حماس حاولت إحراج مصر في حرب غزة لكن الأخيرة تجاوزت ذلك
الطريقة التي تتعامل بها حماس مع العدوان الاسرائيلي على غزة، بدت منذ الساعات الأولى ترمي لتحقيق أهداف سياسية متعددة، تمكنها من تجاوز المأزق المعقد الذي دخلته. وكان احراج مصر ضمن الحسابات الرئيسية لها، حيث وضعتها في موقف لا تستطيع فيه إدانة تصرفات الحركة مباشرة، وبالطبع من المستحيل أن تؤيد فيه العدوان، على أمل أن تتدحرج الأمور بصورة سريعة، فتضطر للانخراط في الصراع، بما يغير من معادلة التوازنات الراهنة التي جعلت حماس في موقف ضعيف تحاول بشتى الطرق الفرار منه.
وحسب ما جاء في مقال الكاتب محمد أبو الفضل المعنون بــ ((مصر تتجاوز اختبار غزة ,'جرجرة' مصر لبحر غزة لم تجد نفعا)) أن هذه الطريقة في التفكير تبين الفرق بين منطق الحركة إلى ما هو تكتيكي على أنه استراتيجي، وتغلب المصالح الحركية على الوطنية، ولا تهتم بحجم الخسائر البشرية بقدر اهتمامها بالمكاسب السياسية الآنية، في حين الثانية (الدولة) تملك رؤية كلية، وتحاول تقليل الخسائر الباهظة ولا تبحث عن أهداف وقتية، المهم نزع فتيل الأزمة قبل أن تترتب عليها تداعيات مستقبلية خطيرة.
إذا طبقنا هذه المعادلة على الطريقة التي تعاملت بها حماس مع العدوان الاسرائيلي على غزة وأسلوب ادارته مصريا، سيتبين الفرق بينهما، من خلال النتيجة التي جرى الوصول إليها حتى الآن، والتي تؤكد قدرة مصر على ضبط سلوكها وكبح غضبها وعدم الانجرار وراء الاستفزازات التي حاولت جهات مختلفة توريطها في أزمة مفتوحة، لمجرد أن حماس لديها حزمة أهداف موجهة تجاه النظام المصري الحالي، واسرائيل تملك رؤية قلقة من تعافيه، أو الاتجاه نحو ممارسة دوره الطبيعي في الدائرة الاقليمية القريبة.
دبلوماسية النفس الطويل التي تميزت بها القاهرة منذ فترة طويلة، تصور البعض أنها تلاشت من القاموس الجديد، لكن الآداء الرصين أثبت استمرارها، بل زيادة صلابتها، لأن امتحان غزة الأخير كان متعدد الطبقات، وتقف خلفه دوائر متباينة، على استعداد لاطالة أمد الحرب لفترة طويلة. المهم أن تؤثر النتيجة بصورة سلبية على مصر، وتجعلها تضطر للاقدام على سياسات تفضي بها إلى دخول مستنقع قطاع غزة، الذي سيكون من الصعوبة الخروج منه بسلام، بالتالي تتمكن بعض الجهات المتربصة من توريطها في جملة كبيرة من التضحيات المادية والمعنوية، تشغلها عن نهضتها الداخلية، وتبعدها عن عدد من الملفات الاقليمية ذات الأهمية الحيوية.
الطريقة الهادئة التي تصرفت بها مصر مع غزة، أكدت أن النظام الحالي يدرك حقيقة المتربصين، ويعي جيدا مخططاتهم، لذلك طرحت القاهرة مبادرة أمنية وسياسية محكمة للخروج من المأزق، لقيت دعما اقليميا ودوليا، وتوافرت لها قوة زخم ساعدتها على أن تكون نواة للتهدئة المنتظرة. كما أن وصول وزير الخارجية الأميركي جون كيري للقاهرة عزز هذه المبادرة، وأكد مركزية دورها في أزمات الشرق الأوسط. أضف إلى ذلك أن اسرائيل التي شنت عدوانها دون تحديد هدف استراتيجي واضح، تيقنت من حساسية الموقف، وأنها قد تتكبد مجموعة كبيرة من الخسائر، إذا ضاعفت من تدخلها عسكريا، كما أن وصول صواريخ المقاومة إلى عمق اسرائيل، كاد يهز صورتها معنويا.
قد تكون أهداف كل من اسرائيل وحماس، وخلفهما إيران، تلاقت عند نقطة معينة، لكن الحصيلة التي وصلت إليها هذه الأطراف بعد فترة من الاعتداءات، لم تكن مرضية للجميع، فاسرائيل أخفقت في تحقيق الأهداف القريبة الخاصة بالانتقام من حماس بالطريقة التي ترضيها، بل وجدت نفسها تتورط في حرب لم تخطط لها جيدا، ويمكن أن تنقلب تداعياتها السياسية عليها. وحماس لم تحقق كل ما تمنته منها، وربما تكون كشفت عن قوتها التسليحية، وهو ما يجعل اسرائيل تفكر في آليات ردع مبتكرة، تتناسب مع تنامي قدرة المقاومة على رد الفعل. ويبدو أن تل أبيب تخوض حربا على فترات زمنية متقاربة لقياس هذه المسألة، ومعرفة المدى العسكري الذي وصل إليه خصومها المباشرين، مثل حزب الله وحركة حماس.
الحذر الذي أصبحت عليه أطراف كثيرة لها علاقة، عسكرية أو سياسية، بالعدوان على غزة كشف عن ثلاثة نتائج أساسية، يمكن أن ترخي بظلالها على التوازنات الاقليمية خلال الفترة المقبلة.
الأولى، عدم استعداد الولايات المتحدة القبول باندلاع حرب طويلة الآن بين اسرائيل وأي جهة عربية، خشية أن تؤدي إلى تلاحم وتكاتف الدول العربية حول القضية الفلسطينية، التي بدأ الحديث عنها يتصدر الواجهة الاقليمية، وتتراجع قضايا قد تمثل أهمية أشد بالنسبة لتقديرات الادارة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، مثل سوريا والعراق وايران. كما أن تسخين الجبهة الفلسطينية من قطاع غزة، سوف يفرض على واشنطن تصرفات والتزامات ربما لا تريدها حاليا.
الثانية، ثبت أن مصر أحد عناصر التوازن في المنطقة ودورها مركزيا، بدليل الجهود التي بذلتها في التعامل مع طرفي الأزمة الرئيسيين، اسرائيل وحماس، وعدم اندفاعها للانتقام أو تصفية الحسابات مع الثانية، أو حتى نفاق الأولى، فالتصورات والممارسات التي قامت بها الدبلوماسية المصرية زادت قناعات البعض بأهمية تفاعلها اقليميا، وقد ردد أمامي سياسيون، مصريون وأجانب، أن تعافي القاهرة كفيل بضبط موازين كثيرة اختلت خلال الفترة الماضية.
الثالثة، فشل التوجهات التي تتبناها اسرائيل وحماس، التي تقوم على محاولة خلط الأوراق لأجل تحقيق أغراض سياسية عاجلة، بمعني أن 'جرجرة' مصر لبحر غزة لم تجد نفعا، لأن القاهرة تملك ترمومتر يقيس بدقة المدى الذي يتجه إليه تحركها وبأي طريقة، فهي تدرك أنها مستهدفة، ومن ثم فالحذر سيظل مخيما على كثير من التصرفات خلال الفترة المقبلة.
_
ج ع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق