دنيا الوطن تنشر فصول
شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات ..
الحلقة الرابعة عشر: الوصول إلى بر مصر
رام الله - دنيا الوطن
الفصل الرابع عشر:
الوصول إلى بر مصر
في 30 آب 1982 كان رحيل أبو عمار عن بيروت وفي 20 كانون أول 1983 كان رحيل أبو عمار عن طرابلس. وهنا تكمن مأساة فلسطين. في هذه المعادلة المستحيلة لإخراج فتح من الجغرافية المحيطة بفلسطين، لأنها بالمطلق حركة مقاومة وطنية ومستقلة لاستعادة فلسطين، بعد أن سقطت الأوهام والآمال المعلقة على الآخرين. وفتح تعني فلسطين ومعناها الوحيد بعث الحياة في فلسطين ورفض موتها. وهذا لن يكون بغير العمل من أجلها في مطلق الأحوال والظروف وتفجير المستنقع الآسن المحيط بفلسطين. ولهذا كانت الحروب وستظل دائما ضد فتح التي لا تقيم وزنا لغير فلسطين. وقبل أن يصعد إلى السفينة في رحيله العربي بعد رحيله الإسرائيلي يقول أبو عمار: أنا ذاهب إلى فلسطين. والمعنى البعيد إن فتح ستبقى مكرسة من أجل فلسطين ولن تتغير أبدا. وفي السفينة التي تحركت في مياه البحر الأبيض المتوسط، كانت غرفتي بجانب غرفة أبو عمار، وبين الغرفتين غرفة طعام مشتركة. وقلت لأبو عمار بعد أن أخذت السفينة طريقها إلى مصر الآن أهنئك على سلامتك، فقد كان التخلص منك هو الهدف الأكبر لحافظ الأسد. ويرد علي أبو عمار بقوله: الأعمار بيد الله. وأحاول طمأنته بالقول عودتك إلى طرابلس وصمودنا بقيادتك طوال هذه المدة قضت على المؤامرة التي دبرها حافظ الأسد. ويتنهد أبو عمار ويرد علي بقوله: المؤامرات على الثورة لن تتوقف ما دمنا خارج وطننا وفتح يتآمرون عليها لأنها النقيض للواقع الإسرائيلي وللواقع العربي على حد سواء، وأقصد الواقع العربي الرسمي. ويتصل حكم بلعاوي من تونس ويقول: الشعب المصري أعد لك يا أبو عمار استقبالا في بور سعيد وأما الاستقبال الرسمي فسوف يكون في مدينة الاسماعيلية. ولم أقل لأبو عمار ما قاله لي أبو جهاد: اتفقنا على الاسماعيلية. وقال لي حكم بلعاوي إن لطفي الخولي قد أبلغه إن عشرة ألاف يرحبون بأبي عمار في بور سعيد. ويعود أبو عمار بذاكرته إلى عام 1956 يوم وقع العدوان الثلاثي على مصر ويقول إنه كان من أوائل المقاتلين الذين دخلوا بور سعيد بعد انسحاب قوات العدوان الثلاثي. وهو لديه وثيقة أنه مواطن شرف في بور سعيد تقديرا من أهالي بور سعيد لدوره في مقاومة المعتدين الإنكليز والفرنسيين. وبعد منتصف الليل كانت السفينة تدخل المياه المصرية بحراسة الطرادين من البحرية المصرية بعد أن غادرتنا السفن الحربية الفرنسية لحظة دخولنا المياه المصرية. وكم أسعدني هذا الترحيب بأبي عمار على الطريقة المصرية، مئات السفن وآلاف البحارة أطلقوا صفارات سفنهم ترحيبا بوصول أبو عمار. وخرج أبو عمار من غرفته وكعادته بكامل ملابسه العسكرية وبدا لي أنه لم ينم أبدا، وأخذ يلوح بيده للبحارة المصريين الذين يلوحون بالأعلام تحية له وكانت الساعة الثانية صباحا حيث وقفت السفينة ونزل أبو عمار وأنا معه للسلام على المسئولين المصريين الذين سهروا طوال الليل لاستقباله والسلام عليه. وكان أول من كان بانتظار أبو عمار أخته أم ناصر واحتضنها وقبلها وأمسك بيدها إلى حيث المسئولين المصريين في بور سعيد، وقال محافظ بور سعيد مرحبا بأبي عمار: أهلا بك في مدينتك بور سعيد، فأنت المواطن الأول فيها وهذا شرف كبير لكل أهالي بور سعيد أن تكون بينهم اليوم. وبور سعيد ترحب بك وكل مصر ترحب بك ومصر بلدك وبلد كل فلسطيني شريف. شكره أبو عمار على هذا الترحيب الحار وقال: شعب مصر لن يتخلى عن فلسطين هذه حتمية تاريخيه وعبر التاريخ كانت جبال فلسطين هي الحدود الطبيعية لأمن مصر.
ومرة أخرى صافح أبو عمار مستقبليه وودع شقيقته أم ناصر وعدنا إلى السفينة التي واصلت سيرها باتجاه قناة السويس متجهة إلى الاسماعيلية حيث الاستقبال الرسمي لأبو عمار. وكان الفجر يقترب وأبو عمار لم ينم طوال الليل وكنت أدخل غرفتي ثم أعود إلى الغرفة المشتركة أو أقف قرب النافذة أنظر إلى مصر العظيمة وأستعيد تاريخها الطويل مع فلسطين، فمصر عبر التاريخ تخوض كل معاركها في فلسطين، وحين تنكفئ مصر على نفسها تضعف وتفقد مجالها الحيوي وازدهارها، وتطمع فيها القبائل وتهاجمها من الغرب ومن الصحراء ويطمع فيها الهكسوس والمغول والتتار والأتراك، وسيناء احتلها الصهاينة مرتين خلال عشر سنوات 1956 /1967. لكن الإنسان المصري أسطورة بطولة عز نظيرها هذا ما تقوله قناة السويس. المواطن المصري المدرب جيدا يقطع قناة السويس ويقاتل ويعود بالأسير الإسرائيلي وهو يجره وراءه ويسبح وصولا إلى الضفة الغربية لقناة السويس. هذه هي معجزة الإنسان المصري، المتجذر في هذه الأرض والذي، في أول الزمان أو في آخره، في هذا القرن أو في غيره، في زمن ما سيتحرك حركته التاريخية المعتادة في اتجاه الشرق. هذه تهويمات تعوضني عن فراغ الحاضر المر، ونحن في سفينة مطرودة من الشرق إلى أقاصي الجزيرة العربية. وكنت أسبح في هذا التاريخ وهذه الآمال كما السفينة في مياه قناة السويس، واعتبر الخديوي إسماعيل رجلا عظيما والمهندس "دي ليسيبس" عبقريا، حين سمعت أبو عمار ينادي أحد مرافقيه ويطلب منه أن يسأل ربان السفينة عن موعد وصولنا بالضبط إلى الاسماعيلية. والربان الذي يقود السفينة ومركز قيادته تحت الغرفتين الهامتين لأبو عمار ولي ويمكن الوصول إليه عبر درجات لا يزيد عددها على أربعة أو خمسة. وعاد الشاب المرافق وقال خلال ساعة من الآن نصل الاسماعيلية. وفجأة قال لي أبو عمار: الرئيس مبارك بارك الله فيه قرر أن يأتي إلى الاسماعيلية هذه مصر العظيمة تؤكد بهذا الاستقبال من بور سعيد وعلى طول قناة السويس وحتى الاسماعيلية بأنها لن تتخلى عن الشعب الفلسطيني.
يقف أبو عمار أمام المرآة ويرتب الحطة والعقال والأوسمة التي على صدره. وكان قد ارتدى بدلته العسكرية الشهيرة وهي عنده منذ سبع سنوات. بدا الزامور والصفارات تنذر بدخولنا ميناء الاسماعيلية حيث نقلتنا القوارب إلى حيث الاستقبال الرسمي لهذا الرجل الذي أنقذته اليقظة وإرادة الله من قذائف وصواريخ حافظ الأسد وشارون في طرابلس. إنني أسير وراء أبو عمار مباشرة. وهذا رئيس الوزراء "فؤاد محيي الدين" وهؤلاء كبار الضباط وهذا محافظ الاسماعيلية وهناك لمحت الدكتور أسامة الباز، وإلى جانبه يقف نبيل شعث وبجواره زهدي القدرة. لم ينزل أحد من السفينة غير الحاج إسماعيل ومازن عز الدين وأنا والمرافقين الأربعة. ولا أدري هل هو دوار البحر الذي يتحدثون عنه أم قلة النوم لأكثر من 48 ساعة جعلتني أفتقر إلى التركيز في هذه اللحظة. ولا أدري هل مرت عشرة دقائق أم أقل أم أكثر حيث شدني أبو عمار من يدي وقال: لا بد أن نذهب للسلام على الرئيس مبارك وشكره، والمروحية جاهزة. وفي تلك اللحظة تذكرت ما قاله أبو جهاد ونسيته وأبو عمار يمسك بيدي إلى المروحية التي انطلقت بمجرد صعودنا. رئيس الوزراء المصري فؤاد محيي الدين وأسامة الباز ونبيل شعث وأنا إلى جانب أبو عمار ومروحية أخرى نقلت المرافقين وبقية المستقبلين ولم تستغرق الرحلة إلى القاهرة طويلا ربما أربعون دقيقة.
إننا الآن في قصر القبة الشهير. فالمروحية هبطت وهناك استقبال وتحية عسكرية لأبو عمار وكان الرئيس مبارك وإلى جانبه بطرس غالي في الصالة الرئيسة في قصر ألقبة.عناق بين أبو عمار والرئيس مبارك، وجلسة بين الرئيسين لم يشارك فيها أحد من المسئولين. ولكن بعد نصف ساعة دخلنا غرفة الاجتماع فقال لي أبو عمار: اجلس مع أخيك د. بطرس غالي لصياغة بيان عن الزيارة ولا بد أن تركز على شكر مصر والرئيس مبارك والمرافقة الأمنية للبواخر من طرابلس حتى قناة السويس وسحب مصر للسفير من إسرائيل أثناء حرب 1982 وزيارة الوفد الشعبي المصري لنا. وكنت أحرص في الحقيقة على أن يتضمن البيان جملة واحدة والجملة هدف الزيارة هي التالية: إن الرئيس مبارك يجدد دعمه لمنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة أبو عمار باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ويدين الرئيس مبارك المحاولات الرامية لضرب منظمة التحرير الفلسطينية ويؤكد الرئيس مبارك دعمه للكفاح العادل للشعب الفلسطيني من أجل تأمين حقوقه الوطنية وعلى رأسها حق تقرير المصير وحق العودة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
وأضفت جملا أخرى في إدانة صريحة لنظام حافظ الأسد والمنشقين والعقيد القذافي وإسرائيل وأمريكا، وجلست مع د. بطرس غالي وقلت له: تفضل واكتب فأنت المشهور بالحنكة السياسية من قبل الجميع. ضحك بطرس غالي وقال لي أشكرك ولكن دعنا نكتب صيغة سياسية تفيدكم ولا تضرنا وقلت له: ولكن كما تعلم هذه الزيارة خروج على قرارات القمة العربية وحتى في المنظمة وفتح كثيرون ضدها، ونريد موقفا مصريا يدعم المنظمة ورئيس المنظمة والحقوق الوطنية والأهداف الوطنية في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وقال بطرس غالي: هناك اتفاق كامب ديفيد ومعاهدة السلام بيننا وبين إسرائيل والمادة السادسة في المعاهدة تنص على عدم إقامة علاقات مع أي طرف يعادي الطرف الآخر في المعاهدة. وأخيرا بعد صياغته للبيان حول زيارة أبو عمار ولقائه الرئيس حسني مبارك في القاهرة توقفنا عند النقطة الجوهرية وهي دعم مصر والرئيس مبارك لمنظمة التحرير برئاسة ياسر عرفات في الواقع لم يرفضها د. بطرس غالي، ولكنه قال الأفضل أن نعرضها على الرئيس مبارك لأنه هو صاحب القرار الأخير. ولكن أطمئنك ما دام قد استقبل أبو عمار فلن يكون لديه اعتراض على هذا البيان بالنص الذي اتفقنا عليه وانتهت لجنة الصياغة المشكلة من بطرس غالي ومني من صياغة البيان في شكله النهائي وهو لا يتعدى عشرة أسطر وحان موعد الغداء. وعرض د. بطرس غالي النص على الرئيس مبارك الذي قال: "موافق اللي بيطلبو أبو عمار إحنا موافقين عليه. "
تناولنا الغداء وصدر البيان الذي يحمل تأييد الرئيس مبارك ومصر للمنظمة برئاسة أبو عمار وبالطبع كنت قد أطلعت أبو عمار على النص الأخير الذي اتفقنا عليه والذي تضمن شكر أبو عمار والشعب الفلسطيني لمصر والرئيس مبارك وعبر أبو عمار عن رضاه على البيان بقوله "هذا سيقلب الطاولة." لم تستغرق الزيارة أكثر من ساعتين، وحملتنا المروحيات إلى الاسماعيلية لنواصل رحيلنا الثاني إلى ميناء الحديدة في الجمهورية العربية اليمنية. ولدى صعودنا إلى السفينة، أبو عمار وأنا، أمسك أبو عمار بيدي. وأدركت على الفور أنه قلق ومرتبك بعد هذه الزيارة التي قلبت الطاولة كما قال. إلا أنه يحسب حساب كل صغيرة وكبيرة في هذا الزمن الرديء، واعتقدت للحظة أن لديه خشية أن يكون الضباط والمقاتلون على سفينتنا ضد الزيارة ولهذا فور دخولنا السفينة كنت أمسك بيده وكأنني أشد أزره وهو في قمة اضطرابه العصبي وكأنه يرتجف حتى وصلنا للغرفتين. وحين دخل لغرفته كان الحاج إسماعيل قد وصل وهو أعلى رتبة عسكرية على السفينة وقلت له المطلوب رفع معنويات الرئيس. والحاج إسماعيل فدائي قديم ولماح وقال لي أولا: كيف الزيارة؟ قلت له: البيان تضمن المطلوب وهو تأييد المنظمة برئاسة أبو عمار وقد قال لي أبو عمار عن البيان أنه سيقلب الطاولة وقلت للحاج إسماعيل نتحدث في السياسية فيما بعد ولكن الآن أريد حركة من الشباب في الباخرة تعبر عن تأييدها لأبو عمار أريد أن يسمع أبو عمار هتافات، أناشيد، أريد حركة تأييد قوية لأبو عمار، أشعر أنه مضطرب وقفز الحاج إسماعيل وقبل أن يغادر أبو عمار غرفته تحولت الباخرة إلى مظاهرة صاخبة تؤيد أبو عمار. وبسبب هذه الأصوات وحتى دقات الطبول، خرج أبو عمار من غرفته مزهوا وقد استعاد تماسكه. وسألني ما هذا؟ وكان بالطبع يميز بين هتافات التأييد وبين نقيضها فقلت له الشباب سعداء بنجاح زيارتك للقاهرة وسعداء بتأييد مصر والرئيس مبارك للمنظمة برئاستك. وفي الواقع الشباب كانوا لا يعلمون شيئا عن البيان ولكنهم مع أبو عمار أخطأ أو أصاب ولساعات طويلة جاء الشباب على شكل مجموعات صغيرة للسلام على أبو عمار ولا أعرف من أين توفرت هذه الكمية من الحلويات والشوكولاتة التي يجري توزيعها في كل أنحاء الباخرة.
ولأن الثورة، أي ثورة، تحمل في طياتها غير المتوقع دائما فقد قفز شابان من السفينة الثانية المتوجهة إلى عدن إلى قناة السويس والسبب أن أسرهم في مصر وهذه أول مشكلة. أما المشكلة الثانية فقد اعترض أحد الضباط على الزيارة بصوت مسموع في تلك السفينة وتولى الطيب عبد الرحيم وزياد الأطرش السيطرة على الموقف ولكن بدأت الأصوات ترتفع من باخرة أبو جهاد وأبو الهول تعلن اعتراضها وعدم موافقتها على الزيارة، هذا بيان منهما وصل الآن، ومن اللجنة المركزية ومن أبو إياد وأبو اللطف تصريحات ضد الزيارة والجنون كل الجنون يأتي عادة من دمشق ومن فيها من الفصائل، والفصائل عليها أن تعلن أقصى درجات تطرفها وتفقد عقلانيتها حتى يرتاح حافظ الأسد. أما أن يظهر بصيص من العقلانية لديها، فهذا معناه حرمانها في سوريا وحتى طردها. وغلاة المتطرفين من الفصائل كما هي تقاليد الساحة هي الجبهة الشعبية وبلسان جورج حبش الذي وصل في تهجمه على أبو عمار وعلى الزيارة إلى حد اتهام أبو عمار بالخيانة العظمى. وكادت ردود الفعل على الزيارة أن تكون نسخة طبق الأصل عن ردود الفعل حول زيارة السادات مع فارق بسيط إن الحملة على زيارة أبو عمار تتركز في سوريا وليبيا. أما العراق فهو غارق حتى إذنيه في الحرب مع إيران ولكن لا بد من بصيص أمل يرفع المعنويات. ونحن على ظهر الباخرة المتوجهة إلى ميناء الحديدة وقد جاءت البشرى الأولى من نبيل عمرو مدير إذاعات الثورة الفلسطينية فأصدر بيانا أعلن فيه إن إذاعات الثورة الفلسطينية في العراق واليمن والجزائر تؤيد الزيارة وتؤيد أبو عمار، والبشرى الثانية كانت من حكم بلعاوي الذي أرسل لنا برقية يقول فيها إن الاتحاد السوفيتي يؤيد الزيارة. وأخذت برقيات التأييد تنهال علينا من التجمعات الفلسطينية المنتشرة حول العالم.
وفي المساء وأمام ما أعلنه جورج حبش عن اتهام أبو عمار بالخيانة العظمى أو بأنه سادات فلسطين أعلن أبو إياد في حديث لإذاعة مونت كارلو رفضه لهذا الموقف وظهر من حديث أبو إياد أنه كعادته يقوم باحتواء الموقف وأنه في الجوهر ليس ضد الزيارة إنما هذه حال الساحة الفلسطينية يتحرك صانعو الأحداث السياسية فيها ليس فقط من الحرص على المصلحة الوطنية كما يقولون. فهنالك أولا الصراع على الزعامة في الساحة وهناك حيث يقيمون وما تتطلبه الإقامة في سوريا أو ليبيا من ولاء لحكام دمشق ونفاق زائف للعقيد القذافي. أما نايف حواتمة فلديه من البراعة السياسية ما يجعله بعيدا عن الشعارات الجوفاء ولا يقطع في المقابل شعرة معاوية مع الشرعية ولا يعطي الأسد ذريعة للتضييق على الجبهة الديمقراطية. أما الجبهة الشعبية فقد بلغت حملتها ذروتها بوضع صورة أبو عمار على غلاف مجلة "الهدف" وتحتها كلمة واحدة "المنبوذ" مرفقة بتصريح لجورج حبش بأن أبو عمار هو السادات الفلسطيني وهذه الحملة جعلتني أكتب فيما بعد ردا في افتتاحية "فلسطين الثورة" كادت تجبر أبو علي مصطفى على قطع محادثات عدن للحوار الوطني، التي شاركت فيها إلى جانب أبو جهاد وأبو الهول. أبو عمار استعاد ثقته بنفسه بالهتافات المؤيدة له والتي تقول: أبو عمار سير سير واحنا معاك للتحرير. " وأخذ أبو عمار يغير موضوع الحديث معي من قلب الطاولة على رؤوس المتآمرين إلىحرصه على تقديم الشكر لمصر على المرافقة الأمنية للباخرة من طرابلس وحتى مصر. وتجاهل كل البعد السياسي للزيارة، وهو الهدف الحقيقي، حيث أراد أن يضمن تأييد مصر لقيادته والمنظمة سواء كانت مصر في كامب ديفيد، أما أن كامب ديفيد ليست أكثر من شقة في القاهرة. وفي طرابلس مع وفد التضامن المصري كان يوافقهم أنه من الظلم للشعب الفلسطيني أن يخسر تأييد مصر. ولا أحتاج إلى وقت طويل لمعرفة بوصلة أبو عمار وإلى أين تتجه؟ إنه بقوله أنه جاء يشكر مصر إنما يحاول إسقاط كل الاتهامات الفلسطينية والسورية بأنه خرق القرار العربي بمقاطعة مصر بسبب كامب ديفيد. وبأنه بالتالي لم يفعل شيئا غير تقديم الشكر لمصر. وحول ما قاله لي أبو جهاد في وقت سابق بأن اتفاقنا على اللقاء سيتم في مدينة الاسماعيلية لم يكن ليحدث لأنه من غير اللائق أن نضع شرطا على الرئيس المصري في تحديد مكان اللقاء، فالقاهرة عاصمة مصر ومن الطبيعي أن نشكر الرئيس مبارك في عاصمته وأمام كل المصريين. وفي الحقيقة بدأنا خارج هذا الموقف الذي يصر عليه _ نبحث ردود الفعل في اللجنة المركزية بعد بيان أبو جهاد الغاضب وتصريحات أبو إياد الغاضبة والاحتوائية على السواء. واتفقنا أنه لن يكون هناك انشقاق آخر في فتح وهم غاضبون في تونس لبعض الوقت ولا يريدون أن يقع انقسام آخر في الساحة وهم غاضبون كذلك لان تحذيراتهم بعدم اللقاء لم يأخذ بها أبو عمار. وقلت لأبو عمار بعد نقاش طويل إن ميزان الساحة العربية لن يكون لصالح سوريا بعد هذه الزيارة، وبالتالي لن تستطيع سوريا تشكيل منظمة تحرير جديدة تدور في فلكها ولا بد من تهدئة الخواطر في اللجنة المركزية حتى تستقيم الأمور تدريجيا في الساحة العربية حيث تشكل حالة فتح الداخلية الأساس للحالة الفلسطينية العامة. فإذا اهتزت وحدة فتح سرعان ما تتشظى الساحة الفلسطينية، وأكبر مثال تجربة الانشقاق وكيف أخذت تؤثر على الفصائل كلها سواء بانشقاقاتها وخاصة الموالية لسوريا والأخرى باضطراب سياستها لتحفظ بقائها في سوريا بعد خسارة لبنان وإغلاق الساحة اللبنانية سوريا وإسرائيليا.
ومع أن أبو عمار قلب الطاولة بزيارة القاهرة، إلا أننا واجهنا في البحر الأحمر خطر الموت غرقا في هذه الأمواج العاتية التي لم نشاهد مثلها في البحر الأبيض المتوسط. فالباخرة التي تنقلنا إلى ميناء الحديدة أخذت تواجه أمواجا عالية والموج يرتفع حتى يصل إلى كابينة القبطان تحتنا مباشرة والسفينة تهتز على نحو خطير للغاية وكأنها على وشك الغرق. ومرت ساعات على هذا المنوال وبدأ أبو عمار يقلق ويحاول التدخل في خط سير السفينة ويقول لي بالانكليزية انه "navigator " ومعناها انه ملاح بارع ويعرف الاتجاهات تماما ولكنه في الحقيقة أصيب "بدوار البحر " ودوار البحر هذا يؤدي إلى اضطراب الحركة، وعلى المرء أن يجلس بهدوء، وهناك بعض الحبوب الخاصة التي تصلح لتهدئة المصاب بدوار البحر ولم يتناول أبو عمار حبة الدواء هذه إلا باعتبارها مجاملة لي لأني بدوري أخذت هذه الحبة، وبعدها شراب لونه أصفر لا أعرف ما هو، إلا أن الأمواج العالية واضطراب السفينة وتمايلها يمينا ويسارا جعل حالتنا تزداد سوءا. ولم يكن أمامنا غير الجلوس على الكراسي البلاستيكية في غرفة الطعام بين غرفتينا وأبو عمار يستغرب هذه الأمواج العاتية تارة، وتارة أخرى يقول هذا يحدث في البحر الأحمر. واكتشفنا عند الفجر أن ثماني ساعات قد مضت والسفينة تسير في الاتجاه الخاطئ إنها تقترب من بورسودان بدل الخط البحري المعروف بخط جدة في السعودية. وأدرك ربان السفينة أنه كان على خطأ وبدأ يقطع عرض البحر الأحمر ليعود إلى الخط البحري التقليدي بين جدة وميناء الحديدة. وأيضا واجهت السفينة أمواجا عاتية مرة أخرى وقضينا أربع ساعات حتى استقام سير السفينة باتجاه الحديدة التي وصلناها عند الظهر بفارق تأخير عشر ساعات على الأقل. وكانت المفاجأة السارة في ميناء الحديدة مبادرة شجاعة من حكم بلعاوي وعديد من القيادات والكوادر وعلى رأسهم اللواء أبو المعتصم والشاعر معين بسيسو الذي سبقته ملحمته الشعرية والتي أولها "كم من ضلوعك والحصار يضيق قد وقفت معك،" فقد استأجر حكم طائرة خاصة من تونس إلى الحديدة وحملت كل كوادر وقيادات فتح في المؤسسات والأجهزة والنقابات وكان معهم ابني "يزن" وكان طفلا صغيرا وأسعدني حضوره بعد أن مرت لحظات صعبة في طرابلس كنا فيها قريبين من موت محقق وكانت الطائرة الرئاسية اليمنية بانتظار أبو عمار فأخذت "يزن" ابني معنا في الطائرة من الحديدة إلى صنعاء. وأبلغنا الوزير اليمني الذي استقبل أبو عمار: إن الرئيس علي عبد الله صالح يدعو أبو عمار ورفاقه لتناول الغداء في قصر الرئاسة وتوجهنا مباشرة حيث استقبلنا الرئيس علي عبد الله صالح بالعناق الحار والترحيب والإشارة بشجاعة أبو عمار وخاصة في زيارة مصر والاجتماع مع الرئيس مبارك. وبعدها عدنا إلى بيت الضيافة الذي خصصه الرئيس علي عبد الله صالح لإقامة أبو عمار وبدل أن أذهب إلى الفندق أصر أبو عمار أن أنزل في غرفة ملاصقة لغرفته في بيت الضيافة ومعي ابني "يزن" وهو طفل صغير وكان أبو عمار يعرفه من بيروت ويضع صورته في إطار خاص في مكتبه.
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..
الوصول إلى بر مصر
في 30 آب 1982 كان رحيل أبو عمار عن بيروت وفي 20 كانون أول 1983 كان رحيل أبو عمار عن طرابلس. وهنا تكمن مأساة فلسطين. في هذه المعادلة المستحيلة لإخراج فتح من الجغرافية المحيطة بفلسطين، لأنها بالمطلق حركة مقاومة وطنية ومستقلة لاستعادة فلسطين، بعد أن سقطت الأوهام والآمال المعلقة على الآخرين. وفتح تعني فلسطين ومعناها الوحيد بعث الحياة في فلسطين ورفض موتها. وهذا لن يكون بغير العمل من أجلها في مطلق الأحوال والظروف وتفجير المستنقع الآسن المحيط بفلسطين. ولهذا كانت الحروب وستظل دائما ضد فتح التي لا تقيم وزنا لغير فلسطين. وقبل أن يصعد إلى السفينة في رحيله العربي بعد رحيله الإسرائيلي يقول أبو عمار: أنا ذاهب إلى فلسطين. والمعنى البعيد إن فتح ستبقى مكرسة من أجل فلسطين ولن تتغير أبدا. وفي السفينة التي تحركت في مياه البحر الأبيض المتوسط، كانت غرفتي بجانب غرفة أبو عمار، وبين الغرفتين غرفة طعام مشتركة. وقلت لأبو عمار بعد أن أخذت السفينة طريقها إلى مصر الآن أهنئك على سلامتك، فقد كان التخلص منك هو الهدف الأكبر لحافظ الأسد. ويرد علي أبو عمار بقوله: الأعمار بيد الله. وأحاول طمأنته بالقول عودتك إلى طرابلس وصمودنا بقيادتك طوال هذه المدة قضت على المؤامرة التي دبرها حافظ الأسد. ويتنهد أبو عمار ويرد علي بقوله: المؤامرات على الثورة لن تتوقف ما دمنا خارج وطننا وفتح يتآمرون عليها لأنها النقيض للواقع الإسرائيلي وللواقع العربي على حد سواء، وأقصد الواقع العربي الرسمي. ويتصل حكم بلعاوي من تونس ويقول: الشعب المصري أعد لك يا أبو عمار استقبالا في بور سعيد وأما الاستقبال الرسمي فسوف يكون في مدينة الاسماعيلية. ولم أقل لأبو عمار ما قاله لي أبو جهاد: اتفقنا على الاسماعيلية. وقال لي حكم بلعاوي إن لطفي الخولي قد أبلغه إن عشرة ألاف يرحبون بأبي عمار في بور سعيد. ويعود أبو عمار بذاكرته إلى عام 1956 يوم وقع العدوان الثلاثي على مصر ويقول إنه كان من أوائل المقاتلين الذين دخلوا بور سعيد بعد انسحاب قوات العدوان الثلاثي. وهو لديه وثيقة أنه مواطن شرف في بور سعيد تقديرا من أهالي بور سعيد لدوره في مقاومة المعتدين الإنكليز والفرنسيين. وبعد منتصف الليل كانت السفينة تدخل المياه المصرية بحراسة الطرادين من البحرية المصرية بعد أن غادرتنا السفن الحربية الفرنسية لحظة دخولنا المياه المصرية. وكم أسعدني هذا الترحيب بأبي عمار على الطريقة المصرية، مئات السفن وآلاف البحارة أطلقوا صفارات سفنهم ترحيبا بوصول أبو عمار. وخرج أبو عمار من غرفته وكعادته بكامل ملابسه العسكرية وبدا لي أنه لم ينم أبدا، وأخذ يلوح بيده للبحارة المصريين الذين يلوحون بالأعلام تحية له وكانت الساعة الثانية صباحا حيث وقفت السفينة ونزل أبو عمار وأنا معه للسلام على المسئولين المصريين الذين سهروا طوال الليل لاستقباله والسلام عليه. وكان أول من كان بانتظار أبو عمار أخته أم ناصر واحتضنها وقبلها وأمسك بيدها إلى حيث المسئولين المصريين في بور سعيد، وقال محافظ بور سعيد مرحبا بأبي عمار: أهلا بك في مدينتك بور سعيد، فأنت المواطن الأول فيها وهذا شرف كبير لكل أهالي بور سعيد أن تكون بينهم اليوم. وبور سعيد ترحب بك وكل مصر ترحب بك ومصر بلدك وبلد كل فلسطيني شريف. شكره أبو عمار على هذا الترحيب الحار وقال: شعب مصر لن يتخلى عن فلسطين هذه حتمية تاريخيه وعبر التاريخ كانت جبال فلسطين هي الحدود الطبيعية لأمن مصر.
ومرة أخرى صافح أبو عمار مستقبليه وودع شقيقته أم ناصر وعدنا إلى السفينة التي واصلت سيرها باتجاه قناة السويس متجهة إلى الاسماعيلية حيث الاستقبال الرسمي لأبو عمار. وكان الفجر يقترب وأبو عمار لم ينم طوال الليل وكنت أدخل غرفتي ثم أعود إلى الغرفة المشتركة أو أقف قرب النافذة أنظر إلى مصر العظيمة وأستعيد تاريخها الطويل مع فلسطين، فمصر عبر التاريخ تخوض كل معاركها في فلسطين، وحين تنكفئ مصر على نفسها تضعف وتفقد مجالها الحيوي وازدهارها، وتطمع فيها القبائل وتهاجمها من الغرب ومن الصحراء ويطمع فيها الهكسوس والمغول والتتار والأتراك، وسيناء احتلها الصهاينة مرتين خلال عشر سنوات 1956 /1967. لكن الإنسان المصري أسطورة بطولة عز نظيرها هذا ما تقوله قناة السويس. المواطن المصري المدرب جيدا يقطع قناة السويس ويقاتل ويعود بالأسير الإسرائيلي وهو يجره وراءه ويسبح وصولا إلى الضفة الغربية لقناة السويس. هذه هي معجزة الإنسان المصري، المتجذر في هذه الأرض والذي، في أول الزمان أو في آخره، في هذا القرن أو في غيره، في زمن ما سيتحرك حركته التاريخية المعتادة في اتجاه الشرق. هذه تهويمات تعوضني عن فراغ الحاضر المر، ونحن في سفينة مطرودة من الشرق إلى أقاصي الجزيرة العربية. وكنت أسبح في هذا التاريخ وهذه الآمال كما السفينة في مياه قناة السويس، واعتبر الخديوي إسماعيل رجلا عظيما والمهندس "دي ليسيبس" عبقريا، حين سمعت أبو عمار ينادي أحد مرافقيه ويطلب منه أن يسأل ربان السفينة عن موعد وصولنا بالضبط إلى الاسماعيلية. والربان الذي يقود السفينة ومركز قيادته تحت الغرفتين الهامتين لأبو عمار ولي ويمكن الوصول إليه عبر درجات لا يزيد عددها على أربعة أو خمسة. وعاد الشاب المرافق وقال خلال ساعة من الآن نصل الاسماعيلية. وفجأة قال لي أبو عمار: الرئيس مبارك بارك الله فيه قرر أن يأتي إلى الاسماعيلية هذه مصر العظيمة تؤكد بهذا الاستقبال من بور سعيد وعلى طول قناة السويس وحتى الاسماعيلية بأنها لن تتخلى عن الشعب الفلسطيني.
يقف أبو عمار أمام المرآة ويرتب الحطة والعقال والأوسمة التي على صدره. وكان قد ارتدى بدلته العسكرية الشهيرة وهي عنده منذ سبع سنوات. بدا الزامور والصفارات تنذر بدخولنا ميناء الاسماعيلية حيث نقلتنا القوارب إلى حيث الاستقبال الرسمي لهذا الرجل الذي أنقذته اليقظة وإرادة الله من قذائف وصواريخ حافظ الأسد وشارون في طرابلس. إنني أسير وراء أبو عمار مباشرة. وهذا رئيس الوزراء "فؤاد محيي الدين" وهؤلاء كبار الضباط وهذا محافظ الاسماعيلية وهناك لمحت الدكتور أسامة الباز، وإلى جانبه يقف نبيل شعث وبجواره زهدي القدرة. لم ينزل أحد من السفينة غير الحاج إسماعيل ومازن عز الدين وأنا والمرافقين الأربعة. ولا أدري هل هو دوار البحر الذي يتحدثون عنه أم قلة النوم لأكثر من 48 ساعة جعلتني أفتقر إلى التركيز في هذه اللحظة. ولا أدري هل مرت عشرة دقائق أم أقل أم أكثر حيث شدني أبو عمار من يدي وقال: لا بد أن نذهب للسلام على الرئيس مبارك وشكره، والمروحية جاهزة. وفي تلك اللحظة تذكرت ما قاله أبو جهاد ونسيته وأبو عمار يمسك بيدي إلى المروحية التي انطلقت بمجرد صعودنا. رئيس الوزراء المصري فؤاد محيي الدين وأسامة الباز ونبيل شعث وأنا إلى جانب أبو عمار ومروحية أخرى نقلت المرافقين وبقية المستقبلين ولم تستغرق الرحلة إلى القاهرة طويلا ربما أربعون دقيقة.
إننا الآن في قصر القبة الشهير. فالمروحية هبطت وهناك استقبال وتحية عسكرية لأبو عمار وكان الرئيس مبارك وإلى جانبه بطرس غالي في الصالة الرئيسة في قصر ألقبة.عناق بين أبو عمار والرئيس مبارك، وجلسة بين الرئيسين لم يشارك فيها أحد من المسئولين. ولكن بعد نصف ساعة دخلنا غرفة الاجتماع فقال لي أبو عمار: اجلس مع أخيك د. بطرس غالي لصياغة بيان عن الزيارة ولا بد أن تركز على شكر مصر والرئيس مبارك والمرافقة الأمنية للبواخر من طرابلس حتى قناة السويس وسحب مصر للسفير من إسرائيل أثناء حرب 1982 وزيارة الوفد الشعبي المصري لنا. وكنت أحرص في الحقيقة على أن يتضمن البيان جملة واحدة والجملة هدف الزيارة هي التالية: إن الرئيس مبارك يجدد دعمه لمنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة أبو عمار باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ويدين الرئيس مبارك المحاولات الرامية لضرب منظمة التحرير الفلسطينية ويؤكد الرئيس مبارك دعمه للكفاح العادل للشعب الفلسطيني من أجل تأمين حقوقه الوطنية وعلى رأسها حق تقرير المصير وحق العودة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
وأضفت جملا أخرى في إدانة صريحة لنظام حافظ الأسد والمنشقين والعقيد القذافي وإسرائيل وأمريكا، وجلست مع د. بطرس غالي وقلت له: تفضل واكتب فأنت المشهور بالحنكة السياسية من قبل الجميع. ضحك بطرس غالي وقال لي أشكرك ولكن دعنا نكتب صيغة سياسية تفيدكم ولا تضرنا وقلت له: ولكن كما تعلم هذه الزيارة خروج على قرارات القمة العربية وحتى في المنظمة وفتح كثيرون ضدها، ونريد موقفا مصريا يدعم المنظمة ورئيس المنظمة والحقوق الوطنية والأهداف الوطنية في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وقال بطرس غالي: هناك اتفاق كامب ديفيد ومعاهدة السلام بيننا وبين إسرائيل والمادة السادسة في المعاهدة تنص على عدم إقامة علاقات مع أي طرف يعادي الطرف الآخر في المعاهدة. وأخيرا بعد صياغته للبيان حول زيارة أبو عمار ولقائه الرئيس حسني مبارك في القاهرة توقفنا عند النقطة الجوهرية وهي دعم مصر والرئيس مبارك لمنظمة التحرير برئاسة ياسر عرفات في الواقع لم يرفضها د. بطرس غالي، ولكنه قال الأفضل أن نعرضها على الرئيس مبارك لأنه هو صاحب القرار الأخير. ولكن أطمئنك ما دام قد استقبل أبو عمار فلن يكون لديه اعتراض على هذا البيان بالنص الذي اتفقنا عليه وانتهت لجنة الصياغة المشكلة من بطرس غالي ومني من صياغة البيان في شكله النهائي وهو لا يتعدى عشرة أسطر وحان موعد الغداء. وعرض د. بطرس غالي النص على الرئيس مبارك الذي قال: "موافق اللي بيطلبو أبو عمار إحنا موافقين عليه. "
تناولنا الغداء وصدر البيان الذي يحمل تأييد الرئيس مبارك ومصر للمنظمة برئاسة أبو عمار وبالطبع كنت قد أطلعت أبو عمار على النص الأخير الذي اتفقنا عليه والذي تضمن شكر أبو عمار والشعب الفلسطيني لمصر والرئيس مبارك وعبر أبو عمار عن رضاه على البيان بقوله "هذا سيقلب الطاولة." لم تستغرق الزيارة أكثر من ساعتين، وحملتنا المروحيات إلى الاسماعيلية لنواصل رحيلنا الثاني إلى ميناء الحديدة في الجمهورية العربية اليمنية. ولدى صعودنا إلى السفينة، أبو عمار وأنا، أمسك أبو عمار بيدي. وأدركت على الفور أنه قلق ومرتبك بعد هذه الزيارة التي قلبت الطاولة كما قال. إلا أنه يحسب حساب كل صغيرة وكبيرة في هذا الزمن الرديء، واعتقدت للحظة أن لديه خشية أن يكون الضباط والمقاتلون على سفينتنا ضد الزيارة ولهذا فور دخولنا السفينة كنت أمسك بيده وكأنني أشد أزره وهو في قمة اضطرابه العصبي وكأنه يرتجف حتى وصلنا للغرفتين. وحين دخل لغرفته كان الحاج إسماعيل قد وصل وهو أعلى رتبة عسكرية على السفينة وقلت له المطلوب رفع معنويات الرئيس. والحاج إسماعيل فدائي قديم ولماح وقال لي أولا: كيف الزيارة؟ قلت له: البيان تضمن المطلوب وهو تأييد المنظمة برئاسة أبو عمار وقد قال لي أبو عمار عن البيان أنه سيقلب الطاولة وقلت للحاج إسماعيل نتحدث في السياسية فيما بعد ولكن الآن أريد حركة من الشباب في الباخرة تعبر عن تأييدها لأبو عمار أريد أن يسمع أبو عمار هتافات، أناشيد، أريد حركة تأييد قوية لأبو عمار، أشعر أنه مضطرب وقفز الحاج إسماعيل وقبل أن يغادر أبو عمار غرفته تحولت الباخرة إلى مظاهرة صاخبة تؤيد أبو عمار. وبسبب هذه الأصوات وحتى دقات الطبول، خرج أبو عمار من غرفته مزهوا وقد استعاد تماسكه. وسألني ما هذا؟ وكان بالطبع يميز بين هتافات التأييد وبين نقيضها فقلت له الشباب سعداء بنجاح زيارتك للقاهرة وسعداء بتأييد مصر والرئيس مبارك للمنظمة برئاستك. وفي الواقع الشباب كانوا لا يعلمون شيئا عن البيان ولكنهم مع أبو عمار أخطأ أو أصاب ولساعات طويلة جاء الشباب على شكل مجموعات صغيرة للسلام على أبو عمار ولا أعرف من أين توفرت هذه الكمية من الحلويات والشوكولاتة التي يجري توزيعها في كل أنحاء الباخرة.
ولأن الثورة، أي ثورة، تحمل في طياتها غير المتوقع دائما فقد قفز شابان من السفينة الثانية المتوجهة إلى عدن إلى قناة السويس والسبب أن أسرهم في مصر وهذه أول مشكلة. أما المشكلة الثانية فقد اعترض أحد الضباط على الزيارة بصوت مسموع في تلك السفينة وتولى الطيب عبد الرحيم وزياد الأطرش السيطرة على الموقف ولكن بدأت الأصوات ترتفع من باخرة أبو جهاد وأبو الهول تعلن اعتراضها وعدم موافقتها على الزيارة، هذا بيان منهما وصل الآن، ومن اللجنة المركزية ومن أبو إياد وأبو اللطف تصريحات ضد الزيارة والجنون كل الجنون يأتي عادة من دمشق ومن فيها من الفصائل، والفصائل عليها أن تعلن أقصى درجات تطرفها وتفقد عقلانيتها حتى يرتاح حافظ الأسد. أما أن يظهر بصيص من العقلانية لديها، فهذا معناه حرمانها في سوريا وحتى طردها. وغلاة المتطرفين من الفصائل كما هي تقاليد الساحة هي الجبهة الشعبية وبلسان جورج حبش الذي وصل في تهجمه على أبو عمار وعلى الزيارة إلى حد اتهام أبو عمار بالخيانة العظمى. وكادت ردود الفعل على الزيارة أن تكون نسخة طبق الأصل عن ردود الفعل حول زيارة السادات مع فارق بسيط إن الحملة على زيارة أبو عمار تتركز في سوريا وليبيا. أما العراق فهو غارق حتى إذنيه في الحرب مع إيران ولكن لا بد من بصيص أمل يرفع المعنويات. ونحن على ظهر الباخرة المتوجهة إلى ميناء الحديدة وقد جاءت البشرى الأولى من نبيل عمرو مدير إذاعات الثورة الفلسطينية فأصدر بيانا أعلن فيه إن إذاعات الثورة الفلسطينية في العراق واليمن والجزائر تؤيد الزيارة وتؤيد أبو عمار، والبشرى الثانية كانت من حكم بلعاوي الذي أرسل لنا برقية يقول فيها إن الاتحاد السوفيتي يؤيد الزيارة. وأخذت برقيات التأييد تنهال علينا من التجمعات الفلسطينية المنتشرة حول العالم.
وفي المساء وأمام ما أعلنه جورج حبش عن اتهام أبو عمار بالخيانة العظمى أو بأنه سادات فلسطين أعلن أبو إياد في حديث لإذاعة مونت كارلو رفضه لهذا الموقف وظهر من حديث أبو إياد أنه كعادته يقوم باحتواء الموقف وأنه في الجوهر ليس ضد الزيارة إنما هذه حال الساحة الفلسطينية يتحرك صانعو الأحداث السياسية فيها ليس فقط من الحرص على المصلحة الوطنية كما يقولون. فهنالك أولا الصراع على الزعامة في الساحة وهناك حيث يقيمون وما تتطلبه الإقامة في سوريا أو ليبيا من ولاء لحكام دمشق ونفاق زائف للعقيد القذافي. أما نايف حواتمة فلديه من البراعة السياسية ما يجعله بعيدا عن الشعارات الجوفاء ولا يقطع في المقابل شعرة معاوية مع الشرعية ولا يعطي الأسد ذريعة للتضييق على الجبهة الديمقراطية. أما الجبهة الشعبية فقد بلغت حملتها ذروتها بوضع صورة أبو عمار على غلاف مجلة "الهدف" وتحتها كلمة واحدة "المنبوذ" مرفقة بتصريح لجورج حبش بأن أبو عمار هو السادات الفلسطيني وهذه الحملة جعلتني أكتب فيما بعد ردا في افتتاحية "فلسطين الثورة" كادت تجبر أبو علي مصطفى على قطع محادثات عدن للحوار الوطني، التي شاركت فيها إلى جانب أبو جهاد وأبو الهول. أبو عمار استعاد ثقته بنفسه بالهتافات المؤيدة له والتي تقول: أبو عمار سير سير واحنا معاك للتحرير. " وأخذ أبو عمار يغير موضوع الحديث معي من قلب الطاولة على رؤوس المتآمرين إلىحرصه على تقديم الشكر لمصر على المرافقة الأمنية للباخرة من طرابلس وحتى مصر. وتجاهل كل البعد السياسي للزيارة، وهو الهدف الحقيقي، حيث أراد أن يضمن تأييد مصر لقيادته والمنظمة سواء كانت مصر في كامب ديفيد، أما أن كامب ديفيد ليست أكثر من شقة في القاهرة. وفي طرابلس مع وفد التضامن المصري كان يوافقهم أنه من الظلم للشعب الفلسطيني أن يخسر تأييد مصر. ولا أحتاج إلى وقت طويل لمعرفة بوصلة أبو عمار وإلى أين تتجه؟ إنه بقوله أنه جاء يشكر مصر إنما يحاول إسقاط كل الاتهامات الفلسطينية والسورية بأنه خرق القرار العربي بمقاطعة مصر بسبب كامب ديفيد. وبأنه بالتالي لم يفعل شيئا غير تقديم الشكر لمصر. وحول ما قاله لي أبو جهاد في وقت سابق بأن اتفاقنا على اللقاء سيتم في مدينة الاسماعيلية لم يكن ليحدث لأنه من غير اللائق أن نضع شرطا على الرئيس المصري في تحديد مكان اللقاء، فالقاهرة عاصمة مصر ومن الطبيعي أن نشكر الرئيس مبارك في عاصمته وأمام كل المصريين. وفي الحقيقة بدأنا خارج هذا الموقف الذي يصر عليه _ نبحث ردود الفعل في اللجنة المركزية بعد بيان أبو جهاد الغاضب وتصريحات أبو إياد الغاضبة والاحتوائية على السواء. واتفقنا أنه لن يكون هناك انشقاق آخر في فتح وهم غاضبون في تونس لبعض الوقت ولا يريدون أن يقع انقسام آخر في الساحة وهم غاضبون كذلك لان تحذيراتهم بعدم اللقاء لم يأخذ بها أبو عمار. وقلت لأبو عمار بعد نقاش طويل إن ميزان الساحة العربية لن يكون لصالح سوريا بعد هذه الزيارة، وبالتالي لن تستطيع سوريا تشكيل منظمة تحرير جديدة تدور في فلكها ولا بد من تهدئة الخواطر في اللجنة المركزية حتى تستقيم الأمور تدريجيا في الساحة العربية حيث تشكل حالة فتح الداخلية الأساس للحالة الفلسطينية العامة. فإذا اهتزت وحدة فتح سرعان ما تتشظى الساحة الفلسطينية، وأكبر مثال تجربة الانشقاق وكيف أخذت تؤثر على الفصائل كلها سواء بانشقاقاتها وخاصة الموالية لسوريا والأخرى باضطراب سياستها لتحفظ بقائها في سوريا بعد خسارة لبنان وإغلاق الساحة اللبنانية سوريا وإسرائيليا.
ومع أن أبو عمار قلب الطاولة بزيارة القاهرة، إلا أننا واجهنا في البحر الأحمر خطر الموت غرقا في هذه الأمواج العاتية التي لم نشاهد مثلها في البحر الأبيض المتوسط. فالباخرة التي تنقلنا إلى ميناء الحديدة أخذت تواجه أمواجا عالية والموج يرتفع حتى يصل إلى كابينة القبطان تحتنا مباشرة والسفينة تهتز على نحو خطير للغاية وكأنها على وشك الغرق. ومرت ساعات على هذا المنوال وبدأ أبو عمار يقلق ويحاول التدخل في خط سير السفينة ويقول لي بالانكليزية انه "navigator " ومعناها انه ملاح بارع ويعرف الاتجاهات تماما ولكنه في الحقيقة أصيب "بدوار البحر " ودوار البحر هذا يؤدي إلى اضطراب الحركة، وعلى المرء أن يجلس بهدوء، وهناك بعض الحبوب الخاصة التي تصلح لتهدئة المصاب بدوار البحر ولم يتناول أبو عمار حبة الدواء هذه إلا باعتبارها مجاملة لي لأني بدوري أخذت هذه الحبة، وبعدها شراب لونه أصفر لا أعرف ما هو، إلا أن الأمواج العالية واضطراب السفينة وتمايلها يمينا ويسارا جعل حالتنا تزداد سوءا. ولم يكن أمامنا غير الجلوس على الكراسي البلاستيكية في غرفة الطعام بين غرفتينا وأبو عمار يستغرب هذه الأمواج العاتية تارة، وتارة أخرى يقول هذا يحدث في البحر الأحمر. واكتشفنا عند الفجر أن ثماني ساعات قد مضت والسفينة تسير في الاتجاه الخاطئ إنها تقترب من بورسودان بدل الخط البحري المعروف بخط جدة في السعودية. وأدرك ربان السفينة أنه كان على خطأ وبدأ يقطع عرض البحر الأحمر ليعود إلى الخط البحري التقليدي بين جدة وميناء الحديدة. وأيضا واجهت السفينة أمواجا عاتية مرة أخرى وقضينا أربع ساعات حتى استقام سير السفينة باتجاه الحديدة التي وصلناها عند الظهر بفارق تأخير عشر ساعات على الأقل. وكانت المفاجأة السارة في ميناء الحديدة مبادرة شجاعة من حكم بلعاوي وعديد من القيادات والكوادر وعلى رأسهم اللواء أبو المعتصم والشاعر معين بسيسو الذي سبقته ملحمته الشعرية والتي أولها "كم من ضلوعك والحصار يضيق قد وقفت معك،" فقد استأجر حكم طائرة خاصة من تونس إلى الحديدة وحملت كل كوادر وقيادات فتح في المؤسسات والأجهزة والنقابات وكان معهم ابني "يزن" وكان طفلا صغيرا وأسعدني حضوره بعد أن مرت لحظات صعبة في طرابلس كنا فيها قريبين من موت محقق وكانت الطائرة الرئاسية اليمنية بانتظار أبو عمار فأخذت "يزن" ابني معنا في الطائرة من الحديدة إلى صنعاء. وأبلغنا الوزير اليمني الذي استقبل أبو عمار: إن الرئيس علي عبد الله صالح يدعو أبو عمار ورفاقه لتناول الغداء في قصر الرئاسة وتوجهنا مباشرة حيث استقبلنا الرئيس علي عبد الله صالح بالعناق الحار والترحيب والإشارة بشجاعة أبو عمار وخاصة في زيارة مصر والاجتماع مع الرئيس مبارك. وبعدها عدنا إلى بيت الضيافة الذي خصصه الرئيس علي عبد الله صالح لإقامة أبو عمار وبدل أن أذهب إلى الفندق أصر أبو عمار أن أنزل في غرفة ملاصقة لغرفته في بيت الضيافة ومعي ابني "يزن" وهو طفل صغير وكان أبو عمار يعرفه من بيروت ويضع صورته في إطار خاص في مكتبه.
الفصل الثالث عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الحادي عشر
الفصل العاشر
الفصل التاسع
الفصل الثامن :
الفصل السابع:
الفصل السادس :
الفصل الخامس
الفصل الرابع
الفصل الثالث
دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الثالثة : إذاعة أم هيئة أركان ؟
الفصل الثاني
الفصل الاول
دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الأولى : لم يبق غير هؤلاء
الفصل الخامس عشر:
الرؤية أوضح في تونس
عاد أبو عمار إلى تونس بعد خمسة أيام من المحاولات التي بذلها الكثيرون لإقناعه بالعودة إلى تونس والاجتماع مع أعضاء اللجنة المركزية. وفي الحقيقة هناك من أجرى اتصالا مع الرئيس علي عبد الله صالح للضغط على أبو عمار للسفر إلى تونس. وفعلا هذا ما حدث. وعاد أبو عمار إلى مقر قيادته. وهذه اللجنة المركزية التي قادت فتح هي فعلا قيادة تاريخية بكل معنى الكلمة. فالغضب بينهم يقف عند حد، والخلاف السياسي يقف عند حد، ومهما ظهر بينهم من جفوة وتباعد وحتى قطيعة في الكلام والاتصال فيخطئ من يراهن عليه ويبني حساباته أن هذه القيادة قد فقدت وحدتها وتفرقت أيدي سبا. ويقف محمود عباس (أبو مازن) في نقطة الوسط. وحين يضمن صفاء الأمور بين أبو عمار وأبو إياد تصبح مهمته لعقد اجتماع اللجنة المركزية قريبة المنال. وبصمته الشديد يفاجئنا بأن اجتماع اللجنة المركزية سيعقد هذه الليلة، فيجري تنفيس الاحتقان الداخلي. وتسقط السدود بين المعسكرات. وهكذا ساد في فتح لسنوات طويلة اعتقاد أن أبو عمار وأعضاء اللجنة المركزية يوزعون الأدوار فيما بينهم.
ومع أن أبو عمار وصل تونس غاضبا من التصريحات والبيانات التي صدرت من عدد من أعضاء المركزية للتنصل من زيارته للقاهرة بل ولإدانتها، فانه يرصد أوضاع اللجنة المركزية. فإذا أصيب أحدهم بالزكام يقوم بزيارته. وإذا وقعت مناسبة عائلية يكون ورد أبو عمار وهداياه المتواضعة في المقدمة. وإذا حضر ضيوف أجانب أو من عمان أو بيروت فيقوم حكم بترتيب غداء في منزله ويحضره الجميع، أعني أعضاء المركزية. وإذا حضر من كنا نسميهم "الكمبرادور "وهم حسيب الصباغ، وسعيد خوري، ومنيب المصري، وصبيح المصري، وعبد المجيد شومان، وزين مياسي، وباسل عقل، هؤلاء موضع احترام وثقة من أعضاء اللجنة المركزية وأنهم يتركون أعمالهم ويتفرغون كليا لإصلاح ذات البين في لجنة فتح المركزية. ويجب ألا ننسى أبدا الدور الرائع لهذا القائد اللبناني الشجاع محسن إبراهيم القادر بثقافته وتجربته السياسية الطويلة على إزالة الجليد بين أعضاء اللجنة المركزية. ولا تستغرق كل هذه الجهود أكثر من أسبوع وبعدها يلتئم شمل اللجنة المركزية، وهذا هو الأهم. وأبو عمار لا يقول في الاجتماع أكثر من أنه وجد من واجبه أن يشكر مصر ورئيسها على دعمهم وتقديم الحماية الأمنية للبواخر التي غادرت طرابلس. وكان هناك تهديد إسرائيلي بالسيطرة عليها، وأخذ أبو عمار أسيرا. ويقول أبو عمار: "نعم، الزيارة قرار شخصي وليست قرار القيادة". فلم يكن هناك مجال لعقد اجتماع وأنا في البحر. والاتصالات التي جرت ليست كافية لتوضيح الأمور كلها للأخوة. والبيان الذي صدر عقب اجتماع اللجنة المركزية كان له هدف أبعد من التأكيد أن الزيارة شخصية وهذه قيادة لها خبرة في شؤون الساحة الفلسطينية. ولذلك حين أكد البيان أن الزيارة شخصية فهذا فتح الباب لاستعادة الحوار مع الفصائل. فلو قيل مثلا إن اللجنة المركزية توافق على الزيارة فان الفصائل وخاصة الشعبية والديمقراطية تصبح في وضع صعب للغاية، وهي المقيمة في دمشق. وهذا البيان الذي صدر بعد اجتماع اللجنة المركزية وفهمه الكثيرون انه مساس بمكانة أبو عمار كقائد للثورة ورئيس للمنظمة إنما يعكس النظرة الثاقبة التي ينظر فيها أبو عمار إلى الأمور. فهو من جهة حقق بزيارة القاهرة اختراقا لصالح الشعب الفلسطيني، ومن جهة أخرى ترك الباب مفتوحا لحماية الوحدة الداخلية في الساحة الفلسطينية. والشرعية التي يصر عليها أبو عمار لا يمكنها أن تدوم بدون الوحدة الوطنية. فالوحدة الوطنية لا تتحقق لأنها تمثل المصلحة العليا للشعب الفلسطيني، بل يتطلب تحقيقها بالإضافة إلى الأهداف السامية والمثل العليا الوطنية الصحيحة القائمة على الاستقلالية، والعمل الجاد لتعديل موازين القوى الداخلية لصالح الجسم المركزي وشحن ديناميكيته وحركيته لإدامة قدرته على جذب الأفلاك إلى دائرته وإطاره. وإذا كان أبو عمار في كل هذه المعارك التي يقودها قد حقق إنجازا لا تراجع عنه فهذا الانجاز هو تكريس الهوية الوطنية وتكريس الاستقلالية الوطنية وتكريس القرار الوطني المستقل. وهذا تم بالعمل والمبادرة. والمنشقون سواء وقفوا على يساره أو على يمينه فلا أثر لهم يحسب حسابه في الأوساط الوطنية التي أصبحت تعي خصوصيتها. فهذا الانجاز السياسي، وأعني به الخصوصية الوطنية الفلسطينية كانت تربته جاهزة لمن يحسن زراعتها. وهذا ما أدركته بوعي عميق النواة الأولى لحركة فتح التي أحسنت مخاطبة الفلسطينيين ولم تكن حركة تبشير بل كانت حركة عمل وفعل، وخدمها التاريخ من حيث لا تحتسب في هذه الحرب الكارثة عام 1967 التي وسط الدمار والضياع والاحتلال لكل فلسطين التاريخية، أوجدت الشرط الموضوعي والتربة الخصبة لظهور العامل الفلسطيني بكل خصوصيته. وقد أسقط من وعيه أوهام الماضي ورهانات المستقبل وهو يخوض صراع البقاء في الزمن العربي الرديء، زمن القبائل والكيانات الهزيلة.
وإذا كان العمل وليس التبشير هو أداة القياس لكل الأفكار فمن غير أبو عمار يمكنه القول أنه دخل مرتين إلى فلسطين لتعبئة الخلايا المقاتلة لحركة فتح، وظلت لغة أبو جهاد تحمل هذه الشحنة العاطفية منذ بدأ كتاباته الأولى في مجلة "فلسطيننا "في عام 1959 وحتى رسالته الأخيرة لقادة الانتفاضة في عام 1988 يوم اغتياله على يد الموساد في 16 نيسان 1988. ويمكننا أن نفهم عمق وتجذر الهوية والخصوصية الفلسطينية حين يصرح أبو إياد بأننا سنعقد المجلس الوطني على سفينة في البحر الأبيض المتوسط ولن نقبل من أحد أن يفرض علينا شروطه. وكمال عدوان الذي كان يردد دائما "عقيدتي فلسطين وكل العقائد في خدمتها. " والمساهم الأبرز في صياغة البرنامج السياسي والجملة السياسية بدعم قوي من أبو عمار وأبو إياد هو محمود عباس ( أبو مازن ) الذي حفر عميقا في تاريخ اليهود والحركة الصهيونية في دراسة أكاديمية أوصلته إلى الواقعية السياسية العارية ليجد لشعبه مكانا في التاريخ بحكم أنه أحد القادة المؤسسين لفتح. فإنه حين وضع ثقله إلى جانب الواقعية السياسية وجدت الجملة السياسية الفلسطينية مكانها المركزي والمحوري في البرنامج الوطني العام. ولم تكن هذه المساهمة بالمهمة السهلة ولازالت تلقى المعارضة من مزيفي التاريخ.
إن السياسية الوطنية، الصحيحة القائمة على استقلالية الإرادة والقرار، هي مصدر القوة الأساسي لحركة "فتح" لدى الشعب الفلسطيني. وهذه السياسة أصبحت خيارا لا رجعة عنه بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية. أما القضية الأهم وهي تعديل موازين القوى الداخلية، فإن أبو عمار بعد الخروج من طرابلس وزيارة القاهرة وحيث أصبحت تونس مركز قيادته، لم يهدأ ولم ينم على حرير استطلاعات الرأي التي أعطته تأييدا شعبيا غير مسبوق. إنه يعطي الوقت- كل الوقت- لإعادة بناء "فتح" بعد كارثة الانشقاق. والانشقاق له تداعيات بعيدة المدى. فهو انشقاق داخلي وانشقاق مع سوريا وقبل عشر سنوات كان انشقاق مع الأردن. وفي القواعد والبنية التحتية. هذه الانشقاقات المتتالية تقع ،عادة، في الأداة الفاعلة، فهي أصابت كوادر عليا في الجسم العسكري والمدني والمنظمات الشعبية. ولحسن الحظ أنها انشقاقات أفقية وليست عمودية بمعنى أنها تنحصر في فرد أو أفراد. والمنشق يخرج وحده من جسم "فتح". وهذا لا يمس التفاف الجماهير حولها وكانت هذه الخصوصية الوطنية التي جسدتها "فتح" هي القوة الحاسمة لعزل أي انشقاق، حتى لو كانت معه سوريا اللاعب المؤثر في الشأن الوطني الفلسطيني، بحكم موقعها في ساحة الصراع، وبحكم مواقفها التي لا تكلفها شيئا حين تقف على يسار "فتح" التي ترفع راية الاستقلالية الوطنية وتعتمد البرجماتية السياسية منهجا في عملها وعلاقاتها.
ورغم الرحيل القهري عن بيروت وطرابلس في عامين متتاليين، فإن عزيمة أبو عمار لم تضعف أبدا. فحيث هناك احتلال هناك مقاومة للمحتلين، وحيث هناك فلسطينيون هناك "فتح". ولا يمكن أن يرضخ أبو عمار لأية قوة تحاول إبعاده عن شعبه. وإذا كانت هناك مقاومة في جنوب لبنان فهي مقاومة فلسطينية - لبنانية ولا يقبل أي تسمية أخرى. وحين عاد الوئام إلى اللجنة المركزية، عاد أبو عمار إلى نظام حياته: المقاومة ثم المقاومة ولا شيء غير المقاومة. فالمقاومة أساس وجوده وجذر شرعيته وبدونها لن يكون أبو عمار، وبعد أن شكل من الضباط الكبار الهيئات المختلفة، كرس كل وقته للجنة لبنان، والمقاتلون يجب أن يعودوا إلى لبنان، لأنه لا يمكن أن نترك شعبنا تحت رحمة المنشقين وحركة "أمل" و"جبهة الإنقاذ" التي أرادها حافظ الأسد أن تكون بديلا لفتح ولمنظمة التحرير الفلسطينية. ولهذا يأمر "فتحي" و"جمعة "المسئولان عن القوة البحرية بشراء السفن، ويتدفق مئات المقاتلين إلى المخيمات في بيروت والجنوب. ويأمر أبو عمار الوحدات التي كانت في الجبل بالتسلل إلى مخيمات بيروت. وترتكب حركة "أمل" بأمر من الأسد جريمتها في حرب المخيمات ضد ما تسميه "زمرة العرفاتيين."و تتلقى التسليح والدبابات من سوريا. والمهم ألا تعود "فتح" إلى لبنان.
ويضم الأسد كتيبة الأسد واللواء السادس من بقايا الجيش اللبناني لقوات "أمل" لمواصلة جريمتها في حرب المخيمات على مدى ثلاثة أعوام، وتتعرض المخيمات في بيروت والجنوب للقصف والحصار، وحتى تمنع وكالة الغوث من تزويد مخيم الرشيدية بالمواد الغذائية. وفي مخيم برج البراجنة أصدر رجال الدين فتوى لأكل لحوم الكلاب والقطط بسبب وطأة الحصار. وفشلت حركة "أمل" في فرض سيطرتها رغم آلاف الأرواح بين قتيل وجريح، وبعد حركة "أمل" جاء دور المنشقين الذين اغتالوا علي أبو طوق قائد الصمود في شاتيلا وصبرا في آخر كانون الثاني 1987 الذي وقف في وجه قوات أمل واللواء السادس. ومرة أخرى أخرجت قوات "فتح" من مخيمات بيروت إلى مخيمات الجنوب تحت ضغط النظام السوري. وكان لا بد من الرد على وحشية وغطرسة حركة "أمل". وتحقق الرد في قرية مغدوشة أيلول 1986 حيث وجهت قوات فتح والجبهة الديمقراطية ضربة موجعة لحركة أمل في هذه المعركة الحاسمة وهي القرية الإستراتيجية التي تسيطر على الطرق إلى بيروت والجنوب. وبالطبع يجب أن لا ننسى المساعدة التي تلقتها قوات فتح من الحزب التقدمي الاشتراكي، ومن التنظيم الناصري بقيادة مصطفى سعد. وهكذا عادت فتح إلى المخيمات في الجنوب دون أن يتوقف أبو عمار عن المحاولات الدءوبة لاستعادة السيطرة على مخيمات بيروت. وظل أبو عمار يحرك المقاتلين والسفن إلى شواطئ لبنان، وإسرائيل تعترض السفن وتصادرها، وتزج بالمقاتلين في سجونها، وحركة "أمل" والمنشقون و"كتيبة الأسد" من بعثيي لبنان يرصدون حركة أبناء "فتح" للانقضاض عليهم كلما تلقوا الأمر بذلك من دمشق، فالكابوس الذي يؤرق الأسد هو عودة فتح إلى لبنان.
مع انهيار أوهام أبو صالح حول علاقته مع الأسد وموسكو وفرض الإقامة الجبرية عليه، وصراع أبو موسى وأبو خالد على الزعامة، وتماسك حركة "فتح" قيادة وكوادر في لبنان وكل المخيمات،عادت إلى الحياة والعمل العلاقات بين الفصائل الأساسية "فتح" والشعبية والديمقراطية والحزب الشيوعي وجبهة التحرير الفلسطينية وجبهة النضال وتم عزل الصاعقة والقيادة العامة والمنشقين.
لم يجد حافظ الأسد غير التهديد بأن من يغادر دمشق للالتحاق بياسر عرفات في تونس فلن يسمح له بالعودة إلى دمشق. هذا القرار معناه تعطيل اللجنة التنفيذية وتعطيل المجلس المركزي وهما أهم إطارين قياديين في الساحة الفلسطينية. وفي هذه الحالة تصبح شرعية اللجنة التنفيذية مهددة فعلا بحيث لا يتوفر النصاب لدى أي طارئ. وأصبح الوضع خطيرا فعلا حين صادرت المخابرات السورية جواز سفر محمد زهدي النشاشيبي ومنعته من مغادرة دمشق، وليس أمام أبو عمار إلا دعوة المجلس الوطني الفلسطيني في دورة عادية أو استثنائية لحماية شرعية اللجنة التنفيذية لتواصل قيادة الشعب الفلسطيني. وتدخل الأسد لمنع عقد المجلس في الجزائر. وذهب بنفسه في 27 آب 1984 إلى الجزائر. وأقنع الشاذلي بن جديد بالاعتذار عن الموافقة السابقة لعقد المجلس في الجزائر. وذهب أبو إياد إلى الجزائر وإلى اليمن الديمقراطي، ولم يجد غير الاعتذار من اليمن كما من الجزائر. ولهذا أدلى بتصريحه الشهير في ذلك الوقت "بأننا من أجل الحفاظ على الشرعية الفلسطينية وعلى القرار الوطني المستقل سنعقد المجلس الوطني على ظهر سفينة في البحر الأبيض المتوسط". وكان لا بد من إحياء العلاقات الداخلية بين الفصائل تمهيدا لعقد المجلس الوطني. ولهذا بدأت القيادة بإجراء الاتصالات لمباشرة الحوار الوطني في عدن في شهر نيسان 1984. وفي الجزائر وفي براغ تموز 1984. وفي عدن كنت إلى جانب أبو جهاد وأبو الهول في هذا الحوار مع الشعبية والديمقراطية. وفي براغ كان أبو مازن يدير الحوار مع ممثلي الفصائل في جولة أخرى. وفي الجزائر وضعت اللجنة المركزية كل ثقلها لإنجاح الحوار. وبالفعل، تم التوقيع على اتفاق عدن - الجزائر على أساس جملة من المواقف السياسية المتشددة، ومنها رفض مبادرة ريغان، ورفض كامب ديفيد، ورفض العلاقات مع مصر، وإدانة زيارة أبو عمار إلى مصر.
في عدن وقعت مشكلة مع أبو علي مصطفى كنت طرفا فيها، حيث واصلت مجلة "الهدف"حملتها على أبو عمار وتحت صورته في المجلة كتبت بالخط العريض "المنبوذ."ووجدت المجلة أمامي في الفندق، فقرأت المقال السيئ جدا وجلست على الفور وكتبت افتتاحية "كلمة الثورة" لمجلة" فلسطين الثورة" وأرسلتها على الفاكس إلى المجلة في قبرص، وطلبت نشرها في الصحف اللبنانية. كما طلبت إرسالها إلى عدن حيث نجتمع في جلسات الحوار الوطني المليئة بالتوتر والاستفزاز لفتح. وأما أبو جهاد فكان يتجاوز هذا الاستفزاز. وفي المساء حين نشر ردي في "فلسطين الثورة "على ما نشرته مجلة "الهدف" ضد أبو عمار انفجرت الجلسة وتوقفت المحادثات وألغيت جلسة اليوم الثاني الصباحية، ما اضطر الرئيس علي ناصر محمد إلى دعوة الوفود كلها إلى جلسة مشتركة برئاسته لإصلاح ذات البين، وكانت له قدرة عالية على تذليل الصعوبات في العلاقات الشخصية بيننا نحن الفلسطينيين. ودعانا لتناول الغداء على مائدته، حيث عرفني على مستشاره السياسي وكان اسمه للمصادفة "أحمد عبد الرحمن. "وقد تم الاتفاق على رفع الجلسة في اليوم الثالث على أن يستأنف الحوار في الجزائر في منتصف تموز 1984. وبالفعل صدرت ورقة اتفاق في براغ حيث كان أبو مازن يرأس وفد فتح. وتم توحيد الأوراق وتوقيع اتفاق عدن- الجزائر في 20-7-1984، على أمل أن يتم عقد المجلس الوطني مباشرة في الجزائر. ولكن غياب خالد الفاهوم عن الحوار وهو رئيس المجلس الوطني وغياب "الصاعقة" و"القيادة العامة" وبعض جبهة النضال وجبهة التحرير الفلسطينية واستحالة قبول المنشقين في أي حوار أو أي مجلس وطني، جعل الأسد يتحرك لرفض عقد المجلس الوطني في الجزائر أو عدن. وبالتالي أصبح الموقف محرجا للشعبية والديمقراطية والحزب الشيوعي وبعض أطراف الفصائل الأخرى. إلا أن أبو عمار لن يسلم للأسد بوضع هذا "الفيتو" الخطير على الوحدة الوطنية. ولهذا قرر الاستمرار في الجهود لعقد المجلس الوطني وجاءته الموافقة من الملك حسين الذي رحب بعقد المجلس الوطني في عمان. وكان الملك حسين قد أعلن وقوف الأردن ضد المنشقين وضد محاولات نظام الأسد السيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية. وطلب مني أبو عمار الذهاب إلى عمان للتحضير لعقد الدورة السابعة عشرة للمجلس الوطني والتي عقدت تحت عنوان :"دورة القرار الوطني المستقل. "وهذا العنوان يعكس الصراع المتصاعد مع نظام حافظ الأسد. وفي يوم وصولي إلى عمان عقدت مؤتمرا صحافيا في فندق "عمرة"وقرأت نصاً مكتوباً عن أهداف هذه الدورة، وهي حماية منظمة التحرير الفلسطينية والتأكيد على استقلالية القرار الوطني، ورفض الوصاية والاحتواء والتبعية. وقد رتبت استقبال الصحافيين العرب والأجانب وقاعة الصحافة في مدينة الحسين الرياضية. وعزل الأمن الأردني مدينة الحسين الرياضية والفنادق المحيطة ووضع قيودا مشددة على الحضور للمنطقة. وبدون الأوراق الرسمية من لجنة المؤتمر لا يمكن أن يدخل أحد إلى المنطقة.
تحدث الملك حسين في الجلسة الأولى في 22/11/ 1984 وعرض أفكاره حول ضرورة التعامل مع قرارات الشرعية الدولية والقرارين 242 و338، والعمل المشترك الفلسطيني – الأردني. وفي الواقع لم يكن الهدف من وراء دورة المجلس الوطني في عمان أي تناول للقضايا السياسية الشائكة، بل كان الهدف ترميم اللجنة التنفيذية للمنظمة التي كادت تفقد نصابها بسبب قرار الأسد بأن من يغادر دمشق إلى تونس للمشاركة في التنفيذية فلن يسمح له بالعودة إلى دمشق. كما صادرت جواز عضو اللجنة التنفيذية محمد زهدي النشاشيبي. وفي الوقت نفسه قاطعت الجبهة الشعبية ولا زالت عضوا في "جبهة الإنقاذ" مع "الصاعقة"و"القيادة العامة" والمنشقين وأقسام من جبهة النضال وجبهة التحرير الفلسطينية. وبالطبع هناك ممثل الصاعقة مجمد خليفة وممثل القيادة العامة المخضرم طلال ناجي. وقد كنا في بداية عملنا أنا وطلال زملاء في الهيئة الإدارية لاتحاد طلاب فلسطين في سوريا. وكان طلال في ذلك الوقت يمثل جبهة تحرير فلسطين "ج.ت.ف "وأنا أمثل حركة "فتح". وبالإضافة إلى هؤلاء هناك خالد الفاهوم الذي "قلبه مع علي وسيفه مع معاوية"، لأنه محكوم عليه أن يقبل ما يقبله الأسد ويرفض ما يرفضه، وكان مكرها أن يكون طاقية الخفاء لعش الدبابير المسمى "جبهة الإنقاذ". أما عبد الرحيم أحمد ممثل "جبهة التحرير العربية" فكان مع الشرعية وعقد المجلس الوطني في عمان لتجديدها. وهو رجل دمث ومهذب. وقد كان يشكو لي من الاتصالات الهاتفية أثناء دورة المجلس من الصحافيين والضيوف الذين يخلطون بين اسمينا عبد الرحيم أحمد وأحمد عبد الرحمن. وأرد عليه بأن مواقف الجبهة العربية الآن تؤهله تماما ليقوم بدور الناطق الرسمي للمجلس الوطني. فهناك انسجام كامل في المواقف بين "فتح"والعراق. والجبهة العربية في هذه الحالة مع الشرعية وتوقع على بياض لأبوعمار.
أما الأمر الملفت في هذا التعاون مع الأردن فهناك جيل جديد من الصحافيين على صلة قوية مع النظام وقد جلسوا طويلا معي وأراحهم موقفي حين كنت أؤكد أن أيلول الأسود لا يتحمل مسؤوليته طرف واحد، بل المسؤولية مشتركة بين النظام والمنظمة. والأهم أنني صرحت علنا بأن "الأردن هو الأردن وفلسطين هي فلسطين، والأردن وطن الأردنيين وفلسطين وطن الفلسطينيين". ورفضت الوطن البديل الذي صرح به شارون حلا للقضية الفلسطينية. ولكني أضفت أن الأردن بلد صغير، ولا يمكنه مجابهة إسرائيل عسكريا ولكن – وهذا هو الأهم- ألا يقبل أي تورط مع إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني.
وسنحت لي الفرصة للحديث المباشر مع الملك حسين، وتأثرت كثيراً بلطفه وأدبه وتواضعه. فهو لا يخاطب أي شخص ولا يرد عليه إلا بكلمة "سيدي"، كما لفت انتباهي فريق المسئولين المباشرين الذين يعملون في الديوان الملكي: إنهم نخبة راقية من الموظفين الحاصلين على الشهادات الجامعية من أميركا وبريطانيا. إلا أن هذه الواجهة من المثقفين ليست هي التي تقرر العلاقات مع الفلسطينيين، سواء كانوا في الأردن أو في الضفة أو من قطاع غزة، فهذه العلاقات بدا لي أنها محصورة بجهاز المخابرات الذائع الصيت في الأردن. وكلمة "عليك مراجعة المخابرات، أو سحب الجواز في المطار أو على جسر الملك حسين ثم مراجعة المخابرات، هي أمور روتينيه في علاقة الأردن بالفلسطينيين.
قرر أبو عمار أن تكون جلسات المجلس الوطني الفلسطيني جلسات مفتوحة. ووافق الملك حسين على طلب أبو عمار أن ينقل التلفزيون الأردني كافة الجلسات على الهواء مباشرة، بحيث يتابع أهلنا في فلسطين وفي الأردن وسوريا ولبنان وقائع المجلس وقضاياه أولا بأول. وتعرف الناس على القيادة وأعضائها وقضاياها ونظام عمل المجلس الوطني وكيفية انتخاب اللجنة التنفيذية وممن تتشكل وكيف ينتخب أبو عمار رئيساً للجنة التنفيذية ومن هم المستقلون وكيف يتم اختيارهم،وكيف لم يتمكن المجلس بسبب نظامه المعقد من إسقاط عضوية أحمد جبريل أو جماعة "الصاعقة". واستمعوا لكل النقاشات العلنية وهي غير مسبوقة في الحياة السياسية العربية. كل ذلك جعل الجماهير الفلسطينية تلتف بقوه حول المنظمة وحول الاستقلالية الوطنية التي أصبحت هي المحرك وهي القوه الدافعة لأي توجه في الساحة الفلسطينية.أما قضية توفير النصاب، وكانت هي نقطة التحدي، فقد وقف ممثلو الجبهة الديمقراطية على أهبة الاستعداد خارج قاعة المجلس أثناء تثبيت العضوية للتحقق من النصاب وللدخول إلى القاعة في حال حصل نقص في العدد المطلوب لإكمال النصاب. وقد نجحت جهود أبو عمار بحضور 260 عضواً من بين 370عضواً هم أعضاء المجلس. وبهذا تحقق النصاب المطلوب الذي بموجبه تعتبر دورة المجلس الوطني شرعيه على الرغم من مقاطعة "الشعبية" و"الصاعقة" و"القيادة العامة" وبعض جبهة النضال وجبهة التحرير الفلسطينية. ولأن أبو عمار لا يريد القطيعة التامة مع نظام الأسد ,فلم يوافق على جميع الاقتراحات ومشاريع القرارات لطرد أحمد جبريل قائد "القيادة العامة" من عضوية المجلس الوطني. أما بالنسبة لخالد الفاهوم وكانت له مكانة خاصة عند أبو عمار فلم يكن ممكناً بقاءه رئيساً للمجلس الوطني، وعليه تم انتخاب"الشيخ الأحمر" أي التقدمي عبد الحميد السائح رئيساً للمجلس والذي استمر رئيسا من عام 1984حتى عام 1991م، وبعده انتخب المجلس الوطني سليم الزعنون رجل القانون والقاضي والشاعر رئيساً للمجلس. وبالمناسبة، فرئيس المجلس الوطني هو في الوقت نفسه رئيس المجلس المركزي الذي ينعقد أربع مرات كل عام بواقع مرة واحدة كل ثلاثة أشهر.ويحقق أبو عمار في هذا المجلس ما سعى إلى تحقيقه وهو استعادة الشرعية بكامل قوتها وتحت رئاسته، وإسقاط "الفيتو" الذي اعتقد الأسد أنه سيعطل الشرعية الفلسطينية. وقد قلت له: إن الجماهير عبرت عن تقديرها لموقفه حين تمسك بنصوص القانون ورفض طرد أحمد جبريل وممثلي الصاعقة من المجلس قال لي "هذه شعرة معاوية مع معاوية. "
كانت دورة القرار الوطني الفلسطيني المستقل في تشرين الثاني 1984 توازي في أهميتها قرارات قمة الرباط في تشرين الأول عام 1974 التي نصت على أن المنظمة هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وبعد شهر كامل من انتهاء أعمال المجلس الوطني وبالتحديد في"يوم 29/12/ 1984" أقدم المنشق أبو خالد العملة على ارتكاب جريمة اغتيال رئيس بلدية الخليل المبعد فهد القواسمة، الذي انتخبه المجلس الوطني عضواً في اللجنة التنفيذية. وقد قوبلت هذه الجريمة الدنيئة باستنكار عارم من جماهير الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. وقد كتبت البيان الذي أصدرته القيادة حول هذه الجريمة وحملت المسؤولية لنظام حافظ الأسد.
كانت حسابات أبو عمار، وإلى جانبه أبو جهاد، أن هذه المصالحة الهادئة مع الملك حسين قد توفر المكان الأفضل لإدامة الاتصال مع الأرض المحتلة. وبالفعل، بدأ أبو جهاد عمله في عمان بهدوء تام، ووظف أموال اللجنة المشتركة في دعم الداخل، وأقام "حركة الشبيبة" ومئات اللجان والهيئات. وقد احتجت إسرائيل على نشاطات أبو جهاد الذي كان يعمل بهدوء وصمت. ودخل أبو عمار بكل ثقله على خط "القطاع الغربي" الذي يقوده أبو جهاد. وفي بغداد وفي تونس أخذ يستقبل كل أطياف الشعب الفلسطيني. فالبرتقال من غزة، يتعهد أبو عمار بتسويقه في الدول الاشتراكية، والزيت من الضفة تشتريه إيطاليا، و"مستشفى القاصد" تتولى السعودية تغطية نفقاته، والجامعات المتكاثرة في الضفة وغزة يجمع لها 60 مليون دولار ويمولها، والصحف ومكاتب الإعلام لا يبخل عليها باحتياجاتها، أما القادمون لمقابلة أبو عمار في تونس وبغداد فجوازات سفرهم لا تختم أبدا،ً ويتولى هذه الترتيبات عزام الأحمد في بغداد وحكم بلعاوي في تونس.
في بداية عام 1985كان أبو عمار عزز شرعية قيادته، واستعاد العلاقة مع مصر، وتصالح مع الأردن عن طريق عقد المجلس الوطني في عمان وعبر الدبلوماسية المرنة للمصالحة التي اتبعها مع الأردن ومصر. وعلى المستوى الدولي، كان يسعى لتعويض خسارة الثورة لقاعدتها في لبنان والعلاقة مع سوريا بكل ما تمثله من أهمية حاسمة في الشأن الفلسطيني. ومع القرار الذي مرره في المجلس الوطني حول الكونفدرالية بين الأردن وفلسطين كان لا بد من خطوة مشتركه لإثارة الاهتمام الدولي، وأقدم أبو عمار على الخطوة التي فجرت الموقف من جديد وأعني توقيع الاتفاق الأردني –الفلسطيني في 11/2/ 1985، وتصاعد الغضب وردود الفعل بسبب أمرين أثنين: عدم وضوح أن الاتفاق ينص على دولتين مستقلتين، والثانية التضمين للقرار 242 دون ذكره نصاً عند الحديث في نص الاتفاق حول قرارات الشرعية الدولية وهذا القرار المشئوم هو القنبلة المتفجرة في الساحة وأي اقتراب منه يعني تفجير الساحة الفلسطينية، ومن يقبل من الفلسطينيين بعد جراح أيلول 1970 أن يكون للملك أي دور في الشأن الفلسطيني: هذه محرمات والذي يقترب منها إنما يقترب من حقل ألغام لا يخرج منه سالماً.. إلا إذا كان في دهاء ياسر عرفات. وقد عاد من عمان بعد أن وقع الاتفاق وهو يقول أن إل "S "موجودة في نص الاتفاق وقد يكون الأردنيون أسقطوها سهواً أو عمداً. وفي الانجليزية يقال (Two states) ولكن "لا حياة لمن تنادي" وفشلت هذه المحاولة فشلاً ذريعاً، فاللجنة المركزية رفضتها في بيان علني إثر اجتماعها في الكويت، وحاول أبو إياد وأبو لطف في زيارتهما إلى عمان تعديل نص الاتفاق وتهدئة الأجواء مع الملك حسين، ولكن الملك لم يكن يملك هامشاً واسعاً لمواصلة التحرك السياسي مع المنظمة من جهة، ومع أميركا وإسرائيل من جهة أخرى. فكان هناك قيد كيسنجر الذي يحمل الإكراه والإملاء. فلا كلام مع المنظمة قبل أن تعترف بحق إسرائيل في الوجود وبالقرار 242 وتنبذ الإرهاب وإلا (باي باي (PLO.
الفصل الخامس عشر:
الرؤية أوضح في تونس
عاد أبو عمار إلى تونس بعد خمسة أيام من المحاولات التي بذلها الكثيرون لإقناعه بالعودة إلى تونس والاجتماع مع أعضاء اللجنة المركزية. وفي الحقيقة هناك من أجرى اتصالا مع الرئيس علي عبد الله صالح للضغط على أبو عمار للسفر إلى تونس. وفعلا هذا ما حدث. وعاد أبو عمار إلى مقر قيادته. وهذه اللجنة المركزية التي قادت فتح هي فعلا قيادة تاريخية بكل معنى الكلمة. فالغضب بينهم يقف عند حد، والخلاف السياسي يقف عند حد، ومهما ظهر بينهم من جفوة وتباعد وحتى قطيعة في الكلام والاتصال فيخطئ من يراهن عليه ويبني حساباته أن هذه القيادة قد فقدت وحدتها وتفرقت أيدي سبا. ويقف محمود عباس (أبو مازن) في نقطة الوسط. وحين يضمن صفاء الأمور بين أبو عمار وأبو إياد تصبح مهمته لعقد اجتماع اللجنة المركزية قريبة المنال. وبصمته الشديد يفاجئنا بأن اجتماع اللجنة المركزية سيعقد هذه الليلة، فيجري تنفيس الاحتقان الداخلي. وتسقط السدود بين المعسكرات. وهكذا ساد في فتح لسنوات طويلة اعتقاد أن أبو عمار وأعضاء اللجنة المركزية يوزعون الأدوار فيما بينهم.
ومع أن أبو عمار وصل تونس غاضبا من التصريحات والبيانات التي صدرت من عدد من أعضاء المركزية للتنصل من زيارته للقاهرة بل ولإدانتها، فانه يرصد أوضاع اللجنة المركزية. فإذا أصيب أحدهم بالزكام يقوم بزيارته. وإذا وقعت مناسبة عائلية يكون ورد أبو عمار وهداياه المتواضعة في المقدمة. وإذا حضر ضيوف أجانب أو من عمان أو بيروت فيقوم حكم بترتيب غداء في منزله ويحضره الجميع، أعني أعضاء المركزية. وإذا حضر من كنا نسميهم "الكمبرادور "وهم حسيب الصباغ، وسعيد خوري، ومنيب المصري، وصبيح المصري، وعبد المجيد شومان، وزين مياسي، وباسل عقل، هؤلاء موضع احترام وثقة من أعضاء اللجنة المركزية وأنهم يتركون أعمالهم ويتفرغون كليا لإصلاح ذات البين في لجنة فتح المركزية. ويجب ألا ننسى أبدا الدور الرائع لهذا القائد اللبناني الشجاع محسن إبراهيم القادر بثقافته وتجربته السياسية الطويلة على إزالة الجليد بين أعضاء اللجنة المركزية. ولا تستغرق كل هذه الجهود أكثر من أسبوع وبعدها يلتئم شمل اللجنة المركزية، وهذا هو الأهم. وأبو عمار لا يقول في الاجتماع أكثر من أنه وجد من واجبه أن يشكر مصر ورئيسها على دعمهم وتقديم الحماية الأمنية للبواخر التي غادرت طرابلس. وكان هناك تهديد إسرائيلي بالسيطرة عليها، وأخذ أبو عمار أسيرا. ويقول أبو عمار: "نعم، الزيارة قرار شخصي وليست قرار القيادة". فلم يكن هناك مجال لعقد اجتماع وأنا في البحر. والاتصالات التي جرت ليست كافية لتوضيح الأمور كلها للأخوة. والبيان الذي صدر عقب اجتماع اللجنة المركزية كان له هدف أبعد من التأكيد أن الزيارة شخصية وهذه قيادة لها خبرة في شؤون الساحة الفلسطينية. ولذلك حين أكد البيان أن الزيارة شخصية فهذا فتح الباب لاستعادة الحوار مع الفصائل. فلو قيل مثلا إن اللجنة المركزية توافق على الزيارة فان الفصائل وخاصة الشعبية والديمقراطية تصبح في وضع صعب للغاية، وهي المقيمة في دمشق. وهذا البيان الذي صدر بعد اجتماع اللجنة المركزية وفهمه الكثيرون انه مساس بمكانة أبو عمار كقائد للثورة ورئيس للمنظمة إنما يعكس النظرة الثاقبة التي ينظر فيها أبو عمار إلى الأمور. فهو من جهة حقق بزيارة القاهرة اختراقا لصالح الشعب الفلسطيني، ومن جهة أخرى ترك الباب مفتوحا لحماية الوحدة الداخلية في الساحة الفلسطينية. والشرعية التي يصر عليها أبو عمار لا يمكنها أن تدوم بدون الوحدة الوطنية. فالوحدة الوطنية لا تتحقق لأنها تمثل المصلحة العليا للشعب الفلسطيني، بل يتطلب تحقيقها بالإضافة إلى الأهداف السامية والمثل العليا الوطنية الصحيحة القائمة على الاستقلالية، والعمل الجاد لتعديل موازين القوى الداخلية لصالح الجسم المركزي وشحن ديناميكيته وحركيته لإدامة قدرته على جذب الأفلاك إلى دائرته وإطاره. وإذا كان أبو عمار في كل هذه المعارك التي يقودها قد حقق إنجازا لا تراجع عنه فهذا الانجاز هو تكريس الهوية الوطنية وتكريس الاستقلالية الوطنية وتكريس القرار الوطني المستقل. وهذا تم بالعمل والمبادرة. والمنشقون سواء وقفوا على يساره أو على يمينه فلا أثر لهم يحسب حسابه في الأوساط الوطنية التي أصبحت تعي خصوصيتها. فهذا الانجاز السياسي، وأعني به الخصوصية الوطنية الفلسطينية كانت تربته جاهزة لمن يحسن زراعتها. وهذا ما أدركته بوعي عميق النواة الأولى لحركة فتح التي أحسنت مخاطبة الفلسطينيين ولم تكن حركة تبشير بل كانت حركة عمل وفعل، وخدمها التاريخ من حيث لا تحتسب في هذه الحرب الكارثة عام 1967 التي وسط الدمار والضياع والاحتلال لكل فلسطين التاريخية، أوجدت الشرط الموضوعي والتربة الخصبة لظهور العامل الفلسطيني بكل خصوصيته. وقد أسقط من وعيه أوهام الماضي ورهانات المستقبل وهو يخوض صراع البقاء في الزمن العربي الرديء، زمن القبائل والكيانات الهزيلة.
وإذا كان العمل وليس التبشير هو أداة القياس لكل الأفكار فمن غير أبو عمار يمكنه القول أنه دخل مرتين إلى فلسطين لتعبئة الخلايا المقاتلة لحركة فتح، وظلت لغة أبو جهاد تحمل هذه الشحنة العاطفية منذ بدأ كتاباته الأولى في مجلة "فلسطيننا "في عام 1959 وحتى رسالته الأخيرة لقادة الانتفاضة في عام 1988 يوم اغتياله على يد الموساد في 16 نيسان 1988. ويمكننا أن نفهم عمق وتجذر الهوية والخصوصية الفلسطينية حين يصرح أبو إياد بأننا سنعقد المجلس الوطني على سفينة في البحر الأبيض المتوسط ولن نقبل من أحد أن يفرض علينا شروطه. وكمال عدوان الذي كان يردد دائما "عقيدتي فلسطين وكل العقائد في خدمتها. " والمساهم الأبرز في صياغة البرنامج السياسي والجملة السياسية بدعم قوي من أبو عمار وأبو إياد هو محمود عباس ( أبو مازن ) الذي حفر عميقا في تاريخ اليهود والحركة الصهيونية في دراسة أكاديمية أوصلته إلى الواقعية السياسية العارية ليجد لشعبه مكانا في التاريخ بحكم أنه أحد القادة المؤسسين لفتح. فإنه حين وضع ثقله إلى جانب الواقعية السياسية وجدت الجملة السياسية الفلسطينية مكانها المركزي والمحوري في البرنامج الوطني العام. ولم تكن هذه المساهمة بالمهمة السهلة ولازالت تلقى المعارضة من مزيفي التاريخ.
إن السياسية الوطنية، الصحيحة القائمة على استقلالية الإرادة والقرار، هي مصدر القوة الأساسي لحركة "فتح" لدى الشعب الفلسطيني. وهذه السياسة أصبحت خيارا لا رجعة عنه بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية. أما القضية الأهم وهي تعديل موازين القوى الداخلية، فإن أبو عمار بعد الخروج من طرابلس وزيارة القاهرة وحيث أصبحت تونس مركز قيادته، لم يهدأ ولم ينم على حرير استطلاعات الرأي التي أعطته تأييدا شعبيا غير مسبوق. إنه يعطي الوقت- كل الوقت- لإعادة بناء "فتح" بعد كارثة الانشقاق. والانشقاق له تداعيات بعيدة المدى. فهو انشقاق داخلي وانشقاق مع سوريا وقبل عشر سنوات كان انشقاق مع الأردن. وفي القواعد والبنية التحتية. هذه الانشقاقات المتتالية تقع ،عادة، في الأداة الفاعلة، فهي أصابت كوادر عليا في الجسم العسكري والمدني والمنظمات الشعبية. ولحسن الحظ أنها انشقاقات أفقية وليست عمودية بمعنى أنها تنحصر في فرد أو أفراد. والمنشق يخرج وحده من جسم "فتح". وهذا لا يمس التفاف الجماهير حولها وكانت هذه الخصوصية الوطنية التي جسدتها "فتح" هي القوة الحاسمة لعزل أي انشقاق، حتى لو كانت معه سوريا اللاعب المؤثر في الشأن الوطني الفلسطيني، بحكم موقعها في ساحة الصراع، وبحكم مواقفها التي لا تكلفها شيئا حين تقف على يسار "فتح" التي ترفع راية الاستقلالية الوطنية وتعتمد البرجماتية السياسية منهجا في عملها وعلاقاتها.
ورغم الرحيل القهري عن بيروت وطرابلس في عامين متتاليين، فإن عزيمة أبو عمار لم تضعف أبدا. فحيث هناك احتلال هناك مقاومة للمحتلين، وحيث هناك فلسطينيون هناك "فتح". ولا يمكن أن يرضخ أبو عمار لأية قوة تحاول إبعاده عن شعبه. وإذا كانت هناك مقاومة في جنوب لبنان فهي مقاومة فلسطينية - لبنانية ولا يقبل أي تسمية أخرى. وحين عاد الوئام إلى اللجنة المركزية، عاد أبو عمار إلى نظام حياته: المقاومة ثم المقاومة ولا شيء غير المقاومة. فالمقاومة أساس وجوده وجذر شرعيته وبدونها لن يكون أبو عمار، وبعد أن شكل من الضباط الكبار الهيئات المختلفة، كرس كل وقته للجنة لبنان، والمقاتلون يجب أن يعودوا إلى لبنان، لأنه لا يمكن أن نترك شعبنا تحت رحمة المنشقين وحركة "أمل" و"جبهة الإنقاذ" التي أرادها حافظ الأسد أن تكون بديلا لفتح ولمنظمة التحرير الفلسطينية. ولهذا يأمر "فتحي" و"جمعة "المسئولان عن القوة البحرية بشراء السفن، ويتدفق مئات المقاتلين إلى المخيمات في بيروت والجنوب. ويأمر أبو عمار الوحدات التي كانت في الجبل بالتسلل إلى مخيمات بيروت. وترتكب حركة "أمل" بأمر من الأسد جريمتها في حرب المخيمات ضد ما تسميه "زمرة العرفاتيين."و تتلقى التسليح والدبابات من سوريا. والمهم ألا تعود "فتح" إلى لبنان.
ويضم الأسد كتيبة الأسد واللواء السادس من بقايا الجيش اللبناني لقوات "أمل" لمواصلة جريمتها في حرب المخيمات على مدى ثلاثة أعوام، وتتعرض المخيمات في بيروت والجنوب للقصف والحصار، وحتى تمنع وكالة الغوث من تزويد مخيم الرشيدية بالمواد الغذائية. وفي مخيم برج البراجنة أصدر رجال الدين فتوى لأكل لحوم الكلاب والقطط بسبب وطأة الحصار. وفشلت حركة "أمل" في فرض سيطرتها رغم آلاف الأرواح بين قتيل وجريح، وبعد حركة "أمل" جاء دور المنشقين الذين اغتالوا علي أبو طوق قائد الصمود في شاتيلا وصبرا في آخر كانون الثاني 1987 الذي وقف في وجه قوات أمل واللواء السادس. ومرة أخرى أخرجت قوات "فتح" من مخيمات بيروت إلى مخيمات الجنوب تحت ضغط النظام السوري. وكان لا بد من الرد على وحشية وغطرسة حركة "أمل". وتحقق الرد في قرية مغدوشة أيلول 1986 حيث وجهت قوات فتح والجبهة الديمقراطية ضربة موجعة لحركة أمل في هذه المعركة الحاسمة وهي القرية الإستراتيجية التي تسيطر على الطرق إلى بيروت والجنوب. وبالطبع يجب أن لا ننسى المساعدة التي تلقتها قوات فتح من الحزب التقدمي الاشتراكي، ومن التنظيم الناصري بقيادة مصطفى سعد. وهكذا عادت فتح إلى المخيمات في الجنوب دون أن يتوقف أبو عمار عن المحاولات الدءوبة لاستعادة السيطرة على مخيمات بيروت. وظل أبو عمار يحرك المقاتلين والسفن إلى شواطئ لبنان، وإسرائيل تعترض السفن وتصادرها، وتزج بالمقاتلين في سجونها، وحركة "أمل" والمنشقون و"كتيبة الأسد" من بعثيي لبنان يرصدون حركة أبناء "فتح" للانقضاض عليهم كلما تلقوا الأمر بذلك من دمشق، فالكابوس الذي يؤرق الأسد هو عودة فتح إلى لبنان.
مع انهيار أوهام أبو صالح حول علاقته مع الأسد وموسكو وفرض الإقامة الجبرية عليه، وصراع أبو موسى وأبو خالد على الزعامة، وتماسك حركة "فتح" قيادة وكوادر في لبنان وكل المخيمات،عادت إلى الحياة والعمل العلاقات بين الفصائل الأساسية "فتح" والشعبية والديمقراطية والحزب الشيوعي وجبهة التحرير الفلسطينية وجبهة النضال وتم عزل الصاعقة والقيادة العامة والمنشقين.
لم يجد حافظ الأسد غير التهديد بأن من يغادر دمشق للالتحاق بياسر عرفات في تونس فلن يسمح له بالعودة إلى دمشق. هذا القرار معناه تعطيل اللجنة التنفيذية وتعطيل المجلس المركزي وهما أهم إطارين قياديين في الساحة الفلسطينية. وفي هذه الحالة تصبح شرعية اللجنة التنفيذية مهددة فعلا بحيث لا يتوفر النصاب لدى أي طارئ. وأصبح الوضع خطيرا فعلا حين صادرت المخابرات السورية جواز سفر محمد زهدي النشاشيبي ومنعته من مغادرة دمشق، وليس أمام أبو عمار إلا دعوة المجلس الوطني الفلسطيني في دورة عادية أو استثنائية لحماية شرعية اللجنة التنفيذية لتواصل قيادة الشعب الفلسطيني. وتدخل الأسد لمنع عقد المجلس في الجزائر. وذهب بنفسه في 27 آب 1984 إلى الجزائر. وأقنع الشاذلي بن جديد بالاعتذار عن الموافقة السابقة لعقد المجلس في الجزائر. وذهب أبو إياد إلى الجزائر وإلى اليمن الديمقراطي، ولم يجد غير الاعتذار من اليمن كما من الجزائر. ولهذا أدلى بتصريحه الشهير في ذلك الوقت "بأننا من أجل الحفاظ على الشرعية الفلسطينية وعلى القرار الوطني المستقل سنعقد المجلس الوطني على ظهر سفينة في البحر الأبيض المتوسط". وكان لا بد من إحياء العلاقات الداخلية بين الفصائل تمهيدا لعقد المجلس الوطني. ولهذا بدأت القيادة بإجراء الاتصالات لمباشرة الحوار الوطني في عدن في شهر نيسان 1984. وفي الجزائر وفي براغ تموز 1984. وفي عدن كنت إلى جانب أبو جهاد وأبو الهول في هذا الحوار مع الشعبية والديمقراطية. وفي براغ كان أبو مازن يدير الحوار مع ممثلي الفصائل في جولة أخرى. وفي الجزائر وضعت اللجنة المركزية كل ثقلها لإنجاح الحوار. وبالفعل، تم التوقيع على اتفاق عدن - الجزائر على أساس جملة من المواقف السياسية المتشددة، ومنها رفض مبادرة ريغان، ورفض كامب ديفيد، ورفض العلاقات مع مصر، وإدانة زيارة أبو عمار إلى مصر.
في عدن وقعت مشكلة مع أبو علي مصطفى كنت طرفا فيها، حيث واصلت مجلة "الهدف"حملتها على أبو عمار وتحت صورته في المجلة كتبت بالخط العريض "المنبوذ."ووجدت المجلة أمامي في الفندق، فقرأت المقال السيئ جدا وجلست على الفور وكتبت افتتاحية "كلمة الثورة" لمجلة" فلسطين الثورة" وأرسلتها على الفاكس إلى المجلة في قبرص، وطلبت نشرها في الصحف اللبنانية. كما طلبت إرسالها إلى عدن حيث نجتمع في جلسات الحوار الوطني المليئة بالتوتر والاستفزاز لفتح. وأما أبو جهاد فكان يتجاوز هذا الاستفزاز. وفي المساء حين نشر ردي في "فلسطين الثورة "على ما نشرته مجلة "الهدف" ضد أبو عمار انفجرت الجلسة وتوقفت المحادثات وألغيت جلسة اليوم الثاني الصباحية، ما اضطر الرئيس علي ناصر محمد إلى دعوة الوفود كلها إلى جلسة مشتركة برئاسته لإصلاح ذات البين، وكانت له قدرة عالية على تذليل الصعوبات في العلاقات الشخصية بيننا نحن الفلسطينيين. ودعانا لتناول الغداء على مائدته، حيث عرفني على مستشاره السياسي وكان اسمه للمصادفة "أحمد عبد الرحمن. "وقد تم الاتفاق على رفع الجلسة في اليوم الثالث على أن يستأنف الحوار في الجزائر في منتصف تموز 1984. وبالفعل صدرت ورقة اتفاق في براغ حيث كان أبو مازن يرأس وفد فتح. وتم توحيد الأوراق وتوقيع اتفاق عدن- الجزائر في 20-7-1984، على أمل أن يتم عقد المجلس الوطني مباشرة في الجزائر. ولكن غياب خالد الفاهوم عن الحوار وهو رئيس المجلس الوطني وغياب "الصاعقة" و"القيادة العامة" وبعض جبهة النضال وجبهة التحرير الفلسطينية واستحالة قبول المنشقين في أي حوار أو أي مجلس وطني، جعل الأسد يتحرك لرفض عقد المجلس الوطني في الجزائر أو عدن. وبالتالي أصبح الموقف محرجا للشعبية والديمقراطية والحزب الشيوعي وبعض أطراف الفصائل الأخرى. إلا أن أبو عمار لن يسلم للأسد بوضع هذا "الفيتو" الخطير على الوحدة الوطنية. ولهذا قرر الاستمرار في الجهود لعقد المجلس الوطني وجاءته الموافقة من الملك حسين الذي رحب بعقد المجلس الوطني في عمان. وكان الملك حسين قد أعلن وقوف الأردن ضد المنشقين وضد محاولات نظام الأسد السيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية. وطلب مني أبو عمار الذهاب إلى عمان للتحضير لعقد الدورة السابعة عشرة للمجلس الوطني والتي عقدت تحت عنوان :"دورة القرار الوطني المستقل. "وهذا العنوان يعكس الصراع المتصاعد مع نظام حافظ الأسد. وفي يوم وصولي إلى عمان عقدت مؤتمرا صحافيا في فندق "عمرة"وقرأت نصاً مكتوباً عن أهداف هذه الدورة، وهي حماية منظمة التحرير الفلسطينية والتأكيد على استقلالية القرار الوطني، ورفض الوصاية والاحتواء والتبعية. وقد رتبت استقبال الصحافيين العرب والأجانب وقاعة الصحافة في مدينة الحسين الرياضية. وعزل الأمن الأردني مدينة الحسين الرياضية والفنادق المحيطة ووضع قيودا مشددة على الحضور للمنطقة. وبدون الأوراق الرسمية من لجنة المؤتمر لا يمكن أن يدخل أحد إلى المنطقة.
تحدث الملك حسين في الجلسة الأولى في 22/11/ 1984 وعرض أفكاره حول ضرورة التعامل مع قرارات الشرعية الدولية والقرارين 242 و338، والعمل المشترك الفلسطيني – الأردني. وفي الواقع لم يكن الهدف من وراء دورة المجلس الوطني في عمان أي تناول للقضايا السياسية الشائكة، بل كان الهدف ترميم اللجنة التنفيذية للمنظمة التي كادت تفقد نصابها بسبب قرار الأسد بأن من يغادر دمشق إلى تونس للمشاركة في التنفيذية فلن يسمح له بالعودة إلى دمشق. كما صادرت جواز عضو اللجنة التنفيذية محمد زهدي النشاشيبي. وفي الوقت نفسه قاطعت الجبهة الشعبية ولا زالت عضوا في "جبهة الإنقاذ" مع "الصاعقة"و"القيادة العامة" والمنشقين وأقسام من جبهة النضال وجبهة التحرير الفلسطينية. وبالطبع هناك ممثل الصاعقة مجمد خليفة وممثل القيادة العامة المخضرم طلال ناجي. وقد كنا في بداية عملنا أنا وطلال زملاء في الهيئة الإدارية لاتحاد طلاب فلسطين في سوريا. وكان طلال في ذلك الوقت يمثل جبهة تحرير فلسطين "ج.ت.ف "وأنا أمثل حركة "فتح". وبالإضافة إلى هؤلاء هناك خالد الفاهوم الذي "قلبه مع علي وسيفه مع معاوية"، لأنه محكوم عليه أن يقبل ما يقبله الأسد ويرفض ما يرفضه، وكان مكرها أن يكون طاقية الخفاء لعش الدبابير المسمى "جبهة الإنقاذ". أما عبد الرحيم أحمد ممثل "جبهة التحرير العربية" فكان مع الشرعية وعقد المجلس الوطني في عمان لتجديدها. وهو رجل دمث ومهذب. وقد كان يشكو لي من الاتصالات الهاتفية أثناء دورة المجلس من الصحافيين والضيوف الذين يخلطون بين اسمينا عبد الرحيم أحمد وأحمد عبد الرحمن. وأرد عليه بأن مواقف الجبهة العربية الآن تؤهله تماما ليقوم بدور الناطق الرسمي للمجلس الوطني. فهناك انسجام كامل في المواقف بين "فتح"والعراق. والجبهة العربية في هذه الحالة مع الشرعية وتوقع على بياض لأبوعمار.
أما الأمر الملفت في هذا التعاون مع الأردن فهناك جيل جديد من الصحافيين على صلة قوية مع النظام وقد جلسوا طويلا معي وأراحهم موقفي حين كنت أؤكد أن أيلول الأسود لا يتحمل مسؤوليته طرف واحد، بل المسؤولية مشتركة بين النظام والمنظمة. والأهم أنني صرحت علنا بأن "الأردن هو الأردن وفلسطين هي فلسطين، والأردن وطن الأردنيين وفلسطين وطن الفلسطينيين". ورفضت الوطن البديل الذي صرح به شارون حلا للقضية الفلسطينية. ولكني أضفت أن الأردن بلد صغير، ولا يمكنه مجابهة إسرائيل عسكريا ولكن – وهذا هو الأهم- ألا يقبل أي تورط مع إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني.
وسنحت لي الفرصة للحديث المباشر مع الملك حسين، وتأثرت كثيراً بلطفه وأدبه وتواضعه. فهو لا يخاطب أي شخص ولا يرد عليه إلا بكلمة "سيدي"، كما لفت انتباهي فريق المسئولين المباشرين الذين يعملون في الديوان الملكي: إنهم نخبة راقية من الموظفين الحاصلين على الشهادات الجامعية من أميركا وبريطانيا. إلا أن هذه الواجهة من المثقفين ليست هي التي تقرر العلاقات مع الفلسطينيين، سواء كانوا في الأردن أو في الضفة أو من قطاع غزة، فهذه العلاقات بدا لي أنها محصورة بجهاز المخابرات الذائع الصيت في الأردن. وكلمة "عليك مراجعة المخابرات، أو سحب الجواز في المطار أو على جسر الملك حسين ثم مراجعة المخابرات، هي أمور روتينيه في علاقة الأردن بالفلسطينيين.
قرر أبو عمار أن تكون جلسات المجلس الوطني الفلسطيني جلسات مفتوحة. ووافق الملك حسين على طلب أبو عمار أن ينقل التلفزيون الأردني كافة الجلسات على الهواء مباشرة، بحيث يتابع أهلنا في فلسطين وفي الأردن وسوريا ولبنان وقائع المجلس وقضاياه أولا بأول. وتعرف الناس على القيادة وأعضائها وقضاياها ونظام عمل المجلس الوطني وكيفية انتخاب اللجنة التنفيذية وممن تتشكل وكيف ينتخب أبو عمار رئيساً للجنة التنفيذية ومن هم المستقلون وكيف يتم اختيارهم،وكيف لم يتمكن المجلس بسبب نظامه المعقد من إسقاط عضوية أحمد جبريل أو جماعة "الصاعقة". واستمعوا لكل النقاشات العلنية وهي غير مسبوقة في الحياة السياسية العربية. كل ذلك جعل الجماهير الفلسطينية تلتف بقوه حول المنظمة وحول الاستقلالية الوطنية التي أصبحت هي المحرك وهي القوه الدافعة لأي توجه في الساحة الفلسطينية.أما قضية توفير النصاب، وكانت هي نقطة التحدي، فقد وقف ممثلو الجبهة الديمقراطية على أهبة الاستعداد خارج قاعة المجلس أثناء تثبيت العضوية للتحقق من النصاب وللدخول إلى القاعة في حال حصل نقص في العدد المطلوب لإكمال النصاب. وقد نجحت جهود أبو عمار بحضور 260 عضواً من بين 370عضواً هم أعضاء المجلس. وبهذا تحقق النصاب المطلوب الذي بموجبه تعتبر دورة المجلس الوطني شرعيه على الرغم من مقاطعة "الشعبية" و"الصاعقة" و"القيادة العامة" وبعض جبهة النضال وجبهة التحرير الفلسطينية. ولأن أبو عمار لا يريد القطيعة التامة مع نظام الأسد ,فلم يوافق على جميع الاقتراحات ومشاريع القرارات لطرد أحمد جبريل قائد "القيادة العامة" من عضوية المجلس الوطني. أما بالنسبة لخالد الفاهوم وكانت له مكانة خاصة عند أبو عمار فلم يكن ممكناً بقاءه رئيساً للمجلس الوطني، وعليه تم انتخاب"الشيخ الأحمر" أي التقدمي عبد الحميد السائح رئيساً للمجلس والذي استمر رئيسا من عام 1984حتى عام 1991م، وبعده انتخب المجلس الوطني سليم الزعنون رجل القانون والقاضي والشاعر رئيساً للمجلس. وبالمناسبة، فرئيس المجلس الوطني هو في الوقت نفسه رئيس المجلس المركزي الذي ينعقد أربع مرات كل عام بواقع مرة واحدة كل ثلاثة أشهر.ويحقق أبو عمار في هذا المجلس ما سعى إلى تحقيقه وهو استعادة الشرعية بكامل قوتها وتحت رئاسته، وإسقاط "الفيتو" الذي اعتقد الأسد أنه سيعطل الشرعية الفلسطينية. وقد قلت له: إن الجماهير عبرت عن تقديرها لموقفه حين تمسك بنصوص القانون ورفض طرد أحمد جبريل وممثلي الصاعقة من المجلس قال لي "هذه شعرة معاوية مع معاوية. "
كانت دورة القرار الوطني الفلسطيني المستقل في تشرين الثاني 1984 توازي في أهميتها قرارات قمة الرباط في تشرين الأول عام 1974 التي نصت على أن المنظمة هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وبعد شهر كامل من انتهاء أعمال المجلس الوطني وبالتحديد في"يوم 29/12/ 1984" أقدم المنشق أبو خالد العملة على ارتكاب جريمة اغتيال رئيس بلدية الخليل المبعد فهد القواسمة، الذي انتخبه المجلس الوطني عضواً في اللجنة التنفيذية. وقد قوبلت هذه الجريمة الدنيئة باستنكار عارم من جماهير الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. وقد كتبت البيان الذي أصدرته القيادة حول هذه الجريمة وحملت المسؤولية لنظام حافظ الأسد.
كانت حسابات أبو عمار، وإلى جانبه أبو جهاد، أن هذه المصالحة الهادئة مع الملك حسين قد توفر المكان الأفضل لإدامة الاتصال مع الأرض المحتلة. وبالفعل، بدأ أبو جهاد عمله في عمان بهدوء تام، ووظف أموال اللجنة المشتركة في دعم الداخل، وأقام "حركة الشبيبة" ومئات اللجان والهيئات. وقد احتجت إسرائيل على نشاطات أبو جهاد الذي كان يعمل بهدوء وصمت. ودخل أبو عمار بكل ثقله على خط "القطاع الغربي" الذي يقوده أبو جهاد. وفي بغداد وفي تونس أخذ يستقبل كل أطياف الشعب الفلسطيني. فالبرتقال من غزة، يتعهد أبو عمار بتسويقه في الدول الاشتراكية، والزيت من الضفة تشتريه إيطاليا، و"مستشفى القاصد" تتولى السعودية تغطية نفقاته، والجامعات المتكاثرة في الضفة وغزة يجمع لها 60 مليون دولار ويمولها، والصحف ومكاتب الإعلام لا يبخل عليها باحتياجاتها، أما القادمون لمقابلة أبو عمار في تونس وبغداد فجوازات سفرهم لا تختم أبدا،ً ويتولى هذه الترتيبات عزام الأحمد في بغداد وحكم بلعاوي في تونس.
في بداية عام 1985كان أبو عمار عزز شرعية قيادته، واستعاد العلاقة مع مصر، وتصالح مع الأردن عن طريق عقد المجلس الوطني في عمان وعبر الدبلوماسية المرنة للمصالحة التي اتبعها مع الأردن ومصر. وعلى المستوى الدولي، كان يسعى لتعويض خسارة الثورة لقاعدتها في لبنان والعلاقة مع سوريا بكل ما تمثله من أهمية حاسمة في الشأن الفلسطيني. ومع القرار الذي مرره في المجلس الوطني حول الكونفدرالية بين الأردن وفلسطين كان لا بد من خطوة مشتركه لإثارة الاهتمام الدولي، وأقدم أبو عمار على الخطوة التي فجرت الموقف من جديد وأعني توقيع الاتفاق الأردني –الفلسطيني في 11/2/ 1985، وتصاعد الغضب وردود الفعل بسبب أمرين أثنين: عدم وضوح أن الاتفاق ينص على دولتين مستقلتين، والثانية التضمين للقرار 242 دون ذكره نصاً عند الحديث في نص الاتفاق حول قرارات الشرعية الدولية وهذا القرار المشئوم هو القنبلة المتفجرة في الساحة وأي اقتراب منه يعني تفجير الساحة الفلسطينية، ومن يقبل من الفلسطينيين بعد جراح أيلول 1970 أن يكون للملك أي دور في الشأن الفلسطيني: هذه محرمات والذي يقترب منها إنما يقترب من حقل ألغام لا يخرج منه سالماً.. إلا إذا كان في دهاء ياسر عرفات. وقد عاد من عمان بعد أن وقع الاتفاق وهو يقول أن إل "S "موجودة في نص الاتفاق وقد يكون الأردنيون أسقطوها سهواً أو عمداً. وفي الانجليزية يقال (Two states) ولكن "لا حياة لمن تنادي" وفشلت هذه المحاولة فشلاً ذريعاً، فاللجنة المركزية رفضتها في بيان علني إثر اجتماعها في الكويت، وحاول أبو إياد وأبو لطف في زيارتهما إلى عمان تعديل نص الاتفاق وتهدئة الأجواء مع الملك حسين، ولكن الملك لم يكن يملك هامشاً واسعاً لمواصلة التحرك السياسي مع المنظمة من جهة، ومع أميركا وإسرائيل من جهة أخرى. فكان هناك قيد كيسنجر الذي يحمل الإكراه والإملاء. فلا كلام مع المنظمة قبل أن تعترف بحق إسرائيل في الوجود وبالقرار 242 وتنبذ الإرهاب وإلا (باي باي (PLO.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق