الحلقة السابعة عشر الجزء الثاني من "صوت العاصفة" بعنوان: أين وصلت الحرب الآن ؟
رام الله -خاص دنيا الوطن
هل هي حرب حقيقية ام انها مجرد سلسلة متلاحقة من القتل والتدمير تنفذها مؤسسة عسكرية اتيحت لها امكانات قتل وتدمير فوق تصور البشر.. وما هي بيروت الآن؟ هل هي تلك المدينة التي كانت تستلقي باسترخاء على شاطىء المتوسط؟ هل هي مثل كل العواصم تغرق كل مساء تحت طوفان من الاضواء ومهرجانات الليل.. ام انها عاصمة العالم والتاريخ.. تستقبل في بضع ساعات مئات الألوف من القذائف.. لتنهض في اليوم التالي راسخة كجبل، قوية مثل فرس جامحة.. تنشر صهيلها الرائع في جهات الارض الأربع.. أية مدينة انت يا بيروت.. اية مهرة متمردة.. اية عاصمة بل أية صلاة.. كان لا بد ان تكتب هذه المعاني، وان ترسم هذه الصور لبيروت الملتصقة بنا في عناق عميق ودافىء، مئتان وعشرون الف قذيفة تساقطت على بيروت في عشر ساعات والعالم منح بيغن جائزة نوبل للسلام.. يسمع ما يجري.. ويشاهد على شاشات التلفزيون المباريات النهائية لبطولة العالم في كرة القدم.. ويشاهد صورا حية للمدينة المحاصرة وهي تحترق.. ورغم انه كان مذهولا من اعجاز البطولة والصمود والتحمل.. الا انه بقدر ما.. لم يكن بوسعه فعل شيء يذكر.. سوى انه وقف طيلة ايام الحرب مع ضميره.. وكأنه يتفاعل مع فيلم دراماتيكي طويل تأتي صوره الدامية من وراء الكون.
كان الناس في بيروت.. اشبه بجملة عصبية متحدة.. تهدأ في وقت واحد.. وتتوتر في وقت واحد.. وكنا في الاذاعة اكثر من يستشعر هذا الوضع المتميز والنادر.. فهل غير الاذاعة من يجد نفسه ملزما بمخاطبة الناس في كل الاوقات والظروف.
لقد حدث ذات يوم وحين كان الحصار يكتمل حول بيروت ان شهدت المدينة وضعا جديدا تماما، حين امطرت السماء ملايين المنشورات تدعو قوات الردع العربية الى الانسحاب وفق خطوط محددة على خريطة مرفقة بالمنشور، وكانت هذه المنشورات تحمل دعوة عامة الى سكان بيروت.. تطالبهم بالهجرة الجماعية.. لأن المدينة ستدمر بالكامل.. ولقد كنا في الاذاعة.. اول من التقط هذه المنشورات وكان لا بد لنا من معالجة الموقف على الفور.. وفي حالة بالغة الخطورة كهذه.. لا يجوز التعاطي معها بعفوية وارتجال واطلاق النداءات العاطفية الصرفة.. فلم يكن بوسعنا اغفال حقيقة مهمة.. وهي ان الذين اسقطوا هذه المنشورات يتملكون البحر المشرع بلا نهاية على بيروت ويمتلكون السماء المكتظة بالطائرات الحربية ويمتلكون فوق ذلك كله قرار الابادة وهم على استعداد لتنفيذه بلا هوادة.. مطمئنين الى ان صرخة «وامعتصماه» التاريخية تلاشت في وهاد التاريخ القديم، وتكسرت على اعتاب العواصم العربية.. فلامست اسماع الجميع في وقت لا معتصم فيه سوى اولئك المحاصرين في جزيرة «بيروت» التي كانت تحترق وتكابر بعناد لا يصدق.
ما العمل؟ هل نقول للناس لا تصدقوا منشورات القتلة..
هل نقول للناس والاطفال قاتلوا بأيديكم؟
هل نقول لهم - اتقاء لشر الموت.. اخرجوا من بيروت..
ان مخاطبة الجمهور في حالة كهذه.. تحتاج الى اقصى درجات الدقة والحساسية والمسؤولية.. اجريت اتصالات متعددة مع الاخوة في القيادة ثم دعوت الى اجتماع استثنائي لجميع كادر الاذاعة وتفحصنا المنشور بدقة.. قرأناه عدة مرات.. وطرحت في الاجتماع افكار عديدة.. واتفقنا في نهاية الأمر.. على ان نخاطب الجمهور المضطرب.. بأسلوب حواري بعيد كل البعد عن التوجيه المباشر الذي يتخذ في معظم الاحيان صيغة التعليمات والأوامر.. وكانت خطوطنا العامة للمخاطبة على النحو التالي:
اولا: ان الغرض من هذه المنشورات هو ضرب وخلخلة البناء النفسي للمقاتلين والجماهير حتى تتمزق المدينة من داخلها.. وتصبح لقمة سائغة للغزاة.
ثانيا: ان حث الشعب على مغادرة المدينة ينطوي على هدف بعيد كل البعد عن الحرص على سلامة المواطنين اذ ان المطلوب هو تفريغ المدينة وتحويل مئات الألوف الى لاجئين واستباحة ممتلكاتهم وارواحهم خاصة وان المناطق التي يقول المنشور انها آمنة تخضع للسيطرة الاسرائيلية.. وهذا امر يحول اللاجئين الجدد الى رهائن.. خاصة وان آلاف المعتقلين في الجنوب هم من المدنيين الذين خدعوا بوعود الأمان.. فكانت معسكرات الاعتقال بانتظارهم.
ثالثا: ان القوات المشتركة لن تخضع لهذا النوع من الابتزاز الاسرائيلي وستقاتل الغزاة في كل موقع وعلى ضوء هذه الحقائق والمنطلقات فاننا نثق بحسن تصرف الناس من واقع ثقتنا بالاصالة الوطنية التي يتحلون بها.. ولكي لا تظل مخاطبتنا للجمهور مقتصرة على التعليقات والنداءات فقد اوعزنا لمندوبي الاذاعة بالانتشار في جميع انحاء بيروت واجراء الحوارات والتسجيلات مع عدد كبير من المواطنين لبلورة التفاعل الايجابي وتوسيع قاعدته على اوسع مساحة ممكنة.
كانت استجابة الجمهور جيدة الى حد ما.. رغم ان بعض الأسر التي لها منازل خاصة في المناطق الاخرى من بيروت توجهت.. الى هذه المنازل طلبا للأمان.. ولم يكن من قبيل الصدفة ان يكتشف الذين غادروا.. صدق ما قلناه لهم.. وبعد أيام بدأت قوافل العودة الى بيروت.. ان الذين غادروا حملوا معهم تجربة خلاصتها قرار الصمود حتى النهاية.. ولقد ظهرت هذه النتيجة المذهلة في اوضح صورها.. حين انقطعت قوافل النازحين وامتلأت بيروت بأهلها من جديد.. ولم تفلح القنابل اليومية في زحزحة الناس عن بيروت حتى يومنا هذا.
انتهى يوم الطيران عند الساعة الخامسة مساء.. واستمع الناس في تلك اللحظات الى اعتراف اسرائيلي مفاده ان عدد القنابل التي اسقطوها على بيروت خلال الاحدى عشرة ساعة الماضية بلغ مائتين وثلاثين الف قنبلة.. وان غارات الطيران التي شارك فيها كل سلاح الجو الاسرائيلي لمناسبة ذكرى تأسيسه، تجاوزت المائتين وخمسين غارة وهذا رقم قياسي لم يسبق ان سجل في أية حرب على مدى التاريخ البشري فوق مدينة واحدة في ساعات.
عند الساعة الخامسة مساء.. انبثق انسان بيروت.. انفجرت كوامن الحب والحياة على هيئة طوفان بشري ملأ الشوارع والساحات.. كنا نقرأ الازدراء بالطائرات والقنابل على وجوه الاطفال الذين اقاموا حلقات صاخبة يسترجعون فيها من ذاكرتهم الغضة.. صور الطائرات وهي تحلق او تقصف.. ويا لهذا الجيل النادر الذي عاش كل هذا الهول وكبر عليه.. ومع ان لبيروت كل الحق في ان تزهو على كل العواصم بصمودها وتفردها.. فلها ان تثق بهذا الجيل الذي زرعته في احشاء الارض العربية ليزدهر في الغد.. ويطرح ثماره المباركة مجدا وانتصارا واملا متجددا..
ولقد لمس الأخ ابو عمار هذه المعاني العميقة التي جسدتها نظرات اطفال بيروت.. وآثر ان يرسخها للتاريخ والمستقبل.. في نداء حار موجه عبر الاذاعة لجماهير بيروت.. واطفالها العظام.
ما اروع الحب حين يزدهر في زمن الحرب.. وما احلى بيروت.. حين تطل على العالم كجزيرة خضراء.. تحتضن عائلة صغيرة.. وعائلة بيروت.. ليس اسما حركيا لهذا المجتمع الصغير الذي يقاوم الحريق المشتعل من حوله.. وانما عائلة بيروت.. هي المعنى الحقيقي لشراكة الواقع الدامي والمصير المشرع على الغيب.. لكأن اتفاقا شاملا حصل بين مئات الألوف من البشر على مدى ثمانين يوما من الحرب: ان يكون هؤلاء الناس عائلة واحدة.. تموت او تحيا على حلم واحد.. ماذا يحمل الغد.. لا احد يعرف بالضبط، لكن قرارا لا يحده زمان ولا مكان.. كان قد اتخذ.. ونفذ.. والقرار هو: معا يا افراد عائلة بيروت وحتى النهاية.
ولقد كتبنا الكثير بهذا المعنى.. كتب رشاد اجمل حلقات برنامجه اليومي «كلامنا بلدي».. وكتب ياسر عرفات على رأس صفحة من دفتر التاريخ «باسم بيروت نحاصر العالم».
- كان في داخلي وهم لا أعرف مبرراته.. وهو ان يوم الطيران السابق آخر ايام الحرب او انه ذروة هذه الايام.. وقد اخترعت لنفسي مساحة من السلم.. اعيش فيها مع الذكريات الخاصة.. كنت متأكدا من ان اياما قليلة تفصلني عن لحظة مواجهة الحقيقة القاسية.. حقيقة الرحيل عن بيروت.. ومع انني لم اتعامل في يوم من الايام مع هذه المدينة وكأنها وطن او مستقر.. الا ان كل شبر فيها يحمل ذكريات لا تنسى.. تجعل من الفراق وكأنه اقتلاع للانسان عن عالم احبه وتعلق به بعمق خاص.. وكاد ان يموت مائة مرة من اجل الاحتفاظ به.. كنت افتش في ذاكرتي عن حكايات بعيدة عن واقع الحرب.. فلم اجد.. وكيف لي ان اجد في داخلي شيئا كهذا؟ لماذا هاجرت من الضفة الغربية الى الضفة الشرقية في عام 68؟ ان ذلك بسبب الحرب.. ولماذا هاجرت من الضفة الشرقية الى دمشق عام 71؟ انها الحرب.
ولماذا هاجرت من دمشق الى القاهرة في عام 72؟
ولماذا اهاجر من بيروت الى اي مكان في عام 82 ان ذلك كله بسبب الحرب لم تكن هجرتي قرارا بالبحث عن الامان في اي مكان.. فلقد كان حلمي يحملني.. الى جهات الارض الاربع.. وكانت الحرب قدرا يعيشه الفلسطينيون وانا واحد منهم في كل زمان ومكان.. فكيف لي ان اجد ذكريات بعيدة عن كل هذه المنافي وكل هذه الحروب.
- كنت جالسا على الشرفة اعيش لحظات سلم مخترعة.. وكنت اراقب الناس وهم يتراصون بغير انتظام امام الفرن المجاور.. كان خليط من المدنيين يتلقفون ارغفة الخبز وينطلقون بها الى منازلهم والسعادة ترتسم على وجوههم القانعة.. لاحظت سيارة كحلية تقترب من الفرن.. وما ان توقفت حتى هبط منها ابو عمار ومعه مرافقون فتحي وجمال وصلاح وعادل.. ظننت للوهلة الاولى ان القائد العام سيزورنا في هذا الوقت المبكر.. وطلبت من الزملاء المتواجدين في المقر.. الاسراع في ترتيب اجراءات استقبال القائد العام.. غير ان تقديراتي لم تكن في محلها.. فلقد كانت زيارة القائد العام للفرن.. ومن اجل عقد اجتماع مع طاقم العاملين فيه. للاطمئنان على حسن تنفيذ مهامهم في خدمة الجمهور والمقاتلين كان الظهور المفاجئ لابي عمار.. وسط الجمهور المحتشد امام الفرن قد احدث وقعا طيبا في نفوس الناس.. الذين تسابقوا للسلام عليه ومعانقته.. قضى الاخ القائد قرابة نصف ساعة في الفرن علمت بعدها انه اصدر امرا باستمرار العمل على مدى اربع وعشرين ساعة متصلة، وان يتم توزيع الخبز مجانا على المواطنين من الساعة السادسة صباحا حتى السادسة مساء.. اما المقاتلون فدورهم يأتي في الليل اي من السادسة مساء حتى السادسة صباحا ولقد روى لنا القائد العام في احدى زياراته للاذاعة واقعة جرت اثناء اجتماعه بطاقم الفرن.. حيث طلب القائد العام من طارق ان يعمل بشكل متواصل حتى يؤمن حاجة الناس من الخبز.. فأبدى طارق بعض اعتراض على هذا القرار.. نظرا لقلة العاملين.. حتى انه قال للاخ ابو عمار: لو جربت ايها الاخ وقوف ساعة واحدة امام بيت النار لعذرتني على الاحتجاج.. فحل ابو عمار المشكلة بفرز عدد من طلبة الجامعات لمساعدة الفرانين.. وعلق ابو عمار على هذه الواقعة بالقول:
- وهل نحن الا في فرن يصهر الحديد - مساحته لا تزيد عن اثني عشر كيلو متر مربع؟
- كان لا بد للاذاعة.. من ان تعالج بقدر ما.. افرازات الحرب على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.. غير ان اعتمادنا الكبير على الاذاعة الشقيقة «صوت لبنان العربي» الذي كانت باعه في معالجة هذه المواضيع الحيوية جعلتنا نقتصد في هذه المسألة ونتناولها بشكل اقل من التركيز.. وهذه نقطة سلبية تسجل في غير صالح اذاعتنا.
- تكونت تجربة صمود بيروت.. من عناصر متعددة ومتكاملة ذلك ان وراء الخطوط الصامدة كالقلاع الراسخات على خطوط التماس.. كان ثمة صراع من اجل تأمين سبل العيش لمئات الالوف من البشر المحاصرين في المدينة.. فحين قطعت الكهرباء.. كان بالامكان.. الاستعاضة عن هذه الضرورة الحيوية.. بمصابيح من الغاز والشموع والمولدات الصغيرة.. ولكن حين قطعت المياه وجدنا انفسنا امام تحدٍ خطير.. تمت مواجهته بحفر آبار جديدة في اجزاء متعددة من المدينة.. وزيادة في تسهيل الامور على المواطنين.. تم نشر عدد من المولدات الكهربائية المحمولة على السيارات.. لضخ المياه من الآبار الموجودة تحت البنايات الى الخزانات العليا.. واصبح بوسع المواطنين في معظم انحاء بيروت الحصول على المياه بشكل شبه طبيعي... وقد لاحظنا النتائج من خلال اكتظاظ الاسطح والشرفات.. بالملابس الزاهية النظيفة.. حتى وصل الامر بالبعض حد غسل السيارات والاسراف في استخدام المياه على نحو يذكر بحياة بيروت قبل الحصار.
- انظر.. ما ابلغ هذه الصورة وما اعمق المعاني التي تحملها ودفع لي الاخ ابو عمار بعدد قديم نسبيا من اعداد صحيفة السفير البيروتية.. كانت الصورة رسما كاريكاتوريا للفنان العربي الفلسطيني الكبير ناجي العلي.. الصورة تمثل بيروت على هيئة صبية حسناء تنحدر من عينيها دمعة كبيرة.. وتبتسم لمقاتل من القوات المشتركة... يقدم لها وردة.
وانهمكت في قراءة بعض التقارير التي كان القائد العام قد احالها لي.. وهي ذات صلة بعملي الاعلامي.. فرغ ابو عمار من اداء الصلاة.. جلس على مكتب صغير على صدر الغرفة.. وحتى هذه اللحظات كانت بيروت هادئة تماما.. وكان دبيب الحياة الطبيعية العادية يملأ ارجاء المدينة. وكانت غرفتنا الصغيرة الواقعة اسفل الشارع العام.. تهتز تحت وطأة حركة السيارات النشطة في الخارج.. قال ابو عمار وهو يراجع كومة من الاوراق: يبدو لي انه الهدوء الذي يسبق العاصفة لم اجد في نفسي القدرة على ابداء وجهة نظري بأن الحرب على ما يبدو قد وضعت اوزارها.. وان اليوم السابق العنيف كان نهاية او ذروة ايام الحرب.. غير اني سألت القائد العام.. هل هنالك احتمال بتصعيد جديد.. ان الجميع يتحدث عن ضغوط امريكية مكثفة لحمل اسرائيل على وقف القصف الجوي. اعتدل ابو عمار في جلسته.. والقى القلم جانبا وقال بلهجة حاسمة ان ما يقال عن ضغوط امريكية هو مجرد محاولة للتنصل من الجرائم المروعة التي يرتكبها الاسرائيليون بالسلاح الامريكي.. انني على استعداد لتفهم الغضب الذي يصدر عن هذا المسؤول الامريكي او ذاك تجاه بيغن او شامير/ فالامر لا يتعلق بالرأفة بالمدنيين او بنا.. وانما لمداراة الفضيحة.. واثرها على صورتهم امام المنطقة والعالم.. فبدأوا باطلاق التصريحات الغاضبة.. ان لدينا معلومات دقيقة عن شيء جديد.. حصل فيه الاسرائيليون على الضوء الاخضر الامريكي لهذا فلا بد.. من مضاعفة الحذر واليقظة.
تطايرت اوهام انتهاء الحرب التي نسجتها او اخترعتها استنادا لمؤشرات تبين لي انها لم تكن كافية للوصول الى هذه النتيجة.. فماذا يريد الاسرائيليون والامريكيون؟.. ان ترتيبات الخروج من بيروت.. وصلت الى مرحلة شبه نهائية عبر المفاوضات الدائرة مع المبعوث الامريكي فيليب حبيب.. هل يريدون ابادتنا؟ لقد حاولوا على مدى الاشهر الماضية.. ونفذوا سبع عشرة محاولة لاقتحام بيروت.. اذن ماذا يريدون بالضبط؟.
- كانت الوقائع المتسارعة تجيب بشكل حاسم عن كل التساؤلات التي تثور في فترات الهدوء القصيرة.. وكان ازير الطائرات التي تناهى من بعيد الى مسامعنا بمثابة مقدمة للجواب.
- اصدرابو عمار تعليمات لعاملة الجهاز بالتوقف عن العمل.. وامر فتحي باستطلاع الاجواء والتأكد مما اذا كانت الطائرات الاسرائيلية قد عادت من جديد.. وبعد لحظات عاد فتحي يبلغ القائد العام بعدم وجود طائرات في الجو مستنتجا ان الصوت الذي نسمعه.. هو بفعل اهتزاز الشارع المجاور الذي تقع الغرفة دون مستواه غير ان الصوت بدأ يقترب واصبح واضحا لنا جميعا.. انه صوت طائرة تحلق على علو مرتفع وهنا حضر احد الضباط وطلب من القائد العام تغيير المكان.. وبالفعل انتقلنا الى مكان آخر..
في الموقع الجديد اعد القائد العام ردودا على ثلاث رسائل كان قد تلقاها في الصباح من الزعيم السوفييتي ليونيد بريجينيف.. والرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران.. والملك السعودي فهد واوعز القائد لاحد مرافقيه ببث الرسائل عبر الاجهزة الخاصة وتسليمها بعد ذلك الى احد مقرات وكالة الانباء الفلسطينية لتولي نشرها وتسليم نسخ عنها لسفارات الدول المعنية..
- الساعة الآن الثانية ظهرا وصوت الطائرات ينذر بأنها في وضع انقضاض على هدف ما.. اهتزت البناية التي كنا نجلس في دورها الخامس، وسمعنا صوت انفجار مكتوم.. واعترانا بعض القلق من هذا النوع الجديد من الانفجارات.. انتشر عدد من المرافقين لمعرفة الهدف.. وبعد دقائق قدم كمال مدحت تقريره المختصر:
- «لقد تم تدمير بناية عكر بالصنائع تدميرا كاملا ويبدو ان جميع السكان قد فارقوا الحياة».. ارتسمت امامي صور البنات والاولاد الذين كانوا يملأون طوابق العمارة المدمرة.. فقد كنت اعرف ان هذه البناية بالذات تضم مئات المسيحيين الفلسطينيين.. الذين كانوا يعيشون قبل سنوات في مخيم «ضبية» بالمنطقة الشرقية من بيروت.. وتم تهجيرهم بعد الاجتياح الكتائبي الشهير للمخيم الى منطقة الدامور.. وحين وصل الاسرائيليون الى الدامور.. لاذوا ببيروت ليواجهوا قدرهم المحتوم على هيأة موت جماعي تحت انقاض عمارة قصفها الاسرائيليون بما عرف فيما بعد بـ «القنبلة الفراغية».. ولقد هزني تخيل الاولاد والبنات الذين شاهدتهم في الصباح على الشرفات.. وهم الآن جثث ممزقة تحت الحطام.. وادركت ان هذه المقتلة هي اشعار بأن الحرب لم تنتهي بعد.
- اجريت اتصالات بالاذاعة وعرفت من الزملاء ان الاذاعة الكتائبية اعلنت بأن تدمير بناية عكر.. تم بناء على اشتباه اسرائيلي بتواجد ياسر عرفات في ذلك الموقع.. وامعانا في تبرير هذه المجزرة دست الاذاعة المذكورة خبرا يقول ان احد القادة الفلسطينيين البارزين يتواجد الآن تحت الحطام.. وكانت صياغة الخبر توحي بأن المقصود هو ياسر عرفات بالذات.. ولكي يكملوا جريمتهم وضعوا سيارة مفخخخة بالقرب من البناية المقصودة.. وسرعان ما انفجرت لتوقع عشرات الضحايا.. انه تنسيق محكم بين طيران شارون وبيغن ومخابرات عملائهم.
- ماذا بقي على الاسرائيليين ان يفعلوا؟
ان العالم عرف في تاريخه انماطا متعددة من الحروب المفتوحة والاغتيالات.. غير ان ما حدث اليوم لبناية عكر.. وما حدث قبله لبنايات مشابهة.. اضاف الى احداث التاريخ صورا جديدة لم يألفها من قبل.. هي محاولات اغتيال بالطائرات تتم في وضح النهار لاصطياد رجل كان قبل ساعات يوزع الخبز على الناس بيديه.. ويخاطب اهم زعماء العالم كقائد لشعب وثورة.. ويدير وضعا بالغ التعقيد تحت الحصار.. فيجمع العالم على انه اهم رجل واقدر الناس على قيادة السفينة في بحر مسيج بالنار تتلاطم على سطحه وفي اعماقه انواء واعاصير لا مثيل لضراوتها في التاريخ المعاصر.. ما الذي يجري بالضبط؟
- لم يكن من الجائز لياسر عرفات.. ان يعرف ما يحيط به معتمدا على الاستنتاجات المحضة، فالرجل الذي يقود واحدة من اخطر حروب المنطقة ويتحصن في اصغر العواصم لا بد وان يؤمن لنفسه مصادر معلومات دقيقة..
ناولني القائد العام.. ترجمة لرسالة وصلته في الصباح من احد الاصدقاء في الولايات المتحدة الامريكية.. وقال لي اذا اردت ان تعرف سر ما حصل اليوم لبناية عكر.. فأقرأ هذه الرسالة بامعان تقول الرسالة..
الصديق العزيز ياسر عرفات.. تحية
- ان التفاعلات السياسية التي احدثها صمودكم العظيم في بيروت.. بدأت تتجه تماما لصالح القضية الفلسطينية.. ومنظمة التحرير بالذات.. وهذا امر مزعج للذين هناك في تل ابيب، وان خروجكم من بيروت بالطريقة التي يجري الحديث عنها سيكون بمثابة هزيمة جزئية للاجتياح الاسرائيلي وبالمقابل يشكل انتصارا سياسيا هاما لمنظمة التحرير.. لهذا انصحكم بتوخي الحذر واليقظة.. فكل ما يقال عن ضغوط امريكية على اسرائيل كلام غير جدي والايام القادمة حرجة ودقيقة للغاية.. ويتحدثون هنا بصوت هامس عن عملية خاصة ومن نوع جديد.. فاحذروا الايام القادمة ولا تدعوا زمام الموقف يفلت من ايديكم.. حتى الآن انكم تعملون بصورة ممتازة.. انهم باختصار لا يريدون لقيادتكم التي ادارت المعركة في بيروت.. ان تخرج سالمة لاستخدام التفاعلات السياسية الكبرى التي احدثها صمودكم..؟
- اتضحت الصورة تماما بعد قراءة هذه الرسالة وازدادت وضوحا حين اعلن الامريكيون - بطريقة ما - ان قصف بناية عكر لا يعتبر انهيارا لوقف اطلاق النار. مع امل بأن تكون العملية «الخاصة» هي «الأخيرة»..
ان اهم الشروط التي يجب توافرها في الكادر الاذاعي وعلى وجه خاص الكادر القيادي فيها.. معرفة قدر كبير من المعلومات حول الموقف السياسي وما يحيط به من مؤثرات ذلك ان التعبير عن الموقف السياسي يجب ان ينطلق من وعي عميق لمكونات هذا الموقف.. وشبكة التحالفات المتصل بها وآفاق كل تحالف تقيمه الثورة مع القوى المختلفة التي تشكل اطراف اللعبة السياسية في دوائرها العربية والعالمية.. ولقد كنا في الاذاعة.. نستقي معلوماتنا في الظروف العادية او الاستثنائية من المصدر القيادي المسؤول الذي هو رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.. ونادرا ما كنا نتلقى توجيهات على صعيد مهمات العمل اليومي.. فهذا الجانب من العمل هو من صميم اختصاصنا وقد كنا قليلي الاخطاء السياسية.. نظرا لاطلاعنا المستمر على المعلومات الكافية التي تشكل مضمون معالجاتنا اليومية للاحداث كما كنا نحس بأننا شركاء في العملية السياسية.. والقرار السياسي.. وهذا ما جعل تعليقاتنا وتحليلاتنا.. بالغة التأثير والمصداقية.. فلم نشعر في يوم من الايام اننا مجرد موظفين يتلقون الاوامر وانما كنا مؤهلين فعلا لان نقول رأي الثورة كمايجب ان يقال.. حتى لو انقطع اتصالنا المباشر بالقيادة لبضعة ايام - او اشهر.. مع ان هذا في الاساس نادر الحدوث، كنا جميعا نعيش في دائرة ضيقة بفعل الحصار الا ان التوسع في اجراء اتصالات مباشرة مع القيادة - .. لم يكن ميسورا كما كان الامر عليه في الظروف العادية.. ورغم ذلك كنا متطابقين الى ابعد الحدود.. مع الخط السياسي العام ومالكي القدرة على ايجاد اجابات سريعة عن جميع الاسئلة المطروحة وقد لمسنا ذلك على صعيد تناول الاجهزة الاعلامية او المحايدة لما يقدم في الاذاعة من تحليلات.. فلقد كانت تؤخذ في كثير من الاحيان كمؤشر دقيق على موقف الثورة.
ونظرا لاننا بحكم الوضع الخاص للشعب الفلسطيني.. لا نملك مؤسسة اذاعية متكاملة وانما كنا ولا نزال.. مجرد اذاعة ميدانية..
تنطلق من المنافي القريبة او البعيدة، فان ذلك حتم علينا تركيزا استثنائيا في اعداد الكادر سياسيا وثقافيا ومهنيا.. على نحو يتيح للكادر القيادي فرصا واسعة للمبادرة والاعتماد على النفس واداء مهمات متعددة في وقت واحد.. وهذا ما فسر معادلة اذاعة «صوت فلسطين» الاستثنائية.. التي تقوم على اساس قلة عدد الكادر مع غزارة الانتاج.. لقد دخلنا في الظروف العادية الى وضع كنا نبث فيه احد عشر ساعة يوميا وبلغات ثلاث.. وكان عدد العاملين لانتاج هذه الساعات الطويلة لا يتجاوز الثلاثين كادرا بين مذيع ومحرر وفني واداري.. في حين ان مثل هذا العدد في الاذاعات الاخرى مخصص لاقل من ثلث هذه الساعات.. ولو وضعنا في الاعتبار حجم المادة الاخبارية والسياسية والبرامجية المتنوعة فإننا نجد ان الاحد عشر ساعة التي كنا نبثها في الظروف العادية.. توازي بكثافتها ما يبث على مدار ثمانية ايام في الاذاعات الاخرى التي يمكن ان تقدم سهرات غنائية وبرامج ترفيهية وموسيقية طويلة تمتد لساعات.. في حين ان مثل هذا النمط من العمل الاذاعي لم يكن معترفا به في اذاعتنا.. التي لا يتجاوز معدل النشيد فيها او الاغنية ثلاث دقائق..
- ان الاختصاص في العمل الاذاعي.. امر جيد.. له مزايا عديدة.. كتأمين فرص الابداع والتطور على الصعيد المهني والجمالي.. لكن مثل هذا الاسلوب في العمل الاذاعي لا يمكن ان يكون عمليا بالنسبة لاذاعتنا التي هي في الاساس.. كما اشرت آنفا - اذاعة ميدانية وغير مستقرة.. فضلا عن انها وبحكم كونها اذاعة سياسية وثورية لا تستطيع ملء الفترة الزمنية بالمواد الترفيهية من تلك التي تمتلئ بها الاذاعات الاخرى.. واغلبها يشترى من السوق دون ان يبذل فيه جهد ابداعي يذكر، غير ان ذلك لا يعني ان تظل اذاعة الثورة جامدة وان لا تطور نفسها ضمن اطارها السياسي الملتزم مع احتفاظها بطابعها المميز.. ونكهتها الخاصة بها. ومن خلال التجربة الطويلة اكتشفنا امكانات كبيرة للتطور تبدأ بنشرة الاخبار التي يمكن ان تكون نافذة يطل منها الانسان على احداث الثورة واحداث العالم كله مرورا بالمادة السياسية التي يجب الا تكون على هيئة بيان يقرر الحقائق ويأمر الجمهور بالالتزام بها.. وانما يجب ان تأخذ طابع الحوار والاقناع بعيدا عن الصيغ النمطية المسلم بها.. وفي هذه النقطة بالذات وجدنا ان التعليق السياسي - ولكي يكون مؤثرا ويحتوي على عناصر الاقناع الكافية لا بد من انطلاقه من حدث راهن.. وليس من منطلقات عامة... متضمنا عرضا ذكيا لوجهة النظر الاخرى في القضية المراد التعليق عليها.. واظهار الجوانب السلبية في الآراء الصادرة عن الطرف الآخر.. ومواجهتها بالحقائق الملموسة بكل وضوح دون ان يكون التعليق السياسي ذو طابع دفاعي.. وهذا يعني ان تناقش حتى المسائل التي تبدو وكأنها محرمات.. فكثيرا ما كنا نبدأ التعليق السياسي بعبارة تقول «نستمع الى آخر تعليقات آرييل شارون الذي قال اليوم.. ان الثورة الفلسطينية انتهت الى غير رجعة». ولكي نوصل المستمع الى اقتناع لا بد من سرد وقائع عديدة تلتقي جميعها عند هدف واحد.. وهو عدم صحة ومنطقية التصريح المشار اليه.. وهنا يجب الابتعاد عن العبارات النظرية والانشائية في المعالجة والتركيز على معلومات آنية يفضل ان تكون مستقاة من مصادر معادية او مستقلة او تكون معززة ببراهين واقعية.. ففي مواجهة زعم شارون مثلا نستشهد بتصريح لاحد نواب الكنيست الذي يعلن فيه صراحة استحالة القضاء على الثورة الفلسطينية حتى لو خرجت من لبنان.. ونعزز هذا الاستشهاد.. برأي آخر لمصدر امريكي او محايد.. ونمزج ذلك بالموقف في الوطن المحتل او على صعيد العالم لنصل وعبر سياق منطقي متسلسل الى نتيجة حاسمة.. وهي استحالة القضاء على الثورة ولقد تناولت هذا النموذج لانه يتعلق بمسألة استراتيجية كنا نواجهها بشكل يومي خاصة في زمن الحروب الكبيرة اما المسائل التكتيكية التي تتعلق بمجرى معركة محددة.. فكان لها اسلوب آخر في المعالجة.. يعتمد بشكل اساسي على اصطياد اخطاء الخصم.. وما اكثرها حين تدرس كل كبيرة وصغيرة تصدر عنه.. فمثلا حين قدم رئيس اركان الجيش الاسرائيلي تقريرا عن الوضع العسكري للقوات المشتركة في بيروت المحاصرة وقال فيه انه لم يعد لدى هذه القوات سوى مدفع واحد.. وان قدرتها على الصمود تتلاشى بسرعة.. كان ردنا على هذه المعلومات يستند الى بلاغات عسكرية اسرائيلية وخبر.. كتائبي قيل فيه ان مدفعية «المخربين» في بيروت الغربية.. قصفت المواقع الاسرائيلية بما يقرب من ثمانية عشر الف قذيفة في يوم واحد.. وانهينا التعليق بسؤال «وهل هناك مدفع واحد يستطيع القاء ثمانية عشر الف قذيفة في يوم واحد؟ ان على رئيس الاركان الاسرائيلي ان يكن اكثر حذرا في المرة القادمة.. لم نكن بالطبع مضطرين للقول إن لدينا كذا مدفع في حالة العمل.. ولكن الذي حدث ان مدفعية القوات المشتركة هي التي اثبتت كذب مزاعم ايتان.. ولم يكن علنيا الا نقل صورة واقعية لما حدث..
- حالة اخرى سوف اشير اليها.. يوم روج الكتائبيون عبر اذاعتهم وصحفهم واشاعاتهم.. الى ان «حركة امل» واهالي حي الشياح سوف يسلمون الحي للجيش اللبناني.. او لميليشيات الكتائب.. او حتى للجيش الاسرائيلي.. ضاربين على وتر الطائفية وعلى اوهام بعض النفوس المريضة مستغلين بعض الثغرات التي تكونت في مراحل سابقة، ولما كان الشياح حيا وطنيا عريقا قاتل اهله ببسالة نادرة خلال الاجتياح فكان لا بد من الدفاع عن الحي معبرين بذلك عن مشاعر الاكثرية الساحقةفيه.. اشرنا بوضوح الى القتال البطولي الذي واجهت به قوات امل جيش الغزو في خلدة والجنوب وبيروت جنبا الى جنب مع اخوتهم في القوات المشتركة ودفعنا الكرة الى مرمى الخصوم حينما ذكرنا اهلنا في الشياح ذي الاكثرية «الشيعية» بموقف الامام الشهيد الحسين بن علي يوم خير بين الاستسلام والموت فأطلق صيحته المشهورة: لقد حشروني بين السلة والذلة.. وهيهات منا الذلة..
- وجاء من يقول لنا.. ان دفاعكم بهذا الشكل عن الشياح واهله له صدى طيب في نفوس الناس.. ولقد اصبتم الهدف بدقة.. ورددتم الرمية الى راميها.. ولقد تواتر ذلك مع الموقف الوطني لحركة امل والاصالة الوطنية لسكان الحي فكان لحملتنا المركزة مفعولها العميق والمؤثر.. ولم يدخل الاسرائيليون وعملاؤهم الشياح الذي بقي قلعة وطنية فقصفوه بعنف لكنه صمد حتى النهاية.
- الى جانب ذلك لم تنجر اذاعتنا الى الجوقة التي كانت تحاول طعن الجبل وسكانه في وطنيتهم.. بل دافعت عنهم بروح الشعور بالمسؤولية الوطنية العالية والتحالف الاكيد.. ضد العدو المشترك.. وقاتلت اذاعتنا مع ابطال الجبل فرسان بني معروف.. عبر منطلقاتنا وتعليقاتنا وتحليلاتنا.. ضد ميليشيات الجبهة اللبنانية التي تسللت الى الجبل وراء الدبابات الاسرائيلية محتمية بالزخم العسكري الاسرائيلي.. وكانت ردودنا على الاشاعات المغرضة عميقة عمق ارتباطنا الوطني بقضيتنا.. وبلا مقدمات او تعليقات كنا نعرف دورنا الذي مارسناه فورا عبر صوت فلسطين.. ثم جاءت تعليقات القيادة لتؤكد موقفنا الصحيح.. فما حصل من اخطاء في هذه المنطقة او تلك كانت تفاصيل.. اما العنوان العريض فقد كان يوما..
- لا.. للاحتلال وعملائه.. القتال ومزيدا من القتال ضد جيش الغزو والمحتمين بحرابه...
لأعد الى مسألة ولاعرض هنا بعض فرص التطوير التي اكتشفناها على صعيد الموسيقى والغناء.. حيث بدأت اذاعتنا في صوت العاصفة عام 68 بمجموعة من الاناشيد والاهازيج الجديدة التي تتميز بنصوص ملتزمة واداء جماعي.. وسرعة في الايقاع تتلاءم مع المعاني والوضع العام الذي يحيط بالثورة.. وتحول بعضها الى شعارات ترتفع في المظاهرات والانتفاضات داخل الوطن المحتل.. ورغم هذا النجاح المذهل للاناشيد واهازيج صوت العاصفة.. الا ان الاقتصار عليها او على نمطها كاد يعرض الاذاعة الى الجمود والرتابة.. فضلا عن كونه يعطي صورة ناقصة عن ثراء الفن الفلسطيني والثقافة الفلسطينية/ لذا طرقنا بابا جديدا كان على وجه التحديد: الفلكلور والفن الشعبي والاشكال الغنائية التي ترسم صورا جمالية مؤثرة لحياتنا الفلسطينية وثقافتنا الوطنية.. ونظرا الى ان الغناء والموسيقى الشعبية لها فعل سحري في النفوس.. كان لا بد من اعتماد هذا الفن كوسيلة تعبوية رئيسية.. ومن هذا المنطلق جاء برنامج «غنى الحادي» الذي ابدع من خلاله الفنان الشعبي الفلسطيني المغفور له/ يوسف حسون/.. وعلى مدى مئة حلقة من هذا البرنامج الناجح سمع الجمهور نمطا جديدا من الفن.. فيه روح التراث ونبض الواقع المعاش.. فلم يكن برنامج «غنى الحادي» مجرد ربع ساعة من المواويل الشروقي والعتابا والميجانا تقال للتسلية والتذكير برائحة الوطن فقط.. بل كان معالجة سياسية واعية ملتزمة لمواضيع مطروحة على شعبنا وثورتنا.
في هذا الاطار ولدت ايضا اغنيات الفنان الشعبي «ابو عرب» الذي يفاخر بانه لم ينطق في حياته بأغنية واحدة تمجيدا لشخص او لموقف سلطوي.. وانما غنى لفلسطين وشعبها وثورتها وطموح انتصارها الحتمي.. فحسب..
- لم يكن الباب الفلوكلوري هو الوحيد الذي نطرقه في محاولات التطوير فهناك الصور الغنائية ذات العناصر المتعددة.. منها مثلا صورة عملية الشاطئ التي نفذتها الشهيدة دلال المغربي ورفاقها في عمق فلسطين عام 78.. وصورة البحارة التي تجتمع فيها عناصر عديدة من حياتنا الفلسطينية وما تصارعه على مدى عمر القضية وفي زمن الثورة وكذلك سكتش - سرحان والماسورة - عن قصيدة الشاعر الكبير توفيق زياد وغيرها من الصور الغنائية ذات الصبغة الحديثة.
- ان التطور الاذاعي.. يجب ان يتم بخطى سريعة ولكن مدروسة في عالم يتطور بسرعة.. ولقد اشرت في الصفحات السابقة الى «نعم» المذيعة الشهيدة التي طرحت مسألة التطوير في زمن الحرب والحصار. ولم اتوسع في عرض تجربتنا في هذا المجال.. مؤثرا التريث الى وقت استطيع فيه التخلص من انفعالاتي الشخصية التي تثور في داخلي كلما لاح طيف نعم عبر ذكرياتها الجميلة والمؤلمة.. وسأحاول خلال الصفحات القادمة ان اعرض تجربة التطوير في اذاعتنا اثناء الحرب والحصار.. تلك التجربة التي ولدت من احشاء الحاجة الملحة واتسمت بطابع الحرب والحصار في كل تفاصيلها.
- في الظروف العادية.. كان اختيار الكادر الاذاعي.. يخضع لاعتبارات محددة بدقة خاصة على الصعيد السياسي.. وكان بديهيا ان يتم الاختيار على قاعدة الالتزام السياسي بالموقف الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية المنطلق من برنامجها السياسي والمحدد بقرارات اللجنة التنفيذية وتوجيهاتها.. وبالاطار العام فإن معظم الكوادر الفلسطينية تلتزم بهذا.. ولا تخرج في ولائها عن الاطار الوطني العريض.. غير ان هذا ليس كل شيء بل انه لا يكفي كمؤهل يمنح صاحبه حق العمل في الاذاعة وتسلم مسؤوليات قيادية فيها.. فلا بد من توفر عناصر اخرى اهمها استيعاب كافة الخطوات السياسية التكتيكية التي تقدم عليها القيادة في عملها.. وامتلاك القدرة على تفسير هذه الخطوات واقناع الجماهير بها، وفي ساحتنا الفلسطينية.. هنالك فهم خاص للعمل الجبهوي في اطار التقاليد الديمقراطية التي نتمسك بها جميعا، فهنالك قطاع لا يستهان به من المثقفين والصحافيين والكتاب يفهم العمل الجبهوي في الاطار الديمقراطي.. على انه يمنح الحق للفرد بأن يمارس اعتراضه بالطريقة التي يراها مناسبة، وان يستخدم كافة المنابر المتاحة للتعبير عن هذا الاعتراض دون التقيد بالمؤسسات والاطر التنظيمية التي نمارس فيها حياتنا السياسية الداخلية فيكتسب الرأي مشروعية ضمن المؤسسات وليس خارجها.. ولقد كان العديد من هؤلاء الاخوة الكوادر.. يحجم عن التعاون مع الاذاعة لمجرد انه غير مسموح له ان يبدي رأيه الخاص بكل حرية حتى لو كان هذا الرأي متعارضا مع الخط العام الذي تلتزم به الاذاعة.. وهو كما اشرت الخط الرسمي لمنظمة التحرير.. ولقد حاولنا ايجاد حلول لهذه المعضلة بفتح الباب الثقافي امام الجميع كتجربة نحاول الافادة منها ويفتح الباب السياسي المباشر.. ولقد نجحت التجربة في المجال الثقافي عبر برنامج خاص يحمل اسم ثقافة - ادب. فن فكان نجاحه.. حافزا.. كافيا لفتح الباب السياسي.. عبر برنامج يحمل اسم البرنامج المفتوح يستطيع التحدث فيه ان يعرض وجهة نظره السياسية في حدث معين حتى لو كان مخالفا للموقف الرسمي.. وجاءت الحرب الاخيرة ونحن في قلب هذه التجربة ورأينا ان الظرف اضحى ملائما لتطوير المشاركة واستقطاب عدد اكبر من الكتاب و الصحافيين والفنانين الفلسطينيين واللبنانيين العرب.. وليس فقط من اجل النهوض بأعباء عمل اذاعي كبير ومكثف يتم في ظروف استثنائية.. بل ومن اجل زرع بذور نمط جديد من العمل نجني ثماره في المستقبل لتتكرس الاذاعة كمؤسسة وطنية كبيرة تغتني بالطاقات الابداعية الهائلة التي تتجمع من عشرات بل مئات المثقفين و الصحافيين والكتاب العرب والفلسطينيين، وقد حدث اجتماع يمكن اعتباره مؤتمرا طارئا للكوادر المتواجدة في بيروت اثناء الحرب وكنت احد المشاركين في هذا الاجتماع واذكر انني تحدثت عدة دقائق.. اجتهدت فيها.. بأن المواضيع السياسية التي كنا نختلف عليها وربما لا نزال.. لم تعد مطروحة الآن بشكل رئيسي في هذه الحرب واننا اذا ما توصلنا الى فهم مشترك لطبيعة هذه المعركة وآفاقها وكيفية معالجة وتعبئة اوسع القطاعات الشعبية فيها.. فاننا لن نصادف مشاكل تذكر في عملنا الجماعي ضمن منابرنا ومؤسساتنا القائمة او التي يمكن استحداثها.. وعلى هذا الاساس فانني باسم اخوانكم العاملين في اذاعة صوت فلسطين.. ادعوكم جميعا للمشاركة في العمل اعتبارا من هذه اللحظة-.. في هذا الاجتماع تقرر دعوة كل من له القدرة على المساهمة في العمل الاذاعي الالتحاق بالاذاعة.. كما تقرر استحداث جريدة يومية لدعم «فلسطين الثورة» تحمل اسم «المعركة».. وهكذا وجدت نفسي في اليوم التالي محاطا بحشد كبير من الكوادر ذات المستوى الجيد.. واقلعت سفينة الاذاعة بطاقمها الجديد وكان ذلك بمثابة التطور الاساسي الذي نجحنا فيه معا وساهم الى حد كبير في النجاحات المتواضعة التي اعتقد ان الاذاعة حققتها في الحرب..
- والاذاعة ليست مجرد مادة مكتوبة يقرأها مذيع جيد من وراء الميكرفون.. انها نهر كبير تجتمع في مجراه روافد عديدة ليصل الى الجماهير قويا غنيا متدفق العطاء.. او بتعبير آخر.. هي لوحة متعددة الالوان والابعاد.. تتكامل فيها العناصر الجمالية دون نشاز يبعث على النفور ودون رتابة تبعث على الاحباط والكآبة.. لذا كان لا بد من استنباط مساحات الابداع امام هذا الحشد الكبير من الكوادر الجديدة وايجاد سبل التفاعل النشط فيما بينهم وبين من سيقودهم في التجربة. كي ترتسم اللوحة كما يجب.. ويمضي النهر في مجراه الصحيح ونحو مصبه الطبيعي.. فلم تنقصني ايام قليلة حتى انسجم الجميع في عمل متكامل وكل ضمن امكاناته في العطاء والابداع.
- فريق المعلقين السياسيين التقط الخيط ولم يعد بحاجة الى اجتماعات يومية تتحدد فيها الخطوط السياسية التي ينبغي على الاذاعة ان تبلورها على الصعيد الاخباري او التحليلي او التحريضي. فريق الادباء والفنانين.. ينتشر في الليل والنهار لاجراء الحوارات المسجلة مع الجمهور والمقاتلين واقامة حفلات السمر في المواقع المتقدمة وتسجيلها كي تذاع في الليلة التالية ولقد اذعنا بالمناسبة عرسا في موقع المطار، وعدة حفلات احياها الفنان المصري التقدمي عدلي فخري مع الشاعر المبدع زين العابدين فؤاد في المستشفيات التي كانت تغص بالجرحى، وتسجيلات ذكية نادر اجرتها المذيعتان نعم وسلوى ومعهن الكاتب غالب هلسا.. وجزء كبير منها مع الاشبال المقاتلين.
- فريق الاخبار.. أُعطيَ صلاحيات استثنائية في استنباط مصادر جديدة للاخبار.. خاصة بعد ان ازدادت الشكوى من تباعد المسافة بين تصريح عسكري وآخر.. ولقد سمح لفريق الاخبار بالتنصت على اجهزة اللاسلكي واستخلاص التطورات من خلالها دون ان يحمل الخبر المستخلص من هذه المصادر اية صبغة رسمية.. وانما يمكن ان ينسب للمراسل الاذاعي ونظرا لعدم اتساع المساحة الجغرافية للمعركة.. فقد كان من الامور المتاحة ولو بصورة بالغة تدقيق الاخبار المستقاة من الانصات على ما يجري فوق الارض وغالبا ما كانت تأتي النتيجة متطابقة ودقيقة.
- فريق المهندسين الذين عملوا بصمت وامتياز.. والذين لولاهم لما كان عملنا ممكنا اساسا - فلاح - صبري - ماجد - سامي وفخري - محمد عمر - ابو زهير - عبد الله الذين كانوا مع المذيعين الاكثر تعرضا للخطر.. وبلا هوادة استمروا في اداء عملهم باتقان حتى النهاية.. ولا بد لي ان اشير هنا الى الاخ المهندس الاذاعي كاظم الذي اعتقله الكتائبيون واذاقوه عذابا مرا هو والكاتب العراقي جليل حيدر.. ثم سلموه الى القوات الاسرائيلية.. لتذيقه مر العذاب.. وتلقي به في معتقل انصار الرهيب مع آلاف الاسرى رغم الظروف الفظيعة.. التي تحيط بهم.
- ومع ان عملية التطوير في ظل الحصار والمعركة - حيث الموت المتنقل - كانت تستند في الاساس الى تجربة طويلة تمت باجزاء رئيسية منها قبل الحصار الا ان ظروف المعركة وتسارع احداثها وحجم الخطر الذي تنطوي عليه ساهم الى حد كبير في انجاح التجربة.. واعطاها قدرا هاما من التميز، ولقد اقدمنا على خطوة جريئة الى حد ما حين تعرضنا للقصف طيلة احدى عشر ساعة متصلة.. وعقب توقف النار.. صار بوسعنا ان نجتمع كلنا حول مائدة واحدة.. احضرت جهاز تسجيل في محاولة شخصية من جانبي لمعرفة كيف يتصرف او يتحاور فريق الاذاعة بعد هذا اليوم الطويل المحفوف بالاخطار المحيطة.. اخفيت الجهاز واقترحت موضوعا ساخرا للنقاش.. وكان عنوانه كيف تصفون مناحيم بيغن بعد هذا اليوم المميز.. كان ابرز المشاركين في الحوار الساخر رشاد ابو شاور وفيصل حوراني وبعد ربع ساعة اعدت الشريط وبدأنا الاستماع.. كان الحوار عفويا رشيقا الى ابعد الحدود مما شجعني على الاقتراح بأن هذه «الربع ساعة» يمكن ان تذاع على الهواء.. اعترض البعض وظن آخرون انها مجرد طرفة.. غير انها اذيعت بالفعل وكان لها وقع جيد.
- هذه التجربة.. كما اعتبرها - جريئة لعدة اسباب.. منها ان الجمهور الذي ارهقته ساعات القصف الجوي المتصل ليس بحاجة لان يستمع الى تحليل سياسي - فقط ومن العيار الثقيل.. وبالتالي فان المادة المرحة التي قدمناها - وهي على اي حال اشبه بالكاريكاتير السياسي.. يمكن ان تبعث بعض الهدوء والسكينة.. كما انها تنمي نزعة التحدي وعدم تهيب الخصم الذي اراد بقصفه الوحشي الطويل ان يدفع الجمهور الى اليأس.. بعد زرع الرعب في قلبه.
- كنت قد وعدت في سياق حديثي عن تجربة الاذاعة في احد ايام القصف الشديد.. ان اسجل واقعة تنطوي على قدر من الطرافة والجرأة حدثت مع احمد عبد الكريم «بن بِلّا فلسطين».. حين كان مراسلا عسكريا للاذاعة.. وقبل ان اسجل هذه الواقعة اود ان اقدم.. بعض المعلومات عن صاحب الواقعة.. فهو شاب لم يتجاوز الخامسة والعشرين يتمتع بذكاء حاد.. وحيوية متدفقة.. رياضي مواظب..وصل الى اعلى مراتب لاعبي ومدربي الكارتيه.. الى جانب ذلك.. فلديه المام كاف باللغة اليابانية والانكليزية فضلا عن انه دخل الثورة شبلا.. وتدرج في العمل العسكري الى ان وصل الى رتبة نقيب وهو مع ذلك.. صاحب صوت اذاعي جميل.. اي انه باختصار متعدد المواهب وابرز ما يميز شخصيته بوجه عام روحه الطفولية التي تنعكس على كل تصرفاته واحاديثه دون ان تمس جوهر التزامه بالثورة.. واستعداده الدائم للنضال حتى الموت في كل معاركها. ولقد كلف احمد بتغطية احداث الحرب.. منذ اليوم الاول.. وكمراسل عسكري فان له حق التواجد في كل المواقع العسكرية.. ولاننا لسنا جيشا كلاسيكيا.. ولا دولة فإن في عملنا اليومي وقائع تبدو غريبة منها مثلا.. ان بوسع المراسل العسكري للاذاعة ان يدخل على شبكة الاتصال ويجري حوارات مع قادة الوحدات وعمال اجهزة اللاسلكي وان يسجل مقتطفات تبين المجرى العام للقتال ولقد دأب احمد على استغلال هذه الميزة الى حد ازعج بعض المسؤولين العسكريين الذين لفتوا انتباهنا بوقف هذا النوع من النشاط، وقد امتثل احمد حتى نهاية الحرب، وحدث في الايام الاولى للقتال.. ان وجد احمد نفسه محاصرا تماما بين عدد من المواقع الاسرائيلية في الجبل المحاذي للساحل.. واصبح متعذرا عليه اختراق الحصار خاصة وانه يصر على عدم مغادرة سيارته التي حرص على تجهيزها بالمعدات الاذاعية والقتالية الكافية اضافة الى جهاز اللاسلكي الذي كان يصله بنا في بيروت.
كانت اشارات احمد تصلنا على نحو شبه منتظم.. وكان موفقا الى حد بعيد في رسم صورة للموقف العسكري خارج منطقة بيروت فقد افادنا في ذلك افادة كبيرة، غير ان هذا الوضع لم يدم اكثر من ايام قليلة.. ليجد مراسلنا العسكري نفسه مرة اخرى في دائرة حصار محكم تجعل من امكانية وصوله الى بيروت شبه مستحيلة ولكن نظرا لمعرفته الكافية لمنطقة الجبل كان بوسعه ان يصل الى دمشق في ساعات قليلة غير انه وكما افاد فيما بعد.. آثر ان يقدم على مجازفة.. وهي اداء عمله من قلب الحصار.. كنا نتابع اشارته بقلق وتشوق.. وحين كان ينقطع عنا يوما كاملا.. كنا نتخيل مئات الاشكال لكيفية انتهاء تجربته.. اما شهيدا او اسيرا او متسللا عبرالطرق الفرعية الى اي مكان..
في احد الايام.. فاجأني صوت احمد يذيع فقرة لا اذكر بالضبط حول ماذا.. تحركت على الفور الى الموقع 95 حيث كان الاستوديو الرئيسي؟ جميع كادر الاذاعة متحلقا حول احمد.. ويستمع الى حكايته التي كان يرويها باسلوب شيق..
كنت في احد البيوت في سوق الغرب.. وقد قمت في الليلة السابقة.. باخفاء كافة المظاهر التي يمكن ان تثير شبهات القوات الاسرائيلية والكتائبية دفنت البندقية والقنابل والجعب تحت شجرة بعيدة.. دققت في اوراقي والاشرطة التي كانت بحوزتي.. وكان يقلقني ان معظم المواطنين المقيمين حول المنزل.. يعرفوني جيدا.. وشاهدوني اكثر من مرة بملابسي العسكرية وادواتي الاذاعية.. غير ان قلقي بدأ يتبدد حين زاروني وابدوا قدرا كبيرا ومتحمسا من التعاطف والاستعداد لمساعدتي في الاختفاء حتى اجد وسيلة مناسبة للمغادرة.. ولقد ازدادوا اطمئنانا حين ابلغتهم اني اتخذت ترتيبات محكمة تبعد الشبهة عني.. واتفقت معهم على اني مجرد استاذ للكارتيه في احد اندية بيروت لا علاقة لي بأية نشاطات اخرى..
في حوالي العاشرة صباحا.. وكنت استلقي على السرير.. واقلب مؤشر الراديو على جميع الاذاعات.. سمعت طرقا قويا على الباب.. تخيلت لحظتها ان الاسرائيليين قادمون لي شخصيا.. استجمعت قواي.. وفتحت الباب.. لاجد احد عناصر الكتائب يقف بتوتر.. فسألني من انت.. وقبل ان اجيب قال احد السكان بلهجة لبنانية جبلية وكان واقفا على الشرفة في الطابق الثاني.. هيدا يا خي الاستاذ احمد.. تشجعت ودعوت العنصر الكتائبي الى الدخول لكنه اعتذر وطلب كوبا من الماء.. احضرته له.. وانصرف مرتبكا.. لكنه عاد بعد دقائق ليقول لي.. الافضل لك ان لا تفتح الباب مرة اخرى.. وان لا تعطي احدا طعاما او ماء.. كي لا يطمعوا فيك.. وسأعود ربما واشاركك هذا المنزل شكرت له نصيحته التي لا استطيع الالتزام بها.. ولكني منذ تلك اللحظة ادركت ان استمراري في المكان مجازفة لا لزوم لها.. وبينما كنت افكر في الخروج من المأزق وكان ذلك بعد الظهر.. سمعت طرقا قويا على الباب.. كان قد سبقه نداء بمكبر الصوت يدعو بشكل عام «المخربين» الى الاستسلام.. ولما كنت اعرف انه لم يكن في المنطقة اي فدائي.. حيث لم يكن فيها تواجد عسكري وكل تواجد هنا يقتصر على مدرسة اسعاد الطفولة.. كان انفعالي في تلك اللحظات.. اقل حدة من المرة السابقة.. وفتحت لاجد هذه المرة ضابطا اسرائيليا برتبة نقيب مدجج بالسلاح ويحمل في يده جهاز لاسلكي..
سألني النقيب.. من انت وماذا تفعل هنا.. تحدث بالانكليزية واجبته.. بأنني اعيش في هذا المنزل.. وانا اعمل استاذ للكاراتيه في احد نوادي بيروت..
هل لديك سلاح او هل عندك مسلحين..
اجبته بالنفي.. حيث انني رغبت في التصرف معه فاستدركت قائلا عندي سلاحي الشخصي..
استنفر الضابط.. وعاد خطوات قليلة الى الوراء.. وشهر مسدسه وتقدم من جديد صارخا.. اين السلاح..
ذهبت الى الغرفة الداخلية.. واحضرت قطعة من الخشب على هيئة عصاة قصيرة تستخدم في تمرينات الكاراتيه.. وقدمتها له.. هذا هو سلاحي الشخصي.. ضحك الضابط.. وبدا انه اطمئن للوضع.. جلس على احد المقاعد ووجدت الظرف ملائما لمحاورته.
سألته عن اسمه.. اجاب فلان.. المهندس فلان لكنه سألني هل انت لبناني.. وقلت انني يمني الاب.. وياباني الام دهش للاجابة وهز رأسه متفهما لدوافع اني استاذ كاراتيه وعلق قائلا.. كم احببت ان اتعلم هذه الرياضة العنيفة.. لاطفته اني على استعداد لمساعدتك.. فالكارتيه رياضة اخلاقية وانسانية قبل ان تكون عنيفة.
طلب مني ان اشرح له ما اقول.. فأوجزت له ان الكارتيه تختلف عن الرياضات الاخرى.. بأنها رياضة دفاعية فلا يجوز ان يقدم على عمل عدواني او هجومي ونظرا لتجاوبه معي اردفت قائلا على عكس العمل العسكري الذي تقومون به فعملكم هذا هجومي اعترض على كلمة هجومي.. فسألته اذن لماذا انت هنا.. الست مهندسا كما تقول..
نعم انا مهندس.. لكن ما نفعله هو دفاع وقائي ضد المخربين وعلى صعيد شخصي.. فأنا ضابط احتياط.. ولكني لم اشارك بشكل فعلي في القتال.
سألته اذن ماذا تفعل هنا.. اجاب.. حتى الذين يعملون تحت امرتي لم يشاركوا بشكل فعلي في القتال ابديت دهشة لما يقول.. وسألته تفسيرا لوجهة نظره.. فقال.. الذي يحارب عندنا هو سلاح الطيران.. فبعد ان يتم الطيران تنظيفه للمواقع المعادية تصدر الاوامر لنا بالتقدم.. وحين نواجه مقاومة جدية.. نتراجع الى خطوطنا ليقوم الطيران بالتنظيف من جديد.. ساعتئذ نتقدم للاحتلال والتفتيش.. سألته: هل تعتقد ان الحرب يمكن ان تقف عند الحدود الراهنة.. اجاب.. لا اعرف بالضبط ولكني آمل ذلك.. على كل يمكن ان تتوقف الحرب لو استسلم عرفات.. سألته.. وهل تعتقد ان عرفات على وشك الاستسلام.
اجاب: لا اعتقد
سألته: اذن ماذا ستفعلون
اجاب: .. سنقتحم بيروت.. سنخسر كثيرا.. ولكن ليس امامنا خيار آخر..
وددت لو انه كان باستطاعتي تسجيل هذا الحوار.. حتى انه خطر ببالي ان اجازف باقتراح اجراء تسجيل معه تحت عنوان ذكريات مع ضابط اسرائيلي غير انني اقلعت عن هذه الفكرة التي يمكن ان يكون اقل ثمن لها (الاسر).. عرضت على الضابط ان اقدم له بعض الشاي او القهوة.. لكنه اعتذر ووعد بالعودة ثانية.. سألت نفسي.. الى اي مدى يمكن ان اذهب في هذه اللعبة المجازفة فهم حتى الساعة مرتبكون جدا ولا اظن انهم سيستمرون هكذا خصوصا بعد ان يتدفق الكتائبيون على المنطقة.. وهم اكثر خبرة في معرفة الناس من الاسرائيليين.. حتى بطاقة التعريف بي لا تتجاوز بطاقة عضوية في النادي الذي انتسب اليه وهو واقع في المنطقة الغربية من بيروت.. وهذا وحده كاف لاثارة الشبهات.. وقررت على الفور مغادرة المكان: لاتهيأ بهدوء للاقدام على مجازفة العودة الى بيروت.. وها انذا قد عدت.. كيف تم ذلك؟
بشيء من المجازفة وشيء من الصدفة.. وشيء من حسن الحظ.. سأله بعضنا.. كيف حال مدرسة اسعاد الطفولة.. احتقن وجه احمد الطفولي واجاب بنبرة يشوبها الحزن والالم.. لقد شاهدتهم ينهبون الاثاث ويمزقون الصور واللوحات المثبتة على الجدران.. ليس هذا وحده ما احزنني.. ولكني علمت ان عملية اعدام نفذت بالقرب من المدرسة فلقد اعتقل الكتائبيون احد الرجال المسنين.. بتهمة انه ينتمي الى الحزب الشيوعي اللبناني.. واطلقوا النار عليه امام الناس..
خص وزير الإعلام الأسبق وعضو المجلس الإستشاري لحركة فتح د نبيل عمرو صحيفة "دنيا الوطن" بنشر كتابه الجديد الذي صدر مؤخرا في رام الله والتي حمل عنوان "صوت العاصفة" ليحكي تجربته النضالية في الاعلام الى جانب تجاربه النضالية الأخرى على كافة المحافل الثورية .
وينقسم كتابه الى جزئين : يحمل كل جزء منهم حقبة تاريخية من زمن الثورة الفلسطينية ويتطرق الكاتب في الجزئين الى دور إذاعة الثورة الفلسطينية التي أصبحت الآن اذاعة صوت فلسطين في وتجربته الرائدة فيها على مدار سنين الثورة.
دنيا الوطن بدورها قامت بتجزئة الكتاب لنشره عبر صفحاتها على حلقات ليتمكن القاريء من الإطلاع عليه كاملا ففي الحلقة السابعة عشر من الجزء الثاني الفصل الخ والذي حمل عنوان "أيام الحب والحصار" حيث تحدث في هذه الحلقة عن الحرب وشملها بعنوان : "اين وصلت الحرب الآن؟"
"اين وصلت الحرب الآن؟"
هل هي حرب حقيقية ام انها مجرد سلسلة متلاحقة من القتل والتدمير تنفذها مؤسسة عسكرية اتيحت لها امكانات قتل وتدمير فوق تصور البشر.. وما هي بيروت الآن؟ هل هي تلك المدينة التي كانت تستلقي باسترخاء على شاطىء المتوسط؟ هل هي مثل كل العواصم تغرق كل مساء تحت طوفان من الاضواء ومهرجانات الليل.. ام انها عاصمة العالم والتاريخ.. تستقبل في بضع ساعات مئات الألوف من القذائف.. لتنهض في اليوم التالي راسخة كجبل، قوية مثل فرس جامحة.. تنشر صهيلها الرائع في جهات الارض الأربع.. أية مدينة انت يا بيروت.. اية مهرة متمردة.. اية عاصمة بل أية صلاة.. كان لا بد ان تكتب هذه المعاني، وان ترسم هذه الصور لبيروت الملتصقة بنا في عناق عميق ودافىء، مئتان وعشرون الف قذيفة تساقطت على بيروت في عشر ساعات والعالم منح بيغن جائزة نوبل للسلام.. يسمع ما يجري.. ويشاهد على شاشات التلفزيون المباريات النهائية لبطولة العالم في كرة القدم.. ويشاهد صورا حية للمدينة المحاصرة وهي تحترق.. ورغم انه كان مذهولا من اعجاز البطولة والصمود والتحمل.. الا انه بقدر ما.. لم يكن بوسعه فعل شيء يذكر.. سوى انه وقف طيلة ايام الحرب مع ضميره.. وكأنه يتفاعل مع فيلم دراماتيكي طويل تأتي صوره الدامية من وراء الكون.
كان الناس في بيروت.. اشبه بجملة عصبية متحدة.. تهدأ في وقت واحد.. وتتوتر في وقت واحد.. وكنا في الاذاعة اكثر من يستشعر هذا الوضع المتميز والنادر.. فهل غير الاذاعة من يجد نفسه ملزما بمخاطبة الناس في كل الاوقات والظروف.
لقد حدث ذات يوم وحين كان الحصار يكتمل حول بيروت ان شهدت المدينة وضعا جديدا تماما، حين امطرت السماء ملايين المنشورات تدعو قوات الردع العربية الى الانسحاب وفق خطوط محددة على خريطة مرفقة بالمنشور، وكانت هذه المنشورات تحمل دعوة عامة الى سكان بيروت.. تطالبهم بالهجرة الجماعية.. لأن المدينة ستدمر بالكامل.. ولقد كنا في الاذاعة.. اول من التقط هذه المنشورات وكان لا بد لنا من معالجة الموقف على الفور.. وفي حالة بالغة الخطورة كهذه.. لا يجوز التعاطي معها بعفوية وارتجال واطلاق النداءات العاطفية الصرفة.. فلم يكن بوسعنا اغفال حقيقة مهمة.. وهي ان الذين اسقطوا هذه المنشورات يتملكون البحر المشرع بلا نهاية على بيروت ويمتلكون السماء المكتظة بالطائرات الحربية ويمتلكون فوق ذلك كله قرار الابادة وهم على استعداد لتنفيذه بلا هوادة.. مطمئنين الى ان صرخة «وامعتصماه» التاريخية تلاشت في وهاد التاريخ القديم، وتكسرت على اعتاب العواصم العربية.. فلامست اسماع الجميع في وقت لا معتصم فيه سوى اولئك المحاصرين في جزيرة «بيروت» التي كانت تحترق وتكابر بعناد لا يصدق.
ما العمل؟ هل نقول للناس لا تصدقوا منشورات القتلة..
هل نقول للناس والاطفال قاتلوا بأيديكم؟
هل نقول لهم - اتقاء لشر الموت.. اخرجوا من بيروت..
ان مخاطبة الجمهور في حالة كهذه.. تحتاج الى اقصى درجات الدقة والحساسية والمسؤولية.. اجريت اتصالات متعددة مع الاخوة في القيادة ثم دعوت الى اجتماع استثنائي لجميع كادر الاذاعة وتفحصنا المنشور بدقة.. قرأناه عدة مرات.. وطرحت في الاجتماع افكار عديدة.. واتفقنا في نهاية الأمر.. على ان نخاطب الجمهور المضطرب.. بأسلوب حواري بعيد كل البعد عن التوجيه المباشر الذي يتخذ في معظم الاحيان صيغة التعليمات والأوامر.. وكانت خطوطنا العامة للمخاطبة على النحو التالي:
اولا: ان الغرض من هذه المنشورات هو ضرب وخلخلة البناء النفسي للمقاتلين والجماهير حتى تتمزق المدينة من داخلها.. وتصبح لقمة سائغة للغزاة.
ثانيا: ان حث الشعب على مغادرة المدينة ينطوي على هدف بعيد كل البعد عن الحرص على سلامة المواطنين اذ ان المطلوب هو تفريغ المدينة وتحويل مئات الألوف الى لاجئين واستباحة ممتلكاتهم وارواحهم خاصة وان المناطق التي يقول المنشور انها آمنة تخضع للسيطرة الاسرائيلية.. وهذا امر يحول اللاجئين الجدد الى رهائن.. خاصة وان آلاف المعتقلين في الجنوب هم من المدنيين الذين خدعوا بوعود الأمان.. فكانت معسكرات الاعتقال بانتظارهم.
ثالثا: ان القوات المشتركة لن تخضع لهذا النوع من الابتزاز الاسرائيلي وستقاتل الغزاة في كل موقع وعلى ضوء هذه الحقائق والمنطلقات فاننا نثق بحسن تصرف الناس من واقع ثقتنا بالاصالة الوطنية التي يتحلون بها.. ولكي لا تظل مخاطبتنا للجمهور مقتصرة على التعليقات والنداءات فقد اوعزنا لمندوبي الاذاعة بالانتشار في جميع انحاء بيروت واجراء الحوارات والتسجيلات مع عدد كبير من المواطنين لبلورة التفاعل الايجابي وتوسيع قاعدته على اوسع مساحة ممكنة.
كانت استجابة الجمهور جيدة الى حد ما.. رغم ان بعض الأسر التي لها منازل خاصة في المناطق الاخرى من بيروت توجهت.. الى هذه المنازل طلبا للأمان.. ولم يكن من قبيل الصدفة ان يكتشف الذين غادروا.. صدق ما قلناه لهم.. وبعد أيام بدأت قوافل العودة الى بيروت.. ان الذين غادروا حملوا معهم تجربة خلاصتها قرار الصمود حتى النهاية.. ولقد ظهرت هذه النتيجة المذهلة في اوضح صورها.. حين انقطعت قوافل النازحين وامتلأت بيروت بأهلها من جديد.. ولم تفلح القنابل اليومية في زحزحة الناس عن بيروت حتى يومنا هذا.
انتهى يوم الطيران عند الساعة الخامسة مساء.. واستمع الناس في تلك اللحظات الى اعتراف اسرائيلي مفاده ان عدد القنابل التي اسقطوها على بيروت خلال الاحدى عشرة ساعة الماضية بلغ مائتين وثلاثين الف قنبلة.. وان غارات الطيران التي شارك فيها كل سلاح الجو الاسرائيلي لمناسبة ذكرى تأسيسه، تجاوزت المائتين وخمسين غارة وهذا رقم قياسي لم يسبق ان سجل في أية حرب على مدى التاريخ البشري فوق مدينة واحدة في ساعات.
عند الساعة الخامسة مساء.. انبثق انسان بيروت.. انفجرت كوامن الحب والحياة على هيئة طوفان بشري ملأ الشوارع والساحات.. كنا نقرأ الازدراء بالطائرات والقنابل على وجوه الاطفال الذين اقاموا حلقات صاخبة يسترجعون فيها من ذاكرتهم الغضة.. صور الطائرات وهي تحلق او تقصف.. ويا لهذا الجيل النادر الذي عاش كل هذا الهول وكبر عليه.. ومع ان لبيروت كل الحق في ان تزهو على كل العواصم بصمودها وتفردها.. فلها ان تثق بهذا الجيل الذي زرعته في احشاء الارض العربية ليزدهر في الغد.. ويطرح ثماره المباركة مجدا وانتصارا واملا متجددا..
ولقد لمس الأخ ابو عمار هذه المعاني العميقة التي جسدتها نظرات اطفال بيروت.. وآثر ان يرسخها للتاريخ والمستقبل.. في نداء حار موجه عبر الاذاعة لجماهير بيروت.. واطفالها العظام.
ما اروع الحب حين يزدهر في زمن الحرب.. وما احلى بيروت.. حين تطل على العالم كجزيرة خضراء.. تحتضن عائلة صغيرة.. وعائلة بيروت.. ليس اسما حركيا لهذا المجتمع الصغير الذي يقاوم الحريق المشتعل من حوله.. وانما عائلة بيروت.. هي المعنى الحقيقي لشراكة الواقع الدامي والمصير المشرع على الغيب.. لكأن اتفاقا شاملا حصل بين مئات الألوف من البشر على مدى ثمانين يوما من الحرب: ان يكون هؤلاء الناس عائلة واحدة.. تموت او تحيا على حلم واحد.. ماذا يحمل الغد.. لا احد يعرف بالضبط، لكن قرارا لا يحده زمان ولا مكان.. كان قد اتخذ.. ونفذ.. والقرار هو: معا يا افراد عائلة بيروت وحتى النهاية.
ولقد كتبنا الكثير بهذا المعنى.. كتب رشاد اجمل حلقات برنامجه اليومي «كلامنا بلدي».. وكتب ياسر عرفات على رأس صفحة من دفتر التاريخ «باسم بيروت نحاصر العالم».
(11)
- كان في داخلي وهم لا أعرف مبرراته.. وهو ان يوم الطيران السابق آخر ايام الحرب او انه ذروة هذه الايام.. وقد اخترعت لنفسي مساحة من السلم.. اعيش فيها مع الذكريات الخاصة.. كنت متأكدا من ان اياما قليلة تفصلني عن لحظة مواجهة الحقيقة القاسية.. حقيقة الرحيل عن بيروت.. ومع انني لم اتعامل في يوم من الايام مع هذه المدينة وكأنها وطن او مستقر.. الا ان كل شبر فيها يحمل ذكريات لا تنسى.. تجعل من الفراق وكأنه اقتلاع للانسان عن عالم احبه وتعلق به بعمق خاص.. وكاد ان يموت مائة مرة من اجل الاحتفاظ به.. كنت افتش في ذاكرتي عن حكايات بعيدة عن واقع الحرب.. فلم اجد.. وكيف لي ان اجد في داخلي شيئا كهذا؟ لماذا هاجرت من الضفة الغربية الى الضفة الشرقية في عام 68؟ ان ذلك بسبب الحرب.. ولماذا هاجرت من الضفة الشرقية الى دمشق عام 71؟ انها الحرب.
ولماذا هاجرت من دمشق الى القاهرة في عام 72؟
ولماذا اهاجر من بيروت الى اي مكان في عام 82 ان ذلك كله بسبب الحرب لم تكن هجرتي قرارا بالبحث عن الامان في اي مكان.. فلقد كان حلمي يحملني.. الى جهات الارض الاربع.. وكانت الحرب قدرا يعيشه الفلسطينيون وانا واحد منهم في كل زمان ومكان.. فكيف لي ان اجد ذكريات بعيدة عن كل هذه المنافي وكل هذه الحروب.
- كنت جالسا على الشرفة اعيش لحظات سلم مخترعة.. وكنت اراقب الناس وهم يتراصون بغير انتظام امام الفرن المجاور.. كان خليط من المدنيين يتلقفون ارغفة الخبز وينطلقون بها الى منازلهم والسعادة ترتسم على وجوههم القانعة.. لاحظت سيارة كحلية تقترب من الفرن.. وما ان توقفت حتى هبط منها ابو عمار ومعه مرافقون فتحي وجمال وصلاح وعادل.. ظننت للوهلة الاولى ان القائد العام سيزورنا في هذا الوقت المبكر.. وطلبت من الزملاء المتواجدين في المقر.. الاسراع في ترتيب اجراءات استقبال القائد العام.. غير ان تقديراتي لم تكن في محلها.. فلقد كانت زيارة القائد العام للفرن.. ومن اجل عقد اجتماع مع طاقم العاملين فيه. للاطمئنان على حسن تنفيذ مهامهم في خدمة الجمهور والمقاتلين كان الظهور المفاجئ لابي عمار.. وسط الجمهور المحتشد امام الفرن قد احدث وقعا طيبا في نفوس الناس.. الذين تسابقوا للسلام عليه ومعانقته.. قضى الاخ القائد قرابة نصف ساعة في الفرن علمت بعدها انه اصدر امرا باستمرار العمل على مدى اربع وعشرين ساعة متصلة، وان يتم توزيع الخبز مجانا على المواطنين من الساعة السادسة صباحا حتى السادسة مساء.. اما المقاتلون فدورهم يأتي في الليل اي من السادسة مساء حتى السادسة صباحا ولقد روى لنا القائد العام في احدى زياراته للاذاعة واقعة جرت اثناء اجتماعه بطاقم الفرن.. حيث طلب القائد العام من طارق ان يعمل بشكل متواصل حتى يؤمن حاجة الناس من الخبز.. فأبدى طارق بعض اعتراض على هذا القرار.. نظرا لقلة العاملين.. حتى انه قال للاخ ابو عمار: لو جربت ايها الاخ وقوف ساعة واحدة امام بيت النار لعذرتني على الاحتجاج.. فحل ابو عمار المشكلة بفرز عدد من طلبة الجامعات لمساعدة الفرانين.. وعلق ابو عمار على هذه الواقعة بالقول:
- وهل نحن الا في فرن يصهر الحديد - مساحته لا تزيد عن اثني عشر كيلو متر مربع؟
- كان لا بد للاذاعة.. من ان تعالج بقدر ما.. افرازات الحرب على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.. غير ان اعتمادنا الكبير على الاذاعة الشقيقة «صوت لبنان العربي» الذي كانت باعه في معالجة هذه المواضيع الحيوية جعلتنا نقتصد في هذه المسألة ونتناولها بشكل اقل من التركيز.. وهذه نقطة سلبية تسجل في غير صالح اذاعتنا.
- تكونت تجربة صمود بيروت.. من عناصر متعددة ومتكاملة ذلك ان وراء الخطوط الصامدة كالقلاع الراسخات على خطوط التماس.. كان ثمة صراع من اجل تأمين سبل العيش لمئات الالوف من البشر المحاصرين في المدينة.. فحين قطعت الكهرباء.. كان بالامكان.. الاستعاضة عن هذه الضرورة الحيوية.. بمصابيح من الغاز والشموع والمولدات الصغيرة.. ولكن حين قطعت المياه وجدنا انفسنا امام تحدٍ خطير.. تمت مواجهته بحفر آبار جديدة في اجزاء متعددة من المدينة.. وزيادة في تسهيل الامور على المواطنين.. تم نشر عدد من المولدات الكهربائية المحمولة على السيارات.. لضخ المياه من الآبار الموجودة تحت البنايات الى الخزانات العليا.. واصبح بوسع المواطنين في معظم انحاء بيروت الحصول على المياه بشكل شبه طبيعي... وقد لاحظنا النتائج من خلال اكتظاظ الاسطح والشرفات.. بالملابس الزاهية النظيفة.. حتى وصل الامر بالبعض حد غسل السيارات والاسراف في استخدام المياه على نحو يذكر بحياة بيروت قبل الحصار.
(12)
- انظر.. ما ابلغ هذه الصورة وما اعمق المعاني التي تحملها ودفع لي الاخ ابو عمار بعدد قديم نسبيا من اعداد صحيفة السفير البيروتية.. كانت الصورة رسما كاريكاتوريا للفنان العربي الفلسطيني الكبير ناجي العلي.. الصورة تمثل بيروت على هيئة صبية حسناء تنحدر من عينيها دمعة كبيرة.. وتبتسم لمقاتل من القوات المشتركة... يقدم لها وردة.
وانهمكت في قراءة بعض التقارير التي كان القائد العام قد احالها لي.. وهي ذات صلة بعملي الاعلامي.. فرغ ابو عمار من اداء الصلاة.. جلس على مكتب صغير على صدر الغرفة.. وحتى هذه اللحظات كانت بيروت هادئة تماما.. وكان دبيب الحياة الطبيعية العادية يملأ ارجاء المدينة. وكانت غرفتنا الصغيرة الواقعة اسفل الشارع العام.. تهتز تحت وطأة حركة السيارات النشطة في الخارج.. قال ابو عمار وهو يراجع كومة من الاوراق: يبدو لي انه الهدوء الذي يسبق العاصفة لم اجد في نفسي القدرة على ابداء وجهة نظري بأن الحرب على ما يبدو قد وضعت اوزارها.. وان اليوم السابق العنيف كان نهاية او ذروة ايام الحرب.. غير اني سألت القائد العام.. هل هنالك احتمال بتصعيد جديد.. ان الجميع يتحدث عن ضغوط امريكية مكثفة لحمل اسرائيل على وقف القصف الجوي. اعتدل ابو عمار في جلسته.. والقى القلم جانبا وقال بلهجة حاسمة ان ما يقال عن ضغوط امريكية هو مجرد محاولة للتنصل من الجرائم المروعة التي يرتكبها الاسرائيليون بالسلاح الامريكي.. انني على استعداد لتفهم الغضب الذي يصدر عن هذا المسؤول الامريكي او ذاك تجاه بيغن او شامير/ فالامر لا يتعلق بالرأفة بالمدنيين او بنا.. وانما لمداراة الفضيحة.. واثرها على صورتهم امام المنطقة والعالم.. فبدأوا باطلاق التصريحات الغاضبة.. ان لدينا معلومات دقيقة عن شيء جديد.. حصل فيه الاسرائيليون على الضوء الاخضر الامريكي لهذا فلا بد.. من مضاعفة الحذر واليقظة.
تطايرت اوهام انتهاء الحرب التي نسجتها او اخترعتها استنادا لمؤشرات تبين لي انها لم تكن كافية للوصول الى هذه النتيجة.. فماذا يريد الاسرائيليون والامريكيون؟.. ان ترتيبات الخروج من بيروت.. وصلت الى مرحلة شبه نهائية عبر المفاوضات الدائرة مع المبعوث الامريكي فيليب حبيب.. هل يريدون ابادتنا؟ لقد حاولوا على مدى الاشهر الماضية.. ونفذوا سبع عشرة محاولة لاقتحام بيروت.. اذن ماذا يريدون بالضبط؟.
- كانت الوقائع المتسارعة تجيب بشكل حاسم عن كل التساؤلات التي تثور في فترات الهدوء القصيرة.. وكان ازير الطائرات التي تناهى من بعيد الى مسامعنا بمثابة مقدمة للجواب.
- اصدرابو عمار تعليمات لعاملة الجهاز بالتوقف عن العمل.. وامر فتحي باستطلاع الاجواء والتأكد مما اذا كانت الطائرات الاسرائيلية قد عادت من جديد.. وبعد لحظات عاد فتحي يبلغ القائد العام بعدم وجود طائرات في الجو مستنتجا ان الصوت الذي نسمعه.. هو بفعل اهتزاز الشارع المجاور الذي تقع الغرفة دون مستواه غير ان الصوت بدأ يقترب واصبح واضحا لنا جميعا.. انه صوت طائرة تحلق على علو مرتفع وهنا حضر احد الضباط وطلب من القائد العام تغيير المكان.. وبالفعل انتقلنا الى مكان آخر..
في الموقع الجديد اعد القائد العام ردودا على ثلاث رسائل كان قد تلقاها في الصباح من الزعيم السوفييتي ليونيد بريجينيف.. والرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران.. والملك السعودي فهد واوعز القائد لاحد مرافقيه ببث الرسائل عبر الاجهزة الخاصة وتسليمها بعد ذلك الى احد مقرات وكالة الانباء الفلسطينية لتولي نشرها وتسليم نسخ عنها لسفارات الدول المعنية..
- الساعة الآن الثانية ظهرا وصوت الطائرات ينذر بأنها في وضع انقضاض على هدف ما.. اهتزت البناية التي كنا نجلس في دورها الخامس، وسمعنا صوت انفجار مكتوم.. واعترانا بعض القلق من هذا النوع الجديد من الانفجارات.. انتشر عدد من المرافقين لمعرفة الهدف.. وبعد دقائق قدم كمال مدحت تقريره المختصر:
- «لقد تم تدمير بناية عكر بالصنائع تدميرا كاملا ويبدو ان جميع السكان قد فارقوا الحياة».. ارتسمت امامي صور البنات والاولاد الذين كانوا يملأون طوابق العمارة المدمرة.. فقد كنت اعرف ان هذه البناية بالذات تضم مئات المسيحيين الفلسطينيين.. الذين كانوا يعيشون قبل سنوات في مخيم «ضبية» بالمنطقة الشرقية من بيروت.. وتم تهجيرهم بعد الاجتياح الكتائبي الشهير للمخيم الى منطقة الدامور.. وحين وصل الاسرائيليون الى الدامور.. لاذوا ببيروت ليواجهوا قدرهم المحتوم على هيأة موت جماعي تحت انقاض عمارة قصفها الاسرائيليون بما عرف فيما بعد بـ «القنبلة الفراغية».. ولقد هزني تخيل الاولاد والبنات الذين شاهدتهم في الصباح على الشرفات.. وهم الآن جثث ممزقة تحت الحطام.. وادركت ان هذه المقتلة هي اشعار بأن الحرب لم تنتهي بعد.
- اجريت اتصالات بالاذاعة وعرفت من الزملاء ان الاذاعة الكتائبية اعلنت بأن تدمير بناية عكر.. تم بناء على اشتباه اسرائيلي بتواجد ياسر عرفات في ذلك الموقع.. وامعانا في تبرير هذه المجزرة دست الاذاعة المذكورة خبرا يقول ان احد القادة الفلسطينيين البارزين يتواجد الآن تحت الحطام.. وكانت صياغة الخبر توحي بأن المقصود هو ياسر عرفات بالذات.. ولكي يكملوا جريمتهم وضعوا سيارة مفخخخة بالقرب من البناية المقصودة.. وسرعان ما انفجرت لتوقع عشرات الضحايا.. انه تنسيق محكم بين طيران شارون وبيغن ومخابرات عملائهم.
- ماذا بقي على الاسرائيليين ان يفعلوا؟
ان العالم عرف في تاريخه انماطا متعددة من الحروب المفتوحة والاغتيالات.. غير ان ما حدث اليوم لبناية عكر.. وما حدث قبله لبنايات مشابهة.. اضاف الى احداث التاريخ صورا جديدة لم يألفها من قبل.. هي محاولات اغتيال بالطائرات تتم في وضح النهار لاصطياد رجل كان قبل ساعات يوزع الخبز على الناس بيديه.. ويخاطب اهم زعماء العالم كقائد لشعب وثورة.. ويدير وضعا بالغ التعقيد تحت الحصار.. فيجمع العالم على انه اهم رجل واقدر الناس على قيادة السفينة في بحر مسيج بالنار تتلاطم على سطحه وفي اعماقه انواء واعاصير لا مثيل لضراوتها في التاريخ المعاصر.. ما الذي يجري بالضبط؟
- لم يكن من الجائز لياسر عرفات.. ان يعرف ما يحيط به معتمدا على الاستنتاجات المحضة، فالرجل الذي يقود واحدة من اخطر حروب المنطقة ويتحصن في اصغر العواصم لا بد وان يؤمن لنفسه مصادر معلومات دقيقة..
ناولني القائد العام.. ترجمة لرسالة وصلته في الصباح من احد الاصدقاء في الولايات المتحدة الامريكية.. وقال لي اذا اردت ان تعرف سر ما حصل اليوم لبناية عكر.. فأقرأ هذه الرسالة بامعان تقول الرسالة..
الصديق العزيز ياسر عرفات.. تحية
- ان التفاعلات السياسية التي احدثها صمودكم العظيم في بيروت.. بدأت تتجه تماما لصالح القضية الفلسطينية.. ومنظمة التحرير بالذات.. وهذا امر مزعج للذين هناك في تل ابيب، وان خروجكم من بيروت بالطريقة التي يجري الحديث عنها سيكون بمثابة هزيمة جزئية للاجتياح الاسرائيلي وبالمقابل يشكل انتصارا سياسيا هاما لمنظمة التحرير.. لهذا انصحكم بتوخي الحذر واليقظة.. فكل ما يقال عن ضغوط امريكية على اسرائيل كلام غير جدي والايام القادمة حرجة ودقيقة للغاية.. ويتحدثون هنا بصوت هامس عن عملية خاصة ومن نوع جديد.. فاحذروا الايام القادمة ولا تدعوا زمام الموقف يفلت من ايديكم.. حتى الآن انكم تعملون بصورة ممتازة.. انهم باختصار لا يريدون لقيادتكم التي ادارت المعركة في بيروت.. ان تخرج سالمة لاستخدام التفاعلات السياسية الكبرى التي احدثها صمودكم..؟
- اتضحت الصورة تماما بعد قراءة هذه الرسالة وازدادت وضوحا حين اعلن الامريكيون - بطريقة ما - ان قصف بناية عكر لا يعتبر انهيارا لوقف اطلاق النار. مع امل بأن تكون العملية «الخاصة» هي «الأخيرة»..
ان اهم الشروط التي يجب توافرها في الكادر الاذاعي وعلى وجه خاص الكادر القيادي فيها.. معرفة قدر كبير من المعلومات حول الموقف السياسي وما يحيط به من مؤثرات ذلك ان التعبير عن الموقف السياسي يجب ان ينطلق من وعي عميق لمكونات هذا الموقف.. وشبكة التحالفات المتصل بها وآفاق كل تحالف تقيمه الثورة مع القوى المختلفة التي تشكل اطراف اللعبة السياسية في دوائرها العربية والعالمية.. ولقد كنا في الاذاعة.. نستقي معلوماتنا في الظروف العادية او الاستثنائية من المصدر القيادي المسؤول الذي هو رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.. ونادرا ما كنا نتلقى توجيهات على صعيد مهمات العمل اليومي.. فهذا الجانب من العمل هو من صميم اختصاصنا وقد كنا قليلي الاخطاء السياسية.. نظرا لاطلاعنا المستمر على المعلومات الكافية التي تشكل مضمون معالجاتنا اليومية للاحداث كما كنا نحس بأننا شركاء في العملية السياسية.. والقرار السياسي.. وهذا ما جعل تعليقاتنا وتحليلاتنا.. بالغة التأثير والمصداقية.. فلم نشعر في يوم من الايام اننا مجرد موظفين يتلقون الاوامر وانما كنا مؤهلين فعلا لان نقول رأي الثورة كمايجب ان يقال.. حتى لو انقطع اتصالنا المباشر بالقيادة لبضعة ايام - او اشهر.. مع ان هذا في الاساس نادر الحدوث، كنا جميعا نعيش في دائرة ضيقة بفعل الحصار الا ان التوسع في اجراء اتصالات مباشرة مع القيادة - .. لم يكن ميسورا كما كان الامر عليه في الظروف العادية.. ورغم ذلك كنا متطابقين الى ابعد الحدود.. مع الخط السياسي العام ومالكي القدرة على ايجاد اجابات سريعة عن جميع الاسئلة المطروحة وقد لمسنا ذلك على صعيد تناول الاجهزة الاعلامية او المحايدة لما يقدم في الاذاعة من تحليلات.. فلقد كانت تؤخذ في كثير من الاحيان كمؤشر دقيق على موقف الثورة.
ونظرا لاننا بحكم الوضع الخاص للشعب الفلسطيني.. لا نملك مؤسسة اذاعية متكاملة وانما كنا ولا نزال.. مجرد اذاعة ميدانية..
تنطلق من المنافي القريبة او البعيدة، فان ذلك حتم علينا تركيزا استثنائيا في اعداد الكادر سياسيا وثقافيا ومهنيا.. على نحو يتيح للكادر القيادي فرصا واسعة للمبادرة والاعتماد على النفس واداء مهمات متعددة في وقت واحد.. وهذا ما فسر معادلة اذاعة «صوت فلسطين» الاستثنائية.. التي تقوم على اساس قلة عدد الكادر مع غزارة الانتاج.. لقد دخلنا في الظروف العادية الى وضع كنا نبث فيه احد عشر ساعة يوميا وبلغات ثلاث.. وكان عدد العاملين لانتاج هذه الساعات الطويلة لا يتجاوز الثلاثين كادرا بين مذيع ومحرر وفني واداري.. في حين ان مثل هذا العدد في الاذاعات الاخرى مخصص لاقل من ثلث هذه الساعات.. ولو وضعنا في الاعتبار حجم المادة الاخبارية والسياسية والبرامجية المتنوعة فإننا نجد ان الاحد عشر ساعة التي كنا نبثها في الظروف العادية.. توازي بكثافتها ما يبث على مدار ثمانية ايام في الاذاعات الاخرى التي يمكن ان تقدم سهرات غنائية وبرامج ترفيهية وموسيقية طويلة تمتد لساعات.. في حين ان مثل هذا النمط من العمل الاذاعي لم يكن معترفا به في اذاعتنا.. التي لا يتجاوز معدل النشيد فيها او الاغنية ثلاث دقائق..
- ان الاختصاص في العمل الاذاعي.. امر جيد.. له مزايا عديدة.. كتأمين فرص الابداع والتطور على الصعيد المهني والجمالي.. لكن مثل هذا الاسلوب في العمل الاذاعي لا يمكن ان يكون عمليا بالنسبة لاذاعتنا التي هي في الاساس.. كما اشرت آنفا - اذاعة ميدانية وغير مستقرة.. فضلا عن انها وبحكم كونها اذاعة سياسية وثورية لا تستطيع ملء الفترة الزمنية بالمواد الترفيهية من تلك التي تمتلئ بها الاذاعات الاخرى.. واغلبها يشترى من السوق دون ان يبذل فيه جهد ابداعي يذكر، غير ان ذلك لا يعني ان تظل اذاعة الثورة جامدة وان لا تطور نفسها ضمن اطارها السياسي الملتزم مع احتفاظها بطابعها المميز.. ونكهتها الخاصة بها. ومن خلال التجربة الطويلة اكتشفنا امكانات كبيرة للتطور تبدأ بنشرة الاخبار التي يمكن ان تكون نافذة يطل منها الانسان على احداث الثورة واحداث العالم كله مرورا بالمادة السياسية التي يجب الا تكون على هيئة بيان يقرر الحقائق ويأمر الجمهور بالالتزام بها.. وانما يجب ان تأخذ طابع الحوار والاقناع بعيدا عن الصيغ النمطية المسلم بها.. وفي هذه النقطة بالذات وجدنا ان التعليق السياسي - ولكي يكون مؤثرا ويحتوي على عناصر الاقناع الكافية لا بد من انطلاقه من حدث راهن.. وليس من منطلقات عامة... متضمنا عرضا ذكيا لوجهة النظر الاخرى في القضية المراد التعليق عليها.. واظهار الجوانب السلبية في الآراء الصادرة عن الطرف الآخر.. ومواجهتها بالحقائق الملموسة بكل وضوح دون ان يكون التعليق السياسي ذو طابع دفاعي.. وهذا يعني ان تناقش حتى المسائل التي تبدو وكأنها محرمات.. فكثيرا ما كنا نبدأ التعليق السياسي بعبارة تقول «نستمع الى آخر تعليقات آرييل شارون الذي قال اليوم.. ان الثورة الفلسطينية انتهت الى غير رجعة». ولكي نوصل المستمع الى اقتناع لا بد من سرد وقائع عديدة تلتقي جميعها عند هدف واحد.. وهو عدم صحة ومنطقية التصريح المشار اليه.. وهنا يجب الابتعاد عن العبارات النظرية والانشائية في المعالجة والتركيز على معلومات آنية يفضل ان تكون مستقاة من مصادر معادية او مستقلة او تكون معززة ببراهين واقعية.. ففي مواجهة زعم شارون مثلا نستشهد بتصريح لاحد نواب الكنيست الذي يعلن فيه صراحة استحالة القضاء على الثورة الفلسطينية حتى لو خرجت من لبنان.. ونعزز هذا الاستشهاد.. برأي آخر لمصدر امريكي او محايد.. ونمزج ذلك بالموقف في الوطن المحتل او على صعيد العالم لنصل وعبر سياق منطقي متسلسل الى نتيجة حاسمة.. وهي استحالة القضاء على الثورة ولقد تناولت هذا النموذج لانه يتعلق بمسألة استراتيجية كنا نواجهها بشكل يومي خاصة في زمن الحروب الكبيرة اما المسائل التكتيكية التي تتعلق بمجرى معركة محددة.. فكان لها اسلوب آخر في المعالجة.. يعتمد بشكل اساسي على اصطياد اخطاء الخصم.. وما اكثرها حين تدرس كل كبيرة وصغيرة تصدر عنه.. فمثلا حين قدم رئيس اركان الجيش الاسرائيلي تقريرا عن الوضع العسكري للقوات المشتركة في بيروت المحاصرة وقال فيه انه لم يعد لدى هذه القوات سوى مدفع واحد.. وان قدرتها على الصمود تتلاشى بسرعة.. كان ردنا على هذه المعلومات يستند الى بلاغات عسكرية اسرائيلية وخبر.. كتائبي قيل فيه ان مدفعية «المخربين» في بيروت الغربية.. قصفت المواقع الاسرائيلية بما يقرب من ثمانية عشر الف قذيفة في يوم واحد.. وانهينا التعليق بسؤال «وهل هناك مدفع واحد يستطيع القاء ثمانية عشر الف قذيفة في يوم واحد؟ ان على رئيس الاركان الاسرائيلي ان يكن اكثر حذرا في المرة القادمة.. لم نكن بالطبع مضطرين للقول إن لدينا كذا مدفع في حالة العمل.. ولكن الذي حدث ان مدفعية القوات المشتركة هي التي اثبتت كذب مزاعم ايتان.. ولم يكن علنيا الا نقل صورة واقعية لما حدث..
- حالة اخرى سوف اشير اليها.. يوم روج الكتائبيون عبر اذاعتهم وصحفهم واشاعاتهم.. الى ان «حركة امل» واهالي حي الشياح سوف يسلمون الحي للجيش اللبناني.. او لميليشيات الكتائب.. او حتى للجيش الاسرائيلي.. ضاربين على وتر الطائفية وعلى اوهام بعض النفوس المريضة مستغلين بعض الثغرات التي تكونت في مراحل سابقة، ولما كان الشياح حيا وطنيا عريقا قاتل اهله ببسالة نادرة خلال الاجتياح فكان لا بد من الدفاع عن الحي معبرين بذلك عن مشاعر الاكثرية الساحقةفيه.. اشرنا بوضوح الى القتال البطولي الذي واجهت به قوات امل جيش الغزو في خلدة والجنوب وبيروت جنبا الى جنب مع اخوتهم في القوات المشتركة ودفعنا الكرة الى مرمى الخصوم حينما ذكرنا اهلنا في الشياح ذي الاكثرية «الشيعية» بموقف الامام الشهيد الحسين بن علي يوم خير بين الاستسلام والموت فأطلق صيحته المشهورة: لقد حشروني بين السلة والذلة.. وهيهات منا الذلة..
- وجاء من يقول لنا.. ان دفاعكم بهذا الشكل عن الشياح واهله له صدى طيب في نفوس الناس.. ولقد اصبتم الهدف بدقة.. ورددتم الرمية الى راميها.. ولقد تواتر ذلك مع الموقف الوطني لحركة امل والاصالة الوطنية لسكان الحي فكان لحملتنا المركزة مفعولها العميق والمؤثر.. ولم يدخل الاسرائيليون وعملاؤهم الشياح الذي بقي قلعة وطنية فقصفوه بعنف لكنه صمد حتى النهاية.
- الى جانب ذلك لم تنجر اذاعتنا الى الجوقة التي كانت تحاول طعن الجبل وسكانه في وطنيتهم.. بل دافعت عنهم بروح الشعور بالمسؤولية الوطنية العالية والتحالف الاكيد.. ضد العدو المشترك.. وقاتلت اذاعتنا مع ابطال الجبل فرسان بني معروف.. عبر منطلقاتنا وتعليقاتنا وتحليلاتنا.. ضد ميليشيات الجبهة اللبنانية التي تسللت الى الجبل وراء الدبابات الاسرائيلية محتمية بالزخم العسكري الاسرائيلي.. وكانت ردودنا على الاشاعات المغرضة عميقة عمق ارتباطنا الوطني بقضيتنا.. وبلا مقدمات او تعليقات كنا نعرف دورنا الذي مارسناه فورا عبر صوت فلسطين.. ثم جاءت تعليقات القيادة لتؤكد موقفنا الصحيح.. فما حصل من اخطاء في هذه المنطقة او تلك كانت تفاصيل.. اما العنوان العريض فقد كان يوما..
- لا.. للاحتلال وعملائه.. القتال ومزيدا من القتال ضد جيش الغزو والمحتمين بحرابه...
لأعد الى مسألة ولاعرض هنا بعض فرص التطوير التي اكتشفناها على صعيد الموسيقى والغناء.. حيث بدأت اذاعتنا في صوت العاصفة عام 68 بمجموعة من الاناشيد والاهازيج الجديدة التي تتميز بنصوص ملتزمة واداء جماعي.. وسرعة في الايقاع تتلاءم مع المعاني والوضع العام الذي يحيط بالثورة.. وتحول بعضها الى شعارات ترتفع في المظاهرات والانتفاضات داخل الوطن المحتل.. ورغم هذا النجاح المذهل للاناشيد واهازيج صوت العاصفة.. الا ان الاقتصار عليها او على نمطها كاد يعرض الاذاعة الى الجمود والرتابة.. فضلا عن كونه يعطي صورة ناقصة عن ثراء الفن الفلسطيني والثقافة الفلسطينية/ لذا طرقنا بابا جديدا كان على وجه التحديد: الفلكلور والفن الشعبي والاشكال الغنائية التي ترسم صورا جمالية مؤثرة لحياتنا الفلسطينية وثقافتنا الوطنية.. ونظرا الى ان الغناء والموسيقى الشعبية لها فعل سحري في النفوس.. كان لا بد من اعتماد هذا الفن كوسيلة تعبوية رئيسية.. ومن هذا المنطلق جاء برنامج «غنى الحادي» الذي ابدع من خلاله الفنان الشعبي الفلسطيني المغفور له/ يوسف حسون/.. وعلى مدى مئة حلقة من هذا البرنامج الناجح سمع الجمهور نمطا جديدا من الفن.. فيه روح التراث ونبض الواقع المعاش.. فلم يكن برنامج «غنى الحادي» مجرد ربع ساعة من المواويل الشروقي والعتابا والميجانا تقال للتسلية والتذكير برائحة الوطن فقط.. بل كان معالجة سياسية واعية ملتزمة لمواضيع مطروحة على شعبنا وثورتنا.
في هذا الاطار ولدت ايضا اغنيات الفنان الشعبي «ابو عرب» الذي يفاخر بانه لم ينطق في حياته بأغنية واحدة تمجيدا لشخص او لموقف سلطوي.. وانما غنى لفلسطين وشعبها وثورتها وطموح انتصارها الحتمي.. فحسب..
- لم يكن الباب الفلوكلوري هو الوحيد الذي نطرقه في محاولات التطوير فهناك الصور الغنائية ذات العناصر المتعددة.. منها مثلا صورة عملية الشاطئ التي نفذتها الشهيدة دلال المغربي ورفاقها في عمق فلسطين عام 78.. وصورة البحارة التي تجتمع فيها عناصر عديدة من حياتنا الفلسطينية وما تصارعه على مدى عمر القضية وفي زمن الثورة وكذلك سكتش - سرحان والماسورة - عن قصيدة الشاعر الكبير توفيق زياد وغيرها من الصور الغنائية ذات الصبغة الحديثة.
- ان التطور الاذاعي.. يجب ان يتم بخطى سريعة ولكن مدروسة في عالم يتطور بسرعة.. ولقد اشرت في الصفحات السابقة الى «نعم» المذيعة الشهيدة التي طرحت مسألة التطوير في زمن الحرب والحصار. ولم اتوسع في عرض تجربتنا في هذا المجال.. مؤثرا التريث الى وقت استطيع فيه التخلص من انفعالاتي الشخصية التي تثور في داخلي كلما لاح طيف نعم عبر ذكرياتها الجميلة والمؤلمة.. وسأحاول خلال الصفحات القادمة ان اعرض تجربة التطوير في اذاعتنا اثناء الحرب والحصار.. تلك التجربة التي ولدت من احشاء الحاجة الملحة واتسمت بطابع الحرب والحصار في كل تفاصيلها.
- في الظروف العادية.. كان اختيار الكادر الاذاعي.. يخضع لاعتبارات محددة بدقة خاصة على الصعيد السياسي.. وكان بديهيا ان يتم الاختيار على قاعدة الالتزام السياسي بالموقف الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية المنطلق من برنامجها السياسي والمحدد بقرارات اللجنة التنفيذية وتوجيهاتها.. وبالاطار العام فإن معظم الكوادر الفلسطينية تلتزم بهذا.. ولا تخرج في ولائها عن الاطار الوطني العريض.. غير ان هذا ليس كل شيء بل انه لا يكفي كمؤهل يمنح صاحبه حق العمل في الاذاعة وتسلم مسؤوليات قيادية فيها.. فلا بد من توفر عناصر اخرى اهمها استيعاب كافة الخطوات السياسية التكتيكية التي تقدم عليها القيادة في عملها.. وامتلاك القدرة على تفسير هذه الخطوات واقناع الجماهير بها، وفي ساحتنا الفلسطينية.. هنالك فهم خاص للعمل الجبهوي في اطار التقاليد الديمقراطية التي نتمسك بها جميعا، فهنالك قطاع لا يستهان به من المثقفين والصحافيين والكتاب يفهم العمل الجبهوي في الاطار الديمقراطي.. على انه يمنح الحق للفرد بأن يمارس اعتراضه بالطريقة التي يراها مناسبة، وان يستخدم كافة المنابر المتاحة للتعبير عن هذا الاعتراض دون التقيد بالمؤسسات والاطر التنظيمية التي نمارس فيها حياتنا السياسية الداخلية فيكتسب الرأي مشروعية ضمن المؤسسات وليس خارجها.. ولقد كان العديد من هؤلاء الاخوة الكوادر.. يحجم عن التعاون مع الاذاعة لمجرد انه غير مسموح له ان يبدي رأيه الخاص بكل حرية حتى لو كان هذا الرأي متعارضا مع الخط العام الذي تلتزم به الاذاعة.. وهو كما اشرت الخط الرسمي لمنظمة التحرير.. ولقد حاولنا ايجاد حلول لهذه المعضلة بفتح الباب الثقافي امام الجميع كتجربة نحاول الافادة منها ويفتح الباب السياسي المباشر.. ولقد نجحت التجربة في المجال الثقافي عبر برنامج خاص يحمل اسم ثقافة - ادب. فن فكان نجاحه.. حافزا.. كافيا لفتح الباب السياسي.. عبر برنامج يحمل اسم البرنامج المفتوح يستطيع التحدث فيه ان يعرض وجهة نظره السياسية في حدث معين حتى لو كان مخالفا للموقف الرسمي.. وجاءت الحرب الاخيرة ونحن في قلب هذه التجربة ورأينا ان الظرف اضحى ملائما لتطوير المشاركة واستقطاب عدد اكبر من الكتاب و الصحافيين والفنانين الفلسطينيين واللبنانيين العرب.. وليس فقط من اجل النهوض بأعباء عمل اذاعي كبير ومكثف يتم في ظروف استثنائية.. بل ومن اجل زرع بذور نمط جديد من العمل نجني ثماره في المستقبل لتتكرس الاذاعة كمؤسسة وطنية كبيرة تغتني بالطاقات الابداعية الهائلة التي تتجمع من عشرات بل مئات المثقفين و الصحافيين والكتاب العرب والفلسطينيين، وقد حدث اجتماع يمكن اعتباره مؤتمرا طارئا للكوادر المتواجدة في بيروت اثناء الحرب وكنت احد المشاركين في هذا الاجتماع واذكر انني تحدثت عدة دقائق.. اجتهدت فيها.. بأن المواضيع السياسية التي كنا نختلف عليها وربما لا نزال.. لم تعد مطروحة الآن بشكل رئيسي في هذه الحرب واننا اذا ما توصلنا الى فهم مشترك لطبيعة هذه المعركة وآفاقها وكيفية معالجة وتعبئة اوسع القطاعات الشعبية فيها.. فاننا لن نصادف مشاكل تذكر في عملنا الجماعي ضمن منابرنا ومؤسساتنا القائمة او التي يمكن استحداثها.. وعلى هذا الاساس فانني باسم اخوانكم العاملين في اذاعة صوت فلسطين.. ادعوكم جميعا للمشاركة في العمل اعتبارا من هذه اللحظة-.. في هذا الاجتماع تقرر دعوة كل من له القدرة على المساهمة في العمل الاذاعي الالتحاق بالاذاعة.. كما تقرر استحداث جريدة يومية لدعم «فلسطين الثورة» تحمل اسم «المعركة».. وهكذا وجدت نفسي في اليوم التالي محاطا بحشد كبير من الكوادر ذات المستوى الجيد.. واقلعت سفينة الاذاعة بطاقمها الجديد وكان ذلك بمثابة التطور الاساسي الذي نجحنا فيه معا وساهم الى حد كبير في النجاحات المتواضعة التي اعتقد ان الاذاعة حققتها في الحرب..
- والاذاعة ليست مجرد مادة مكتوبة يقرأها مذيع جيد من وراء الميكرفون.. انها نهر كبير تجتمع في مجراه روافد عديدة ليصل الى الجماهير قويا غنيا متدفق العطاء.. او بتعبير آخر.. هي لوحة متعددة الالوان والابعاد.. تتكامل فيها العناصر الجمالية دون نشاز يبعث على النفور ودون رتابة تبعث على الاحباط والكآبة.. لذا كان لا بد من استنباط مساحات الابداع امام هذا الحشد الكبير من الكوادر الجديدة وايجاد سبل التفاعل النشط فيما بينهم وبين من سيقودهم في التجربة. كي ترتسم اللوحة كما يجب.. ويمضي النهر في مجراه الصحيح ونحو مصبه الطبيعي.. فلم تنقصني ايام قليلة حتى انسجم الجميع في عمل متكامل وكل ضمن امكاناته في العطاء والابداع.
- فريق المعلقين السياسيين التقط الخيط ولم يعد بحاجة الى اجتماعات يومية تتحدد فيها الخطوط السياسية التي ينبغي على الاذاعة ان تبلورها على الصعيد الاخباري او التحليلي او التحريضي. فريق الادباء والفنانين.. ينتشر في الليل والنهار لاجراء الحوارات المسجلة مع الجمهور والمقاتلين واقامة حفلات السمر في المواقع المتقدمة وتسجيلها كي تذاع في الليلة التالية ولقد اذعنا بالمناسبة عرسا في موقع المطار، وعدة حفلات احياها الفنان المصري التقدمي عدلي فخري مع الشاعر المبدع زين العابدين فؤاد في المستشفيات التي كانت تغص بالجرحى، وتسجيلات ذكية نادر اجرتها المذيعتان نعم وسلوى ومعهن الكاتب غالب هلسا.. وجزء كبير منها مع الاشبال المقاتلين.
- فريق الاخبار.. أُعطيَ صلاحيات استثنائية في استنباط مصادر جديدة للاخبار.. خاصة بعد ان ازدادت الشكوى من تباعد المسافة بين تصريح عسكري وآخر.. ولقد سمح لفريق الاخبار بالتنصت على اجهزة اللاسلكي واستخلاص التطورات من خلالها دون ان يحمل الخبر المستخلص من هذه المصادر اية صبغة رسمية.. وانما يمكن ان ينسب للمراسل الاذاعي ونظرا لعدم اتساع المساحة الجغرافية للمعركة.. فقد كان من الامور المتاحة ولو بصورة بالغة تدقيق الاخبار المستقاة من الانصات على ما يجري فوق الارض وغالبا ما كانت تأتي النتيجة متطابقة ودقيقة.
- فريق المهندسين الذين عملوا بصمت وامتياز.. والذين لولاهم لما كان عملنا ممكنا اساسا - فلاح - صبري - ماجد - سامي وفخري - محمد عمر - ابو زهير - عبد الله الذين كانوا مع المذيعين الاكثر تعرضا للخطر.. وبلا هوادة استمروا في اداء عملهم باتقان حتى النهاية.. ولا بد لي ان اشير هنا الى الاخ المهندس الاذاعي كاظم الذي اعتقله الكتائبيون واذاقوه عذابا مرا هو والكاتب العراقي جليل حيدر.. ثم سلموه الى القوات الاسرائيلية.. لتذيقه مر العذاب.. وتلقي به في معتقل انصار الرهيب مع آلاف الاسرى رغم الظروف الفظيعة.. التي تحيط بهم.
- ومع ان عملية التطوير في ظل الحصار والمعركة - حيث الموت المتنقل - كانت تستند في الاساس الى تجربة طويلة تمت باجزاء رئيسية منها قبل الحصار الا ان ظروف المعركة وتسارع احداثها وحجم الخطر الذي تنطوي عليه ساهم الى حد كبير في انجاح التجربة.. واعطاها قدرا هاما من التميز، ولقد اقدمنا على خطوة جريئة الى حد ما حين تعرضنا للقصف طيلة احدى عشر ساعة متصلة.. وعقب توقف النار.. صار بوسعنا ان نجتمع كلنا حول مائدة واحدة.. احضرت جهاز تسجيل في محاولة شخصية من جانبي لمعرفة كيف يتصرف او يتحاور فريق الاذاعة بعد هذا اليوم الطويل المحفوف بالاخطار المحيطة.. اخفيت الجهاز واقترحت موضوعا ساخرا للنقاش.. وكان عنوانه كيف تصفون مناحيم بيغن بعد هذا اليوم المميز.. كان ابرز المشاركين في الحوار الساخر رشاد ابو شاور وفيصل حوراني وبعد ربع ساعة اعدت الشريط وبدأنا الاستماع.. كان الحوار عفويا رشيقا الى ابعد الحدود مما شجعني على الاقتراح بأن هذه «الربع ساعة» يمكن ان تذاع على الهواء.. اعترض البعض وظن آخرون انها مجرد طرفة.. غير انها اذيعت بالفعل وكان لها وقع جيد.
- هذه التجربة.. كما اعتبرها - جريئة لعدة اسباب.. منها ان الجمهور الذي ارهقته ساعات القصف الجوي المتصل ليس بحاجة لان يستمع الى تحليل سياسي - فقط ومن العيار الثقيل.. وبالتالي فان المادة المرحة التي قدمناها - وهي على اي حال اشبه بالكاريكاتير السياسي.. يمكن ان تبعث بعض الهدوء والسكينة.. كما انها تنمي نزعة التحدي وعدم تهيب الخصم الذي اراد بقصفه الوحشي الطويل ان يدفع الجمهور الى اليأس.. بعد زرع الرعب في قلبه.
- كنت قد وعدت في سياق حديثي عن تجربة الاذاعة في احد ايام القصف الشديد.. ان اسجل واقعة تنطوي على قدر من الطرافة والجرأة حدثت مع احمد عبد الكريم «بن بِلّا فلسطين».. حين كان مراسلا عسكريا للاذاعة.. وقبل ان اسجل هذه الواقعة اود ان اقدم.. بعض المعلومات عن صاحب الواقعة.. فهو شاب لم يتجاوز الخامسة والعشرين يتمتع بذكاء حاد.. وحيوية متدفقة.. رياضي مواظب..وصل الى اعلى مراتب لاعبي ومدربي الكارتيه.. الى جانب ذلك.. فلديه المام كاف باللغة اليابانية والانكليزية فضلا عن انه دخل الثورة شبلا.. وتدرج في العمل العسكري الى ان وصل الى رتبة نقيب وهو مع ذلك.. صاحب صوت اذاعي جميل.. اي انه باختصار متعدد المواهب وابرز ما يميز شخصيته بوجه عام روحه الطفولية التي تنعكس على كل تصرفاته واحاديثه دون ان تمس جوهر التزامه بالثورة.. واستعداده الدائم للنضال حتى الموت في كل معاركها. ولقد كلف احمد بتغطية احداث الحرب.. منذ اليوم الاول.. وكمراسل عسكري فان له حق التواجد في كل المواقع العسكرية.. ولاننا لسنا جيشا كلاسيكيا.. ولا دولة فإن في عملنا اليومي وقائع تبدو غريبة منها مثلا.. ان بوسع المراسل العسكري للاذاعة ان يدخل على شبكة الاتصال ويجري حوارات مع قادة الوحدات وعمال اجهزة اللاسلكي وان يسجل مقتطفات تبين المجرى العام للقتال ولقد دأب احمد على استغلال هذه الميزة الى حد ازعج بعض المسؤولين العسكريين الذين لفتوا انتباهنا بوقف هذا النوع من النشاط، وقد امتثل احمد حتى نهاية الحرب، وحدث في الايام الاولى للقتال.. ان وجد احمد نفسه محاصرا تماما بين عدد من المواقع الاسرائيلية في الجبل المحاذي للساحل.. واصبح متعذرا عليه اختراق الحصار خاصة وانه يصر على عدم مغادرة سيارته التي حرص على تجهيزها بالمعدات الاذاعية والقتالية الكافية اضافة الى جهاز اللاسلكي الذي كان يصله بنا في بيروت.
كانت اشارات احمد تصلنا على نحو شبه منتظم.. وكان موفقا الى حد بعيد في رسم صورة للموقف العسكري خارج منطقة بيروت فقد افادنا في ذلك افادة كبيرة، غير ان هذا الوضع لم يدم اكثر من ايام قليلة.. ليجد مراسلنا العسكري نفسه مرة اخرى في دائرة حصار محكم تجعل من امكانية وصوله الى بيروت شبه مستحيلة ولكن نظرا لمعرفته الكافية لمنطقة الجبل كان بوسعه ان يصل الى دمشق في ساعات قليلة غير انه وكما افاد فيما بعد.. آثر ان يقدم على مجازفة.. وهي اداء عمله من قلب الحصار.. كنا نتابع اشارته بقلق وتشوق.. وحين كان ينقطع عنا يوما كاملا.. كنا نتخيل مئات الاشكال لكيفية انتهاء تجربته.. اما شهيدا او اسيرا او متسللا عبرالطرق الفرعية الى اي مكان..
في احد الايام.. فاجأني صوت احمد يذيع فقرة لا اذكر بالضبط حول ماذا.. تحركت على الفور الى الموقع 95 حيث كان الاستوديو الرئيسي؟ جميع كادر الاذاعة متحلقا حول احمد.. ويستمع الى حكايته التي كان يرويها باسلوب شيق..
كنت في احد البيوت في سوق الغرب.. وقد قمت في الليلة السابقة.. باخفاء كافة المظاهر التي يمكن ان تثير شبهات القوات الاسرائيلية والكتائبية دفنت البندقية والقنابل والجعب تحت شجرة بعيدة.. دققت في اوراقي والاشرطة التي كانت بحوزتي.. وكان يقلقني ان معظم المواطنين المقيمين حول المنزل.. يعرفوني جيدا.. وشاهدوني اكثر من مرة بملابسي العسكرية وادواتي الاذاعية.. غير ان قلقي بدأ يتبدد حين زاروني وابدوا قدرا كبيرا ومتحمسا من التعاطف والاستعداد لمساعدتي في الاختفاء حتى اجد وسيلة مناسبة للمغادرة.. ولقد ازدادوا اطمئنانا حين ابلغتهم اني اتخذت ترتيبات محكمة تبعد الشبهة عني.. واتفقت معهم على اني مجرد استاذ للكارتيه في احد اندية بيروت لا علاقة لي بأية نشاطات اخرى..
في حوالي العاشرة صباحا.. وكنت استلقي على السرير.. واقلب مؤشر الراديو على جميع الاذاعات.. سمعت طرقا قويا على الباب.. تخيلت لحظتها ان الاسرائيليين قادمون لي شخصيا.. استجمعت قواي.. وفتحت الباب.. لاجد احد عناصر الكتائب يقف بتوتر.. فسألني من انت.. وقبل ان اجيب قال احد السكان بلهجة لبنانية جبلية وكان واقفا على الشرفة في الطابق الثاني.. هيدا يا خي الاستاذ احمد.. تشجعت ودعوت العنصر الكتائبي الى الدخول لكنه اعتذر وطلب كوبا من الماء.. احضرته له.. وانصرف مرتبكا.. لكنه عاد بعد دقائق ليقول لي.. الافضل لك ان لا تفتح الباب مرة اخرى.. وان لا تعطي احدا طعاما او ماء.. كي لا يطمعوا فيك.. وسأعود ربما واشاركك هذا المنزل شكرت له نصيحته التي لا استطيع الالتزام بها.. ولكني منذ تلك اللحظة ادركت ان استمراري في المكان مجازفة لا لزوم لها.. وبينما كنت افكر في الخروج من المأزق وكان ذلك بعد الظهر.. سمعت طرقا قويا على الباب.. كان قد سبقه نداء بمكبر الصوت يدعو بشكل عام «المخربين» الى الاستسلام.. ولما كنت اعرف انه لم يكن في المنطقة اي فدائي.. حيث لم يكن فيها تواجد عسكري وكل تواجد هنا يقتصر على مدرسة اسعاد الطفولة.. كان انفعالي في تلك اللحظات.. اقل حدة من المرة السابقة.. وفتحت لاجد هذه المرة ضابطا اسرائيليا برتبة نقيب مدجج بالسلاح ويحمل في يده جهاز لاسلكي..
سألني النقيب.. من انت وماذا تفعل هنا.. تحدث بالانكليزية واجبته.. بأنني اعيش في هذا المنزل.. وانا اعمل استاذ للكاراتيه في احد نوادي بيروت..
هل لديك سلاح او هل عندك مسلحين..
اجبته بالنفي.. حيث انني رغبت في التصرف معه فاستدركت قائلا عندي سلاحي الشخصي..
استنفر الضابط.. وعاد خطوات قليلة الى الوراء.. وشهر مسدسه وتقدم من جديد صارخا.. اين السلاح..
ذهبت الى الغرفة الداخلية.. واحضرت قطعة من الخشب على هيئة عصاة قصيرة تستخدم في تمرينات الكاراتيه.. وقدمتها له.. هذا هو سلاحي الشخصي.. ضحك الضابط.. وبدا انه اطمئن للوضع.. جلس على احد المقاعد ووجدت الظرف ملائما لمحاورته.
سألته عن اسمه.. اجاب فلان.. المهندس فلان لكنه سألني هل انت لبناني.. وقلت انني يمني الاب.. وياباني الام دهش للاجابة وهز رأسه متفهما لدوافع اني استاذ كاراتيه وعلق قائلا.. كم احببت ان اتعلم هذه الرياضة العنيفة.. لاطفته اني على استعداد لمساعدتك.. فالكارتيه رياضة اخلاقية وانسانية قبل ان تكون عنيفة.
طلب مني ان اشرح له ما اقول.. فأوجزت له ان الكارتيه تختلف عن الرياضات الاخرى.. بأنها رياضة دفاعية فلا يجوز ان يقدم على عمل عدواني او هجومي ونظرا لتجاوبه معي اردفت قائلا على عكس العمل العسكري الذي تقومون به فعملكم هذا هجومي اعترض على كلمة هجومي.. فسألته اذن لماذا انت هنا.. الست مهندسا كما تقول..
نعم انا مهندس.. لكن ما نفعله هو دفاع وقائي ضد المخربين وعلى صعيد شخصي.. فأنا ضابط احتياط.. ولكني لم اشارك بشكل فعلي في القتال.
سألته اذن ماذا تفعل هنا.. اجاب.. حتى الذين يعملون تحت امرتي لم يشاركوا بشكل فعلي في القتال ابديت دهشة لما يقول.. وسألته تفسيرا لوجهة نظره.. فقال.. الذي يحارب عندنا هو سلاح الطيران.. فبعد ان يتم الطيران تنظيفه للمواقع المعادية تصدر الاوامر لنا بالتقدم.. وحين نواجه مقاومة جدية.. نتراجع الى خطوطنا ليقوم الطيران بالتنظيف من جديد.. ساعتئذ نتقدم للاحتلال والتفتيش.. سألته: هل تعتقد ان الحرب يمكن ان تقف عند الحدود الراهنة.. اجاب.. لا اعرف بالضبط ولكني آمل ذلك.. على كل يمكن ان تتوقف الحرب لو استسلم عرفات.. سألته.. وهل تعتقد ان عرفات على وشك الاستسلام.
اجاب: لا اعتقد
سألته: اذن ماذا ستفعلون
اجاب: .. سنقتحم بيروت.. سنخسر كثيرا.. ولكن ليس امامنا خيار آخر..
وددت لو انه كان باستطاعتي تسجيل هذا الحوار.. حتى انه خطر ببالي ان اجازف باقتراح اجراء تسجيل معه تحت عنوان ذكريات مع ضابط اسرائيلي غير انني اقلعت عن هذه الفكرة التي يمكن ان يكون اقل ثمن لها (الاسر).. عرضت على الضابط ان اقدم له بعض الشاي او القهوة.. لكنه اعتذر ووعد بالعودة ثانية.. سألت نفسي.. الى اي مدى يمكن ان اذهب في هذه اللعبة المجازفة فهم حتى الساعة مرتبكون جدا ولا اظن انهم سيستمرون هكذا خصوصا بعد ان يتدفق الكتائبيون على المنطقة.. وهم اكثر خبرة في معرفة الناس من الاسرائيليين.. حتى بطاقة التعريف بي لا تتجاوز بطاقة عضوية في النادي الذي انتسب اليه وهو واقع في المنطقة الغربية من بيروت.. وهذا وحده كاف لاثارة الشبهات.. وقررت على الفور مغادرة المكان: لاتهيأ بهدوء للاقدام على مجازفة العودة الى بيروت.. وها انذا قد عدت.. كيف تم ذلك؟
بشيء من المجازفة وشيء من الصدفة.. وشيء من حسن الحظ.. سأله بعضنا.. كيف حال مدرسة اسعاد الطفولة.. احتقن وجه احمد الطفولي واجاب بنبرة يشوبها الحزن والالم.. لقد شاهدتهم ينهبون الاثاث ويمزقون الصور واللوحات المثبتة على الجدران.. ليس هذا وحده ما احزنني.. ولكني علمت ان عملية اعدام نفذت بالقرب من المدرسة فلقد اعتقل الكتائبيون احد الرجال المسنين.. بتهمة انه ينتمي الى الحزب الشيوعي اللبناني.. واطلقوا النار عليه امام الناس..
المزيد على دنيا الوطن .. http://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2015/02/10/660356.html#ixzz3RXRtejAN
Follow us: @alwatanvoice on Twitter | alwatanvoice on Facebook
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق