الكومبس – تجارب وقصص نجاح

سمعتُ أطراف حديث عن قصة الاستاذ في جامعة أوبسالا، د. علي نجيب من صديق مشترك، عن طريق الصدفة، وأكثر ما شدني ودفعني للتعرف على هذه الشخصية، هو الجانب المتعلق في رحلة وصوله إلى السويد أولا، ورحلة نجاحه فيها ثانيا. لقد تلمستُ فيها هذا الإصرار وهذه العزيمة التي يمكن أن تنقل الإنسان من عالم الحلم، إلى عالم الواقع بعد تحقيق الحلم. وكيف يمكن لفتى فقير، أن يتحول من راعي إبل في بلدة صغيرة جنوب المغرب، تدعى بوابة الصحراء إلى استاذٍ في واحدة من أعرق الجامعات في السويد بل في العالم. وأن يُنجز مؤلفات وأبحاث عديدة في اختصاص يعتبر نادرا ومهما.
اتصلت بالدكتور علي هاتفيا، واتفقنا أن نزوره في كلية الاقتصاد في جامعة أوبسالا، ومع أن يوم اللقاء المتفق عليه كان يوم عطلة رسمية، إلا أن الجامعة لم تكن مغلقة تماماـ فبعض الطلاب والمعلمين كانوا متواجدين في الحرم الجامعي. جلسنا أولا في غرفته وعرفنّا على بعض أعماله، وانتقلنا بعدها إلى غرفة جلوس المعلمين.
وعلى كوب قهوة "بريغ كوفي" بدأنا الحديث أولا عن الجغرافيا الاقتصادية وهو الاختصاص الذي يقوم الاستاذ علي بتدريسه لطلابه، خاصة طلاب الدراسات العاليا، وعن تطبيقات هذا الاختصاص بالنسبة للسويد، وللنشاط الاقتصادي للمجموعات البشرية في هذا البلد خاصة المهاجرين منهم. ولأن لهذا الحديث أهمية كبيرة بالنسبة للنشاطات الاقتصادية للمهاجرين والمولودين خارج السويد، اتفقنا أن يخصص "الكومبس" مقالات ومساحات أخرى على صفحاته لتناول هذا الموضوع.
وكما هو معروف تهتم الجغرافيا الاقتصادية بدراسة مكان الأنشطة الاقتصادية وتوزيعها وتنظيمها المكاني، وتركز على مواقع الصناعات، الأنشطة التجارية، تجارة التجزئة والجملة، المواصلات، والقيمة المتغيرة للعقارات. كما تدرس الأنشطة الزراعية والتجارة العالمية.

طفولة قاسية على تخوم الصحراء
يجلسُ امامك رجلٌ تعلو الابتسامة الدائمة وجهه، يحدثك بكل هدوء وثقة، تحاول أن تقرأ عمره من خلال قسمات وجهه فتحتار بين 60 أو 70 عاما، وقبل أن تأخذك الحيرة أكثر تبادر إلى سؤاله عن عمره، فيزيدك الجواب حيرة على حيرة. 
 خلال رحلة عمر حافلة وغنية بالتجارب، لا يستطيع الدكتور علي نجيب أن ينسى المراحل المبكرة لطفولته، فبعد ولادته بقليل في أواسط أربعينيات القرن الماضي انفصل والداه عن بعضهما 
يقول د. علي: "حسب وثائق الولادة عمري 64 عاما ولكن سأقول لك سرا يمكن أن تذيعه، هذا ليس عمري الصحيح، اعتقد أنني أكبر من ذلك بعدة سنوات ولهذه القصة علاقة برغبتي في دخول المدرسة بعد ان تجاوزت العاشرة من عمري، فكان يجب أن أحصل على شهادة ميلاد بعمر أقل من عمري"
خلال رحلة عمر حافلة وغنية بالتجارب، لا يستطيع الدكتور علي نجيب أن ينسى المراحل المبكرة لطفولته، فبعد ولادته بقليل في أواسط أربعينيات القرن الماضي انفصل والداه عن بعضهما، وقامت جدته وجده برعايته، في البادية، حيث كانت رعاية الإبل هي المهنة المتوفرة أمامه ليمارسها منذ نعومة اظافره. في هذه الاثناء تعلم في المساجد القراءة والكتابة لكنه لم يتمكن من دخول المدرسة إلا في عمر متأخر ولمدة ثلاثة صفوف مدرسية فقط.
هناك استطاع الطفل علي، تعلم الفرنسية، وبعض المواد التي تدرس في المرحلة الابتدائية. بعد وفاة جدته وجده بدا العمل في أسواق الخضار، يشتري ما يستطيع حمله ليوزعه على البيوت. 
 وقفنا في طابور طويل ونحن عراة الصدور، وكان علينا المرور على موظف فرنسي، يقوم بتفحص جسد كل واحد منا، والنظر إلى أسنانه، كما يتفحص تجار الأغنام ذبائحهم، ثم يقوم هذا الموظف بوضع دمغة، بقوة على صدر من يعتقد أنه صالح للسوق إلى المناجم الفرنسية 
عقب استقلال المغرب العام 1956 أبرمت الحكومة المغربية، اتفاقا على تزويد فرنسا باليد العاملة، للعمل في المناجم الفرنسية، أعجبت الفكرة الشاب علي، عندما انتشر خبر فتح مراكز استقبال لطلبات العمل، لكن صغر سنه، حسب الوثائق التي يحملها، وحتى سنه الحقيقي، لم يتطابق مع شروط تحقيق حلمه في السفر إلى فرنسا، فما كان أمام الشاب الصغير، إلا أن يسعى إلى الحصول على شهادة بتاريح ميلاد جديد من مختار المنطقة، وفق ما أشار عليه أحد المعارف. أما طريقة اختيار العمال للسفر إلى المناجم الفرنسية فيتذكرها الاستاذ علي قائلا:
"وقفنا في طابور طويل ونحن عراة الصدور، وكان علينا المرور على موظف فرنسي، يقوم بتفحص جسد كل واحد منا، والنظر إلى أسنانه، كما يتفحص تجار الأغنام ذبائحهم، ثم يقوم هذا الموظف بوضع دمغة، بقوة على صدر من يعتقد أنه صالح للسوق إلى المناجم الفرنسية، الدمغة رغم قوتها إلا أنه ختم الدخول إلى عالم جديد وربما مستقبل واعد.
يدمغ الشاب علي وينال موافقة السفر، وها هو يغادر أول مرة في حياته بلدته وريفها المجاور، ليسافر الآن إلى فرنسا. الرحلة من الشواطئ المغربية إلى الشواطئ الفرنسية كانت بصحبة الجرزان في الدرك الأسفل للسفينة مع دفعة من المدموغين على صدورهم..
لم يتحمل جسد الشاب الصغير ضغط العمل في أنفاق المناجم، الإدارة اكتشفت صغر سنه، لكنها أبقته في عمل آخر أمام أبواب المناجم، وليس في جوفها.
جمع علي مبلغا لا بأس به من المال، ورجع مع أخيه غير الشقيق إلى بلدته في المغرب، من أجل تأسيس محل تجاري، حسب حلم كان يراوده طويلا للاستقرار في وطنه. لكن هذا الأخ يأخذ المبلغ ويشتري سيارة شحن لنفسه، ويرفض أن يرجع لأخيه علي حصته في المبلغ لذي جمعه من عرق العمل في المناجم.
خسارة علي للثروة الصغيرة التي جمعها، أجبرته على الرجوع إلى مكان عمله القديم في فرنسا، ومعاودة الحلم مرة أخرى. عودته لم تكن سهلة خاصة أنه ودع الجميع وأخبرهم أنه ذاهب إلى الوطن بلا رجعة، لكنه رجع هذه المرة وهو مستاء من أهله ومن بلدته.
بعد فترة قصيرة في فرنسا، انتقل للعمل في مناجم بلجيكية في محاولة منه لتحسين وضعه المادي وتعويض ما خسره من جراء تصرف اخوه معه.
لم يبقى طويلا في بلجيكا حيث وجد من يقول له إن هولندا بحاجة لعمال مصانع، ليشد الرحال مجددا إلى بلاد الأرض المنخفضة.
111111111111.jpg

هولندا والتورط في سماع نصائح أهل السوء
في هولندا البلد الجديد، توظف علي في مصنع لصناعة البلاستك، كان الأجر معقولا، لكن سرعان ما أخذ بعض من سبقه للعمل في هذا البلد من المغاربة يعلمونه كيف يمكن أن "يحتال" على نظام العمل الاجتماعي لكي يحصل على تعويضات اكثر فوق راتبه الشهري.
 لقد أصبحت أعيش بحالة تأنيب للضمير وحالة خوف غير معقولة، وكنت أشعر بأني أعيش في عالم مزيف وفي وسط محتالين، وكان الخوف يتزايد في آخر كل شهر، كلما ذهبت لأخذ راتبي، والموظف ينظر لي بالريبة ويسألني بتهكم: هل انت الأب، أم أنت أحد أبنائك الثلاثة؟
يقول الأستاذ علي بكل صراحة، بأنه كان يستمع إلى نصائح بعض من سبقه، دون أن يفكر " لقد قمت بتزوير جواز سفري المغربي بمساعدة مختصين، وأضفت عليه بأنني متزوج وعندي أطفال، ومن لديه طفلين يتقاضى أكثر ممن لديه طفل، فوصلت بي الأمور إلى أن أضع ختما بأني عندي ثلاثة اطفال".
" لقد أصبحت أعيش بحالة تأنيب للضمير وحالة خوف غير معقولة، وكنت أشعر بأني أعيش في عالم مزيف وفي وسط محتالين، وكان الخوف يتزايد في آخر كل شهر، كلما ذهبت لأخذ راتبي، والموظف ينظر لي بالريبة ويسألني بتهكم: هل انت الأب، أم أنت أحد أبنائك الثلاثة؟ فقد كان عمري وقتها بحدود العشرين عاما.

"السويد جنة الأرض"
أثناء إحدى زياراتي في نهاية الاسبوع للعاصمة أمستردام تقابلت مع أحد المغاربة، ومن خلال حديث عابر، قال لي هذا الشخص: السويد هي جنة الله على الأرض، عندها توجهت إلى شباك تذاكر القطارات وقلت للموظفة: تذكرة واحدة للسويد من فضلك.
الموظفة: إلى أين في السويد؟ إلى اية جهة أو مدينة؟
لم يكن عندي اية فكرة عن جغرافيا السويد، قلت لها إلى أقرب مدينة. وهكذا وصلت إلى يوتيبوري في شهر أوكتوبر عام 1967 كان في جيبي وقتها مبلغ لا بأس به من المال، وكان في رأسي فكرة واحدة البدء بحياة جديدة ونفض غبار الماضي والابتعاد عن أهل بلدي قدر الامكان، فقد كان المحيط الذي أتعامل معه يعطي لي فكرة أن أبناء بلدي هم من يجلبون لي المتاعب، وهذا طبعا غير صحيح، لأنه لم يكن عندي مجال لأتعرف على أناس آخرين غير المتاح أمامي. 
 في الليل وعند النوم اخذت أفكر: أنا هربت من ابناء بلدي في هولندا وقطعت على نفسي أن لا أتعرف أو أعاشر أحد منهم، وها أنا أبيت هنا في منزل عائلة من أهل بلدتي، يجب أن أنفذ ما وعدت نفسي به
لكن الاقدار عرفتني في يوتيبوري، وبعد وصولي مباشرة، إلى شاب مغربي، سألته انت عربي؟ قال لي: نعم، مغربي؟ أجابني : نعم، هل تعرف أحد في هذه المدينة من جنوب المغرب، أجابني أيضا: بنعم. أخذت أخاف من صاحب هذه "النعم" التي لا يعرف إجابة غيرها، واعتقد انه قد يعرف بأن معي نقود، ويريد الاستيلاء عليها، لكنه اوصلني الى العائلة في يوتيبوري، والتي تعود أصولها إلى نفس بلدتي، وأثناء شرب الشاي في منزلهم عرفوا عني كل شيء من خلال فقط أسم أبي، بل كانوا يعرفون عن تاريخي في فرنسا وبلجيكا وهولندا.

في الليل وعند النوم اخذت أفكر: أنا هربت من ابناء بلدي في هولندا وقطعت على نفسي أن لا أتعرف أو أعاشر أحد منهم، وها أنا أبيت هنا في منزل عائلة من أهل بلدتي، يجب أن أنفذ ما وعدت نفسي به، وفي الصباح المبكر انسحبت بهدوء بعد ان كتبت رسالة شكر لأهل المنزل، وتوجهت إلى العاصمة ستوكهولم، التي أخبرني عنها أهل المنزل، اثناء شرب الشاي.

اول شيء قمت به في ستوكهولم هو طلب إصدار جواز سفر جديد لي في السفارة المغربية، فقد أخفيت جواز سفري المليئ بالأختام المزورة بأن لي زوجة وأطفال، وأظهرت للقنصل وثائق أخرى مغربية وقلت له من أنا ومن أهلي، القنصل لم يقتنع، أو لم يرغب أن يقتنع بسهولة، قلت له راسل أهل بلدتي وأقاربي وأنا سأدفع لك التكاليف لكي تتأكد، دفعت له 200 كرون سويدي في ذاك الوقت، وبعد أقل من أسبوع حصلت على جواز سفر جديد. بعدها توجهت إلى مدينة أوبسالا محطتي الاخيرة، التي قررت الاستقرار بها، وهكذا فعلت فأنا لا أزال هنا في هذه المدينة منذ العام 1967 مقيما فيها.

محطة أوبسالا الدائمة
وصلت إلى أوبسالا، وأنا لا أحمل سوى ثلاثة سنوات تعليم في مدرسة ابتدائية، وليس عندي مهنة، ولا أعرف اللغة السويدية. توجهت إلى مكتب العمل، أول مرة، لأطلب وظيفة، وكانت الساعة تقارب الواحدة والربع ظهرا، في حدود الساعة الثانية تقريبا أي بعد اقل من ساعة كنت قد استلمت وظيفة عامل تنظيف وجلي صحون في مطعم تابع لأحد الفنادق. وبعد فترة تقدمت للعمل في مطعم تابع لمستشفى في المدينة، وبناء على هذا العمل حصلت على إقامة في السويد. 
 توجهت إلى مكتب العمل، أول مرة، لأطلب وظيفة، وكانت الساعة تقارب الواحدة والربع ظهرا، في حدود الساعة الثانية تقريبا أي بعد اقل من ساعة كنت قد استلمت وظيفة عامل تنظيف وجلي صحون 
كانت فكرة الدراسة تراودني منذ الصغر، لكن طروف المعيشة والحياة منعتني من تكميل حتى المدرسة، وعندما علمت بأن هناك مدارس للكبار مسائية سجلت لأتعلم اللغة، وكنت ادفع 10 كرونات على كل ساعة، درست ما مجموعه 20 ساعة في البداية، وتابعت بعدها دراسة مواد إضافية مثل الرياضيات واللغة الإنكليزية، فكنت أعمل في النهار ومباشرة اذهب إلى المدرسة، أخرج من المنزل في السادسة صباحا وأعود عند منتصف الليل، وهكذا انهيت التعليم الأساسي.
ويتابع: لم يتوقف طموحي عند هذا الحد، فبدأت اسعى للدراسة الثانوية، والتي ستقرب لي فرصة تحقيق حلمي بالانتساب للجامعة، وهذا ما حصل فعلا، وفي العام 1971 استطعت الانتساب للجامعة أي بعد 4 سنوات، من وصولي إلى بلد وأنا لم ادرس في وطني سوى ثلاث سنوات إضافة فوق ما تعلمته في مسجد البلدة.
أثناء دراستي الثانوية، كنت لا أخرج إلى النوادي الليلية كما يفعل أصدقائي، وكنت أفضل البقاء في المنزل للدراسة، منذ ذاك الوقت أخذ بعض الأصدقاء يصفونني بالبروفيسور تهكما، ويقول لي آخرون: هل تصدق نفسك فعلا بأنك ستدخل الجامعة؟!

في العام 1986 حصل الشاب الطموح، على مقعد دراسات عليا، لدراسة الدكتوراه في الجغرافيا الاقتصادية، ولكن دون راتب مما اضطره إلى معاودة العمل في المطاعم لتأمين مصاريفه، فلم يكن النظام وقتها يمنح طالب الدكتوراه راتبا شهريا كما هو الحال الآن. ولم يكن علي يصاب بالحرج عندما يأتي زملاء له لتناول الطعام في المطعم الذي يعمل به. 
 السويد البلد الجنة التي سعى لها علي لم يكن ليجدها فعلا جنة، لولا كفاحه وإصراره ومثابرته على تحقيق النجاح. فالبداية لم تكن سهلة، ومفروشة بالورود، لكن طريق الألف ميل تبدأ بخطوة

علي نجيب الطفل الراعي وبائع الخضار المتجول وعامل المناجم، أصبح في السويد ليس فقط خريجا جامعيا بل أيضا استاذا في إحدى أعرق الجامعات السويدية، والدكتور المشرف على عدة رسائل دكتوراه وماجستير ومؤلف عدة كتب وأبحاث والمستشار لمنظمات تنمية في إفريقيا، تزوج من مغربية وأنجب ثلاثة أبناء في السويد، ويستعد الآن للتقاعد.

السويد البلد الجنة التي سعى لها علي لم يكن ليجدها فعلا جنة، لولا كفاحه وإصراره ومثابرته على تحقيق النجاح. فالبداية لم تكن سهلة، ومفروشة بالورود، لكن طريق الألف ميل تبدأ بخطوة. الآن وبعد اقتراب موعد تقاعده يفكر الأستاذ على نجيب، بأن يفيد بلده وكل البلدان العربية، من خلال خبرته التي اكتسبها في السويد، ولهذا..الحديث... بقية على صفحات الكومبس.
حاوره : د . محمود الآغا
رئيس تحرير " الكومبس "


Dr Ali 1.jpg