السبت، 28 ديسمبر 2013

الهجاء في الشعر العربي

قال عمر بن الخطاب للحطيئة حين أخرجه من السجن :
-  اياك وهجاء الناس
أجاب الحطيئة : اذن يموت عيالي جوعا، هذا مكسبي ومنه معاشي !
قال عمر : فاياك والمقذع من القول . سأله الحطيئة : وما تقصد من المقذع من القول ؟ قال : أن تخاير بين الناس فتقول فلان خير من فلان، وآل فلان خير من آل فلان .
قال الحطيئة : فأنت والله أهجى مني !


كان الحطيئة مغموز النسب، ولد لأمة حملت به من سيدها أوس بن مالك العبسي، لكن أمّه لم تجرؤ أن تعلن ذلك أمام سيدتها وهي من ذهل بن شيبان فزعمت لها أنها حملت به من أخيها الأفقم، وبعد أن مات والد الحطيئة الحقيقي أوس أعتقتها سيدتها، عند ذلك اعترفت أنها حملت به من سيدها . ولعل هذا النسب المغموز كان سببا في حقد الحطيئة على مجتمع القبائل العربي، فأراد باحترافه الهجاء أن يثبت لهذا المجتمع أن الأدب خير وأبقى للمرء من النسب .
اعتمدت في هذه النبذة من أخبار سيد الهجاء في الشعر العربي على كتاب ( الهجاء والهجاءون في الجاهلية ) لمؤلفه الدكتور محمد محمد حسين رئيس قسم اللغة العربية في جامعتي الاسكندرية وبيروت العربية، والكتاب صادر عن دار النهضة العربية في بيروت عام 1970 وهو جهد علمي رصين عن فن الهجاء .


قصة سجن الحطيئة مشهورة، كان بين بغيض بن شماس بن لأي وابن عمه الزبرقان بن بدر تنافس، ونزل الحطيئة ضيفا على الزبرقان فاستهانت به زوجة الزبرقان لما رأت من دمامته وفقر حاله، وجاء بغيض بن شماس يعرض عليه أن ينزل عنده ضيفا عزيزا مكرما في تلك السنة، وكانت سنة مجدبة، فتحوّل الحطيئة الى مضارب بغيض وقال قصيدته الشهيرة في هجاء الزبرقان بن بدر :
والله ما معشر لاموا امرءا جنبا      في آل لأي بن شماس بأكياس
ملّوا قراة وهرّته كلابهم      وجرّحوه بأنياب وأضراس
دع المكارم لا ترحل لبغيتها     واقعد فانك أنت الطاعم الكاسي
وذهب الزبرقان الى عمر بن الخطاب شاكيا الحطيئة، وقرأ له القصيدة، لكن عمر لم ير فيها هجاء، واستدعى عمر حسان بن ثابت فأسمعه القصيدة الى أن وصل الى قوله : دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فانك أنت الطاعم الكاسي، سأل عمر حسان : هل هجاء بهذا البيت ؟ فقال حسان : لم يهجه، وانما سلح عليه !

كان حسان بن ثابت ينشد الشعر يوما، فوقف الحطيئة وهو لا يعرفه، فقال له حسان :
-  كيف تسمع يا أعرابي ؟ قال : ما أسمع بأسا !
قال حسان : أما تسمعون الى الأعرابي ؟ ما كنيتك أيها الرجل ؟ قال الحطيئة : أبو مليكة، قال حسان : ما كنت أهون علي منك حين اكتنيت بامرأة، فما اسمك . قال : الحطيئة !
فوقع اسمه على حسان موقع الصاعقة، أطرق حسان برأسه وقد أسقط في يده، ثم قال له : امض بسلام ...
دخل الحطيئة على خالد بن سعيد بن العاص فسأله فاعتذر اليه، وقال ما عندي شيء... فلم يعد عليه الكلام، وخرج . ارتاب خالد وبعث يسأل عنه فأخبر أنه الحطيئة، فردّه . عاد الحطيئة فأراد خالد أن يفتح الحديث معه فسأله : من أشعر الناس ؟ قال : هو الذي يقول :
ومن يجعل المعروف من دون عرضه    يفره، ومن لا يتّق الشّتم يشتم
فقال خالد لبعض جلسائه : هذه بعض عقاربه، وأمر له بكسوة وحملان، واتقى بذلك شر لسانه . هذا اللسان لم يوفر من الهجاء حتى أمه التي قال فيها :
تنحّي فاجلسي مني بعيدا    أراح الله منك العالمينا
أغربالا اذا استودعت سرا    وكانونا على المتحدثينا
ولم يوفر الحطيئة نفسه فهجاها اذ قال :
أرى لي وجها شوّه الله خلقه     وقبّح من وجه وقبّح حامله
كان الحطيئة رائد الهجاء الساخر في الشعر العربي، جعل الهجاء مهنة يعيش منها، خافه البخيل فاتقى شرّه باكرامه، وأكرمه الكريم لينال مدحه . وجاء بعد الحطيئة شعراء هجاؤون كبار، لكن أكبرهم كان ابن الرومي، ومن لا يذكر هجاءه لعمرو... يقول :
وجهك يا عمرو فيه طول     وفي وجوه الكلاب طول
مقابح الكلب فيك طرّا      يزول عنها ولا تزول
وفيه أشياء صالحات      حماكها الله والرسول
فالكلب واف، وفيك غدر      ففيك عن قدره سفول
ويسخر من أنف ابن عمرو، سخرية رائعة، صورة كاريكاتورية، يقول :
لك أنف يا ابن عمرو      أنفت منه الأنوف
أنت في القدس تصلي       وهو في البيت يطوف
لا تتسع هذه المقالة لذكر الهجائين في الشعر العربي وصورهم الساخرة الجميلة التي تثير الضحك من أعماق القلب، فأبو نواس يهجو بخيلا اسمه عمرو أيضا، ويبدو أن اللؤم في هذا الاسم منذ عمرو النصراني الذي تخصص ابن الرومي بهجائه وحتى عمرو موسى وزير خارجية مصر المباركية، يقول أبو نواس :
خان عهدي عمرو وما خنت عهده     وجفاني وما تغيّرت بعده
ليس لي مذ حييت ذنب اليه     غير أني يوما تغدّيت عنده
كان أبو نواس يكره العباسية أخت الرشيد، عمة الأمين والمأمون، قال فيها مخاطبا الخليفة الأمين :
ألا قل لأمين الله وابن القادة الساسة
اذا ما ناكت سرّك يوما أن تفقده راسه
فلا تقتله بالسيف، وزوّجه بعبّاسه
قبل الشاعر جرير بن الخطفى، كانت بنو نمير تفتخر بنسبها، وعندما قال جرير :
فغضّ الطرف انك من نمير       فلا كعبا بلغت ولا كلابا
صار النميري يخجل أن ينتسب الى نمير .
لا أجد نهاية لهذه العجالة عن الهجاء، الا ما قاله المتنبي في كافور الاخشيدي من قصيدة مطلعها :
أريك الرضى لو أخفت النفس خافيا    وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا
أمينا واخلافا وغدرا وخسة     وجبنا، أشخصا لحت لي أم مخازيا؟
ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة       ليضحك ربات الحداد البواكيا
هذه الأبيات للمتنبي وهي مسك الختام، كم حاكما عربيا وكم من الكتاب العرب يمكن أن نخاطبهم بها دون أن نكون عند الله من الآثمين ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق