي قدمت له من قبلي . .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق