رام الله - دنيا الوطن
خص وزير الإعلام الأسبق وعضو المجلس الإستشاري لحركة فتح د نبيل عمرو صحيفة "دنيا الوطن" بنشر كتابه الجديد الذي صدر مؤخرا في رام الله والتي حمل عنوان "صوت العاصفة"ليحكي تجربته النضالية في الاعلام الى جانب تجاربه النضالية الأخرى على كافة المحافل الثورية .وينقسم كتابه الى جزئين : يحمل كل جزء منهم حقبة تاريخية من زمن الثورة الفلسطينية ويتطرق الكاتب في الجزئين الى دور إذاعة الثورة الفلسطينية التي أصبحت الآن اذاعة صوت فلسطين في وتجربته الرائدة فيها على مدار سنين الثورة.دنيا الوطن بدورها قامت بتجزئة الكتاب لنشره عبر صفحاتها على حلقات ليتمكن القاريء من الإطلاع عليه كاملا ففي الحلقة العاشرة والأخيرة من الجزء الأول من الكتاب يتحدث عمرو عن الخميني والثورة الاسلامية بحلقة بعنوان "
حادي فلسطين والخميني وشريط الكاسيت التاريخي"
حادي فلسطين والخميني وشريط الكاسيت التاريخييوم الجمعة حيث الاسترخاء البدهي عند معظم العاملين في الاذاعة ولا اذكر التاريخ بالضبط، كنت جالسا في مكتبي اتابع التحضيرات لبرنامج الظهيرة ،ذلك بعد ان فرغنا من اذاعة الفترة الصباحية، منذ تلك الفترة وانا استيقظ الساعة السادسة صباحا حتى لو نمت بعد منتصف الليل، كان استيقاظا الزاميا تعودت عليه، اذ لابد من اجازة نشرة الاخبار بعد مراجعتها خبرا خبرا واحيانا سطرا سطرا، كانت النشرة الاولى تذاع على الهواء مباشرة الساعة السابعة اما الثانية فعلى التاسعة الا ربعا.
اقتحم مكتبي رجل قدرت انه في الاربعينيات، ينتشر على رأسه قليل من شعر رمادي داكن، ويحمل تحت ابطه الة موسيقية عرفت فيما بعد انها اصعب الالات واجملها وهي البزق، كانت الالة مغطاة بجراب جلدي اسود اما حاملها فكان مزهوا كما لو انه يضع عصا المارشالية تحت ابطه.
الاخ نبيل مسؤول الاذاعة، سأل.
نعم انا هو، واشرتُ عليه بالجلوس.
وبينما يتخذ لنفسه مقعدا قال معاتبا، يارجل يوجد لفلسطين اذاعة في بيروت، ولا تتصل بملك العتابا والميجانا والشروقي، ... ابو العلاء يوسف حسون.
كانت طريقته في الكلام توحي بفلسطيني شديد الاعتداد بنفسه وما ان استقامت جلسته على المقعد الجلدي الاسود حتى شرع في تخليص الته من جرابها، وبدا لي ان لا قوة على وجه الارض تستطيع منعه من العزف والغناء، ودون مقدمات راح يدوزن آلته العنيدة، ويسلك اوتاره وفي خلال دقائق صدح صوت الحسون بموال شروفي فاذا به يستولي علي دون مقاومة.
هذا كنز هبط من السماء، يوم جمعة صيفي شديد الحرارة والرطوبة، كان أداءً متكاملا للعزف والنص والغناء من الوهلة الاولى اسرني ببلاغة النص، وسلاسة العزف وعذوبة الاداء، حيث اعطاء معاني الكلمات بلغة الصوت الواعي والذكي والمتموج، حسب مقتضيات ايصال المعنى ...
الله يا ابو العلاء الله، كم نحن بحاجة الى هذا النوع من الفن الشعبي الاصيل، اعتذر لك عن المدة الطويلة التي انقضت دون ان نتصل بك ونعمل معك
ضحك ابو علاء من قلبه وقال الجايات اكثر من الرايحات، قلت:- انني ساعرض عليك مشروعا كبيرا ومهما وربما يكون تجديدا، نحن بحاجة اليه في مجال الغناء الوطني السياسي والتعبوي، وقبل ان اعرض عليك المشروع اود ان اعرف ماذا تعمل؟ هل هنالك وظيفة محددة غير الغناء؟
فاجأني بالجواب، كنت مهيئاً نفسي لسماع مهنة تتعلق بالاعراس والليالي.
انا مدير مدرسة في وكالة الغوث، ارفع الهاتف من فضلك واسأل عني اسماعيل شموط فهو ملك الرسم وانا ملك الغناء الشعبي.
وجدتها سانحة للاتصال بالرجل الذي احب واحترم واعجب به كرائد مميز للفن التشكيلي الفلسطيني
جاءني صوت اسماعيل الهادئ الذي يشبه في عذوبته وعمقه لوحاته المدهشة.
قلت :-عندي صديق لك طلب مني ان اسألك شهادتك فيه، ومع انني اصدق كل حرف قاله الا انني احب ان اسمع منك بعض الشيء عنه، انه ابو العلاء يوسف حسون.
ضحك اسماعيل واظهر ابتهاجا بالمفاجأة وقال هذا اهم شاعر شعبي في فلسطين وبلاد الشام وقد قمت بتسجيل اغنية مدهشة له بعنوان مرحب هلا. واضاف
احب ان تزورني في البيت وتستمع الى هذه الاغنية، هذا رجل عظيم والغريب انكم لم تتعرفوا عليه الى الان.
قلت :- نعم وهذا من نواقص الاذاعة الفلسطينية وابرز مجالات تخلفها وتقصيرها، لقد اعمى الاستغراق السياسي اذاعتنا عن اعطاء الاهتمام الضروري بالشأن الثقافي، كنا نقدم برنامجا واحدا لا يقترب من مستوى قوة الثقافة الفلسطينية وكنا نجري لقاءات مع فنانين ومثقفين الا ان الاستغراق السياسي المباشر والمبالغ فيه وضع الشأن الثقافي في المؤخرة.
اخي ابو العلاء ان كل ما يصدر عن هذه الاذاعة يتم في سياق الالتزام السياسي حتى اناشيد الثورة واخالك تعرفها وربما تحفظ بعضها كانت تصنع في مطبخ سياسي، لهذا نريد منك ان تتساوق مع هذا الوضع وان تؤلف وتغني في ذات السياق
ابدى يوسف حسون تفهما واعيا لما اقول، واحب اضافة امر لفت نظري للرجل وهو ثقته التي بدت زائدة بنفسه وقدراته، كان شيئا يشبه غرور المتنبي ينز من بين كلماته ولهجته الفلسطينية القحة انا الملك ومملكتي تبدأ من شعب في الجليل وحدودها افضل الشعر وافضل الالحان وافضل الغناء.
اذا دعنا نبدأ العمل من الان قلت.
قال وانا جاهز من امبارح واطلق ضحكة مجلجلة.
دعنا نبدأ باربع مقطوعات تتضمن الافكار التالية وسردت عليه اهم المواضيع السياسية التي نعالجها في التعليقات والبرامج، وسألت متى تكون جاهزا
قال الجمعة التالية
شككت في قدرته على تأليف اربع قصائد في ستة ايام، وهو مدير المدرسة المستغرق في عمله،
يوم الجمعة التالية وعلى العاشرة صباحا وصل يوسف حسون متأبطا البزق ومعه احد مساعديه وهو عازف عود كان المهندسان عبد الله ابو الجبين وهشام السعدي يتناوبان على التسجيل والبث، استدعيت عبد الله وطلبت منه تجهيز الاستوديو للتسجيل ورحت اتفحص النصوص
بهرتني القصائد الاربع لا تصنّع فيها ولا تعقيد، كانت بسيطة سلسة عميقة المعنى رصينة المبنى، سألت نفسي كيف سيكون الامر داخل الاستوديو فيوسف حسون ملك الشعر الشعبي والعتابا والميجانا عمل في كل مجال الا الاذاعة.
تم تسجيل الحلقات الاربع مدة كل واحدة منها عشر دقائق، كان صوت حسون يصلني من الباب المفتوح الذي يفصل الاستوديو عن غرفتي، كنت مع كل دقيقة ازداد اعجابا بعبقرية المغني الشعبي، لم اجد نفسي مضطرا لتعديل ولو حرف واحد، مع اننا وبعد سنوات طويلة من العمل الاذاعي كنا بحاجة الى من يعدل كتاباتنا وقراءتنا كل مرة .، كنت اقول في داخلي ماهذا الكنز الذي هبط علينا من السماء.
ابديت اعجابي الشديد بانجازه الفني المتميز وطلبت منه اعداد مقدمة وختام لبرنامجه الغنائي، لم يستغرق الامر اسبوعا، في اليوم التالي حضر الحسون ومعه المقدمة والنهاية.
برنامج كهذا ليس له مذيع لتقديمه، الا ذلك الفنان المدهش والمميز الذي يغني نشرة الاخبار ويشدو بالتعليق السياسي ويذوب ويذيبك معه رقة وعذوبة وهو يقرأ اي شيء من صباح الكلاشينكوف في عمان الى نداء الارض المحتلة من القاهرة، الى مقدمة اناشيد الثورة والوطن من غيره خالد مسمار الحاج خالد الصوت الذي يفيض شبابا وحبا وصدقا .
لم يكن صعبا عليّ اختيار من يقدم بوجود خالد مسمار الا ان الصعب دائما وابدا هو اختيار اسم البرنامج.
كنت قد تداولت والحاج خالد في عناوين جديدة ولم يستقر رأينا على عنوان بذاته الا ان الحسون ساعدنا في حسم الامر، حين عرض علينا المقدمة التي تبدأ بجملة .. غنى الحادي، وقبل ان يكمل قلت للحاج خالد هذا هو عنوان البرنامج بارك الله فيك يا يوسف حسون فلقد حسمت جدلا استغرقني وزميلي وصديق عمري ساعات طويلة من الزمن اذا فان اسم البرنامج "غنى الحادي".
صوت فلسطين ... صوت الثورة الفلسطينية
غنى الحادي وقال بيوت، بيوت غناها الحادي سدّو الدرب منين افوت، افوت واقدر بعنادي، يا هلا بك يا هلا
فوق التل تحت التل وبين الوادي والوادي
ان تسأل عنا تندل وتلقاني وتلقى ولادي
لحظت ان المقدمة بحاجة الى تعديل ان جملة غنى الحادي حين تتكرر بصوت المذيع قد تضعف الايقاع الا ان حسون وفر لنا مخرجا للمرة الثانية من خلال الختام الذي يقول فيه.
حياكم الله ومرحبا حي الرجال الغانمين يا حلالي يا مالي
يللي سمعتو للندا من صوتنا الحر الامين يا حلالي يا مالي.
وضعنا الختام في المقدمة ووضعنا المقدمة في الختام، وبصوت خالد مسمار والحسون وبالكلمات الرقيقة صار لدينا اجمل مقدمة لاجمل برنامج وكذلك اجمل ختام.
ظل الحسون يعمل دون توجيهات، كان يلتقط بحسه السياسي والفني وموهبته الغزيرة ما يستحق ان يؤلف من اجله قصيدة، كل ما كتب وغنى كان مثالا للالتزام السياسي وعبر قالب فني راق ومتقن الى ان وصل الذروة، برائعته التاريخية التي اذيعت عشية عودة الخميني الى طهران، تلك القصيدة التي حكا فيها بكل البلاغة الممكنة قصة الثورة الايرانية والامال المعلقة عليها وقصة التحالف بين ثورة الخميني وثورة فلسطين عنوانها "لله در الخميني"
بعد تسجيلها وكانت مشتقة من حوار جرى بين يوسف حسون ويوسف القزاز حتى انني لم اكن اعرف شيئا عن هذه القصيدة الا بعد ان استمعت اليها بناء على الحاح القزاز طلبت نسخ القصيدة المؤداة باتقان على شريط كاسيت وتوجهت بها الى مقر القائد العام احضرت السيدة ام ناصر مديرة مكتب الرئيس جهاز تسجيل وادرنا الشريط، اعجب عرفات بالقصيدة حتى انه طلب ابقاء جهاز التسجيل على طاولة مكتبه ليسمعها كل زواره وطلب الي استنساخ عشرات الاشرطة الا ان الشريط الاهم هو ذلك الذي اهداه الى الامام الخميني حين التقاه في قم، حيث كان قائد الثورة الفلسطينية هو الزائر الاول لقائد الثورة الايرانية
يوم حزين
انا علاء ابن يوسف حسون
نعم انا نبيل
البقية في حياتك عمي لقد توفي والدي
لم نكن قد سمعنا بمرض اصاب فناننا الكبير، حتى نهيء أنفسنا لاحتمال كهذا، ومع ايماني بقضاء الله وقدره الا انني سألت كيف حدث هذا؟
توفي على مكتبه في المدرسة كان يكتب وهوى رأسه على الطاولة واكتشف الامر زملاؤه من المدرسين.
صعقني النبأ لقد مات يوسف حسون ابن شعب هوى وذوى على نحو مفاجئ، سقطت واحدة من سنديانات فلسطين عميقة الجذور بالغة الخضرة صلبة السيقان والاغصان وارفة الظلال، مات الملك الذي كان شديد الاعتزاز بموهبته وبانتمائه وشخصه، سيفتقد الاثير جديدا يؤديه يوسف حسون بالغناء الجميل وببلاغة النص العبقري البسيط، بوسع الات التسجيل ان تديم الاغنية على موجات الاثير الى الابد الا ان الذي انقطع هو التجدد. وابداع المغني الذي مات
كان الحسون مؤرخا جميلا لاحداث الثورة في اهم المفاصل، وكان احد من ضبطوا ايقاع الرأي العام بالموسيقى والغناء.
ابلغت الرئيس عرفات بوفاة الحسون كان عرفات يستقبل كل يوم نبأ فقد عزيز عليه وعلينا، الا انه صدم بالنبأ وطلب مني القيام بكل ما يلزم لوداعه وداع مبدع ورائد كبير.
في ذكرى الاربعين اقمنا للحسون مهرجانا تأبينيا مميزا كان الجمهور من عشاقه الفلسطينيين والعرب ممن يرتدون الحطات والعقل ويلبسون القنابيز والاحزمة العريضة ويلتفون بالعباءات السوداء المطعمة ياقاتها بخيوط الذهب
كانت القيادة الفلسطينية وحليفتها اللبنانية تجلس في القاعة وكان تأبين ابو العلاء مختلفا فلا خطب ولا شعارات ولا حديث في السياسية بل قصائد شعبية اداها تلاميذه ومريدوه وزملاؤه من سادة الشعر الشعبي، من سوريا ولبنان وفلسطين ومصر، كان مهرجانا يليق بالملك وكان غيابه ايذانا بغياب شمس الثورة عن ربوع لبنان.