أوكرانيا بين خيارين… أحلاهما مرّ
عمر الصلح
لا شك أنّ فشل الإتحاد الأوروبي وأوكرانيا في التوصل الى توقيع إتفاقية «الشراكة الشرقية» خلال قمة فيلنوس، سيكون له تأثير على مستقبل العلاقات بين كييف والعديد من عواصم أوروبا الغربية والشرقية.
ليس خفياً أنّ أوكرانيا التي سعت منذ انهيار الإتحاد السوفياتي في تسعينات القرن الماضي للإنضمام إلى منظومة الإتحاد الأوروبي على غرار جارتها بولندا، من الصعب أن تضيّع الفرصة الآن، لا سيما أنّ بوادر الإنضمام المنشود ظهرت بوضوح خلال سنوات حكم الثورة البرتقالية.
ولكن مع وصول فيكتور يانوكوفيتش الى السلطة، بدأت تظهر ملامح إستدارة سياسية وإقتصادية في البلاد في اتجاه موسكو، وهذا ما كان متوقعاً، إذ أنّ الرجل وصل الى السلطة عام 2010 على حصان روسي، وذلك بعدما شعرت موسكو “أنّ البساط يُسحب من تحت قدميها” في جمهوريات الإتحاد السوفياتي السابق، الذي كان خلال الحقبة الإشتراكية وما قبلها فضاءً رحباً لسياساتها.
بالطبع إنّ عدم توقيع أوكرانيا على الإتفاقية لا يزعج أوروبا فحسب، بل يشكّل أيضاً مصدر قلق لها في المستقبل، على اعتبار أنّ ذلك قد يكون مؤشراً إلى عودة الخاصرة الأقوى والأكبر في أوروبا الشرقية الى أحضان روسيا.
وهذا ما بدا واضحاً من خلال الإنتقادات المباشرة التي وجهها قادة الإتحاد الأوروبي إلى روسيا واتهامها بممارسة ضغوط على الحكومة الأوكرانية، حتى أنّ رئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروزو إعتبر”أن موسكو لا تزال تحاول الضغط على جارتها، وخصوصاً في ما يخصّ علاقاتها مع الدول الأوروبية، مؤكّداً أنّ زمن السيادة المحدودة في أوروبا قد انتهى”.
ولم تنته “جوقة” الإنتقادات عند هذا الكم، بل أصدر الإتحاد بياناً عقب انتهاء جولة المفاوضات، حمّل فيه روسيا بشكل مباشر مسؤولية فشل المفاوضات مع أوكرانيا بشأن إتفاقية الشراكة.
معايير الربح والخسارة بالنسبة إلى كييف، تبدّلت بعد وصول يانوكوفيتش الى السلطة، وذلك بعدما أدرك الرجل حجم الخسارة الأوكرانية على المستوى الإقتصادي خلال مواجهة الغاز مع روسيا في عامي 2009 و 2010 ، ناهيك عن الخسارة السياسية، إذ تمكّنت روسيا من عزل أوكرانيا سياسياً عن محيطها وتحديداً مع بيلاروس.
من هنا يمكن تفسير الشرط الأساسي لكييف القائل بإجراء مفاوضات ثلاثية، تضمّ الإتحاد الأوروبي وروسيا وأوكرانيا لتبديد الهواجس الروسية، لأنّ موسكو ستكون المتضرر الأكبر فعلياً، إذ أنّ الإتفاقية وفق المسؤولين الروس” قد تفتح الباب أمام إدخال المنتوجات الأوروبية الى روسيا تفادياً للرسوم الجمركية المتفق عليها مع أوكرانيا”، الأمر الذي سيدفع بموسكو حتماً الى حماية إقتصادها على حساب الصلات الإقتصادية المتينة مع أوكرانيا، ما سيؤدي الى ضرر كبير في الإقتصاد الأوكراني، في ظلّ إتفاقية “تسهيل وصول البضائع الأوكرانية الى السوق الروسية “، على اعتبار أنّ روسيا تشكل المستهلك الأكبر للبضائع والمنتجات الأوكرانية “.
لا شك أنّ الرئيس الاوكراني فيكتور يانوكوفيتش أصبح في وضع لا يُحسد عليه، لأنّه يدرك أنّ عدم توقيع الشراكة مع الإتحاد الأوروبي سيأتي حتماً على مستوى العلاقات الخارجية على برنامج قروض صندوق النقد الدولي، الذي وفّر لأوكرانيا ثالث أكبر حزمة مساعدات بعد اليونان ورومانيا.
أمّا داخلياً، فالمشهد يُنذر بمخاطر تكرار “الثورة البرتقالية”، التي أطاحت بنتائج الإنتخابات التي كان من المفترض أن تأتي به الى سدة الرئاسة عقب انتخابات 2004 . ومن جهة ثانية، فإنّ يانوكوفيتش لا يستطيع معاداة موسكو التي ساندته على المستويات كافة في العودة الى السلطة في انتخابات 2010، وقدّمت له تنازلات لافتة في اتفاق “خاركوف” التاريخي، الذي وضع حداً لأزمة أسعار الغاز الروسي المصدّر لبلاده، ونظّمت تواجد أسطول البحر الأسود الروسي في شبه جزيرة القرم.
اذاً، أوكرانيا بين مطرقة روسيا وسندان الإتحاد الأوروبي، ويانوكوفيتش بات بين خيارين أحلاهما مُرّ ، فإمّا وقف عودة روسيا الى الفضاء السوفياتي عبر بلاده، أو البقاء مراهناً على حلم الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي، والرضوخ لمطالب الشارع، الذي بات يهزّ أبواب المقار الحكومية والرئاسية في البلاد.
الجمهورية
الجمهورية
أوكرانيا تتحوّل ساحة مواجهة بين روسيا والغرب
عمر الصلح
لا شك أنّ أوكرانيا إفتتحت عصر الثورات في القرن الواحد والعشرين بثورتها البرتقالية نهاية عام 2004 وبداية 2005، لتجرّ بعدها السبحة الى قرغيزيا، ولاحقاً الى عواصم عربية عدّة.
التجربة الأوكرانية الأولى التي اكتملت بتغيير النظام وبأقلّ الخسائر المادية والبشرية لم تنطبق على تجارب التغيير التي أعقبتها، ولكن على ما يبدو أنّ الأزمة الحالية التي تعصف بالبلاد منذ نحو أسبوعين هي أكثر تعقيداً من سابقتها، إذ أنّ الأوضاع الميدانية توحي أنّ التصعيد سيكون سيد الموقف على المستويات كافة، خلال الأيام القليلة المقبلة.
فالمؤشرات الآتية من كييف تفيد بأنّ المعارضة تخطط لتوسيع دائرة إحتجاجاتها في الشارع، وذلك رداً على لقاء الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث جرى التشاور في إمكان حصول كييف على قروض روسية، تُقدر بمليارات الدولارات، إضافة الى تخفيض سعر الغاز الروسي الى 150 دولاراً، مقابل إنضمام أوكرانيا الى الإتحاد الجمركي الذي يضمّ روسيا وبيلاروس وكازخستان.
حُقَن الدعم الأوروبية للمعتصمين في ميدان الإستقلال في كييف لم تتوقف منذ بدء الإحتجاجات، وفي خطوة لافتة ذات أبعاد ودلالات تثير الكثير من التساؤلات حول مفهوم السيادة في السلوك الغربي، اذ أنّ مشاركة دبلوماسين كبار من بعض دول الإتحاد الأوروبي في الإعتصام، واعتلائهم المنابر الى جانب قيادة المعارضة الأوكرانية تشكّل سابقة في العلاقات بين الدول.
فحضور وزير الخارجية الألمانية غيدو فيسترفيله الى منبر المعارضة، ودعوته المتظاهرين إلى الإستمرار في الإعتصامات والتظاهرات، شكّلت مؤشراً واضحاً بأنّ عملاق الإقتصاد في الإتحاد الأوروبي سيجرّ السياسة الى ميادين أوكرانيا، وهذا ما تجلّى في كلمة رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الأوروبي المار بروك من على منبر المعارضة أيضاً، حيث أعرب الرجل بشكل واضح وصريح عن تقديره لما تقوم به القوى المعارضة لنظام يانوكوفيتش، مؤكّداً أنّ قضية انتساب أوكرانيا إلى الإتحاد مطروح على المائدة “ونحن مستعدون للتوقيع عليها”، الأمر الذي رأى فيه مراقبون حافزاً لاستمرار وتصعيد تحرك المعارضة في الشارع على رغم موجة الصقيع التي تلف البلاد.
ولعل الدخول الأوروبي الى الميدان لعب دوراً أساسياً في شد عصب الأوكرانيين المؤيدين للنظام الحالي، مما دفعهم الى الشارع تحت شعار “حماية الشرعية”، لتصبح البلاد أمام استحقاق مثير للجدل، قد يجرّ أوكرانيا الى ما لا تحمد عقباه، باعتبار أنّ الأخبار الواردة من مدن أوكرانية تكشف عن صدامات بين أنصار المعارضة والموالاة .
الحراك الأوروبي الأخير في أوكرانيا ،الخارج عن سياق العلاقات الدولية، يدلّ على أنّ هناك غطاءً خارجياً لما باتت تطالب به بعض قيادات المعارضة في الأيام الأخيرة، وتحديداً إقتحام المؤسسات الرسمية والحكومية في البلاد، ولعلّ هذا ما دفع رئيس الحكومة الأوكرانية نيكولاي آزاروف الى دفع فرق القوات الخاصة لحماية الدوائر والمنشآت الرسمية.
بالطبع، فإن سيناريو المواجهة هذا يضع أوكرانيا أمام منعطفات خطيرة، على اعتبار أنّ نصف سكانها وتحديداً الجزء الشرقي المحاذي للحدود الروسية، يؤيد نهج الرئيس الحالي فيكتور يانوكوفيتش، في حين أنّ القسم الغربي من البلاد المحاذي لبولندا يسعى منذ عام 2004 الى الإنضمام للإتحاد الأوروبي .
لا شك أنّ ما يجري في أوكرانيا هو مواجهة دولية كبرى غير معلنة بين الغرب وروسيا، التي اتهمتها بعض الدوائر الغربية أكثر من مرة بتمهيد الطريق لوصول يانوكوفيتش الى السلطة، إضافة الى محاولات تعزيز دوره داخلياً من خلال حزمة معاهدات وقعتها موسكو على عجل مع كييف، بعد خروج الرئيس السابق فيكتور يوشينكو من السلطة.
ولكن وإن بدت المواقف الروسية تجاه أحداث أوكرانيا الأخيرة أقلّ حدة من المواقف الغربية، إلّا أنّه من الواضح أنّ الكرملين يحاول عدم الغوص في لعبة التهم المتبادلة، فبوتين وضع النقاط على الحروف في موقف لافت، إذ اعتبر أنّ “ما يجري في أوكرانيا ليس ثورة وإنّما أعمال شغب”. مما يعني أنّه على روسيا اتخاذ خطوات عملانية لحماية خاصرتها الغربية من أعمال الشغب، وبالتالي فإنّ أوكرانيا باتت ساحة مواجهة جديدة بين الغرب وروسيا.
الجمهورية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق