الحلقة الرابعة عشر الجزء الثاني من كتاب "صوت العاصفة" بعنوان: صوت فلسطين ..صوت الثورة الفلسطينية
رام الله -خاص دنيا الوطن
الرابع من حزيران .. عام 1982 .. الوقت ظهرا بعيد الثانية بقليل .. غرف واروقة الاذاعة في حي الفاكهاني ما زالت تغص بالعاملين فيها وبزوارهم على غير العادة في مثل هذا الوقت من النهار وفي ذلك الكيلومتر الحبيب الى قلوب من عاشوا فيه حتى الاندماج.
- الفاكهاني الخطر حتى الموت في كل لحظة .. والعذب حتى اللهفة على كل حجر فيه, كان عالمنا بل كان عالما لجميع اولئك الذين ضاقت بهم بلدانهم على رحبها. لم تتسع لهم غير الزنازين والمنافي والمقابر .. فاتسع لهم على - ضيق مساحته - .. ولم تتسع لآلامهم وطموحاتهم واحلامهم ايضا .. وجنبا الى جنب كان ينطلق «صوت فلسطين» مع مكبرات الصوت التي تدعو لتظاهرة تضامن او لتشييع شهيد او احتفال بذكرى انطلاقة هذا الفصيل او ذاك .. وكانت تتلاحق صور الشهداء مع ملصقات العدد الجديد من مجلة «الرصيف» التي ابتكرها جملة وتفصيلا الشهيد علي فودة.
- الثانية ودقائق .. السربيوني يكتب حلقة لبرنامج «صباح الخير» عن نكسة الخامس من حزيران .. أمل .. تراجعها .. نعم في الزاوية تراجع اقوال الصحف - بعض الضيوف يطالعون جرائد منثورة على طاولات المحررين .. «يوسف» يحمل صخبه الأليف في ردهات المبنى .. كان ثمة ضجيج انساني حي .. يتحرك باتساق غير متوقع .. وفجأة انفجر كل شيء .. وانقلب الهدوء المشوب بصخب عادي الى حركة صاخبة .. مرتعشة .. فالقصف كان على بعد مئات الأمتار .. وشعر الجميع وكأن البناء قد تحول الى ركام كان مشهد الاطفال والنساء والحوامل منهن وهم يتحاملون على انفسهم للوصول الى ما يتصورونه ملاذا .. يثير الما مرا .. لكن الموت القادم من الجو .. استمر وبلا انقطاع يذبح الهدوء البريء موقعا في المدينة الرياضية - الملاصقة للفاكهاني وما حولها عشرات القتلى والجرحى. . وهكذا دخلت بيروت رحلة الموت والتحدي من اوسع الابواب وبلا رحمة.
- يوم السادس من حزيران عام 82 - وعند حوالي الساعة الواحدة ظهرا توقفت اذاعة صوت فلسطين .. كنا في ذلك الوقت قد اعددنا نشرة اخبارية فيها عرض للموقف السياسي والعسكري حيث كان القصف قد بدأ قبل يومين .. وكنا جميعا نترقب عملية الاجتياح الشامل:
- كان تقديري ان سبب التوقف هو القصف الاسرائيلي غير ان النزعة الانسانية للتفاؤل صورت لي ولو بنسبة ضئيلة احتمال ان يكون السبب مجرد عطل فني كتلك التي كنا نعتذر عنها بين وقت وآخر .. ولقد بادرت منذ اللحظة الاولى للاتصال بالقسم الهندسي لمعرفة حقيقة الموقف .. ومعالجة الخطأ الفني .. وفي نفس الوقت شرعت وزملائي في الاذاعة باعداد المحطة البديلة التي هي عبارة عن سيارتين كبيرتين - تحملان اذاعة كاملة بقوة عشرين كيلوات .. ومع رغبتي في ان يكون ما حدث للمحطة الرئسية - ذات الخمسين كيلوات - مجرد خطأ فني الا انني بدأت التعامل مع الوضع الجديد على اساس ان الاذاعة الرئيسية قد توقفت تماما عن العمل. ولا بد من اعداد العدة لعمل اذاعي في ظروف بالغة الصعوبة مع التركيز على حقيقة مزعجة وهي ان الطائرات الاسرائيلية التي استطاعت قصف المحطة الرئيسية يمكن ان تفعل نفس الشيء مع المحطة البديلة.
(لقد شعرت بالرعب لمجرد تخيل اننا سنخوض حربا كبرى .. بلا اذاعة).
ودون عرض التفاصيل المثيرة لصعوبة الاتصال بالمحطة المتوقفة وما مر علينا من ساعات غموض واضطراب في تحديد سبب التوقف - فقد عرفت اخيرا أن لا أمل في تشغيل المحطة الرئيسية .. لأنها دمرت بالكامل بفعل غارات جوية مكثفة.
***
- كنت امضي معظم الوقت في مقر العمليات المركزية .. وكان زميلي طاهر العدوان نائب مسؤول الاذاعة يدير العمل المباشر من موقع (95) الذي هو مقر الطوارئ للاذاعة .. ولقد احسست بقدر من التوازن النفسي والارتياح حين ابلغني طاهر ان لدينا الآن محطتين جاهزيتن للعمل - احداهما بقوة كيلوات واحد - وتكفي لتغطية منطقة بيروت وبعض الجبل والاخرى بقوة عشرين كيلوات. لم اكن متأكدا الى اي مدى ستصل .. ولكنها على كل حال افضل بكثير من لا شيء. اذكر ان الاخ ابو عمار طلب مني تقديم تقرير حول (وضعنا الاذاعي الآن) مع عرض عدة اقتراحات تؤمن تجاوز كارثة توقف المحطة الرئيسية - وأمر عددا من الاخوة الضباط بتقديم التسهيلات الضرورية لتأمين مكان آمن للاذاعة المتنقلة.
واثناء مناقشة على اعلى المستويات لوضعنا الاذاعي, اقترح احد الاخوة ان اتوجه الى العواصم العربية بغية الحصول على محطة بديلة ولو من ضمن الاذاعات العربية القوية المسموعة .. فاعتذرت عن قبول هذا الاقتراح .. وقدمت اقتراحا بديلا وهو ان يجري اخوتنا القياديون المتواجدون خارج لبنان .. اتصالا مع من يشاؤون من العرب لافتتاح محطة او برنامج جديد, وقد أخذ باقتراحي وعلمت فيما بعد ان احدا لم يستجب ..
- بدأ العمل على المحطتين البديلتين بعد عشر ساعات من التوقف, ولن انسى تلك اللحظات التي استمعت فيها الى رواية شاهد عيان عما حدث لمحطة الارسال الرئيسية التي تقع فوق مرتفع اسمه «سيبروب» بالقرب من مدينة صيدا .. كان الجمهور عندنا يستمع الى اذاعتنا عبر آلاف اجهزة الترانزستور .. وكان البعض يخرج الى اسطح العمارات العالية رغم القصف الشديد لمشاهدة لوحة حية مليئة بالصور .. تنطوي على صراع مرير بين صوت فلسطين المنطلق عبر الأثير من خلال هوائي مرتفع فوق الجبل وبين الطائرات الاسرائيلية التي تعاقبت غاراتها عليه بشكل كثيف ومتواصل .. كانت لحظات مثيرة حقا. فالجمهور الذي يستمع للاذاعة يعرف ان الصوت الذي يصل عبر الراديو ينطلق من تلك النقطة بالذات .. وليس كل الجمهور يعرف تفاصيل العمل الاذاعي, والفرق بين الاستوديو ومحطة الارسال فمعظم الناس يعتقدون ان الاذاعة كلها بمهندسيها ومحرريها ومذيعيها, يتواجدون الآن تحت القصف .. وهذا ما اضفى عاملا استثنائيا للاثارة والاهتمام ورصد نتائج المعركة من خلال نبرة المذيع وقوة تدفق المارشات العسكرية والاهازيج الثورية.
- كانت صيدا وجوارها في تلك اللحظات .. تسمع صوت فلسطين وتترقب بقلوب منفطرة عملية قتل هذا الصوت .. وبين الغارة والأخرى كان الناس في صيدا وعين الحلوة والمية ومية .. يحبسون انفاسهم انتظارا لما هو قادم .. وكانت تصدر صيحات التضامن: الاذاعة صامدة. . حيا الله الشباب .. الله يسلم وقبل ان يسمع الناس صوت الانفجار الممتزج بنعيب الطائرات المغيرة في سماء الجنوب .. توقفت الاذاعة .. وساد الصمت الحزين واطبق على صدور مستمعينا.
- انتظم العمل في «اذاعتنا» البديلة ضمن الوضع الجديد, واحتشدت الكوادر في ملجأ (95) - وبدأ يومنا الاذاعي برسالة موجهة للمقاتلين بصوت الأخ ابو عمار, واقلعت الاذاعة على امواج الأثير معلنة ان حربا اشرس من كل ما سبقها, تشتعل الآن على ارض لبنان .. وان الصمود الشعبي المسلح هو ضمانة الاستمرار .. وقلنا في اول تعليق اذاعي .. ان أفق معركتنا .. هو استمرار المواجهة وايقاع اكبر قدر من الخسائر في صفوف المعتدين.
- في اليوم التالي .. انضم الى جهاز الاذاعة عدد من الكوادر الجديدة ولقد واجهنا أزمة حقيقية في تأمين مكان ملائم للجميع .. لم نجد سبيلا الى حلها سوى الانتشار في عدة مواقع .. وتنسيق الاتصال بين هذه المواقع والمراكز على اساس ان وسائل الاتصال المتوفرة في تلك اللحظة .. وهي التلفون والسيارة وجهاز اللاسلكي وكلها عرضة للدمار في أية لحظة. واتفقنا على ان نتناوب عملية جمع المواد وتزويد المركز بها ولو كلف الأمر ان نمشي خمسة كيلومترات «في النقلة الواحدة» .. ولقد وجدت نفسي امام موقف جديد لم يسبق ان واجهته طيلة حياتي الاذاعية وعناصر هذا الموقف الجديد هي التالية:
- اضطراب وسائل الاتصال العادية واحتمال انقطاعها في أية لحظة.
- تواجد حشد كبير من الكوادر معظمهما لم يشارك في العمل الاذاعي قبل الحرب وكل واحد من هؤلاء .. له اجتهاده السياسي الذي قد لا يتطابق مع خط الاذاعة واسلوب تناولها للأحداث.
- ولقد تعاملت مع هذه العناصر المستجدة على النحو التالي:
- حل معضلة الاتصال بالطريقة التي اشرت اليها.
- بالنسبة للطيران .. لا مناص من تعزيز روح التحدي والتعود على الخطر مستفيدين قدر الامكان من وهم ان الملجأ يكفي ولو نسبيا لاتقاء الموت .. ولكن ضربة كلية الهندسة ودمارها المروع ازالا هذا الوهم نهائيا من نفوسنا جميعا وبقي عامل النبل الثوري المحرك الدفين الاقوى.
- اما الموضوع الثالث وهو الاكثر صعوبة فقد تمت معالجته باجتماع سريع وضعنا فيه الخط السياسي للاذاعة.
اولا: الاتفاق على تحديد حجم المعركة الراهنة .. وهي باختصار معركة غير عادية, ينتظر ان تطول على نحو لم يسبق له مثيل وان تكون من اشرس المعارك التي تواجهها الثورة في تاريخها, وعلى هذا الاساس لا بد من رفع مستوى التعبئة عبر الاذاعة - الى حدودها القصوى.
ثانيا: ان كثافة الاجتياح الاسرائيلي .. واستخدامه الاسلحة كافة بما فيها جميع المحرمات, واحتمال ان تصل المعركة الى قلب بيروت .. يرتب علينا نمطا مختلفا في المعالجة فنحن مثلا معرضون لأن نخسر كل يوم موقعا جديدا, لذلك يجب ان يكون واضحا لدى جميع المعلقين والمذيعين كيفية الاعلان عن سقوط اي موقع بما يجنبنا محاذير ايقاع الجمهور في دوامة الارتباك والاحباط والانهيار النفسي. ويضمن لنا خلق جو من الثقة بالاذاعة والتعامل مع الحقائق بثبات. يتعين على كل العاملين في الاذاعة ان يستوعبوا الحقائق وان ينقلوها للجمهور باسلوب ذكي, ولقد اتفقنا على اطار عام للمعالجة, وهو التركيز على الشواهد الحية التي تجسد اهمية هذا النوع من المواجهة, مع الحرص على ان تستند هذه الشواهد الى اعترافات العدو .. او تقارير الاطراف المحايدة. وموضوعيا لم يكن بوسعنا كقوات الثورة من حيث عددنا وتسليحنا .. ان نهزم الجيش الاسرائيلي المسلح حتى الاسنان بأحدث المنتجات الحربية الامريكية .. لكن علينا ان نقرر شكل المواجهة, بأعصاب باردة قدر الامكان. تنزع الهالة المفزعة عن وجه الغزاة وآلتهم الحربية, وتجعلنا ومعنا وشعبنا - نتخذ قرار البطولة الواقعية .. بتحد اخذ في بعض الوقائع شكل الاسطورة.
ثالثا: ان حشدا من الاذاعات المعادية الناطقة باللغة العربية - ومنذ اليوم الأول - وأبرزها صوت اسرائيل كان يبث في بداية الحرب بلا توقف .. وصوت لبنان الكتائبي الذي كان بمثابة المصدر الاخباري والاستخباري للاذاعة الاسرائيلية - كانت هذه الاذاعات - تنفذ خطة نفسية مركزة .. وبالتالي فعلى اذاعتنا مواجهة هذه الحرب .. والرد على مزاعمها وكمائنها .. باسلوب مقنع دون الانجرار الى دائرة الدفاع المباشر عن النفس .. وانما باعتماد الدفاع الهجومي .. فمثلا حين روجت اذاعة صوت لبنان الكتائبية .. لخبر مفاده .. انهيار القيادة المشتركة .. واستشهاد عدد منها .. عالجنا الموقف .. باذاعة تصريح رسمي قصير .. ينفي هذا الخبر, وقد تم تعزيز هذا التصريح .. بتعليق اذاعي تم فيه شرح اسباب لجوء العدو الى مثل هذه الاخبار, والسبب الرئيسي هو افلاس الغزو في احداث الانهيار مما يحمل قادة الغزو على اللجوء الى الاكاذيب .. ومن اجل الاجهاز على هذا النوع من الحرب النفسية .. اجرى مندوب الاذاعة لقاءات مع القادة الذين زعم انهم قتلوا .. وبهذا الاسلوب في المواجهة سجلنا نقطة ثمينة في مرمى الاذاعات المعادية مما خلق جوا شعبيا ايجابيا لصالحنا, وسلبيا تماما تجاه معظم الاخبار التي كانت تبث من الاذاعات المعادية:
رابعا: ان طبيعة المعركة لا بد وان تنعكس بشكل واضح على الخط العام للاذاعة لكي لا توقع الجمهور في مأزق ان ما يجري هو معركة مصيرية .. لو خسرناها .. انتهت الثورة .. وسحقت القضية .. كان حتميا بالنسبة لنا ان نظهر اهمية المعركة مع التركيز على التوجهات السياسية العامة, التي تجسد استمرار الثورة والقضية, فكان لا بد ونحن في اقسى الظروف .. من التحدث بهدوء وثقة عن مبادئ ثورتنا .. وعمق قضيتنا في الوجدان العربي والعالمي .. ولقد حرصنا بالفعل على جمع كل التصريحات والاشارات الصادرة عن الجانب المعادي , التي يفهم منها بوضوح ان الثورة مستمرة ودعم ذلك بوقائع حية مثل مقاومة شعبنا في الوطن المحتل, والتفاعلات السياسية التي تحدث على الصعيد الدولي, وتؤكد بشكل حاسم ان حركة الشعب الفلسطيني مستمرة, وان قيادة منظمة التحرير ستبقى في قلب الأحداث, وان القضية الفلسطينية ستزداد رسوخا على جميع المستويات .. لقد كان بديهيا ان نتحدث عن رؤيتنا الواضحة للسلام العادل .. وألا نرتهن للحرب والحصار وانعدام التكافؤ .. بل لا بد من زرع بذور المستقبل انطلاقا من ان الثورة مستمرة .. سواء كسبت المعركة او تراجعت الى مواقع جديدة.
لقد كان الجميع مستوعبا تماما لهذه الحقائق التي تشكل بمجموعها الخط العام للاذاعة .. لذا لم نكن بحاجة للرقابة على المواد المكتوبة وتسنى لنا ان نعبر هذه المعركة بأقل قدر من الأخطاء.
خص وزير الإعلام الأسبق وعضو المجلس الإستشاري لحركة فتح د نبيل عمرو صحيفة "دنيا الوطن" بنشر كتابه الجديد الذي صدر مؤخرا في رام الله والتي حمل عنوان "صوت العاصفة" ليحكي تجربته النضالية في الاعلام الى جانب تجاربه النضالية الأخرى على كافة المحافل الثورية.
وينقسم كتابه الى جزئين: يحمل كل جزء منهم حقبة تاريخية من زمن الثورة الفلسطينية ويتطرق الكاتب في الجزئين الى دور إذاعة الثورة الفلسطينية التي أصبحت الآن اذاعة صوت فلسطين في وتجربته الرائدة فيها على مدار سنين الثورة.
دنيا الوطن بدورها قامت بتجزئة الكتاب لنشره عبر صفحاتها Reservierungs حلقات ليتمكن القاريء Ab الإطلاع عليه كاملا ففي الحلقة الرابعة عشر Ab الجزء الثاني والذي حمل عنوان "أيام الحب والحصار" حيث تحدث في هذه الحلقة عن "صوت فلسطين ..صوت الثورة الفلسطينية".
"صوت فلسطين ..صوت الثورة الفلسطينية".
- الفاكهاني الخطر حتى الموت في كل لحظة .. والعذب حتى اللهفة على كل حجر فيه, كان عالمنا بل كان عالما لجميع اولئك الذين ضاقت بهم بلدانهم على رحبها. لم تتسع لهم غير الزنازين والمنافي والمقابر .. فاتسع لهم على - ضيق مساحته - .. ولم تتسع لآلامهم وطموحاتهم واحلامهم ايضا .. وجنبا الى جنب كان ينطلق «صوت فلسطين» مع مكبرات الصوت التي تدعو لتظاهرة تضامن او لتشييع شهيد او احتفال بذكرى انطلاقة هذا الفصيل او ذاك .. وكانت تتلاحق صور الشهداء مع ملصقات العدد الجديد من مجلة «الرصيف» التي ابتكرها جملة وتفصيلا الشهيد علي فودة.
- الثانية ودقائق .. السربيوني يكتب حلقة لبرنامج «صباح الخير» عن نكسة الخامس من حزيران .. أمل .. تراجعها .. نعم في الزاوية تراجع اقوال الصحف - بعض الضيوف يطالعون جرائد منثورة على طاولات المحررين .. «يوسف» يحمل صخبه الأليف في ردهات المبنى .. كان ثمة ضجيج انساني حي .. يتحرك باتساق غير متوقع .. وفجأة انفجر كل شيء .. وانقلب الهدوء المشوب بصخب عادي الى حركة صاخبة .. مرتعشة .. فالقصف كان على بعد مئات الأمتار .. وشعر الجميع وكأن البناء قد تحول الى ركام كان مشهد الاطفال والنساء والحوامل منهن وهم يتحاملون على انفسهم للوصول الى ما يتصورونه ملاذا .. يثير الما مرا .. لكن الموت القادم من الجو .. استمر وبلا انقطاع يذبح الهدوء البريء موقعا في المدينة الرياضية - الملاصقة للفاكهاني وما حولها عشرات القتلى والجرحى. . وهكذا دخلت بيروت رحلة الموت والتحدي من اوسع الابواب وبلا رحمة.
- يوم السادس من حزيران عام 82 - وعند حوالي الساعة الواحدة ظهرا توقفت اذاعة صوت فلسطين .. كنا في ذلك الوقت قد اعددنا نشرة اخبارية فيها عرض للموقف السياسي والعسكري حيث كان القصف قد بدأ قبل يومين .. وكنا جميعا نترقب عملية الاجتياح الشامل:
- كان تقديري ان سبب التوقف هو القصف الاسرائيلي غير ان النزعة الانسانية للتفاؤل صورت لي ولو بنسبة ضئيلة احتمال ان يكون السبب مجرد عطل فني كتلك التي كنا نعتذر عنها بين وقت وآخر .. ولقد بادرت منذ اللحظة الاولى للاتصال بالقسم الهندسي لمعرفة حقيقة الموقف .. ومعالجة الخطأ الفني .. وفي نفس الوقت شرعت وزملائي في الاذاعة باعداد المحطة البديلة التي هي عبارة عن سيارتين كبيرتين - تحملان اذاعة كاملة بقوة عشرين كيلوات .. ومع رغبتي في ان يكون ما حدث للمحطة الرئسية - ذات الخمسين كيلوات - مجرد خطأ فني الا انني بدأت التعامل مع الوضع الجديد على اساس ان الاذاعة الرئيسية قد توقفت تماما عن العمل. ولا بد من اعداد العدة لعمل اذاعي في ظروف بالغة الصعوبة مع التركيز على حقيقة مزعجة وهي ان الطائرات الاسرائيلية التي استطاعت قصف المحطة الرئيسية يمكن ان تفعل نفس الشيء مع المحطة البديلة.
(لقد شعرت بالرعب لمجرد تخيل اننا سنخوض حربا كبرى .. بلا اذاعة).
ودون عرض التفاصيل المثيرة لصعوبة الاتصال بالمحطة المتوقفة وما مر علينا من ساعات غموض واضطراب في تحديد سبب التوقف - فقد عرفت اخيرا أن لا أمل في تشغيل المحطة الرئيسية .. لأنها دمرت بالكامل بفعل غارات جوية مكثفة.
***
- كنت امضي معظم الوقت في مقر العمليات المركزية .. وكان زميلي طاهر العدوان نائب مسؤول الاذاعة يدير العمل المباشر من موقع (95) الذي هو مقر الطوارئ للاذاعة .. ولقد احسست بقدر من التوازن النفسي والارتياح حين ابلغني طاهر ان لدينا الآن محطتين جاهزيتن للعمل - احداهما بقوة كيلوات واحد - وتكفي لتغطية منطقة بيروت وبعض الجبل والاخرى بقوة عشرين كيلوات. لم اكن متأكدا الى اي مدى ستصل .. ولكنها على كل حال افضل بكثير من لا شيء. اذكر ان الاخ ابو عمار طلب مني تقديم تقرير حول (وضعنا الاذاعي الآن) مع عرض عدة اقتراحات تؤمن تجاوز كارثة توقف المحطة الرئيسية - وأمر عددا من الاخوة الضباط بتقديم التسهيلات الضرورية لتأمين مكان آمن للاذاعة المتنقلة.
واثناء مناقشة على اعلى المستويات لوضعنا الاذاعي, اقترح احد الاخوة ان اتوجه الى العواصم العربية بغية الحصول على محطة بديلة ولو من ضمن الاذاعات العربية القوية المسموعة .. فاعتذرت عن قبول هذا الاقتراح .. وقدمت اقتراحا بديلا وهو ان يجري اخوتنا القياديون المتواجدون خارج لبنان .. اتصالا مع من يشاؤون من العرب لافتتاح محطة او برنامج جديد, وقد أخذ باقتراحي وعلمت فيما بعد ان احدا لم يستجب ..
- بدأ العمل على المحطتين البديلتين بعد عشر ساعات من التوقف, ولن انسى تلك اللحظات التي استمعت فيها الى رواية شاهد عيان عما حدث لمحطة الارسال الرئيسية التي تقع فوق مرتفع اسمه «سيبروب» بالقرب من مدينة صيدا .. كان الجمهور عندنا يستمع الى اذاعتنا عبر آلاف اجهزة الترانزستور .. وكان البعض يخرج الى اسطح العمارات العالية رغم القصف الشديد لمشاهدة لوحة حية مليئة بالصور .. تنطوي على صراع مرير بين صوت فلسطين المنطلق عبر الأثير من خلال هوائي مرتفع فوق الجبل وبين الطائرات الاسرائيلية التي تعاقبت غاراتها عليه بشكل كثيف ومتواصل .. كانت لحظات مثيرة حقا. فالجمهور الذي يستمع للاذاعة يعرف ان الصوت الذي يصل عبر الراديو ينطلق من تلك النقطة بالذات .. وليس كل الجمهور يعرف تفاصيل العمل الاذاعي, والفرق بين الاستوديو ومحطة الارسال فمعظم الناس يعتقدون ان الاذاعة كلها بمهندسيها ومحرريها ومذيعيها, يتواجدون الآن تحت القصف .. وهذا ما اضفى عاملا استثنائيا للاثارة والاهتمام ورصد نتائج المعركة من خلال نبرة المذيع وقوة تدفق المارشات العسكرية والاهازيج الثورية.
- كانت صيدا وجوارها في تلك اللحظات .. تسمع صوت فلسطين وتترقب بقلوب منفطرة عملية قتل هذا الصوت .. وبين الغارة والأخرى كان الناس في صيدا وعين الحلوة والمية ومية .. يحبسون انفاسهم انتظارا لما هو قادم .. وكانت تصدر صيحات التضامن: الاذاعة صامدة. . حيا الله الشباب .. الله يسلم وقبل ان يسمع الناس صوت الانفجار الممتزج بنعيب الطائرات المغيرة في سماء الجنوب .. توقفت الاذاعة .. وساد الصمت الحزين واطبق على صدور مستمعينا.
- انتظم العمل في «اذاعتنا» البديلة ضمن الوضع الجديد, واحتشدت الكوادر في ملجأ (95) - وبدأ يومنا الاذاعي برسالة موجهة للمقاتلين بصوت الأخ ابو عمار, واقلعت الاذاعة على امواج الأثير معلنة ان حربا اشرس من كل ما سبقها, تشتعل الآن على ارض لبنان .. وان الصمود الشعبي المسلح هو ضمانة الاستمرار .. وقلنا في اول تعليق اذاعي .. ان أفق معركتنا .. هو استمرار المواجهة وايقاع اكبر قدر من الخسائر في صفوف المعتدين.
- في اليوم التالي .. انضم الى جهاز الاذاعة عدد من الكوادر الجديدة ولقد واجهنا أزمة حقيقية في تأمين مكان ملائم للجميع .. لم نجد سبيلا الى حلها سوى الانتشار في عدة مواقع .. وتنسيق الاتصال بين هذه المواقع والمراكز على اساس ان وسائل الاتصال المتوفرة في تلك اللحظة .. وهي التلفون والسيارة وجهاز اللاسلكي وكلها عرضة للدمار في أية لحظة. واتفقنا على ان نتناوب عملية جمع المواد وتزويد المركز بها ولو كلف الأمر ان نمشي خمسة كيلومترات «في النقلة الواحدة» .. ولقد وجدت نفسي امام موقف جديد لم يسبق ان واجهته طيلة حياتي الاذاعية وعناصر هذا الموقف الجديد هي التالية:
- اضطراب وسائل الاتصال العادية واحتمال انقطاعها في أية لحظة.
- تواجد حشد كبير من الكوادر معظمهما لم يشارك في العمل الاذاعي قبل الحرب وكل واحد من هؤلاء .. له اجتهاده السياسي الذي قد لا يتطابق مع خط الاذاعة واسلوب تناولها للأحداث.
- ولقد تعاملت مع هذه العناصر المستجدة على النحو التالي:
- حل معضلة الاتصال بالطريقة التي اشرت اليها.
- بالنسبة للطيران .. لا مناص من تعزيز روح التحدي والتعود على الخطر مستفيدين قدر الامكان من وهم ان الملجأ يكفي ولو نسبيا لاتقاء الموت .. ولكن ضربة كلية الهندسة ودمارها المروع ازالا هذا الوهم نهائيا من نفوسنا جميعا وبقي عامل النبل الثوري المحرك الدفين الاقوى.
- اما الموضوع الثالث وهو الاكثر صعوبة فقد تمت معالجته باجتماع سريع وضعنا فيه الخط السياسي للاذاعة.
اولا: الاتفاق على تحديد حجم المعركة الراهنة .. وهي باختصار معركة غير عادية, ينتظر ان تطول على نحو لم يسبق له مثيل وان تكون من اشرس المعارك التي تواجهها الثورة في تاريخها, وعلى هذا الاساس لا بد من رفع مستوى التعبئة عبر الاذاعة - الى حدودها القصوى.
ثانيا: ان كثافة الاجتياح الاسرائيلي .. واستخدامه الاسلحة كافة بما فيها جميع المحرمات, واحتمال ان تصل المعركة الى قلب بيروت .. يرتب علينا نمطا مختلفا في المعالجة فنحن مثلا معرضون لأن نخسر كل يوم موقعا جديدا, لذلك يجب ان يكون واضحا لدى جميع المعلقين والمذيعين كيفية الاعلان عن سقوط اي موقع بما يجنبنا محاذير ايقاع الجمهور في دوامة الارتباك والاحباط والانهيار النفسي. ويضمن لنا خلق جو من الثقة بالاذاعة والتعامل مع الحقائق بثبات. يتعين على كل العاملين في الاذاعة ان يستوعبوا الحقائق وان ينقلوها للجمهور باسلوب ذكي, ولقد اتفقنا على اطار عام للمعالجة, وهو التركيز على الشواهد الحية التي تجسد اهمية هذا النوع من المواجهة, مع الحرص على ان تستند هذه الشواهد الى اعترافات العدو .. او تقارير الاطراف المحايدة. وموضوعيا لم يكن بوسعنا كقوات الثورة من حيث عددنا وتسليحنا .. ان نهزم الجيش الاسرائيلي المسلح حتى الاسنان بأحدث المنتجات الحربية الامريكية .. لكن علينا ان نقرر شكل المواجهة, بأعصاب باردة قدر الامكان. تنزع الهالة المفزعة عن وجه الغزاة وآلتهم الحربية, وتجعلنا ومعنا وشعبنا - نتخذ قرار البطولة الواقعية .. بتحد اخذ في بعض الوقائع شكل الاسطورة.
ثالثا: ان حشدا من الاذاعات المعادية الناطقة باللغة العربية - ومنذ اليوم الأول - وأبرزها صوت اسرائيل كان يبث في بداية الحرب بلا توقف .. وصوت لبنان الكتائبي الذي كان بمثابة المصدر الاخباري والاستخباري للاذاعة الاسرائيلية - كانت هذه الاذاعات - تنفذ خطة نفسية مركزة .. وبالتالي فعلى اذاعتنا مواجهة هذه الحرب .. والرد على مزاعمها وكمائنها .. باسلوب مقنع دون الانجرار الى دائرة الدفاع المباشر عن النفس .. وانما باعتماد الدفاع الهجومي .. فمثلا حين روجت اذاعة صوت لبنان الكتائبية .. لخبر مفاده .. انهيار القيادة المشتركة .. واستشهاد عدد منها .. عالجنا الموقف .. باذاعة تصريح رسمي قصير .. ينفي هذا الخبر, وقد تم تعزيز هذا التصريح .. بتعليق اذاعي تم فيه شرح اسباب لجوء العدو الى مثل هذه الاخبار, والسبب الرئيسي هو افلاس الغزو في احداث الانهيار مما يحمل قادة الغزو على اللجوء الى الاكاذيب .. ومن اجل الاجهاز على هذا النوع من الحرب النفسية .. اجرى مندوب الاذاعة لقاءات مع القادة الذين زعم انهم قتلوا .. وبهذا الاسلوب في المواجهة سجلنا نقطة ثمينة في مرمى الاذاعات المعادية مما خلق جوا شعبيا ايجابيا لصالحنا, وسلبيا تماما تجاه معظم الاخبار التي كانت تبث من الاذاعات المعادية:
رابعا: ان طبيعة المعركة لا بد وان تنعكس بشكل واضح على الخط العام للاذاعة لكي لا توقع الجمهور في مأزق ان ما يجري هو معركة مصيرية .. لو خسرناها .. انتهت الثورة .. وسحقت القضية .. كان حتميا بالنسبة لنا ان نظهر اهمية المعركة مع التركيز على التوجهات السياسية العامة, التي تجسد استمرار الثورة والقضية, فكان لا بد ونحن في اقسى الظروف .. من التحدث بهدوء وثقة عن مبادئ ثورتنا .. وعمق قضيتنا في الوجدان العربي والعالمي .. ولقد حرصنا بالفعل على جمع كل التصريحات والاشارات الصادرة عن الجانب المعادي , التي يفهم منها بوضوح ان الثورة مستمرة ودعم ذلك بوقائع حية مثل مقاومة شعبنا في الوطن المحتل, والتفاعلات السياسية التي تحدث على الصعيد الدولي, وتؤكد بشكل حاسم ان حركة الشعب الفلسطيني مستمرة, وان قيادة منظمة التحرير ستبقى في قلب الأحداث, وان القضية الفلسطينية ستزداد رسوخا على جميع المستويات .. لقد كان بديهيا ان نتحدث عن رؤيتنا الواضحة للسلام العادل .. وألا نرتهن للحرب والحصار وانعدام التكافؤ .. بل لا بد من زرع بذور المستقبل انطلاقا من ان الثورة مستمرة .. سواء كسبت المعركة او تراجعت الى مواقع جديدة.
لقد كان الجميع مستوعبا تماما لهذه الحقائق التي تشكل بمجموعها الخط العام للاذاعة .. لذا لم نكن بحاجة للرقابة على المواد المكتوبة وتسنى لنا ان نعبر هذه المعركة بأقل قدر من الأخطاء.
الحلقة الخامسة عشر الجزء الثاني من "صوت العاصفة" بعنوان: صوت فلسطين ..صوت الثورة الفلسطينية
رام الله -خاص دنيا الوطن
خص وزير الإعلام الأسبق وعضو المجلس الإستشاري لحركة فتح د نبيل عمرو صحيفة "دنيا الوطن" بنشر كتابه الجديد الذي صدر مؤخرا في رام الله والتي حمل عنوان "صوت العاصفة" ليحكي تجربته النضالية في الاعلام الى جانب تجاربه النضالية الأخرى على كافة المحافل الثورية. وينقسم كتابه الى جزئين:. يحمل كل جزء منهم حقبة تاريخية Ab زمن الثورة الفلسطينية ويتطرق الكاتب في الجزئين الى دور إذاعة الثورة الفلسطينية التي أصبحت KAUFEN اذاعة صوت فلسطين في وتجربته الرائدة فيها Reservierungs مدار سنين الثورة دنيا الوطن بدورها قامت بتجزئة الكتاب لنشره عبر صفحاتها Reservierungs حلقات ليتمكن القاريء من الإطلاع عليه كاملا ففي الحلقة الخامسة عشر من الجزء الثاني الفصل الخ والذي حمل عنوان "أيام الحب والحصار" حيث تحدث في هذه الحلقة عن "صوت فلسطين ..صوت الثورة الفلسطينية" .
"صوت فلسطين ..صوت الثورة الفلسطينية" (4-5-6)
- أربع ساعات قاتلة عاشها جمهور الاذاعة .. وكاد يحدث فيها انهيار نفسي جماعي .. فلقد بدأ القصف مبكرا .. ولا ابالغ لو قلت ان السماء في ذلك اليوم امطرت قذائف ورصاصا .. وان الارض كادت ترتحل الى السماء محمولة على سحب من النار الدخان والاشلاء البشرية .. انه يوم المحاولة الاسرائيلية الكبرى لاقتحام بيروت, وفي يوم كهذا .. تجتمع معظم مؤشرات الراديو على رقم «الف ومائة» وهو موقع اذاعة صوت فلسطين على لوحة الراديو .. كنا في اليوم السابق قد امضينا ساعات مضنية في العمل الموزع بين الجانب الاعلامي والجانب الهندسي .. فلقد لاحظ المستمعون ان خللا فنيا اعترى اذاعتنا وأثر على نحو سلبي في درجة وضوح الصوت .. حاولنا كل ما في وسعنا تدارك الخلل اثناء فترة البث .. ولكن دون جدوى .. ولقد ا فادني المهندسان احمد وجهاد .. بحتمية وقف الاذاعة قبل الوقت المحدد .. ليتسنى لهما اجراء صيانة شاملة على الاجهزة, واقترحت عليهما الا يفكرا بالتوقف قبل الموعد. وان يستغلا فترة المساء من العاشرة حتى ا لصباح لانجاز المهمة .. وبالفعل انهمك مهندسو الاذاعة طيلة الليل, وبدأوا بعملية التجريب ببث مباشر من جهاز الارسال .. وقد تداخلت فترة التجريب مع الوقت المحدد لبدء الارسال اليومي وهو السادسة صباحا .. في تلك اللحظات كان القصف العنيف كافيا لأن يوقظنا جميعا من النوم .. ولقد فوجئنا بأنه حتى السابعة صباحا لم يسمع من اذاعتنا سوى الموسيقى والأناشيد .. في حين ان بيروت تصلى بجحيم من القذائف .. والاذاعات الاخرى تتوقع ان هذا اليوم بالذات هو يوم اقتحام بيروت. اوعزنا للمذيع المقاتل احمد عبد الكريم المعروف باسم بن بيلا فلسطين بالتوجه الى سيارة الارسال .. وأوفدنا مذيعا الى الاستوديو مقدرين ان المذيع المناوب تأخر لسبب ما ورغم ذلك استمرت الاذاعة في تقديم الاناشيد حتى الثامنة لنفاجأ بعد ذلك بخطاب ارتجالي ينطلق من حنجرة قوية ولم يكن صعبا ان نعرف بأن صاحب الصوت هو الأخ ابو اياد .. بعد ذلك لامست اسماعنا المقدمة الموسيقية الجميلة للبرنامج الصباحي «صباح الخير» .. ثم سمعنا رشاد ابو شاور يقدم حلقة جديدة من برنامجه اليومي «كلامنا بلدي» .. ثم وبعد انتظار مر مثل كابوس .. انتظمت الاذاعة. - ما السر في اقتصار الاذاعة من الرابعة صباحا حتى الثامنة على تقديم المارشات العسكرية والأناشيد .. لقد تبين لنا .. ان جهاز الوصل بين الاستوديو ومحطة الارسال اصيب بعطب مفاجىء عند الساعة السادسة صباحا اي لحظة بدء الفترة الصباحية المعتادة .. واصبح متعذرا على مهندس الارسال التقاط الصوت المنطلق من الاستوديو .. وفي الساعات التي كان فيها المستعمون يتمزقون قلقا وحيرة, كان المهندسون يبذلون جهودا مضنية لاصلاح جهاز الوصل وقد وقفوا في ذلك عند الثامنة صباحا .. لم يكن من السهل ايضاح الأمر .. ورغم ان المبررات الهندسية كافية لتفسير موقفنا الا ان الجميع سجل علينا خطأ كبيرا وصل الى حد اتهامنا بالتقصير .. ولقد سمعنا نقدا لاذعا .. ملأ قلبي حزنا .. حينما قال احد الاخوة القياديين: «ان بيروت كانت تحترق .. وشباب الاذاعة يغطون في نوم عميق» .. ولقد ادركت في ذلك ا لموقف البعد المأساوي لعملنا في الاذاعة .. فمن غير المسموح به لهذه الشمعة التي تحترق وتذوب .. ان تنطفىء امام الاعاصير مهما بلغت همجيتها ووحشية قصفها وتدميرها .. ومع تسليمي بلا منطق هذا الافتراض الا انني اقول انه على حق وكل الذي استطيع فعله في حالة كهذه ان انصرف الي مجتمعنا الصغير الذي اسمه الاذاعة .. لأحاول مرة اخرى .. من أجل الا تنطفىء شمعتنا الصغيرة.
- في ذلك اليوم .. يوم المحاولة الكبرى لاقتحام بيروت توجهت الى الاستوديو .. منذ التاسعة صباحا .. وكان سبب تأخري هو جمع اكبر قدر ممكن من المعلومات عن الموقف الراهن .. ولقد شعرت ان هذا اليوم ربما يكون اخطر ايام الحرب .. ومع ثقتي بمتانة الخطوط الدفاعية المقامة حول بيروت وصعوبة اختراق هذه الخطوط .. الا ان هواجسي وصلت بي حد تخيل الدبابة الاسرائيلية تقف تحت نافذة الاستوديو ولم يكن بوسعي في ذلك الوقت اتخاذ ترتيبات لمواجهة مثل هذا الاحتمال, فلقد ضاقت جزيرتنا واصبح كل شيء شديد الصعوبة .. بل صرنا جميعا - وكل في داخله - يتعامل مع اسوأ الاحتمالات .. وأسوأها بل شك كان دخول الاسرائيليين ووراءهم وتحت حرابهم ميليشيا الكتائب, لكننا قررنا الموت واقفين حتى آخر طلقة .. بل حتى آخر سكين في «مطبخ» .. فلم يكن لكبريائنا الثوري من خيار سوى القتال حتى اللحظة الأخيرة, كان قطع المسافة بين المقر المركزي للاذاعة والاستوديو .. اشبه برحلة يرافقك فيها الموت خطوة بخطوة .. وكنا قد اكتشفنا طريقا آمنا الى حد ما .. يمتد عبر الممرات الضيقة التي تتعرج وتتشابك بين غابة العمارات المرتفعة, وفي تلك الاثناء. . كان من قبيل المجازفة المستهترة ان تنتقل بسيارة او حتى دراجة فمن لا يموت بقذيفة مباشرة يمكن ان يتمزق من الشظايا المنتشرة في ا لهواء في كل انحاء بيروت وسمائها .. وقد قطعت المسافة بين المقر المركزي والاستوديو .. دون ان اشعر بما يجري حولي, ولا اظن ان الأمر متعلق بالشجاعة .. وانما بفعل احساس عميق .. بأنه لم يعد في بيروت اي مكان آمن على الاطلاق وبناء على ذلك .. يستطيع الانسان ان يستسلم بارتياح للحظ والصدفة مع قدر من التصميم على الوصول .. ولقد وصلت لأجد امامي المشهد التالي: - في مكان صغير من العمارة .. توجد مساحة ضيقة يطلق عليها السكان بيت الدرج .. وقد كانت مساحة هذا المكان الذي وضعنا فيه الاستوديو الجديد متران عرضا بأربعة امتار طولا .. يأخذ الدرج حيزا منها .. والى جانب بيت الدرج .. يقع مخزن للأثاث القديم مساحته ثلاثة اضعاف بيت الدرج تقريبا ولم يكن للمكان كله مزايا أمنية استثنائية .. حيث انه مشرع من الجهة الغربية على البحر عبر ثلاث نوافذ كبيرة .. وكثيرا ما كنا نجازف بارواحنا لنقف خلف النوافذ .. لمشاهدة رشقات راجمات الصواريخ تخرج من عندنا او تنهمر علينا ولقد اختار حسن عصفور مناوب الاخبار هذا المكان كمقر ثابت له .. مستفيدا من وجود جهاز اللاسلكي والتلفون العسكري .. واجهزة الاستماع .. والثلاجة الصغيرة التي لم تكن تخلو من زجاجات الماء البارد .. في وقت كانت فيه هذه الزجاجات ارقى مستويات البذخ والترف في بيروت .. وحين كان المذيع ينتقل من الاستوديو الى مكتب الاخبار الذي يفصله عنه باب صغير .. ويتصادف ذلك مع قصف عنيف .. كان المهندس يبادره ضاحكا: - كيف الاوضاع على خط التماس .. على كل حال الحمد لله على السلامة هذه المرة ?? فالشظايا دخلت - وبحجوم مرعبة - اكثر من مرة الى «مخزن» التحرير هذا .. وبأعجوبة لم تصب أحدا .. - وصلت الى الاستوديو .. حوالي التاسعة وعشر دقائق .. القصف تضاعف في تلك اللحظات .. كان الجميع يحتشد في الاستوديو .. يوسف يستلقي على الدرج منتظرا دوره في قراءة المادة المقررة .. والدكتور صلاح يذيع تعليقا سياسيا حول تفاعلات الحرب داخل اسرائيل .. ورشاد يشتبك في جدل صاخب مع المهندس صلاح الذي لم يطبع حلقات برنامج «كلامنا بلدي» على اشرطة كاسيت .. والحاج خالد مسمار الذي كان نائبا لمدير الاذاعة .. هو الآن مسؤول التوجيه السياسي في احد قطاعاتنا العسكرية .. ومعروف بصوته الاذاعي الجميل والذكي خصوصا في قراءة الوجدانيات - كان الحاج خالد ملقيا بكل ثقله «المتواضع» على الباب الخشبي الذي يفصل الاستوديو عن قسم الاخبار واول كلمة نطقت بها كانت موجهة للحاج خالد مسمار .. «ما الذي يدعوك للوقوف هكذا هل تحاول اتقاء القذائف بجسدك?». - ابتسم خالد بهدوئه المعروف - والذي له قصة تروى - وبادرني قائلا:. ان اهتزاز الباب من جراء اصوات الانفجارات يصل الى الميكروفون .. لهذا احاول منع الاهتزاز - وعن هدوء الحاج خالد يروي احد الاخوة هذه الحادثة. - في موقع ال (95) وذات يوم من ايام حزيران المخيفة .. بدأت الطائرات قصفا مركزا على الفاكهاني اي حولنا - ورويدا رويدا .. بدأ القصف يقترب والعمارة تهتز بنا .. «اي تهتز? »- بل قل كانت تميد .. وأخذت قطرات الماء تتساقط من سقف الملجأ ونثارة البويا والاسمنت« تتهرهر ».. وبخلاصة بتنا في داخلنا جميعا .. مقتنعين انها النهاية .. كان يعقوب يقف صامتا بعصبية مكتومة .. في حين كان ابو زيد يصلي في غرفة الالآت والمحررون في غرفة التحرير الصغيرة الملاصقة للاستوديو, واجمون وكأن على رؤوسهم الطير .. وأحد الزملاء كان يرتعش بخوف ظاهر لا ارادي .. في حين كان ثمة سيكارة تحترق وحيدة فوق منفضة ملأى بالأعقاب المطفأة .. كنت ارقب المشهد لحظة شخصت نظري باتجاه الحاج خالد كان هادئا كعادته .. وطيف ابتسامة ما زال تحت شاربيه الاسودين المنتظمين فوق ثغر خجول ودقيق .. كان يمشي الهوينا .. ثم توقف فجأة وبدت عيناه خلف نظارته وفيهما شيء من القلق والاستغراب والتساؤل, في تلك اللحظة كان الجميع مطرقين .. بانتظار الكارثة .. عنف القصف وشرخ صوت انفجار بقية الأمل وأحسسنا ان كل شيء سينتهي خلال لحظة .. ما زلت اذكر تلك الحركة .. حين امتدت يده اليمنى واغلقت زر سترته العلوي بهدوء .. وكأنه ينطق في اعماقه بالشهادتين او هكذا خيل لي .. وبمزيج من خوف وتحد او ما يسمى انتفاضة اللحظة الأخيرة .. شعرت بضرورة ان اكتب شيئا متحديا .. واذكر ان فحواه .. كان يعني اننا صامدون هنا فوق او تحت هذا الدمار المقدس .. لا فرق .. وسيظل صوت فلسطين صادحا .. وستظل بنادق الثورة مشرعة .. حتى يوم ينطلق .. صوت فلسطين .. صوت جمهورية فلسطين الديمقراطية من القدس .. يعقوب قرأها .. وكأنه يقصف .. او كأنه يرد على القصف بقسوة .. بحد .. بثبات .. ولم نعد نذكر ما يحصل في الخارج .. حينما انطلقت اهزوجتنا الحبيبة «طالعلك .. يا عدوي طالع .. من كل بيت وحارة وشارع وكان الجميع يرددونها بحماس وفرح وبحركات اقرب الى الرقص .. وحينها افترت شفتا الحاج عن ابتسامة عذبة .. اعترف .. لقد كانت ابتسامة تمنحني الاطمئنان .. لذا حينما اغلق بحزن عروة سترته .. لا ادري لماذا شعرت ان النهاية اقتربت?;. لقد ندمت على هذا الشعور - والآن اعود الى الشباب .. فقد كان صفير القذائف يمر فوقنا ويخترق آذاننا وكنت ألاحظ مجرى القذيفة على وجه يوسف الذي كان يحسب اللحظات الفاصلة بين صوت الصفير ودوي الانفجار .. مع احتمال ان تسقط واحدة على بابنا في أية ثانية. وكان «بن بلا» المدجج بالقنابل وقذائف الآر بي جي يطلق بين وقت وآخر فتاويه العسكرية محددا انواع القذائف والصواريخ .. مطمئنا الى ان احدا من الحاضرين لن يجادله في معلوماته خاصة وانه يحمل لقب المراسل العسكري للاذاعة ولابن بلا قصة تنطوي على قدر كبير من الطرافة سآتي على ذكرها في مكان آخر. وفي ذلك اليوم كانت بيروت تغرق في بركة بارود ودم وشظايا فقد توزع الموت في كل حي وشارع وبيت من الفنادق والروشة والحمراء شمالا حتى الاوزاعي والبرج والشياح جنوبا اي بيروت برمتها .. كانت تحترق وتتقطع وتئن لكنها تواصل التحدي .. في حين كان المدافعون عنها واقفين كالصخرة الصلبة دون ان يتراجعوا مليمترا واحدا .. - كان يعقوب شاهين .. غارقا حتى أذنيه في ازمة خاصة .. فقد كان ضيفا عند نسيبته الساكنة في احد اخطر المناطق .. وحين شمل التدمير بيت نسيبته .. لم يجد مكانا سوى الاستوديو يلوذ به, ولقد فوجئت بوجود سيدتين تجلسان على بعد اشبار من الميكروفون وقد وضعن ايديهن على آذانهن كي لا يسمعن القصف المتبادل بين المذيع والمدفعية الاسرائيلية .. نظر الي يعقوب معتذرا واحسست بأنه يترتب علي مهمة جديدة لهذا اليوم وهي ايجاد مسكن للضيوف الجدد. - كثيرا ما كنا نخترق الوضع النفسي الصعب. بابتكار النكت والطرائف .. وكنا نستغل فترة اذاعة مادة مسجلة لنأخذ راحتنا في التهريج والضحك بصوت مرتفع حتى اننا كنا نستأذن المهندس .. اذا كان الوضع يتحمل تهريجا من العيار الثقيل .. وكان رشاد ابو شاور في الغالب هو نجم هذه اللحظات .. ولقد ولدت في ذلك اليوم طرائف عديدة .. اذكر منها انني قلت لرشاد هل تعرف «يا ابن كنعان» بماذا كنت افكر هذا الصباح .. فأجاب باللهجة الاستفزازية .. .. سأعطيك بعد إذن المهندس دقيقة واحدة قلت: تخيلت اننا قد نطل من الشباك لنرى دبابة اسرائيلية توجه فوهة مدفعها نحونا ولنفترض ان مثل هذا الأمر حدث .. وكنت انت الواقف على الشباك فماذا تفعل? اجاب رشاد: سأخرج رأسي من النافذة وأقول له: - ما اسمك يا ولد ..? ولنفترض انه قال: كوهين سأقول له بعد ذلك: يا ولد (قف وفكر .. من يحاصر من)? - ولكل من هاتين العبارتين قصة تتعلق بالحرب .. - قف وفكر .. هي مقدمة النداءات الفاشلة التي كانت توجهها الاذاعة الاسرائيلية باللغة العربية لمقاتلينا .. بغية حملهم على القاء السلاح .. وقد تحولت هذه العبارة مع استمرار المعركة الى نكتة يتداولها المقاتلون وقد تم تطوير هذه النكتة حين قام خليل وغسان بتسجيلها في مقدمة النداء باللغة العبرية .. موجهة بالميكروفون على خطوط التماس للجنود الاسرائيليين الذين يحاصرون بيروت وقد جرت على خطوط التماس .. حوارات لا تنسى عبر هذه الاشرطة والميكروفونات .. بين مقاتلينا والجنود الاسرائيليين .. - اما عبارة من يحاصر من .. فلقد وردت في احد تصريحات بيغن ورسائل فيليب حبيب .. حين قيل ان عرفات يتصرف من موقع المحاصر بكسر الصاد وليس المحاصر بفتحه
المزيد على دنيا الوطن .. http://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2015/02/09/659812.html#ixzz3RLKscf2c
Follow us: @alwatanvoice on Twitter | alwatanvoice on Facebook
(4)
كان يوسف وصالح .. هما المذيعان المناوبان للفترة الصباحية التي كنا نبدأها عند السابعة وتستمر حتى الحادية عشرة .. ومع أن يوسف كان متسلحا بتجربة ثماني سنوات من العمل الاذاعي المتواصل, ومعظم تجربته كانت في زمن الحرب, الا انه كان بحاجة الى من يذكره بأهمية القراءة الهادئة حتى في ظل القصف الشديد .. فوجدانيات السربيوني وأمجد وقصائدهما. لا يمكن قراءتها بنفس الطريقة التي تقرأ بها تعليقات طاهر وميشيل .. فكان سريع الاستجابة وقد ادى دوره بكفاءة عالية .. ولا بد لي هنا ان اذكر ما رواه احد الزملاء حينما كان يتحدث يوسف عن انطباعه فيما لو ان الدبابات الصهيونية وصلت باب الاذاعة .. وقد رد على الفور .. بأننا سنخرج «بكلاشناتنا» ونقاتل حتى آخر قطرة دم .. اما صالح الذي لم يكن قد انهى بعد «تدريبه الاذاعي» فقد كان كثير الاخطاء .. ولكنه كان يتمتع بصوت هادئ وواثق .. مما خفف من أثر اخطائه اللغوية. . وجعله مذيعا مميزا .. يعتمد عليه وعلى زميله الأكثر تجربة في النهوض بالفترة الصباحية وانتقاء المواد الملائمة التي غالبا ما كانت تتجمع في المساء. - وحينما تعمل اذاعة كاذاعتنا لفترة اطول مما كان معتادا فان مشاكل يومية مستجدة لا بد وأن تنشأ .. وهنا تبرز القدرات المتميزة في التعامل مع المشاكل والمفاجآت, ولقد حدث في احد الايام ان حضر يوسف وصالح لتنفيذ الفترة الصباحية. ولم يحضر المهندس المناوب بسبب انشغاله في نقل اسرته من منزله المصاب الى مكان اكثر أمنا وقد تصرف يوسف ازاء هذا الوضع على نحو جيد .. حيث كلف مهندس الارسال .. بتشغيل الاستوديو والتنقل بينه وبين جهاز البث .. ووجه نداء عبر الاذاعة .. دعا فيه كافة المهندسين الى الحضور للموقع وقد استمع طاهر الى هذا النداء .. فانتابه قلق شديد .. فتوجه على الفور الى الموقع ليجد معظم المهندسين فعقد اجتماعا سريعا .. وزع فيه المهام بشكل اكثر دقة من السابق وكلف المذيعين على سبيل الاحتياط بالتدرب على التشغيل ومنذ ذلك الاجتماع .. لم تصادفنا سوى مشكلة كبيرة سآتي على ذكرها. هل هذا الملجأ يكفي لاتقاء غارات الطيران ?? كان هذا السؤال يطرح على نحو يومي بل في كل ساعة .. ولم تكن الاجابة ممكنة عبر اللجوء الى خبير عسكري او خبير في الانشاءات .. ذلك ان مفاجآت الطيران الاسرائيلي لم تدع مكانا آمنا في لبنان كله .. ورغم ذلك لا بد من ايجاد جواب يبعد شبح الخوف والارتباك ويؤمن استمرار عمل الاذاعة. - كان تركيزنا على الاذاعة البديلة .. وليد احساس مسؤول بأهمية الا نجد انفسنا في أية لحظة بلا اذاعة .. ولقد وفقنا في تجهيز بديل آمن نسبيا .. ان اهم محطاتنا - 20 - كيلوات وضعت في مكان يصعب اكتشافه وتوصلنا الى نظام عمل يضمن استمرار الاذاعة حتى لو قصف الموقع (95) الذي ظل آمنا بالصدفة حتى منتصف الحرب. - وموقع (95) الذي هو عبارة عن ملجأ ضيق يستخدم كمخزن للحطب يكمن تحت عمارة مؤلفة من ستة طوابق كانت خالية تماما من السكان. . شهد صورا انسانية عميقة الابعاد, ولقد ضمت غرفته الرطبة والضيقة الاشبه بالممرات .. مجتمعا صغيرا .. نشأت بين اعضائه علاقات استثنائية فيها حب عميق وألم مشترك وانتظار جماعي لمصير مجهول منه ان تنهار البناية على الجميع .. نعم الجميع بدون استثناء ولقد احتدم جدل سياسي بين أمجد ناصر .. الشاعر الاردني المقاتل ويعقوب شاهين الذي تواجد معنا لأن الحرب بدأت قبل أن يغادر الى مقر عمله في اذاعتنا بالجزائر .. وقد احتدم النقاش ليصل الى حافة الاشتباك العنيف, وقد تبادل الكادران «عبارات انتقادية قاسية .. كنت اراقب المشاجرة السياسية العنيفة .. وانا اسمع .. رغم وجودنا في الملجأ اصوات الانفجارات الضخمة حولنا .. غير ان الأخ ميشيل النمري - الصحفي المعروف - استغرب برود اعصابي .. وبادرني بلهجة قاسية صارخا في وجهي يا رجل .. هل انت مسؤول الاذاعة .. ام مجرد متفرج على ما يحدث ..? - اجبته ببرود استفزازي .. الآن .. انني متفرج .. وساد الصمت قرابة دقيقة .. ثم دعوت امجد ويقعوب للجلوس .. ولاحظت ان الجميع يراقب عملية حل المشكلة باهتمام بالغ .. لا اذكر ما الذي قلته في تلك اللحظات ولكنني اجزم بأن الاثنين احسا بفداحة الخطأ .. ولقد عرفت ذلك حين التصق يعقوب وامجد في عناق طويل وانصرف كل منهما الى عمله بهدوء وضمير مرتاح. - كانت نعم. هي الفتاة الوحيدة بيننا في تلك اللحظة .. وما زلت اذكر تلك التحية النابعة من القلب, التي وجهها لها احد الاخوة عبر صوت فلسطين .. والتي هنأته عليها, واذكر انه كان يشير دون ان يسميها, للدفء الانساني الذي يشيعه وجودها .. والتي ختمها بهذه العبارة «ما اروع حضورك بيننا» كانت الوحيدة قبل ان تنضم سلوى العمد الى اسرة الاذاعة .. ونعم فارس .. فتاة لبنانية جنوبية من قرية شحور .. تفيض جمالا وعذوبة .. كالفراشة كانت تنتقل بين الاستوديو وغرفة التحرير والهندسة .. كانت مذيعة متميزة. . تراجع مادتها مرات عديدة وبلهفة قبل ان تذيعها, اما الآن وبداع من التحدي فهي تواجه جمهورها .. على الهواء مباشرة ولقد كان اداؤها رائعا. - لم نكن في وضع يسمح لنا ان نناقش افكارها المتدفقة حول ضرورة التطوير حتى في ظل الحصار .. فلقد كنا جميعا نعرف انها حديثة العهد وكل حديثي العهد يملكون طموحات كبيرة .. حد الخيال .. وحدث ان واجهتني «نعم» في احد الممرات الضيقة في موقع (95) لتقول لي بكل ما لديها من رقة وعذوبة وتهذيب .. هل تسمح لي يا اخ نبيل باجتماع عمل لمدة خمس دقائق ?? - قلت لها حسنا لنعتبر انفسنا من اللحظة في اجتماع عمل .. لاحظت سعادة غامرة تملأ وجه «نعم» المذيعة المتدربة .. التي اتيحت لها فرصة مناقشة وضع الاذاعة كلها .. وشرعت نعم في سرد افكارها على مدى ربع ساعة .. لقد كنت مخطئا في تقدير قدراتها الابداعية .. وما زالت كلماتها عالقة في ذهني حتى الآن «اتعرف اننا نمر الآن في ظروف صعبة .. وأن الموت يحيط بنا من كل جانب. ولكن مقياس الالتزام لا يتحدد علي نحو دقيق الا في مثل هذه الظروف لذا فانني اقترح اخ نبيل - ان ندخل انماطا جديدة في عملنا الاذاعي .. فلماذا لا يكون عندنا مسلسل يومي من واقع الحرب? لماذا لا يكون نصف عملنا خارج الاستوديو. ولماذا لا ننتج اغنيات جديدة .. اعرف انك ستلوذ بذريعة عدم توفر الامكانات - واسمح لي في هذه النقطة - ان اتحداك .. واتعهد بانجاز كل هذه الافكار ضمن الامكانات المتوفرة »- همست في داخلي وكأنني اقول .. أنى لي ان اكبح جماح هذا الطموح النبيل .. اخرجت نعم بضع اوراق مكتوبة وقالت هذه خطة عملي .. وسأبدأ بتنفيذها من اليوم. - المسلسل اليومي «سلي صيامك» .. وهذه ثلاث حلقات جاهزة من تأليف الروائي غالب هلسة .. وهذه خطة لتنفيذ التسجيلات الخارجية في المواقع المتقدمة. - وهذه خطة لاعداد الاغنيات الجديدة. واعترفت بهزيمتي امام الفراشة. .حين سمعت ومعي بيروت ثلاثين حلقة من برنامج «سلي صيامك» واستمعت الى اكثر من مائة تسجيل في المواقع المتقدمة .. كانت الموسيقى التصويرية فيها انفجارات القنابل .. وانقضاض الطائرات المغيرة .. ورشقات جميع انواع الاسلحة وضحكتها الأليفة التي لم تغب في زحمة القذائف والموت .. اما الاغنيات الجديدة - وهي قمة نجاح نعم .. فلقد سجلتها من مواقع المقاتلين اثناء زيارتها لهم بصحبة الفنانين المصريين عدلي فخري وزين العابدين فؤاد وابرز هذه الاغاني «من صبرا للمنارة» .. «على بوابات بيروت» و «لسا السلاح يما معي» .. و «ليش اخاف من الحصار» التي جرت كالتعويذة على جمع الألسنة ومنها: لسا السلاح يما معي / وليش اخاف Ab الحصار هي قلبي طلقا بمدفعي / وعظمي حربا ودمي نار رفقاتي سبعة بالكمين / صرختهم تزلزل جبل ولو صحت يما العزوا .. وين / يلبي صوتك مية بطل رحمك Çááå íÇ عدلي فخري ... - لم تطوي الأيام حكاية نعم ولم يكن حديثها عن مقياس الالتزام في الظروف الصعبة .. مجرد كلام تعلمته من الكتب .. او علق على اطراف ذاكرتها من خلال جلسات التنظير التي تضج بها ساحتنا. . في السلم .. وانما كانت تعبيرا نابضا .. عن ارقى درجات الوعي في عقل وقلب الكادر الملتزم .. لم تكن نعم مراهقة سياسية .. ولا حالمة مترفة تتوارد الافكار في عقلها .. كتوارد ا لافكار في مخيلة فتاة جميلة لا علاقة لها بالدنيا سوى التلذذ بخيالاتها واوهامها .. لقد كانت .. «نعم» عضوا في حركة فتح .. وعملت في اكثر من جهاز ومؤسسة وقبل ان تستقر في الاذاعة .. كانت تحلم بالمسرح وانجزت على خشبته عملا ثوريا يمكن اعتباره محاولة طموحة وجادة وكانت تحلم بدور شعبي مؤثر. . فتدربت على السلاح وعاشت نبض الجماهير في حيها الوطني العريق «الشياح» .. كانت تحلم بفلسطين لتدفع الأذى عن لبنان .. وقبل ان تسقط شهيدة .. تصادف ان التقت بالقائد ابو عمار على باب الاذاعة لتودع وصيتها الأخيرة «اخ ابو عمار .. انني احمل اليك هدية من حي السلم .. هل تسمح بأن اقدمها لك لقائد المعركة .. لم تكن الهدية وردة .. لقد قدمت له قبلة على كتفه المثقل بالهموم .. واجهش الاثنان - القائد والشهيدة - في بكاء حار .. .. لقد استشهدت «نعم »بعد ان ودعت ابو عمار - لقد دفنت نعم .. او ما تبقى من جسدها النضر الشهيد .. تحت كومة من تراب وشظايا ودموع .. وحين ذهبنا لزيارة ضريحها في الشياح قال لنا احد الشباب: برغم كثافة الموت وسعار القذائف من كل نوع .. لقد تمت عملية الدفن بما يليق بشهيدة غالية وزرعت على هذا الضريح شجرة .. وكتبت على شاهدة القبر .. (هنا ترقد المناضلة «نعم فارس»).
(5)
- أربع ساعات قاتلة عاشها جمهور الاذاعة .. وكاد يحدث فيها انهيار نفسي جماعي .. فلقد بدأ القصف مبكرا .. ولا ابالغ لو قلت ان السماء في ذلك اليوم امطرت قذائف ورصاصا .. وان الارض كادت ترتحل الى السماء محمولة على سحب من النار الدخان والاشلاء البشرية .. انه يوم المحاولة الاسرائيلية الكبرى لاقتحام بيروت, وفي يوم كهذا .. تجتمع معظم مؤشرات الراديو على رقم «الف ومائة» وهو موقع اذاعة صوت فلسطين على لوحة الراديو .. كنا في اليوم السابق قد امضينا ساعات مضنية في العمل الموزع بين الجانب الاعلامي والجانب الهندسي .. فلقد لاحظ المستمعون ان خللا فنيا اعترى اذاعتنا وأثر على نحو سلبي في درجة وضوح الصوت .. حاولنا كل ما في وسعنا تدارك الخلل اثناء فترة البث .. ولكن دون جدوى .. ولقد ا فادني المهندسان احمد وجهاد .. بحتمية وقف الاذاعة قبل الوقت المحدد .. ليتسنى لهما اجراء صيانة شاملة على الاجهزة, واقترحت عليهما الا يفكرا بالتوقف قبل الموعد. وان يستغلا فترة المساء من العاشرة حتى ا لصباح لانجاز المهمة .. وبالفعل انهمك مهندسو الاذاعة طيلة الليل, وبدأوا بعملية التجريب ببث مباشر من جهاز الارسال .. وقد تداخلت فترة التجريب مع الوقت المحدد لبدء الارسال اليومي وهو السادسة صباحا .. في تلك اللحظات كان القصف العنيف كافيا لأن يوقظنا جميعا من النوم .. ولقد فوجئنا بأنه حتى السابعة صباحا لم يسمع من اذاعتنا سوى الموسيقى والأناشيد .. في حين ان بيروت تصلى بجحيم من القذائف .. والاذاعات الاخرى تتوقع ان هذا اليوم بالذات هو يوم اقتحام بيروت. اوعزنا للمذيع المقاتل احمد عبد الكريم المعروف باسم بن بيلا فلسطين بالتوجه الى سيارة الارسال .. وأوفدنا مذيعا الى الاستوديو مقدرين ان المذيع المناوب تأخر لسبب ما ورغم ذلك استمرت الاذاعة في تقديم الاناشيد حتى الثامنة لنفاجأ بعد ذلك بخطاب ارتجالي ينطلق من حنجرة قوية ولم يكن صعبا ان نعرف بأن صاحب الصوت هو الأخ ابو اياد .. بعد ذلك لامست اسماعنا المقدمة الموسيقية الجميلة للبرنامج الصباحي «صباح الخير» .. ثم سمعنا رشاد ابو شاور يقدم حلقة جديدة من برنامجه اليومي «كلامنا بلدي» .. ثم وبعد انتظار مر مثل كابوس .. انتظمت الاذاعة. - ما السر في اقتصار الاذاعة من الرابعة صباحا حتى الثامنة على تقديم المارشات العسكرية والأناشيد .. لقد تبين لنا .. ان جهاز الوصل بين الاستوديو ومحطة الارسال اصيب بعطب مفاجىء عند الساعة السادسة صباحا اي لحظة بدء الفترة الصباحية المعتادة .. واصبح متعذرا على مهندس الارسال التقاط الصوت المنطلق من الاستوديو .. وفي الساعات التي كان فيها المستعمون يتمزقون قلقا وحيرة, كان المهندسون يبذلون جهودا مضنية لاصلاح جهاز الوصل وقد وقفوا في ذلك عند الثامنة صباحا .. لم يكن من السهل ايضاح الأمر .. ورغم ان المبررات الهندسية كافية لتفسير موقفنا الا ان الجميع سجل علينا خطأ كبيرا وصل الى حد اتهامنا بالتقصير .. ولقد سمعنا نقدا لاذعا .. ملأ قلبي حزنا .. حينما قال احد الاخوة القياديين: «ان بيروت كانت تحترق .. وشباب الاذاعة يغطون في نوم عميق» .. ولقد ادركت في ذلك ا لموقف البعد المأساوي لعملنا في الاذاعة .. فمن غير المسموح به لهذه الشمعة التي تحترق وتذوب .. ان تنطفىء امام الاعاصير مهما بلغت همجيتها ووحشية قصفها وتدميرها .. ومع تسليمي بلا منطق هذا الافتراض الا انني اقول انه على حق وكل الذي استطيع فعله في حالة كهذه ان انصرف الي مجتمعنا الصغير الذي اسمه الاذاعة .. لأحاول مرة اخرى .. من أجل الا تنطفىء شمعتنا الصغيرة.
(6)
- في ذلك اليوم .. يوم المحاولة الكبرى لاقتحام بيروت توجهت الى الاستوديو .. منذ التاسعة صباحا .. وكان سبب تأخري هو جمع اكبر قدر ممكن من المعلومات عن الموقف الراهن .. ولقد شعرت ان هذا اليوم ربما يكون اخطر ايام الحرب .. ومع ثقتي بمتانة الخطوط الدفاعية المقامة حول بيروت وصعوبة اختراق هذه الخطوط .. الا ان هواجسي وصلت بي حد تخيل الدبابة الاسرائيلية تقف تحت نافذة الاستوديو ولم يكن بوسعي في ذلك الوقت اتخاذ ترتيبات لمواجهة مثل هذا الاحتمال, فلقد ضاقت جزيرتنا واصبح كل شيء شديد الصعوبة .. بل صرنا جميعا - وكل في داخله - يتعامل مع اسوأ الاحتمالات .. وأسوأها بل شك كان دخول الاسرائيليين ووراءهم وتحت حرابهم ميليشيا الكتائب, لكننا قررنا الموت واقفين حتى آخر طلقة .. بل حتى آخر سكين في «مطبخ» .. فلم يكن لكبريائنا الثوري من خيار سوى القتال حتى اللحظة الأخيرة, كان قطع المسافة بين المقر المركزي للاذاعة والاستوديو .. اشبه برحلة يرافقك فيها الموت خطوة بخطوة .. وكنا قد اكتشفنا طريقا آمنا الى حد ما .. يمتد عبر الممرات الضيقة التي تتعرج وتتشابك بين غابة العمارات المرتفعة, وفي تلك الاثناء. . كان من قبيل المجازفة المستهترة ان تنتقل بسيارة او حتى دراجة فمن لا يموت بقذيفة مباشرة يمكن ان يتمزق من الشظايا المنتشرة في ا لهواء في كل انحاء بيروت وسمائها .. وقد قطعت المسافة بين المقر المركزي والاستوديو .. دون ان اشعر بما يجري حولي, ولا اظن ان الأمر متعلق بالشجاعة .. وانما بفعل احساس عميق .. بأنه لم يعد في بيروت اي مكان آمن على الاطلاق وبناء على ذلك .. يستطيع الانسان ان يستسلم بارتياح للحظ والصدفة مع قدر من التصميم على الوصول .. ولقد وصلت لأجد امامي المشهد التالي: - في مكان صغير من العمارة .. توجد مساحة ضيقة يطلق عليها السكان بيت الدرج .. وقد كانت مساحة هذا المكان الذي وضعنا فيه الاستوديو الجديد متران عرضا بأربعة امتار طولا .. يأخذ الدرج حيزا منها .. والى جانب بيت الدرج .. يقع مخزن للأثاث القديم مساحته ثلاثة اضعاف بيت الدرج تقريبا ولم يكن للمكان كله مزايا أمنية استثنائية .. حيث انه مشرع من الجهة الغربية على البحر عبر ثلاث نوافذ كبيرة .. وكثيرا ما كنا نجازف بارواحنا لنقف خلف النوافذ .. لمشاهدة رشقات راجمات الصواريخ تخرج من عندنا او تنهمر علينا ولقد اختار حسن عصفور مناوب الاخبار هذا المكان كمقر ثابت له .. مستفيدا من وجود جهاز اللاسلكي والتلفون العسكري .. واجهزة الاستماع .. والثلاجة الصغيرة التي لم تكن تخلو من زجاجات الماء البارد .. في وقت كانت فيه هذه الزجاجات ارقى مستويات البذخ والترف في بيروت .. وحين كان المذيع ينتقل من الاستوديو الى مكتب الاخبار الذي يفصله عنه باب صغير .. ويتصادف ذلك مع قصف عنيف .. كان المهندس يبادره ضاحكا: - كيف الاوضاع على خط التماس .. على كل حال الحمد لله على السلامة هذه المرة ?? فالشظايا دخلت - وبحجوم مرعبة - اكثر من مرة الى «مخزن» التحرير هذا .. وبأعجوبة لم تصب أحدا .. - وصلت الى الاستوديو .. حوالي التاسعة وعشر دقائق .. القصف تضاعف في تلك اللحظات .. كان الجميع يحتشد في الاستوديو .. يوسف يستلقي على الدرج منتظرا دوره في قراءة المادة المقررة .. والدكتور صلاح يذيع تعليقا سياسيا حول تفاعلات الحرب داخل اسرائيل .. ورشاد يشتبك في جدل صاخب مع المهندس صلاح الذي لم يطبع حلقات برنامج «كلامنا بلدي» على اشرطة كاسيت .. والحاج خالد مسمار الذي كان نائبا لمدير الاذاعة .. هو الآن مسؤول التوجيه السياسي في احد قطاعاتنا العسكرية .. ومعروف بصوته الاذاعي الجميل والذكي خصوصا في قراءة الوجدانيات - كان الحاج خالد ملقيا بكل ثقله «المتواضع» على الباب الخشبي الذي يفصل الاستوديو عن قسم الاخبار واول كلمة نطقت بها كانت موجهة للحاج خالد مسمار .. «ما الذي يدعوك للوقوف هكذا هل تحاول اتقاء القذائف بجسدك?». - ابتسم خالد بهدوئه المعروف - والذي له قصة تروى - وبادرني قائلا:. ان اهتزاز الباب من جراء اصوات الانفجارات يصل الى الميكروفون .. لهذا احاول منع الاهتزاز - وعن هدوء الحاج خالد يروي احد الاخوة هذه الحادثة. - في موقع ال (95) وذات يوم من ايام حزيران المخيفة .. بدأت الطائرات قصفا مركزا على الفاكهاني اي حولنا - ورويدا رويدا .. بدأ القصف يقترب والعمارة تهتز بنا .. «اي تهتز? »- بل قل كانت تميد .. وأخذت قطرات الماء تتساقط من سقف الملجأ ونثارة البويا والاسمنت« تتهرهر ».. وبخلاصة بتنا في داخلنا جميعا .. مقتنعين انها النهاية .. كان يعقوب يقف صامتا بعصبية مكتومة .. في حين كان ابو زيد يصلي في غرفة الالآت والمحررون في غرفة التحرير الصغيرة الملاصقة للاستوديو, واجمون وكأن على رؤوسهم الطير .. وأحد الزملاء كان يرتعش بخوف ظاهر لا ارادي .. في حين كان ثمة سيكارة تحترق وحيدة فوق منفضة ملأى بالأعقاب المطفأة .. كنت ارقب المشهد لحظة شخصت نظري باتجاه الحاج خالد كان هادئا كعادته .. وطيف ابتسامة ما زال تحت شاربيه الاسودين المنتظمين فوق ثغر خجول ودقيق .. كان يمشي الهوينا .. ثم توقف فجأة وبدت عيناه خلف نظارته وفيهما شيء من القلق والاستغراب والتساؤل, في تلك اللحظة كان الجميع مطرقين .. بانتظار الكارثة .. عنف القصف وشرخ صوت انفجار بقية الأمل وأحسسنا ان كل شيء سينتهي خلال لحظة .. ما زلت اذكر تلك الحركة .. حين امتدت يده اليمنى واغلقت زر سترته العلوي بهدوء .. وكأنه ينطق في اعماقه بالشهادتين او هكذا خيل لي .. وبمزيج من خوف وتحد او ما يسمى انتفاضة اللحظة الأخيرة .. شعرت بضرورة ان اكتب شيئا متحديا .. واذكر ان فحواه .. كان يعني اننا صامدون هنا فوق او تحت هذا الدمار المقدس .. لا فرق .. وسيظل صوت فلسطين صادحا .. وستظل بنادق الثورة مشرعة .. حتى يوم ينطلق .. صوت فلسطين .. صوت جمهورية فلسطين الديمقراطية من القدس .. يعقوب قرأها .. وكأنه يقصف .. او كأنه يرد على القصف بقسوة .. بحد .. بثبات .. ولم نعد نذكر ما يحصل في الخارج .. حينما انطلقت اهزوجتنا الحبيبة «طالعلك .. يا عدوي طالع .. من كل بيت وحارة وشارع وكان الجميع يرددونها بحماس وفرح وبحركات اقرب الى الرقص .. وحينها افترت شفتا الحاج عن ابتسامة عذبة .. اعترف .. لقد كانت ابتسامة تمنحني الاطمئنان .. لذا حينما اغلق بحزن عروة سترته .. لا ادري لماذا شعرت ان النهاية اقتربت?;. لقد ندمت على هذا الشعور - والآن اعود الى الشباب .. فقد كان صفير القذائف يمر فوقنا ويخترق آذاننا وكنت ألاحظ مجرى القذيفة على وجه يوسف الذي كان يحسب اللحظات الفاصلة بين صوت الصفير ودوي الانفجار .. مع احتمال ان تسقط واحدة على بابنا في أية ثانية. وكان «بن بلا» المدجج بالقنابل وقذائف الآر بي جي يطلق بين وقت وآخر فتاويه العسكرية محددا انواع القذائف والصواريخ .. مطمئنا الى ان احدا من الحاضرين لن يجادله في معلوماته خاصة وانه يحمل لقب المراسل العسكري للاذاعة ولابن بلا قصة تنطوي على قدر كبير من الطرافة سآتي على ذكرها في مكان آخر. وفي ذلك اليوم كانت بيروت تغرق في بركة بارود ودم وشظايا فقد توزع الموت في كل حي وشارع وبيت من الفنادق والروشة والحمراء شمالا حتى الاوزاعي والبرج والشياح جنوبا اي بيروت برمتها .. كانت تحترق وتتقطع وتئن لكنها تواصل التحدي .. في حين كان المدافعون عنها واقفين كالصخرة الصلبة دون ان يتراجعوا مليمترا واحدا .. - كان يعقوب شاهين .. غارقا حتى أذنيه في ازمة خاصة .. فقد كان ضيفا عند نسيبته الساكنة في احد اخطر المناطق .. وحين شمل التدمير بيت نسيبته .. لم يجد مكانا سوى الاستوديو يلوذ به, ولقد فوجئت بوجود سيدتين تجلسان على بعد اشبار من الميكروفون وقد وضعن ايديهن على آذانهن كي لا يسمعن القصف المتبادل بين المذيع والمدفعية الاسرائيلية .. نظر الي يعقوب معتذرا واحسست بأنه يترتب علي مهمة جديدة لهذا اليوم وهي ايجاد مسكن للضيوف الجدد. - كثيرا ما كنا نخترق الوضع النفسي الصعب. بابتكار النكت والطرائف .. وكنا نستغل فترة اذاعة مادة مسجلة لنأخذ راحتنا في التهريج والضحك بصوت مرتفع حتى اننا كنا نستأذن المهندس .. اذا كان الوضع يتحمل تهريجا من العيار الثقيل .. وكان رشاد ابو شاور في الغالب هو نجم هذه اللحظات .. ولقد ولدت في ذلك اليوم طرائف عديدة .. اذكر منها انني قلت لرشاد هل تعرف «يا ابن كنعان» بماذا كنت افكر هذا الصباح .. فأجاب باللهجة الاستفزازية .. .. سأعطيك بعد إذن المهندس دقيقة واحدة قلت: تخيلت اننا قد نطل من الشباك لنرى دبابة اسرائيلية توجه فوهة مدفعها نحونا ولنفترض ان مثل هذا الأمر حدث .. وكنت انت الواقف على الشباك فماذا تفعل? اجاب رشاد: سأخرج رأسي من النافذة وأقول له: - ما اسمك يا ولد ..? ولنفترض انه قال: كوهين سأقول له بعد ذلك: يا ولد (قف وفكر .. من يحاصر من)? - ولكل من هاتين العبارتين قصة تتعلق بالحرب .. - قف وفكر .. هي مقدمة النداءات الفاشلة التي كانت توجهها الاذاعة الاسرائيلية باللغة العربية لمقاتلينا .. بغية حملهم على القاء السلاح .. وقد تحولت هذه العبارة مع استمرار المعركة الى نكتة يتداولها المقاتلون وقد تم تطوير هذه النكتة حين قام خليل وغسان بتسجيلها في مقدمة النداء باللغة العبرية .. موجهة بالميكروفون على خطوط التماس للجنود الاسرائيليين الذين يحاصرون بيروت وقد جرت على خطوط التماس .. حوارات لا تنسى عبر هذه الاشرطة والميكروفونات .. بين مقاتلينا والجنود الاسرائيليين .. - اما عبارة من يحاصر من .. فلقد وردت في احد تصريحات بيغن ورسائل فيليب حبيب .. حين قيل ان عرفات يتصرف من موقع المحاصر بكسر الصاد وليس المحاصر بفتحه
الحلقة السادسة عشر الجزء الثاني من "صوت العاصفة" بعنوان: أين وصلت الحرب؟
رام الله - خاص دنيا الوطن
هذا السؤال هو الذي كان ينتزعنا من لحظات التهريج الصاخب.. انني لم اتلقى حتى الآن اي بلاغ عسكري يحدد سير المعركة ونتائجها الأولية والبلاغ الصباحي لم يعد كافيا ولا مناسبا لأن نبدأ به نشرة الظهيرة.. خاصة وان القصف لم يتوقف.. والمصادر الاسرائيلية العملية.. تقول ان الاسرائيليين احرزوا تقدما مهما على خطوط التماس.. كان عدم انتظام الاخبار، مشكلة يومية تتضاعف حين تنقطع وسائل الاتصال الداخلي ولا نجد بدا من الانتشار في اكثر من اتجاه لجمع الأخبار، وحقاذق الموقف، ولقد كنا حريصين دوما على ان تكون بلاغات العمليات المركزية هي الاساس الاخباري الرئيسي في تغطية الجانب العسكري من المعركة.. وحين كان يحتدم النقاش بين مناوب الأخبار والضابط المناوب في غرفة العمليات حول تأخر البلاغات.. كان مناوب الأخبار يلجأ الى استدراج الضابط بطريقة استفزازية كالقول: ان اذاعة اسرائيل تدعي بأن القوات الاسرائيلية احرزت تقدما مهما علي خطوط التماس فهل لديك ما ينفي ذلك.. ورغم خطورة هذا الاستدراج الاستفزازي وما ينطوي عليه من مغريات.. الا ان الضابط كان يجيب بحسم:
- لا علاقة لي بما تقول.. انتظر البلاغ الرسمي.. وحين كان يسأل الضابط المناوب عن المدة التي يتعين علينا انتظارها للحصول على البلاغ الجديد.. كان يجيب بلهجة عسكرية جافة.. لا اعرف انتظر.. سيصلك البلاغ فور صدوره.
- كنا دائمي التذمر من قلة البلاغات العسكرية وربما كنا نتخيلها قليلة بحكم حاجتنا الماسة.. لتقديم خبر جديد في كل نشرة.. ولكن.. حين كنا ندرس البلاغات العسكرية.. كنا نجد فيها دقة متناهية في تحديد الموقف.. وكان المذيعون ولعوامل انسانية صرفة.. يتفاعلون مع البلاغات من داخلهم.. فتراهم في قمة السعادة وهم يستقبلون بلاغا عسكريا يبدأ بعبارة:٬ تمكن مقاتلونا من افشال عملية انزال او محاولة اقتحام على هذا المحور او ذاك.. وكانوا يتسابقون على قراءة مثل هذا النوع من البلاغات.. واذكر انه في ذلك اليوم.. يوم المحاولة الكبرى والفاشلة للاقتحام - جاءنا البلاغ العسكري الرسمي متأخرا بعض الوقت.. وكان يتضمن اعلانا حاسما وواثقا.. بأن قوات الغزو فشلت في التقدم على اي محور من محاور التماس، وانها تكبدت خسائر فادحة في الارواح والمعدات، وان العديد من الدبابات الاسرائيلية - اكثر من عشرين - تشاهد مشتعلة على اكثر من موقع، ولقد اسعفتنا اذاعة صوت لبنان الكتائبية - حين اعلن ان رشقة من صواريخ (غراد) هبطت على عشرات من الجنود والضباط الاسرائيليين على المدرج الشرقي للمطار، وأصابت تجمعا للآليات والافراد اصابات مباشرة، وهذا يعني ان القتلى بالعشرات.. ومما عزز القول بفشل المحاولة الاسرائيلية.. وايقاعها خسائر مؤلمة في صفوف الغزاة.. تدخل الطيران الاسرائيلي على نحو متأخر.. وبكثافة شديدة.. حيث كان واضحا للجميع ان الطيران يقوم بعمليات انتقامية بعد فشل محاولة الاقتحام الواسعة.
- ولقد تنفسنا الصعداء.. حين اعلن الاسرائيليون انهم تمكنوا من التقدم مسافة عشرة امتار باتجاه المتحف.. ليعلق طاهر العدوان بعدها:
- سبحان مغير الأحوال.. كان الاسرائيليون في حروبهم العدوانية السابقة يتقدمون بأقصى سرعة بالدبابة.. ويقطعون الأميال في الساعة الواحدة وها هم الآن يفاخرون بتقدمهم لمسافة عشرة امتار.. اغلب الظن انها ليست صحيحة؟
- انجزنا يومنا الاذاعي والشاق، وعدنا جميعا الى المقر المركزي.. ولم نكن ندري ان بعض الأخوة تعرضوا لاحتمال الموت مرات عديدة في طريقهم الينا.. وصلنا لنجد رسالة غير موقعة يحملها احد مرافقي القائد العام تتضمن دعوة لي لمقابلة الأخ ابو عمار.. وحين كانت الرسالة تتضمن اشارة الى وجوب احضار احد المهندسين.. كنت اعرف على الفور أن الأمر يتعلق بتوجيه خطاب حي للجماهير والمقاتلين عبر الراديو.. وكنت استشعر أهمية استثنائية لانطلاقة صوت عرفات عبر الاذاعة خاصة بعد يوم ثقيل من القصف والمعارك ومحاولات الاقتحام.
- كان شيئا يشبه الهدوء يخيم على بيروت في تلك الليلة، وحين كنت احس بحاجة للانطلاق بخيالاتي بعيدا عن اجواء الحرب.. كنت ألوذ بسيارتي الصغيرة.. وأجول بها ما تبقى من شوارع شبه آمنة.. ثم اطلق العنان لخيالي حيث تعبر صورة متلاحقة من تلك التي ترتبط بالحياة العادية في زمن السلم.. عن الزوجة بشرى والأولاد والأهل القلقين والمترقبين لحظة لقاء تبدو مع كل معركة، بعيدة او مستحيلة.. كنت افتح جهاز التسجيل واستمع الى أية اغنية ولن انسى ذلك الكاسيت الذي استمعت اليه في الطريق بين المقر المركزي واحد المقرات التي كان يتواجد فيها الأخ ابو عمار.. كان الشريط يحتوي على عدد من اغنيات الاطفال.. وفجأة انقطع صوت الأغنية.. لتنطلق مجموعة اصوات صاخبة.. كانت تسجيلا قديما لاستجواب اجراه طارق ابني الاكبر مع اخته «نرمين» وما اعذب ضحك الاطفال.. وما اثقله على الوجدان حين تستمع اليه في مثل هذه الظروف.،. لو لم يكن «ابو زيد بجانبي في تلك اللحظات لقمت على الاقل.. بايقاف السيارة.. والاجهاش في بكاء صريح».
وصلت الى مقر ابو عمار في حوالي الحادية عشرة ليلا.. وجدته محاطا بعدد من القادة والمساعدين، وكان الجنرال ابو الوليد الذي لا يعرف المجاملة.. يجلس على مقعد ملاصق لمقعد ابو عمار.. وما أن رآني حتى هب بكل ما فيه من صرامة عسكرية - كنت اجلها واحترمها وسأظل ما حييت اذكر من القائد الشهيد قوله ما الذي فعلتموه اليوم؟.. لقد استمعت الى تعليق لم يعجبني.. سألت العميد بلهجة فيها بعض المزاح.. اننا نذيع اكثر من خمسين تعليق في اليوم الواحد فأيها لم يعجبك؟؟
اجاب العميد بكل جدية: تعليق هاجمتم به كل العرب... بصوت الحاج خالد.. قلت: سيدي العميد.. وهل بعد كل الذي حدث.. بقي شيء يمنعنا من قول الحقيقة.
اجاب العميد: ان الهجوم في وضع كهذا قد يخلق بعض اليأس عند قواتنا.. وعليك ان تدرك كمسؤول.. بأن في داخلنا بقية اوهام قد تبدو مفيدة.. ومن هذه الاوهام احتمال تبدل ما في المواقف العربية.. عليك ان تضع هذا الاحتمال في عقلك.. انا لا ادعوك للترويج لمثل هذا الاحتمال.. ولكن يجب ان تظل النافذة مشرعة حتى النهاية.
- قطع ابو عمار حوارنا ليسأل ما اذا نا جاهزين للتسجيل؟
خلال ربع ساعة.. سجلنا نداء القائد العام لمقاتليه وجماهيره، واكثر كلمات ذلك الخطاب رسوخا في الذاكرة «ايها المجد اركع امام ابطال بيروت».
حملنا جهاز التسجيل والشريط المسجل عليه نداء القائد العام.. وتوجهنا الى الاستوديو.. وسلمنا الشريط للمهندس المناوب.. واصدرت له تعليمات باذاعته على التاسعة صباحا.
كانت وكالة الانباء الفلسطينية وفا.. قد اتخذت مقرا لها تحت الارض في قاعة اجتماعات المجلس الثوري لحركة فتح.. وكان خليل الزبن رئيس تحرير وفا في مكتب دمشق.. هو اكثر المسؤولين حضورا في ذلك المكان الخطر.. ولقد رغبت في تلك الليلة ان اقوم بزيارة له.. مستغلا فترة الهدوء التي تخيم على بيروت.. ومحاولا الافادة من الهاتف الدولي الذي ظل يعمل طيلة الحرب.. وقد اصطحبت المناضلة «جنين» في هذه الزيارة لتحاول هي الاخرى الاتصال مع باريس.
كانت بيروت غارقة في ظلام دامس.. الا من بعض وميض يصدر من مصابيح السيارات المجازفة بالتنقل تحت مرمى المدافع والرشاشات الاسرائيلية المحيطة ببيروت بإحكام «فظيع» من جميع الجهات.. واثناءها الحت علي رغبة جامحة بزيارة مقر الاذاعة القديم وما ان وصلت المكان الذي اعتدت ان اضع فيه سيارتي - في الظروف العادية - حتى تقدم مني احد رجال الحراسة.. آمراً باطفاء النور.. امتثلت له.. ثم عرفته علي نفسي..
سألته عن الاحوال.. ففهمت منه ان مجموعة قذائف انفجرت على سطح المبنى وفي الداخل.. وكان لا بد امام هذه المعلومات الجديدة.. من القيام بجولة تفقدية.. خاصة وان قسما لا يستهان به من الاشرطة والارشيف ما زالت في الموقع القديم..
صعدت مع «جنين» الى الطابق الثاني.. وكنا مع كل درجة نرتطم بالشظايا المتناثرة والحفر الصغيرة.. مما رسم صورة مرعبة لما سنجد من خراب وحرائق ولقد كانت مفاجأة لنا.. ان نجد الاستوديو والارشيف سالمين تماما الا من بعض الغبار.. قلت لـ «جنين» ونحن نتأمل الاستوديو الأنيق على ضوء شمعة كنا قد استعرناها من الحراسة:
- انظري يا جنين ما اجمل هذا الاستوديو.. لقد بنيناه بأيدينا «وشحذنا» هذه المسجلات الفخمة من احدى الاذاعات الشقيقة وهذه الخريطة المجسمة كالخنجر هي خريطة فلسطين.. لقد وضعناها في صدر الاستوديو.. كرسالة لجميع الزوار.. تقول فيها: اننا نعيش ونموت من اجل فلسطين.
- كانت جنين تنظر الي بتعاطف.. وكأنها تستمع مني الى تأبين في غير وقته لتجربة عزيزة على قلبي.. ففي هذا الاستوديو بالذات تمت اشياء مهمة.. رسائل ابو عمار في اعياد الثورة.. ندوات حول كافة المواضيع الثقافية والسياسية.. موسيقى واغنيات وحفلات صغيرة.. كانت نظرات جنين الحزينة توشك ان تقول:
- لقد انتهى هذا الفصل من التجربة.
كان السكون شاملا لحظة وجودنا في الاستوديو.. ولما هممنا بالخروج.. انفتحت ابواب الجحيم مرة اخرى ودوت الانفجارات العنيفة حتى خيل لنا ان العمارة ستهوي.. ولقد امتلأ قلبي بالرعب.. وانا اشاهد وميض الانفجارات ينعكس خافتا على بقايا النوافذ.. وزجاج الاستوديو.. انه قصف مباشر للشارع الذي نحن فيه.. ولقد ايقنت بأن القذائف تنهال على مبنى الاذاعة حين رأيت بأم عيني باب الاستوديو الضخم يغلق ويفتح بفعل الاهتزاز.. ورائحة البارود والغبار المتطاير تملأ المكان.
تحاملت على نفسي كثيرا لأبدو هادئا.. واقترحت على جنين ان نهبط الدرج لنقضي بعض الوقت في غرفة الحرس الآمنة نسبيا من القصف المدفعي.. وقبل ان نصل الى الباب الذي كانت تفصله عنا خطوات قليلة.. انهمرت القذائف مرة اخرى ووجدنا انفسنا في زاوية الاستوديو صامتين بلا حراك.
جنين.. هل تعرفين ما يدور في خلدي الآن.. ان لدي احساس عميق بأن دائرة الموت اكتملت من حولي.. وأن الأقدار نسجت لي هذا الموت في المكان الذي أحب.. فلو قدر لأي منا ان ينجو هذه الليلة فليحكي القصة..
صمت القصف، فانطلقنا بسرعة نهرول على ا لدرج المحطم لنجد امامنا عنصر الحراسة واقفا بجانب السيارة المغطاة بالغبار.
سألته: أين بقية زملائك؟
اجاب: انهم في الملجأ.
وأنت.. لماذا تقف في عرض الشارع.. وأين كانت هذه الانفجارات؟
ضحك الحارس قائلا انها كالمطر في كل مكان.
كانت الحرائق الصفراء مغلفة بالدخان والغبار والشارع المهجور يبعثان في النفس احساسا بالكآبة والقلق.. ركبنا السيارة وانطلقنا.. باقصى سرعة. لكن باب الجحيم فتح مرة اخرى.. لأجد نفسي بعد لحظات.. امام العمارة التي كان يسكنها الشهيد ماجد ابو شرار.. تركنا السيارة وانزلقنا الى الملجأ الذي كان معرضا لبيع السيارات القديمة.. لنجد امامنا مجموعة من الشباب يحضرون الشاي.. القت جنين نفسها على فراش صغير وغطت على الفور في نوم عميق.. شربت الشاي مع الشباب.. الذين استغلوا فرصة وجود مدير الاذاعة بينهم فأمطروني بوابل من الاسئلة كان اكثرها ايلاما في نفسي.. سؤال أحدهم.. متى يبدأ الرحيل؟
كان صخر ابو نزار امين سر المجلس الثوري وصاحب شعار لازم تزبط.. كثير التردد على المقر المركزي للاذاعة.. وفي كل زيارة جديدة.. كان يبادرنا بسؤال.. هل أمنتم مقرا آخر ان لدي احساسا بأن هذا المقر الذي يضم حشدا كبيرا من الكوادر يمكن ان يقصف.. ومن أجل ان يدلل على جدية احساسه.. كان يعلن بأن هذه الزيارة ستكون الأخيرة.. وكنا نرد ا لكرة الى مرماه حين نطلب منه ان يتكفل هو بتجهيز المقر الجديد.. فلم يكن بوسعه الا دعوتنا الى العمل في مكتبه وكنا نعتذر لبعد مكتبه عن الاستوديو.
كان احتشاد الكوادر الصحافية في الاذاعة.. يبعث على القلق.. واحتمال تدمير المكان - كان واردا في اي لحظة – ذلك يعني خسارة فادحة على صعيد قطاع هام من قطاعات الثورة.. ولكن لا بد من المجازفة مع محاولة اتخاذ بعض الترتيبات الاحترازية.. وذات ليلة عقدنا اجتماعا لهذا الغرض بالذات واتفقنا على ان نتوزع على اربع اماكن متباعدة.. وان يتم الاتصال عبر نقاط محددة.
- حنا ورشاد وابو بشار وميشيل.. في مكان.
- السربيوني ونزيه وغالب وسلوى.. في مكان آخر.
- نبيل وطاهر.. في المقر المركزي.
المذيعون والمهندسون، في اماكن متفرقة تبعد عشرات الأمتار عن الاستوديو، ولقد تم التقيد بهذا التوزيع الجديد لأيام قليلة لنكتشف جميعا اننا لا نستطيع الابتعاد على الاقل في المساء.. حيث كانت اجتماعاتنا وحواراتنا تستمر حتى ساعات الصباح الاولى..
ان العلاقة التي نشأت بيننا في الموقع الجديد، لم تكن مجرد علاقة عمل.. فلقد ألفنا بعضنا البعض بشكل لم يسبق له مثيل وحين كان يتأخر اي منا عن الجلسة المسائية كنا نحس بفقده فيملأنا احساس جماعي بالشوق له والخوف عليه.. ولو جرب اي منا تحديد حجم علاقته بالآخر في الظروف العادية لوجدنا جميعا انها كانت علاقة عادية.. اما الآن فان الأمر يختلف.. انا بالفعل اسرة واحدة تعودت العيش تحت سقف واحد.. رغم الخطر المميت الواقف خلف الأبواب وبين المنعطفات وحتى الغرف..
- قصص كثيرة حدثت ومفارقات.. سوف تبقى.. باعتقادي راسخة في أذهان من عاشوها.. لقد كان احساسنا بالخيبة من الصمت العربي عميقا حتى النفي، ومع ذلك لم نفقد قدرتنا على استخراج الفرح من قلب المأساة.. فما يحصل كان مريرا وبلا حد.. منظر الاطفال المرتعشين تحت وابل القصف الاسرائيلي المتواصل، وتحس بذلك السكوت المميت في الصالونات العربية.. ومرارة الصمت حين كانت الطائرات الاسرائيلية توزع الموت بلا حساب في كل حي وشارع وبيت وملجأ.. وكنا في قلب المعمعة نرى كل ذلك.. وبدل ان نتمزق قهرا كنا نستحضر الضحكة.
- عشرات الاسئلة الخارجة من ألم عميق.. وصل حد السخرية.. وجهناها لبعضنا.. ولكنه الضحك من الألم.. او الرقص على الجراح. .كما فعل «فلاح».. حينما كانت الشظايا المخيفة تدخل الاستوديو والمخزن المجاور له.. فراح يرقص.. أكان تحديا للقذائف.. ام تسليما بأن على الانسان قبل ان يرحل ان يترك صورة «راقصة» في عيون زملائه، وذكرى متحركة مليئة بالانسانية.. وفلاح الذي اصيب بما يشبه رعدة المفاجأة.. او هول الضربة الاولى في بداية الحب لزم بيته واصيب بنحول سرعان ما تحول الى مرض معوي.. هذا الشاب الذي تدين له الاذاعة بالكثير قبل الحرب.. وبعد زوال رعدة الايام الاولى وفي ذات اليوم زاره احد الاخوة في بيته وبعد عناء، اقنعه بالخروج في نزهة الى الجامعة الامريكية، التي كانت بعيدة نسبيا عن القصف، وتمتاز بجو جميل يطرزه العشب والشجر وتلك الاطلالة الساحرة على بحر بيروت.. وحين بدأ فلاح يحس بالانتعاش، والأسى لأنه لا يخرج في مشاوير كهذه دوى انفجار مخيف.. حسبا للوهلة الاولى انه لا يبعد عنهما سوى امتار قليلة.. «ظناه قصف طيران».. فتراكضا وراء جذوع الاشجار اتقاء للاحجار المتساقطة من السماء كالمطر.. لقد كان الانفجار يستهدف عمارات يقطنها مهجرون في عين المريسة الملاصقة لسور الجامعة الامريكية، ولقد ذهب ضحيته اكثر من ثلاثمئة جريح وقتيل من الاطفال والنساء.. لعن فلاح حظه العاثر، وانهال بالعتب على زميله لكن ذلك كان كافيا.. لأن يكون فلاح في اليوم التالي بيننا على رأس عمله.. وبلا كلل..
اما سلوى.. تلك المشاكسة الشقراء الجميلة.. التي اخترقت الحصار وجاءت تشاركنا آلام «وأفراح» تلك الأيام.. فقد اخترقت الحواجز الاسرائيلية والكتائبية عن طريق طرابلس بعد ان قطعت دورتها التدريبية في المانيا الشرقية.. لقد قامت بنشاط ممتاز على صعيد عملنا.. وكان من الممكن ان تتعرض للأسر او الموت على احد الحواجز الاسرائيلية والكتآئبية فيما لو اكتشف أمرها.. وكلنا نذكر الآن كم كان حضورها حلوا بيننا.
الساعة السادسة صباحا.. صحوت على صوت الطائرات، المغيرة وهي تحلق بكثافة في سماء بيروت.. خرجت الى شرفة كنا نسميها شرفة الاستطلاع، فقدرت ان معركة هذا اليوم بدأت مبكرة.. بما حملني على الاعتقاد بأن محاولة جديدة لاقتحام بيروت ستنفذ هذا اليوم.. فتحت جهاز الراديو وسمعت اشارة افتتاح صوت فلسطين.. شرعت في ايقاظ طاهر والحاج خالد اللذين كانا نائمين في المقر - لم تمض بضع دقائق حتى كنا في الشارع.. متوجهين عبر الطريق المتعرج الى الاستوديو الذي كان قد نقل في الليل الى مكان جديد لا يبعد سوى عشرات الأمتار عن المكان السابق.
وما ان وصلنا الاستوديو.. وكان ذلك حوالي السادسة والنصف صباحا حتى بدأت «حفلة» قصف الطيران.. كان محررو الاخبار يجلسون خلف مقاعدهم في العراء هربا من رطوبة الغرف المغلقة التي احدثت اكثر من اصابة مرضية لبعض الاخوة، التحق خالد بالاستوديو.. وبقيت انا وطاهر الى جانب المحررين وشرعنا جميعا في الكتابة على انغام الـ اف 15.. لم يكن سهلا على اي من الزملاء اكتشاف المقر الجديد مما احدث مشكلة حقيقية لنا.. وهي نقص المواد المكتوبة.. وبعد ان اعددنا برنامجا لمدة ثلاث ساعات توجهنا - طاهر وأنا - الى المقر المركزي في محاولة لجمع الكوادر وتأمين المواد الكافية ليوم اذاعي طويل.
كانت الشوارع مقفرة تماما حتى من المقاتلين الذين اتخذوا لأنفسهم اماكن غير مكشوفة، وحين وصلنا الى المقر بعد غياب لا يتجاوز الساعتين.. احسسنا بشوق بالغ له، فأحزننا الصمت المهيمن على المكان.. ومن الشرفة شاهدت ام بشارة جالسة على بلكونة منزلها في الطابق الثاني تشرب قهوتها الصباحية وكأنها تتحدى كل سلاح الطيران الاسرائيلي، وما ان رأتني حتى اشرق وجهها بالفرح وسمعت منها كلمات كالنسيم..
اين كنتم هذا الصباح.. لقد اشتقت لكم؟
دعتني ام بشارة لمشاركتها قهوتها واستسلم طاهر للنعاس مسترخيا على ارض الغرفة.. بدأ الشباب يتوافدون على المقر واحد تلو الآخر.. وكنت ارقب دخولهم من بلكونة ام بشارة.. ولما وصل العدد قرابة العشرة.. التحقت بهم.
كان كل واحد منهم قد احضر معه المواد التي اعدها لبرنامج اليوم دون ان ينسى احد ان يكتب الاحتياط الذي كان له لزوم دوما.. فيصل حوراني ومعه حلقة من برنامجه اليومي اضواء على جبهة العدو.. ونزيه ابو نضال «كلمة ورد غطاها» ورشاد ابو شاور «كلامنا بلدي» ومحمود السربيوني «صباح الخير» وحنا مقبل مجموعة تحليلات وتعليقات.. وابو بشار الساخط دوما على الأنظمة يحمل رزمة كبيرة.
ذكرت الشباب بالتعليمات الأمنية.. وبصعوبة بالغة تم تفريقهم.. على موعد جديد عند التاسعة مساء.. وبقيت مع طاهر بمفردنا.
كنا نراقب الاذاعة.. وكأننا نستمع اليها لأول مرة.. كان الصوت صافيا ونقيا، وكان يتناهى الى سمعنا معه.. اصوات الانفجارات القريبة وكأنها مؤثر صوتي تم اعداده بكفاءة مهنية عالية.. كان القصف عنيفا في ذلك اليوم اغلق طاهر الراديو وهم الصمت على الغرفة لقد بدأت القذائف تقترب حتى بدت اصوات الانفجارات وكأنها على بعد امتار منا.. واذكر اننا لمرات عديدة نهضنا واقفين بعد ان مالت بنا البناية فخيل لنا انها على وشك الانهيار.. ولعل اكثر الاصوات ازعاجا لنا تلك اللحظات.. هي المنبعثة من اهتزاز الستائر المعدنية التي تصدر اصواتا اشبه بفحيح الافاعي.
هتف طاهر لنترك المكان.. الى أين؟ هل لديك اقتراح محدد؟
الى الشارع.. لم تكن فكرة الشارع موفقة.. الى أين؟ وكأننا اتفقنا بالنظرات.. لنبق هنا..
هل لك يا طاهر ان تصف حالتنا.. الآن؟
لم يتحرك طاهر عن مقعده وقال بهدوء - اننا بالضبط مسلمون أمرنا لله.
في زمن الحرب وحين القصف واحتمال الموت.. يلوذ الانسان الى اختراع السكينة.. بالتعود او المكابرة.. ولقد تذكرت في تلك اللحظة.. كلمات كان قد قالها لي صديقي الحبيب ماجد ابو شرار.. حين اجرى عملية جراحية.. احس بعدها بألم حاد.. ولم يتعاطى المسكنات للتغلب على الألم.. قال لي يومها: ان قهر الألم يمكن ان يتم بالتعايش معه والتعود عليه ومصادقته.. وها نحن الآن نتعايش ونتعود.. ولكن..
كانت الطائرات الاسرائيلية.. تملأ سماء بيروت.. وكلما ضقنا ذرعا بالجلوس في الغرفة المغلقة كانت تسليتنا الوحيدة مراقبة الطائرات التي كانت تتخذ من منطقة تواجدنا طريقا تسلكه اثناء اغارتها على الضاحية الجنوبية.. كنا نشاهد البالونات الحرارية تتساقط من الطائرات وكأنها العاب نارية.. وكنا نعجب لهذا التدبير الاحترازي نظرا لمعرفتنا بحجم مقاوماتنا الارضية.. التي تكاد لا تذكر قياسا لما وصل اليه التسليح الحديث من وسائل عصرية في مقاومة الطائرات.. غير اننا نجد الجواب وهو الخوف.. نعم.. ان الطيارين الاسرائيليين يخافون من مقاوماتنا الارضية؟ خاصة بعد ان تمكنت هذه المقاومات الارضية المتواضعة من اسقاط عدد من الطائرات.. وحين كنا نشاهد طائرات «الكفير».. ونسمعها وهي تجأر كوحش في السماء متأهبة للانقضاض على اكواخ المخيمات والأحياء الفقيرة في بيروت، كان الألم يعتصر قلوبنا.. فيرتسم على شفاهنا سؤال مرير أين الطائرات العربية؟ ان خروج خمس طائرات عربية لمواجهة هذا الجنون الاسرائيلي الطائر.. من شأنه على الاقل ان يريحنا بعض الوقت ويبعدنا لو لساعة واحدة عن جحيم هذا الاستفراد المأساوي بنا.. تذكرت كلام ابو الوليد.. غير انها ومهما كانت منطقية لم تمنعني - وهذا ما فعله الجميع - من الكتابة بسخط ظاهر.. ضد الطائرات الملفوفة بالقماش والنائمة ببلاهة واستكانة مزرية في مخابئها.. انتظارا لعرض عسكري تحتفل فيه بيوم الاستقلال او بايام اخرى تحمل - يا للمفارقة - اسماء اعياد تعطل المدارس من أجلها.. لتكتب في السماء بأجنحتها اسماء لهذا الزعيم او ذاك.
خص وزير الإعلام الأسبق وعضو المجلس الإستشاري لحركة فتح د نبيل عمرو صحيفة "دنيا الوطن" بنشر كتابه الجديد الذي صدر مؤخرا في رام الله والتي حمل عنوان "صوت العاصفة" ليحكي تجربته النضالية في الاعلام الى جانب تجاربه النضالية الأخرى على كافة المحافل الثورية .
وينقسم كتابه الى جزئين : يحمل كل جزء منهم حقبة تاريخية من زمن الثورة الفلسطينية ويتطرق الكاتب في الجزئين الى دور إذاعة الثورة الفلسطينية التي أصبحت الآن اذاعة صوت فلسطين في وتجربته الرائدة فيها على مدار سنين الثورة.
دنيا الوطن بدورها قامت بتجزئة الكتاب لنشره عبر صفحاتها على حلقات ليتمكن القاريء من الإطلاع عليه كاملا ففي الحلقة السادسة عشر من الجزء الثاني الفصل الخ والذي حمل عنوان "أيام الحب والحصار" حيث تحدث في هذه الحلقة عن الحرب وشملها بعنوان : "أين وصلت الحرب؟".
"أين وصلت الحرب؟"
- لا علاقة لي بما تقول.. انتظر البلاغ الرسمي.. وحين كان يسأل الضابط المناوب عن المدة التي يتعين علينا انتظارها للحصول على البلاغ الجديد.. كان يجيب بلهجة عسكرية جافة.. لا اعرف انتظر.. سيصلك البلاغ فور صدوره.
- كنا دائمي التذمر من قلة البلاغات العسكرية وربما كنا نتخيلها قليلة بحكم حاجتنا الماسة.. لتقديم خبر جديد في كل نشرة.. ولكن.. حين كنا ندرس البلاغات العسكرية.. كنا نجد فيها دقة متناهية في تحديد الموقف.. وكان المذيعون ولعوامل انسانية صرفة.. يتفاعلون مع البلاغات من داخلهم.. فتراهم في قمة السعادة وهم يستقبلون بلاغا عسكريا يبدأ بعبارة:٬ تمكن مقاتلونا من افشال عملية انزال او محاولة اقتحام على هذا المحور او ذاك.. وكانوا يتسابقون على قراءة مثل هذا النوع من البلاغات.. واذكر انه في ذلك اليوم.. يوم المحاولة الكبرى والفاشلة للاقتحام - جاءنا البلاغ العسكري الرسمي متأخرا بعض الوقت.. وكان يتضمن اعلانا حاسما وواثقا.. بأن قوات الغزو فشلت في التقدم على اي محور من محاور التماس، وانها تكبدت خسائر فادحة في الارواح والمعدات، وان العديد من الدبابات الاسرائيلية - اكثر من عشرين - تشاهد مشتعلة على اكثر من موقع، ولقد اسعفتنا اذاعة صوت لبنان الكتائبية - حين اعلن ان رشقة من صواريخ (غراد) هبطت على عشرات من الجنود والضباط الاسرائيليين على المدرج الشرقي للمطار، وأصابت تجمعا للآليات والافراد اصابات مباشرة، وهذا يعني ان القتلى بالعشرات.. ومما عزز القول بفشل المحاولة الاسرائيلية.. وايقاعها خسائر مؤلمة في صفوف الغزاة.. تدخل الطيران الاسرائيلي على نحو متأخر.. وبكثافة شديدة.. حيث كان واضحا للجميع ان الطيران يقوم بعمليات انتقامية بعد فشل محاولة الاقتحام الواسعة.
- ولقد تنفسنا الصعداء.. حين اعلن الاسرائيليون انهم تمكنوا من التقدم مسافة عشرة امتار باتجاه المتحف.. ليعلق طاهر العدوان بعدها:
- سبحان مغير الأحوال.. كان الاسرائيليون في حروبهم العدوانية السابقة يتقدمون بأقصى سرعة بالدبابة.. ويقطعون الأميال في الساعة الواحدة وها هم الآن يفاخرون بتقدمهم لمسافة عشرة امتار.. اغلب الظن انها ليست صحيحة؟
- انجزنا يومنا الاذاعي والشاق، وعدنا جميعا الى المقر المركزي.. ولم نكن ندري ان بعض الأخوة تعرضوا لاحتمال الموت مرات عديدة في طريقهم الينا.. وصلنا لنجد رسالة غير موقعة يحملها احد مرافقي القائد العام تتضمن دعوة لي لمقابلة الأخ ابو عمار.. وحين كانت الرسالة تتضمن اشارة الى وجوب احضار احد المهندسين.. كنت اعرف على الفور أن الأمر يتعلق بتوجيه خطاب حي للجماهير والمقاتلين عبر الراديو.. وكنت استشعر أهمية استثنائية لانطلاقة صوت عرفات عبر الاذاعة خاصة بعد يوم ثقيل من القصف والمعارك ومحاولات الاقتحام.
(7)
- كان شيئا يشبه الهدوء يخيم على بيروت في تلك الليلة، وحين كنت احس بحاجة للانطلاق بخيالاتي بعيدا عن اجواء الحرب.. كنت ألوذ بسيارتي الصغيرة.. وأجول بها ما تبقى من شوارع شبه آمنة.. ثم اطلق العنان لخيالي حيث تعبر صورة متلاحقة من تلك التي ترتبط بالحياة العادية في زمن السلم.. عن الزوجة بشرى والأولاد والأهل القلقين والمترقبين لحظة لقاء تبدو مع كل معركة، بعيدة او مستحيلة.. كنت افتح جهاز التسجيل واستمع الى أية اغنية ولن انسى ذلك الكاسيت الذي استمعت اليه في الطريق بين المقر المركزي واحد المقرات التي كان يتواجد فيها الأخ ابو عمار.. كان الشريط يحتوي على عدد من اغنيات الاطفال.. وفجأة انقطع صوت الأغنية.. لتنطلق مجموعة اصوات صاخبة.. كانت تسجيلا قديما لاستجواب اجراه طارق ابني الاكبر مع اخته «نرمين» وما اعذب ضحك الاطفال.. وما اثقله على الوجدان حين تستمع اليه في مثل هذه الظروف.،. لو لم يكن «ابو زيد بجانبي في تلك اللحظات لقمت على الاقل.. بايقاف السيارة.. والاجهاش في بكاء صريح».
وصلت الى مقر ابو عمار في حوالي الحادية عشرة ليلا.. وجدته محاطا بعدد من القادة والمساعدين، وكان الجنرال ابو الوليد الذي لا يعرف المجاملة.. يجلس على مقعد ملاصق لمقعد ابو عمار.. وما أن رآني حتى هب بكل ما فيه من صرامة عسكرية - كنت اجلها واحترمها وسأظل ما حييت اذكر من القائد الشهيد قوله ما الذي فعلتموه اليوم؟.. لقد استمعت الى تعليق لم يعجبني.. سألت العميد بلهجة فيها بعض المزاح.. اننا نذيع اكثر من خمسين تعليق في اليوم الواحد فأيها لم يعجبك؟؟
اجاب العميد بكل جدية: تعليق هاجمتم به كل العرب... بصوت الحاج خالد.. قلت: سيدي العميد.. وهل بعد كل الذي حدث.. بقي شيء يمنعنا من قول الحقيقة.
اجاب العميد: ان الهجوم في وضع كهذا قد يخلق بعض اليأس عند قواتنا.. وعليك ان تدرك كمسؤول.. بأن في داخلنا بقية اوهام قد تبدو مفيدة.. ومن هذه الاوهام احتمال تبدل ما في المواقف العربية.. عليك ان تضع هذا الاحتمال في عقلك.. انا لا ادعوك للترويج لمثل هذا الاحتمال.. ولكن يجب ان تظل النافذة مشرعة حتى النهاية.
- قطع ابو عمار حوارنا ليسأل ما اذا نا جاهزين للتسجيل؟
خلال ربع ساعة.. سجلنا نداء القائد العام لمقاتليه وجماهيره، واكثر كلمات ذلك الخطاب رسوخا في الذاكرة «ايها المجد اركع امام ابطال بيروت».
حملنا جهاز التسجيل والشريط المسجل عليه نداء القائد العام.. وتوجهنا الى الاستوديو.. وسلمنا الشريط للمهندس المناوب.. واصدرت له تعليمات باذاعته على التاسعة صباحا.
(8)
كانت وكالة الانباء الفلسطينية وفا.. قد اتخذت مقرا لها تحت الارض في قاعة اجتماعات المجلس الثوري لحركة فتح.. وكان خليل الزبن رئيس تحرير وفا في مكتب دمشق.. هو اكثر المسؤولين حضورا في ذلك المكان الخطر.. ولقد رغبت في تلك الليلة ان اقوم بزيارة له.. مستغلا فترة الهدوء التي تخيم على بيروت.. ومحاولا الافادة من الهاتف الدولي الذي ظل يعمل طيلة الحرب.. وقد اصطحبت المناضلة «جنين» في هذه الزيارة لتحاول هي الاخرى الاتصال مع باريس.
كانت بيروت غارقة في ظلام دامس.. الا من بعض وميض يصدر من مصابيح السيارات المجازفة بالتنقل تحت مرمى المدافع والرشاشات الاسرائيلية المحيطة ببيروت بإحكام «فظيع» من جميع الجهات.. واثناءها الحت علي رغبة جامحة بزيارة مقر الاذاعة القديم وما ان وصلت المكان الذي اعتدت ان اضع فيه سيارتي - في الظروف العادية - حتى تقدم مني احد رجال الحراسة.. آمراً باطفاء النور.. امتثلت له.. ثم عرفته علي نفسي..
سألته عن الاحوال.. ففهمت منه ان مجموعة قذائف انفجرت على سطح المبنى وفي الداخل.. وكان لا بد امام هذه المعلومات الجديدة.. من القيام بجولة تفقدية.. خاصة وان قسما لا يستهان به من الاشرطة والارشيف ما زالت في الموقع القديم..
صعدت مع «جنين» الى الطابق الثاني.. وكنا مع كل درجة نرتطم بالشظايا المتناثرة والحفر الصغيرة.. مما رسم صورة مرعبة لما سنجد من خراب وحرائق ولقد كانت مفاجأة لنا.. ان نجد الاستوديو والارشيف سالمين تماما الا من بعض الغبار.. قلت لـ «جنين» ونحن نتأمل الاستوديو الأنيق على ضوء شمعة كنا قد استعرناها من الحراسة:
- انظري يا جنين ما اجمل هذا الاستوديو.. لقد بنيناه بأيدينا «وشحذنا» هذه المسجلات الفخمة من احدى الاذاعات الشقيقة وهذه الخريطة المجسمة كالخنجر هي خريطة فلسطين.. لقد وضعناها في صدر الاستوديو.. كرسالة لجميع الزوار.. تقول فيها: اننا نعيش ونموت من اجل فلسطين.
- كانت جنين تنظر الي بتعاطف.. وكأنها تستمع مني الى تأبين في غير وقته لتجربة عزيزة على قلبي.. ففي هذا الاستوديو بالذات تمت اشياء مهمة.. رسائل ابو عمار في اعياد الثورة.. ندوات حول كافة المواضيع الثقافية والسياسية.. موسيقى واغنيات وحفلات صغيرة.. كانت نظرات جنين الحزينة توشك ان تقول:
- لقد انتهى هذا الفصل من التجربة.
كان السكون شاملا لحظة وجودنا في الاستوديو.. ولما هممنا بالخروج.. انفتحت ابواب الجحيم مرة اخرى ودوت الانفجارات العنيفة حتى خيل لنا ان العمارة ستهوي.. ولقد امتلأ قلبي بالرعب.. وانا اشاهد وميض الانفجارات ينعكس خافتا على بقايا النوافذ.. وزجاج الاستوديو.. انه قصف مباشر للشارع الذي نحن فيه.. ولقد ايقنت بأن القذائف تنهال على مبنى الاذاعة حين رأيت بأم عيني باب الاستوديو الضخم يغلق ويفتح بفعل الاهتزاز.. ورائحة البارود والغبار المتطاير تملأ المكان.
تحاملت على نفسي كثيرا لأبدو هادئا.. واقترحت على جنين ان نهبط الدرج لنقضي بعض الوقت في غرفة الحرس الآمنة نسبيا من القصف المدفعي.. وقبل ان نصل الى الباب الذي كانت تفصله عنا خطوات قليلة.. انهمرت القذائف مرة اخرى ووجدنا انفسنا في زاوية الاستوديو صامتين بلا حراك.
جنين.. هل تعرفين ما يدور في خلدي الآن.. ان لدي احساس عميق بأن دائرة الموت اكتملت من حولي.. وأن الأقدار نسجت لي هذا الموت في المكان الذي أحب.. فلو قدر لأي منا ان ينجو هذه الليلة فليحكي القصة..
صمت القصف، فانطلقنا بسرعة نهرول على ا لدرج المحطم لنجد امامنا عنصر الحراسة واقفا بجانب السيارة المغطاة بالغبار.
سألته: أين بقية زملائك؟
اجاب: انهم في الملجأ.
وأنت.. لماذا تقف في عرض الشارع.. وأين كانت هذه الانفجارات؟
ضحك الحارس قائلا انها كالمطر في كل مكان.
كانت الحرائق الصفراء مغلفة بالدخان والغبار والشارع المهجور يبعثان في النفس احساسا بالكآبة والقلق.. ركبنا السيارة وانطلقنا.. باقصى سرعة. لكن باب الجحيم فتح مرة اخرى.. لأجد نفسي بعد لحظات.. امام العمارة التي كان يسكنها الشهيد ماجد ابو شرار.. تركنا السيارة وانزلقنا الى الملجأ الذي كان معرضا لبيع السيارات القديمة.. لنجد امامنا مجموعة من الشباب يحضرون الشاي.. القت جنين نفسها على فراش صغير وغطت على الفور في نوم عميق.. شربت الشاي مع الشباب.. الذين استغلوا فرصة وجود مدير الاذاعة بينهم فأمطروني بوابل من الاسئلة كان اكثرها ايلاما في نفسي.. سؤال أحدهم.. متى يبدأ الرحيل؟
كان صخر ابو نزار امين سر المجلس الثوري وصاحب شعار لازم تزبط.. كثير التردد على المقر المركزي للاذاعة.. وفي كل زيارة جديدة.. كان يبادرنا بسؤال.. هل أمنتم مقرا آخر ان لدي احساسا بأن هذا المقر الذي يضم حشدا كبيرا من الكوادر يمكن ان يقصف.. ومن أجل ان يدلل على جدية احساسه.. كان يعلن بأن هذه الزيارة ستكون الأخيرة.. وكنا نرد ا لكرة الى مرماه حين نطلب منه ان يتكفل هو بتجهيز المقر الجديد.. فلم يكن بوسعه الا دعوتنا الى العمل في مكتبه وكنا نعتذر لبعد مكتبه عن الاستوديو.
كان احتشاد الكوادر الصحافية في الاذاعة.. يبعث على القلق.. واحتمال تدمير المكان - كان واردا في اي لحظة – ذلك يعني خسارة فادحة على صعيد قطاع هام من قطاعات الثورة.. ولكن لا بد من المجازفة مع محاولة اتخاذ بعض الترتيبات الاحترازية.. وذات ليلة عقدنا اجتماعا لهذا الغرض بالذات واتفقنا على ان نتوزع على اربع اماكن متباعدة.. وان يتم الاتصال عبر نقاط محددة.
- حنا ورشاد وابو بشار وميشيل.. في مكان.
- السربيوني ونزيه وغالب وسلوى.. في مكان آخر.
- نبيل وطاهر.. في المقر المركزي.
المذيعون والمهندسون، في اماكن متفرقة تبعد عشرات الأمتار عن الاستوديو، ولقد تم التقيد بهذا التوزيع الجديد لأيام قليلة لنكتشف جميعا اننا لا نستطيع الابتعاد على الاقل في المساء.. حيث كانت اجتماعاتنا وحواراتنا تستمر حتى ساعات الصباح الاولى..
ان العلاقة التي نشأت بيننا في الموقع الجديد، لم تكن مجرد علاقة عمل.. فلقد ألفنا بعضنا البعض بشكل لم يسبق له مثيل وحين كان يتأخر اي منا عن الجلسة المسائية كنا نحس بفقده فيملأنا احساس جماعي بالشوق له والخوف عليه.. ولو جرب اي منا تحديد حجم علاقته بالآخر في الظروف العادية لوجدنا جميعا انها كانت علاقة عادية.. اما الآن فان الأمر يختلف.. انا بالفعل اسرة واحدة تعودت العيش تحت سقف واحد.. رغم الخطر المميت الواقف خلف الأبواب وبين المنعطفات وحتى الغرف..
- قصص كثيرة حدثت ومفارقات.. سوف تبقى.. باعتقادي راسخة في أذهان من عاشوها.. لقد كان احساسنا بالخيبة من الصمت العربي عميقا حتى النفي، ومع ذلك لم نفقد قدرتنا على استخراج الفرح من قلب المأساة.. فما يحصل كان مريرا وبلا حد.. منظر الاطفال المرتعشين تحت وابل القصف الاسرائيلي المتواصل، وتحس بذلك السكوت المميت في الصالونات العربية.. ومرارة الصمت حين كانت الطائرات الاسرائيلية توزع الموت بلا حساب في كل حي وشارع وبيت وملجأ.. وكنا في قلب المعمعة نرى كل ذلك.. وبدل ان نتمزق قهرا كنا نستحضر الضحكة.
- عشرات الاسئلة الخارجة من ألم عميق.. وصل حد السخرية.. وجهناها لبعضنا.. ولكنه الضحك من الألم.. او الرقص على الجراح. .كما فعل «فلاح».. حينما كانت الشظايا المخيفة تدخل الاستوديو والمخزن المجاور له.. فراح يرقص.. أكان تحديا للقذائف.. ام تسليما بأن على الانسان قبل ان يرحل ان يترك صورة «راقصة» في عيون زملائه، وذكرى متحركة مليئة بالانسانية.. وفلاح الذي اصيب بما يشبه رعدة المفاجأة.. او هول الضربة الاولى في بداية الحب لزم بيته واصيب بنحول سرعان ما تحول الى مرض معوي.. هذا الشاب الذي تدين له الاذاعة بالكثير قبل الحرب.. وبعد زوال رعدة الايام الاولى وفي ذات اليوم زاره احد الاخوة في بيته وبعد عناء، اقنعه بالخروج في نزهة الى الجامعة الامريكية، التي كانت بعيدة نسبيا عن القصف، وتمتاز بجو جميل يطرزه العشب والشجر وتلك الاطلالة الساحرة على بحر بيروت.. وحين بدأ فلاح يحس بالانتعاش، والأسى لأنه لا يخرج في مشاوير كهذه دوى انفجار مخيف.. حسبا للوهلة الاولى انه لا يبعد عنهما سوى امتار قليلة.. «ظناه قصف طيران».. فتراكضا وراء جذوع الاشجار اتقاء للاحجار المتساقطة من السماء كالمطر.. لقد كان الانفجار يستهدف عمارات يقطنها مهجرون في عين المريسة الملاصقة لسور الجامعة الامريكية، ولقد ذهب ضحيته اكثر من ثلاثمئة جريح وقتيل من الاطفال والنساء.. لعن فلاح حظه العاثر، وانهال بالعتب على زميله لكن ذلك كان كافيا.. لأن يكون فلاح في اليوم التالي بيننا على رأس عمله.. وبلا كلل..
اما سلوى.. تلك المشاكسة الشقراء الجميلة.. التي اخترقت الحصار وجاءت تشاركنا آلام «وأفراح» تلك الأيام.. فقد اخترقت الحواجز الاسرائيلية والكتائبية عن طريق طرابلس بعد ان قطعت دورتها التدريبية في المانيا الشرقية.. لقد قامت بنشاط ممتاز على صعيد عملنا.. وكان من الممكن ان تتعرض للأسر او الموت على احد الحواجز الاسرائيلية والكتآئبية فيما لو اكتشف أمرها.. وكلنا نذكر الآن كم كان حضورها حلوا بيننا.
(9)
الساعة السادسة صباحا.. صحوت على صوت الطائرات، المغيرة وهي تحلق بكثافة في سماء بيروت.. خرجت الى شرفة كنا نسميها شرفة الاستطلاع، فقدرت ان معركة هذا اليوم بدأت مبكرة.. بما حملني على الاعتقاد بأن محاولة جديدة لاقتحام بيروت ستنفذ هذا اليوم.. فتحت جهاز الراديو وسمعت اشارة افتتاح صوت فلسطين.. شرعت في ايقاظ طاهر والحاج خالد اللذين كانا نائمين في المقر - لم تمض بضع دقائق حتى كنا في الشارع.. متوجهين عبر الطريق المتعرج الى الاستوديو الذي كان قد نقل في الليل الى مكان جديد لا يبعد سوى عشرات الأمتار عن المكان السابق.
وما ان وصلنا الاستوديو.. وكان ذلك حوالي السادسة والنصف صباحا حتى بدأت «حفلة» قصف الطيران.. كان محررو الاخبار يجلسون خلف مقاعدهم في العراء هربا من رطوبة الغرف المغلقة التي احدثت اكثر من اصابة مرضية لبعض الاخوة، التحق خالد بالاستوديو.. وبقيت انا وطاهر الى جانب المحررين وشرعنا جميعا في الكتابة على انغام الـ اف 15.. لم يكن سهلا على اي من الزملاء اكتشاف المقر الجديد مما احدث مشكلة حقيقية لنا.. وهي نقص المواد المكتوبة.. وبعد ان اعددنا برنامجا لمدة ثلاث ساعات توجهنا - طاهر وأنا - الى المقر المركزي في محاولة لجمع الكوادر وتأمين المواد الكافية ليوم اذاعي طويل.
كانت الشوارع مقفرة تماما حتى من المقاتلين الذين اتخذوا لأنفسهم اماكن غير مكشوفة، وحين وصلنا الى المقر بعد غياب لا يتجاوز الساعتين.. احسسنا بشوق بالغ له، فأحزننا الصمت المهيمن على المكان.. ومن الشرفة شاهدت ام بشارة جالسة على بلكونة منزلها في الطابق الثاني تشرب قهوتها الصباحية وكأنها تتحدى كل سلاح الطيران الاسرائيلي، وما ان رأتني حتى اشرق وجهها بالفرح وسمعت منها كلمات كالنسيم..
اين كنتم هذا الصباح.. لقد اشتقت لكم؟
دعتني ام بشارة لمشاركتها قهوتها واستسلم طاهر للنعاس مسترخيا على ارض الغرفة.. بدأ الشباب يتوافدون على المقر واحد تلو الآخر.. وكنت ارقب دخولهم من بلكونة ام بشارة.. ولما وصل العدد قرابة العشرة.. التحقت بهم.
كان كل واحد منهم قد احضر معه المواد التي اعدها لبرنامج اليوم دون ان ينسى احد ان يكتب الاحتياط الذي كان له لزوم دوما.. فيصل حوراني ومعه حلقة من برنامجه اليومي اضواء على جبهة العدو.. ونزيه ابو نضال «كلمة ورد غطاها» ورشاد ابو شاور «كلامنا بلدي» ومحمود السربيوني «صباح الخير» وحنا مقبل مجموعة تحليلات وتعليقات.. وابو بشار الساخط دوما على الأنظمة يحمل رزمة كبيرة.
ذكرت الشباب بالتعليمات الأمنية.. وبصعوبة بالغة تم تفريقهم.. على موعد جديد عند التاسعة مساء.. وبقيت مع طاهر بمفردنا.
كنا نراقب الاذاعة.. وكأننا نستمع اليها لأول مرة.. كان الصوت صافيا ونقيا، وكان يتناهى الى سمعنا معه.. اصوات الانفجارات القريبة وكأنها مؤثر صوتي تم اعداده بكفاءة مهنية عالية.. كان القصف عنيفا في ذلك اليوم اغلق طاهر الراديو وهم الصمت على الغرفة لقد بدأت القذائف تقترب حتى بدت اصوات الانفجارات وكأنها على بعد امتار منا.. واذكر اننا لمرات عديدة نهضنا واقفين بعد ان مالت بنا البناية فخيل لنا انها على وشك الانهيار.. ولعل اكثر الاصوات ازعاجا لنا تلك اللحظات.. هي المنبعثة من اهتزاز الستائر المعدنية التي تصدر اصواتا اشبه بفحيح الافاعي.
هتف طاهر لنترك المكان.. الى أين؟ هل لديك اقتراح محدد؟
الى الشارع.. لم تكن فكرة الشارع موفقة.. الى أين؟ وكأننا اتفقنا بالنظرات.. لنبق هنا..
هل لك يا طاهر ان تصف حالتنا.. الآن؟
لم يتحرك طاهر عن مقعده وقال بهدوء - اننا بالضبط مسلمون أمرنا لله.
في زمن الحرب وحين القصف واحتمال الموت.. يلوذ الانسان الى اختراع السكينة.. بالتعود او المكابرة.. ولقد تذكرت في تلك اللحظة.. كلمات كان قد قالها لي صديقي الحبيب ماجد ابو شرار.. حين اجرى عملية جراحية.. احس بعدها بألم حاد.. ولم يتعاطى المسكنات للتغلب على الألم.. قال لي يومها: ان قهر الألم يمكن ان يتم بالتعايش معه والتعود عليه ومصادقته.. وها نحن الآن نتعايش ونتعود.. ولكن..
كانت الطائرات الاسرائيلية.. تملأ سماء بيروت.. وكلما ضقنا ذرعا بالجلوس في الغرفة المغلقة كانت تسليتنا الوحيدة مراقبة الطائرات التي كانت تتخذ من منطقة تواجدنا طريقا تسلكه اثناء اغارتها على الضاحية الجنوبية.. كنا نشاهد البالونات الحرارية تتساقط من الطائرات وكأنها العاب نارية.. وكنا نعجب لهذا التدبير الاحترازي نظرا لمعرفتنا بحجم مقاوماتنا الارضية.. التي تكاد لا تذكر قياسا لما وصل اليه التسليح الحديث من وسائل عصرية في مقاومة الطائرات.. غير اننا نجد الجواب وهو الخوف.. نعم.. ان الطيارين الاسرائيليين يخافون من مقاوماتنا الارضية؟ خاصة بعد ان تمكنت هذه المقاومات الارضية المتواضعة من اسقاط عدد من الطائرات.. وحين كنا نشاهد طائرات «الكفير».. ونسمعها وهي تجأر كوحش في السماء متأهبة للانقضاض على اكواخ المخيمات والأحياء الفقيرة في بيروت، كان الألم يعتصر قلوبنا.. فيرتسم على شفاهنا سؤال مرير أين الطائرات العربية؟ ان خروج خمس طائرات عربية لمواجهة هذا الجنون الاسرائيلي الطائر.. من شأنه على الاقل ان يريحنا بعض الوقت ويبعدنا لو لساعة واحدة عن جحيم هذا الاستفراد المأساوي بنا.. تذكرت كلام ابو الوليد.. غير انها ومهما كانت منطقية لم تمنعني - وهذا ما فعله الجميع - من الكتابة بسخط ظاهر.. ضد الطائرات الملفوفة بالقماش والنائمة ببلاهة واستكانة مزرية في مخابئها.. انتظارا لعرض عسكري تحتفل فيه بيوم الاستقلال او بايام اخرى تحمل - يا للمفارقة - اسماء اعياد تعطل المدارس من أجلها.. لتكتب في السماء بأجنحتها اسماء لهذا الزعيم او ذاك.
المزيد على دنيا الوطن .. http://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2015/02/09/659812.html#ixzz3RLKscf2c
Follow us: @alwatanvoice on Twitter | alwatanvoice on Facebook
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق