الكومبس - مقالات الرأي : قرأت مئات الكتب السويدية، من سير ذاتية وتاريخية وجغرافية وأدبية، التي صدرت منذ حوالي قرنين من الزمن وحتى اليوم كان أولها كتاب ‘فلسطين ـ وصف جغرافي وأركولوجي وتاريخي’ للمؤلف ألمبلاد الصادر بتاريخ 1823، مع خرائط ومخططات لمدينة القدس، وكان آخرها كتاب ‘العروسة جميلة لكنها متزوجة ـ هل الصهيونية في نهاية الطريق؟’ للكاتب إنجمار كارلسون الصادر في بداية عام 2013، يستثنى الكتب المدرسية ـ واستنتجت أن هذه الكتب تناولت فلسطين بالوصف كبلد يمتاز عن البلدان الأخرى، كونه مهدا للديانات السماوية الثلاثة. وكان التركيز الأساسي على الديانة المسيحية، لأن الشعب السويدي بأغلبيته يدين بها. أما بعد ظهور الحركة الصهيونية وافتضاح خططها في استعمار فلسطين تبدل الحال في مضمون معظم الكتب، لتصبح كتبا سياسية بشكل واضح، وقد مر هذا التبدل بمراحل خمسة:
الأولى: وتمتد إلى حوالي ألف سنة، أي منذ أن اعتنق الشعب السويدي الديانة المسيحية، وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، أي عند انتقال السلطة الإدارية الاستعمارية من يد الإمبراطورية العثمانية إلى يد بريطانيا العظمى.
وقد تميزت تلك المرحلة في الكتب بالوصف الجغرافي، الطبيعي والبشري، إضافة إلى وصف الأماكن الدينية ودورها الذي لعبته في أيام السيد المسيح، كبيت لحم والناصرة والقدس ونهر الأردن، وغيرها من المواقع الكثيرة في فلسطين. وكانت تسميات الكتب لفلسطين أيضا ذات مسحة دينية، كالبلد المقدس، وإلى القدس، وبلد السلام وغيرها.
الثانية: وتبدأ مع بداية الانتداب البريطاني، الذي قام بتحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود، تطبيقاً لوعد بلفور الذي أقرته عصبة الأمم أيضاً، وحتى إعلان دولة، إسرائيل عام 1948. المرحلة التي استقبلت فيها سلطة الانتداب مئات الآلاف من المهاجرين اليهود للوصول إلى تغيير ديمغرافي لفلسطين.
بدأت الكتب السويدية في تلك المرحلة بالانتقال من الوصف الموضوعي للدخول في السياسة المنحازة، بعد أن قامت سلطة الاحتلال البريطاني بتوجيه المجموعات السياحية والدينية الأوروبية لزيارة المزارع الجماعية اليهودية، الكيبوتزات والوشافات، للاطلاع على ما يفعله المهاجرون الجدد في ما قيل عنه ‘بتحويل الصحراء إلى جنة’.
امتدت يد التشويه أيضا لتطال المجتمع الفلسطيني نفسه، فبدأت الكتب في تلك الفترة بوصف الإنسان العربي الفلسطيني بالمتخلف والبدائي وغير ذلك.
يمكن القول بأن المرحلة الثانية كانت انتقالية ما بين مرحلة الوصف الديني والجغرافي الموضوعي، وبين مرحلة الوصف والتحليل السياسي المنحاز بشكل مدروس وموجّه، بقصد تشكيل رأي عام سويدي لتقبل فكرة تحويل فلسطين إلى وطن قومي ليهود العالم.
وكان يتعرض الكاتب الذي تسول له نفسه تناول الأمــــور بموضوعية، للاتهامات باللاسامية ومحاربة كتبه، كما حصل مع كتاب ‘إنكلترا وفلسطين’، الذي صدر في عام 1940 متحدثا عن أفعال الإنكليز ضد الشعب الفلسطيني وضد ثورته التي اشتعلت منذ عام 1936. الكتاب الذي تم منعه وسحب نسخه من السوق بناء على قرار من البرلمان السويدي، وقد شكل ذلك سابقة فريدة في المجتمع السويدي، الذي ينادي بحرية التعبير.
الثالثة: وتمتد من يوم النكبة لتنتهي بعد حرب حزيران/يونيو من عام 1967 بقليل. الحرب التي أطلق عليها العرب حرب النكسة، وأطلق عليها الغرب حرب الأيام الستة، الوصف الذي تلقفته الأقلام الغربية ليدلل على أن إسرائيل الصغيرة، قد تغلبت على العرب، بستة أيام فقط واحتلت مساحة تعادل أضعاف ما احتله اليهود عام 1948. تميزت المرحلة هذه بالطابع السياسي، حيث تناولت القضية الفلسطينية تحت عنوان ‘الصراع العربي – الإسرائيلي’. وكان المقصود بذلك رفع شأن إسرائيل الصغيرة، المسكينة والديمقراطية الوحيدة والمهددة من قبل 21 دولة عربية. وقد تم وصف الفلسطينيين باللاجئين العرب، لإفهام القارئ السويدي بأن العرب بعالمهم الواسع لم يستطعوا استيعاب لاجئيهم كما فعلت دولة ‘إسرائيل’ في استيعاب ‘اللاجئين اليهود العرب’ في أراضيها.
لقد كان أصحاب القلم في السويد متأثرين أيضا بعقدة الذنب تجاه ما حصل ضد اليهود وغيرهم من قبل النازية الألمانية، لذا فقد هللوا وكبروا لقيام الدولة اليهودية. ولم يكن يدري الكاتب منهم بأن مشكلة اليهود تلك يصار إلى حلها على حساب الشعب الفلسطيني، الذي لا ذنب له بكل ما حصل على الأرض الأوروبية. كما لم تكن الكتب السويدية تميز ما بين اليهودية كدين والصهيونية كفكر سياسي استعماري وعنصري. وهذا بمجمله أثر في تشكيل الرأي العام على المستويين الشعبي والرسمي في السويد.
الرابعة: وتبدأ بعد حرب النكسة لتمتد حتى غزو إسرائيل للبنان في العام 1982. وهي مرحلة تحول مهمة في الرأي العام السويدي على كل المستويات. لقد بدأ في هذه الفترة ظهور تيار جديد من الأقلام السويدية الجريئة، منها السياسية اليسارية ومنها الحيادية ومنها الدينية، التي رأت في إسرائيل دولة عدوانية وتوسعية وعنصرية. واللافت في هذه المرحلة أن كتّاب التيارين، القديم المؤيد لما يفعله اليهود في فلسطين، والمعارض لأفعال إسرائيل والمتفهم للحق الفلسطيني، طالبوا إسرائيل بالتخلي عن الأراضي التي احتلتها في عام 1967. لم يستطع تيار مؤيدي إسرائيل الدفاع عن الاحتلال، الأمر الذي يخالف المبادئ التي تسير عليها العقلية السويدية. هذا وقد تزايد تدريجيا عدد الكتب المؤيدة للحق الفلسطيني والناقدة لسياسات إسرائيل وسلوكها العدواني. وقد تعرض مؤلفو تلك الكتب لحملات تشويه واتهامهم بمعاداة اليهود. وكان من بين العوامل المحرضة لتزايد تلك الكتب:
أولا صعود منظمة التحرير الفلسطينية على المستوى الدولي، في الأمم المتحدة عام 1974، على أنها الممثل الشرعي والوحيد، وافتتحت السويد على إثرها مكتبا إعلاميا لها في العاصمة ستوكهولم في العام 1975.
وثانيا قدوم العائلات الفلسطينية إلى السويد، مما فتح المجال للسويدي برؤية الفلسطيني على أنه إنسان فقد حقوقه ويجب أن يسترجعها ولو بالقوة.
وثالثا ظهور حركات التضامن السويدية مع الشعب الفلسطيني، الحركات التي ضمت الكثير من الصحافيين والمؤلفين وأساتذة الجامعات والسياسيين.
الخامسة: التي امتدت منذ عام 1982 وحتى اليوم مروراً بعام الانتفاضة الأولى.
وقفت الدول العربية متفرجة، ما عدا سورية، حين غزت إسرائيل واحتلت نصف لبنان، وأصبح مفهوم الصراع على أنه فلسطيني إسرائيلي، ثم جاءت الانتفاضة الفلسطينية الأولى لتبين للعالم أن إسرائيل وجيشها هم ضد الشعب الفلسطيني وليس فقط ضد منظمة التحرير الفلسطينية، ثم جاءت الانتفاضة الثانية ولم يتحرك العرب ضد إسرائيل. دفعت هذه الأحداث المتلاحقة وبزخم قوي الأقــــلام السويدية لرؤيــة إسرائيل وهي تكسر عظام الأطفال والشباب الفلسطينيين العزل، للكتابة بحرية كاملة ضدها على ممارساتها الوحشية والعنصرية. كما بدأت الأقلام تتناول جزءاً متخصصا من القضية الفلسطينية، مثل الحركة النسائية والحركة العمالية الفلسطينية وغــير ذلك. كما كثرت الكتب المترجمة خاصة منها المؤلفة من قبل كتاب إسرائيليين ناقدين لسلوكيات إسرائيل المخزية.
وبعد السلام الفلسطيني، الذي حصل بعد توقيع وثيقة ستوكهولم الشهيرة، التي اعترف من خلالها الفلسطينيون وللمرة الأولى بدولة إسرائيل وبنبذ كافة أشكال العنف، رجحت كفة أعداد الكتب السويدية، من مؤلفات شعرية وروائية وعلمية ومسرحية وصور، المؤيدة للحق الفلسطيني. وكادت الكتب الجديدة المؤيدة لإسرائيل أن تختفي من السوق في السنوات العشر الأخيرة. وزادت إسرائيل الطين بلة عندما استمرت في بناء المستعمرات وبناء الجدار وإقامة الحواجز.
رشيد الحجة
باحث وكاتب فلسطيني
” ملاحظة من الكاتب: كان يمكن الاستشهاد بالكتب، لكنها وفيرة العدد مما يضطر البحث ليحتوي على عشرات الصفحات، ولن يعود يصلح لأن يكون مقالا صحافيا".