رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..
الفصل الثاني:
العمل في الدائرة الخارجية وصلت القاهرة يوم (11) آذار 1969 في يوم استشهاد الفريق عبد المنعم رياض بقذيفة مدفعية على قناة السويس، ورأيت في الشوارع غضب الشعب المصري وقابلت أبو رؤوف الشقيق الأكبر لأبو عمار ورحب بي وحدثني عن دوره القديم في نصرة الثورة الجزائرية التي أهدت هذا المكتب لفتح بعد انتصار الجزائر.
وحضر لقاءنا مصطفى عرفات وينادونه أبو درش وهو الشقيق الثاني لأبو عمار، وتقرر أن يرافقني إلى السودان حيث لديه معارف كثيرون هناك، وكان رجلا مرحا وخفيف الظل وصاحب نكتة، وجعل رحلتي إلى السودان رحلة ممتعة حقا، وتبين لنا بعد وصولنا إلى الخرطوم أننا لسنا أول من يصل السودان من فتح فهناك ممثل لفتح اسمه علي الزميلي ويسكن في فيلا واسعة محاطة بحديقة كبيرة أهداها لفتح وزير الإعلام السوداني "عبد الماجد أبو حسبو"، وحين عرف مصطفى عرفات بوجود ممثل لفتح في السودان ومكتب يداوم فيه شاب فلسطيني مقيم مع عائلته في السودان، قام بترتيب لقاء مع الزميلي وتقرر أن أنتقل من الفندق إلى الفيلا، وعرف الزميلي بطبيعة مهمتي ولم يرفض ولم يرحب وبدا كأنه قبل بقرار إرسالي إلى السودان على مضض، وقد تعرفت في السودان على مدير مكتب المنظمة هناك وهو الأخ عبد اللطيف أبو حجلة / أبو جعفر، وأجريت اتصالات محدودة مع اتحاد طلبة جامعة الخرطوم مع عناصر من الحزب وشرحت لهم مهمتي للاتصال بالحزب، إلا أن مهمتي في السودان انتهت بأسرع مما أتوقع، فالأخ الزميلي لا يرى ضرورة لمهمتي هناك فهو يتصل بالجميع وقد لقي قراره ترحيبا لدي، حيث كان همي الوحيد أن أكون داخل فتح ومؤسساتها وفي أرض المعركة بالذات وليس بعيدا آلاف الأميال عن كل الشرق الأوسط وأكتفي بما أسمعه عن فتح والثورة في الإذاعات التي من الصعب التقاطها في الخرطوم، وخلاصة القول أنني لم أمكث في الخرطوم سوى شهرا واحدا تقريبا، غادرت بعدها إلى القاهرة دون هدف محدد هذه المرة، ولكن بذريعة شكلية وهي أن السودان لا تحتاج لأكثر من ممثل واحد يتولى إجراء الاتصالات بكل الأحزاب السودانية ولا حاجة ليكون هناك ممثل خاص للاتصال مع الحزب الشيوعي السوداني. وقد غادرت السودان قبل أيام معدودة من الانقلاب العسكري الذي قاده جعفر النميري، حيث ألغى الأحزاب كلها، وفي القاهرة التقيت مع أبو جهاد أولا ومع أبو إياد وأبو عمار، ويبدو أنهم كانوا في لقاءات مع المسئولين المصريين، وعلمت فيما بعد أن محمد حسنين هيكل قد نقل لأعضاء القيادة عدم ارتياح جمال عبد الناصر لبرنامج صوت العاصفة وكيف يقدم المواد التي يجرى بثها، ومن غرائب الصدف أن الموجه للبرنامج كان سعيد المزين ( أبو هشام) الذي التقيته قبل سنتين في مكتب الإعلام في دمشق واختلفنا حول الموقف من عبد الناصر فقد كان أبو هشام يحمله مسؤولية هزيمة حزيران.
وفي اليوم الذي دخلت فيه مبنى الإذاعة في مقرها ( 4 شارع الشريفين) لم يكن أبو هشام موجودا وعين الأخ فؤاد ياسين مسئولا عن البرنامج وهو من الذين تركوا الإذاعة السورية بعد الانفصال، وقد علمت أن سبب غضب عبد الناصر كان تعليقا من صوت العاصفة وبعنوان "ماذا يفعل الأسطول السوفييتي في البحر الأبيض المتوسط " واستدعى الرئيس عبد الناصر هيكل وطلب منه نقل عدم رضاه لقيادة فتح، وتردد أن عبد الناصر قال بعد أن قرأ التعليق: "مين دول، هم مش فاهمين إنو الأسطول السوفييتي لمساعدتنا، إيه الحكاية؟ فهمهم إنو الأسطول السادس الأمريكاني هو اللي مع إسرائيل وضدنا مش السوفيتي ".
يبدو أنني وصلت في اللحظة المناسبة، وبالفعل أخذني أبو جهاد معه إلى مبنى الإذاعة ولم أكن قد قابلته من قبل أبدا وقال لفؤاد ياسين أنه قد تم تعييني في الإذاعة، وبالطبع لم يشرح لي أبو جهاد أسباب هذا التعيين ولا المطلوب مني، فالمسؤول الأول في الإذاعة هو الذي يتولى رسم السياسة وتقرير الموضوعات أو رفضها، ولكنه حين قدمني لفؤاد ياسين قال له: "أنني كنت أكتب مقالات وتحليلات سياسية في مجلة الاشتراكي التي يصدرها اتحاد العمال في سوريا، والإشارة هنا واضحة فمجلة الاشتراكي كانت عمالية ويسارية واشتراكية زمن صدورها حين كان خالد الجندي رئيسا لاتحاد العمال ولم يتغير الكثير في سياستها حين تسلم عبد الله الأحمد رئاسة الاتحاد بعد الجندي. وهنا لا بد أن أسجل أن أبو جهاد وكان دينامو فتح الذي يحرك كل شيء وبصمت مذهل، تراه ولا تراه الحاضر في كل صغيرة وكبيرة في كل مجال، ويبحث في كل أركان الأرض من أجل فلسطين.
وصحيح أن الأصول السياسية لأبو جهاد تعود إلى الإخوان المسلمين، ولكنه لم يقترب يوما من موضوعات الخلاف حول اليسار واليمين أو الرجعية والتقدمية الرائجة في الساحة الفلسطينية، كان يرفض المغالاة وجر قضية فلسطين إلى هذا المعسكر أو ذاك، كان يجر المعسكرات وأنصارها لخدمة فلسطين، كان وطنيا واستقلاليا قل نظيره.
في الواقع جاء تعييني محررا في صوت العاصفة في القاهرة من قبل أبو جهاد لتكريس الخط الوطني والاستقلالي بعيدا عن المغالاة الإيديولوجية التي عكست انحيازا لصالح الإخوان المسلمين، وبالطبع بهدف التأكيد على الإنسجام بين فتح والناصرية، فعبد الناصر كان قد بدأ حرب الاستنزاف على قناة السويس، وقدم لفتح الأسلحة في شحنات متلاحقة إلى دمشق وعمان، وتدخل مباشرة وبشكل قوي لمنع المساس بالمقاومة في الأردن ولبنان وأرسل ضباطا من المخابرات إلى الأردن وسوريا ولبنان لتنسيق العلاقة مع فتح في مجال المقاومة، وأصبح معروفا في وقت لاحق أن قصف إيلات بالصواريخ كان عملا مشتركا بين فتح والضباط المصريين، وقد شارك في هذه العملية سعيد حمامي وتم ضرب مصنع البوتاس على البحر الميت بشكل مشترك بين فتح والضباط المصريين. ولهذا لا يمكن لقيادة فتح أن تقبل أن يكون برنامج صوت العاصفة وهو لمدة نصف ساعة فقط، بالسماح أن يحمل البرنامج في مواده المذاعة ما يؤثر على هذه العلاقة مع مصر عبد الناصر، فجرى سحب أبو هشام وتكليف فؤاد ياسين بالمسؤولية .
دخلت مبنى الإذاعة (4 شارع الشريفين)، برفقة أبو جهاد وهذا جعلني موضع رعاية واهتمام من فؤاد ياسين وبقية العاملين وتعرفت على الطيب عبد الرحيم وعبد الله حجازي، خالد مسمار، عبد الشكور، يحيى رباح، زياد عبد الفتاح، يحيى العمري، فؤاد عباس، محمد الدرهلي، وحيد بدرخان، وشباب مصريين منهم حسن أبو علي الذي لم يتركنا أبدا وظل عاملا في فتح.
يتولى المسؤولية الكاملة عن البرنامج فؤاد ياسين والطيب عبد الرحيم يقدم "نداء المقاتلين" وعبد الله حجازي "صوت من قواعد الثورة " وفي فترة لاحقة التحق حمدان بدر ورسمي أبو علي وعزمي خميس، وقدم حمدان فقرة باللغة العبرية ومعه مكرم يونس.
ولمدة شهرين من أواسط نيسان 1969 وحتى أواسط حزيران 1969 بقيت في الإذاعة أكتب تعليقا حول قضية معينة أو أحرر الأخبار عن العمليات الفدائية والبلاغات العسكرية دون أن يكون لي دور تقريري لتوجيه البرنامج العام وفي هذه المدة القصيرة التقيت مع الشاعر والثائر معين بسيسو وكان يعمل في الأهرام واصطحبني معه وعرفني على لطفي الخولي وطاهر عبد الحكيم وعبد المنعم القصاص وآخرين كثيرين ولا أنسى أبدا الدفء المصري تجاه المقاومة الفلسطينية لدى هؤلاء جميعا.
في تلك الأثناء كان الأخ صلاح خلف / أبو إياد يتردد على الإذاعة وكنت قد لمحته في الكرامة قبل المعركة بشهرين تقريبا، ولا أزعم الآن أنه تذكر لقاءنا العابر في الكرامة، إلا أنه استدعاني في أوائل حزيران 1969 وسألني إن كنت مستعدا للقيام بمهمة خاصة لصالح الثورة وفتح في أوروبا، وأضاف بما أنني حتى الآن لم أتسلم مسؤولية دائمة في الإذاعة فيمكن الاستغناء عني ولن يتأثر العمل في غيابي وبالفعل كان محقا فيما قاله ولهذا قلت له: أنا مستعد لأي عمل تكلفني به سواء هنا أو في أي مكان، وكان أبو إياد هو المسئول الأمني الأول في فتح. وقلت لأبو إياد: ولكن جواز سفري تنتهي صلاحيته خلال أيام، فقال هذه مشكلة بسيطة، بالفعل رافقته في اليوم التالي لزيارة السفير الأردني في القاهرة، طيب الذكر والرجل الفاضل حازم نسيبة الذي أمر فورا بتجديد جواز سفري، ولم نغادر مقر السفارة الأردنية إلا والجواز الجديد في جيبي، وقال لي أبو إياد: جهز نفسك للسفر خلال يومين.
ودون أن أعرف الجهة التي سأسافر إليها، وفي اليوم الثالث سلمني أبو إياد التذاكر المطلوبة وأبلغني أن وجهتي جنيف وأن شخصا ينتظرني في المطار وهو سيتعرف عليك ويتولى ترتيب الأمور كلها حول مهمتك هناك. غادرت القاهرة يوم الحادي عشر من حزيران 1969، وبالفعل استقبلني شخص في المطار وقال إن اسمه إبراهيم وهو يعمل في مكتب المقاطعة العربية في جنيف، وعلمت منه أنه يعمل الآن للحصول على الأوراق الخاصة بالفدائية أمينة دحبور والمسجونة في زيورخ لمشاركتها في خطف طائرة سويسرية أو أن عملية الخطف حصلت وفشلت في زيورخ وتم إلقاء القبض عليها هناك.
وأضاف: ليس مطلوبا منك سوى الانتظار ريثما انتهي من تحقيق المطلوب ولكن بإمكانك أن تزور مكتب الجامعة ويمكنك أن تجلس هناك حيث يوجد مقهى تحت المبنى مباشرة، ولأنه ليس لدي ما أعمله ولا أعرف أحدا في جنيف، فقد داومت في المقهى تحت مكتب الجامعة بانتظار أن يوفر المسئول المصري المطلوب لأحمله إلى أبو إياد الذي كلفني بالمهمة، ولا بد أن أذكر هنا أن أبو إياد سلمني قرارا من الأخ بشير المغربي بأنني "ممثل فتح في أوروبا" ويبدو أن المسئول المصري في مكتب المقاطعة والذي أطلعته على الكتاب، قد نقل هذا الخبر لأحد الفلسطينيين الذي يدرس الدكتوراه في جامعة جنيف، وذات يوم وأنا أجلس في المقهى اقترب مني شاب وعرف بنفسه وقال أنا فؤاد شمالي أدرس الفلسفة في جامعة جنيف، فرحبت به، فهو أول شخص يقترب مني ويزيل هذا الشعور الطاغي بالوحدة والعزلة في مدينة تضج بالحياة والساعات، وبعد قليل مد يده في جيبه وأخرج ورقة ناولني إياها وقرأت فيها مايلي: قرار من مفوض التنظيم بشير المغربي بتعيين فؤاد شمالي ممثلا لفتح في سويسرا. وأعترف أن الخبر أسعدني بقدر ما فاجأني، وكان الأجدر أن أكون على علم بوجود ممثل لفتح في سويسرا. وهذه الظاهرة التي شكلت خللا لفترة طويلة في عمل فتح بسبب سرعة العمل وتعدد مراكز القرار، فما حصل الآن في جنيف حصل مثله في عمان وفي الخرطوم.
رعاني فؤاد شمالي رعاية كاملة حتى أنه اشترى لي ملابس جديدة تصلح لمن يأتي إلى جنيف وقدمني لزوجته، ولمفاجأتي أن "أليسار" زوجته هي ابنة أنطون سعادة مؤسس الحزب القومي السوري الاجتماعي، الذي أعدمته السلطات اللبنانية، وكانت السيدة الفاضلة والدة "إليسار" تسكن معهما في جنيف، وأدرك فؤاد بذكائه وثقافته الواسعة أن معرفتي بالحزب السوري القومي الاجتماعي تكاد تكون صفرا، وقال لي بعد يومين: أنه لا يستطيع العودة إلى لبنان لأنه مطلوب بسبب محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها الحزب للإطاحة بـ فؤاد شهاب عام 1961، وكان فؤاد مشاركا في المحاولة، وأضاف: هذا موضوع انتهى التزاما وممارسة ويشرفني الآن أنني ملتزم بفتح، وأعتبر فتح نجحت فيما فشل الحزب في تحقيقه.
وبفضل فؤاد عرف كثيرون عن وجود ممثل لفتح في جنيف، وكانت فتح في ذلك الوقت مثل العملة الصعبة نادرة الوجود ومطلوبة، فمعركة الكرامة جعلت من فتح مصدر فخر لكل عربي أينما وجد، وأخبرني فؤاد أن زميله في الجامعة كمال خير بك يسره أن يتعرف علي وبالفعل اجتمعنا نحن الثلاثة في شقة فؤاد وكان كمال من القوميين السوريين وهو مثقف واسع الاطلاع ويحضر رسالة دكتوراه في الجامعة في الأدب العربي والأدب المقارن، وجرى بيننا حديث طويل حول أفكار فتح والحزب القومي السوري، وأنه في المستقبل لا بد لفتح أن تتبنى برنامج الحزب بتوحيد الهلال الخصيب لبناء القوة السورية لتحرير فلسطين، وفي الحقيقة استهوتني هذه الفكرة التي تمكِّن فتح من تعبئة الشعوب في سوريا ولبنان والأردن وفلسطين والعراق لخوض معركة التحرير، لكن ما وجدته غريبا، اعتبار أنطون سعادة لجزيرة قبرص أنها نجمة الهلال الخصيب، ولكن دون أن أثير هذه القضية مع كمال خير بك وبقينا أصدقاء طوال حياة فؤاد الذي اكتشف بعد وقت قصير أنه مصاب بمرض "سرطان الدم "وأنه يعرف اللحظة التي تنتهي فيها حياته، ولهذا تمنى أن يفجر نفسه بطائرة فوق تل أبيب، وقد شارك في عملية نسف خزانات النفط في مدينة تريستا شمال إيطاليا في قاعدة للأمريكيين هناك وتوفي فؤاد في صيف عام 1972 وحضرت جنازته في بيروت وقد دفن في مقبرة الشهداء، أما كمال خير بك فقد اغتالته يد آثمة في بيروت في أتون الحرب الأهلية في لبنان عام 1980.
وبفضل فؤاد وجهوده الحثيثة توسعت نشاطاتي في جنيف فالتقيت مع المرحوم عبد الحميد شومان مؤسس البنك العربي وهو من قرية بيت حنينا وبينها وبين قريتي بيت سوريك لا تزيد المسافة عن خمسة كيلو مترات، واستقبلني المرحوم شومان في مقر فرع البنك العربي في جنيف ورحب بي أشد الترحيب لأنني أمثل فتح أولاً التي رفعت رأس العرب عاليا بعد أن لطخته هزيمة حزيران بالتراب وحين عرف أنني من بيت سوريك أخذ يتذكر أيام صباه وشبابه في قرية بيت حنينا وأبدى حسرته على احتلال القدس الشريف وقال: الأمل فيكم كبير ويجب ألا يفلت زمام القضية من أيديكم وحدثني عن صداقته الطويلة مع أحمد حلمي عبد الباقي (أحمد حلمي باشا رئيس أول حكومة فلسطينية في عام 1948) ومأساة عام 48 وكيف ضاعت البلاد.
وبعد أن انتهى من سرد الذكريات المؤلمة سألني عن مهمتي فقلت له أنها تنظيمية للشباب الفلسطيني في الجامعات والمهجر، وإذا به يسأل فؤاد إن كان لفتح مكتب في سويسرا فأجابه فؤاد بأنه يدرس في الجامعة ويقوم بالعمل لتنظيم الطلبة والمناصرين للمقاومة من خلال مجموعات سويسرية فقال المرحوم شومان: لا بد من وجود مكتب للعمل من أجل فتح، ففي جنيف وحدها (اثنتان وعشرون) منظمة يهودية في خدمة إسرائيل، وطلب مني أن أزوره في مكتبه في البنك في اليوم التالي وقال: الفصل صيف والمصطافون العرب بدأوا يتوافدون على سويسرا، ولا بد أن يتبرعوا لفتح وفلسطين ومن أجل فتح المكتب في جنيف، وبالفعل داومت في مكتبه لأكثر من عشرة أيام، وكان يستقبل المصطافين الأثرياء وخاصة من دول الخليج والسعودية ومن بلدان أخرى ولم يرفضوا له طلبا للتبرع لحركة فتح المجاهدة وللفدائيين أبطال معركة الكرامة.
وأخيرا دعا إلى اجتماع عاجل ضم أكثر من (عشرين شخصا) من الشخصيات الاقتصادية والمالية العربية المقيمة في جنيف وأجلسني بجانبه وبدأوا بالتبرع لفتح وفلسطين ومن أجل فتح المكتب في جنيف.
بعد أن جمع محاسب البنك المبلغ الذي تبرع به المجتمعون، قال المحاسب على مسمع الجميع: وعبد الحميد شومان يتبرع بضعف هذا المبلغ، فصفق الحاضرون وشرح لهم فؤاد شمالي خطوات العمل المطلوبة لدعم المقاومة الفلسطينية ومنها استئجار مكتب وتجهيزه وشراء سيارة للتحرك ولمست أن الحاضرين وعلى رأسهم المرحوم شومان يحترمون فؤاد شمالي ويثقون به ويعتبرون تعيينه ممثلا لفتح في سويسرا دليلا على بعد نظر قيادة فتح، فهي تبحث عن أفضل الشباب والشخصيات دون حساسية لانتماءاتهم السابقة بل تجند الجميع من أجل فلسطين.
أما اللقاء الآخر الهام الذي تم في جنيف فكان مع الأمين العام لجامعة الدول العربية المرحوم عبد الخالق حسونة، وهذا اللقاء تم كذلك بمبادرة فؤاد شمالي، وقد رحب المرحوم حسونة باللقاء الذي تم في مقر عصبة الأمم، وفي الحقيقة لم يكن لدي أي هدف خاص من هذا اللقاء، كنت أعتقد أنه ينتظر أن يسمع أخبار المقاومة في فلسطين، وقد أنقذني من هذا الحرج مدير مكتب الأمين العام وهو دبلوماسي مصري، فهو استقبلني في الصالة الواسعة الممتدة والموصلة إلى قاعة الاجتماعات الكبرى واعتذر مني لعدم انتهاء الجلسة التي يحضرها الأمين العام في مؤتمر منظمة العمل الدولي، وقال: كلها ربع ساعة ويحضر الأمين العام وأضاف: يسألني هل سأطرح على الأمين العام شيئا محددا وقلت له في الواقع يشرفني لقاء الأمين العام فالجامعة هي بيت فلسطين العربي، وسأعرض على معاليه الوضع الراهن في فلسطين وتصاعد المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وقال الدبلوماسي المصري: المقاومة الفلسطينية بعد معركة الكرامة هي أمل العرب جميعا، وكما تعلم فإن الصهيونية شوهت التاريخ، والبعض في أوروبا احتفل بانتصار إسرائيل وهزيمة العرب في حزيران 1967 وفي هولندا صار موشيه ديان بطلا عالميا ووضع كثيرون العصبة على عينهم اليسرى تيمنا بديان، ولهذا لا بد من العمل لخلق رأي عام مؤيد للمقاومة الفلسطينية على مستوى العالم، وتقوم مكاتب الجامعة في الدول المختلفة بفضح الدعاية الصهيونية وافتراءاتها وتزويرها للتاريخ والأحداث، ولكن بعد أن أصبحت المقاومة الفلسطينية قوة حقيقية على الأرض صار الناس يريدون أن يسمعوا من الفلسطينيين أنفسهم وليس من أي أحد آخر يتحدث بالنيابة عنهم، ولهذا أقترح أن تطلب من الأمين العام تعيين ممثل لفلسطين في كل مكتب من مكاتب الجامعة ليتولى بنفسه شرح قضية فلسطين على أن تدفع له الجامعة راتبه أسوة بباقي العاملين.
وقد شكرت الدبلوماسي المصري على هذا الموقف الذي يعبر عن حرصه كدبلوماسي مصري عريق على إيصال كلمة الحق الفلسطيني وبلسان فلسطيني إلى العالم وبالفعل حضر الأمين العام المرحوم عبد الخالق حسونة وهو طويل القامة وعريض المنكبين وشعر رأسه خطه الشيب ويتحدث اللغة الفصحى، وبادرنا بالقول: أهلا بأبطال فلسطين وصافحنا أنا وفؤاد بحرارة وعبر عن سعادته بلقاء ممثل فتح التي تشكل اليوم أمل العرب جميعا وقال: إن الجامعة العربية تواصل رسالتها في خدمة قضية فلسطين في كل مجال، وسألني عن العلاقات بين المقاومة والأردن ولبنان، فقلت العلاقات جيدة والفضل يعود للرئيس عبد الناصر في تمكين المقاومة من تجاوز العراقيل التي توضع في طريقها دون أن أدخل في تفاصيل الإشكاليات التي تحصل مع هذه الدول بين يوم وآخر، ويبدو أن الدبلوماسي المصري شعر أنني ابتعدت عن اقتراحه بتعيين ممثل لفلسطين في مكاتب الجامعة العربية، وكان عدد المكاتب في ذلك الوقت 24 مكتبا موزعة على مستوى العالم، وتدخل الدبلوماسي المصري ومدير مكتب الأمين العام وقال: هناك اقتراح لدى ممثل حركة فتح في أوروبا يود طرحه عليكم.
ورحب الأمين العام بهذا الاقتراح وطلب أن يكون على جدول أعمال مجلس الجامعة في الاجتماع المقبل وقال: طبعا يريد العالم أن يسمع الفلسطينيين أنفسهم وهذا اقتراح سأطلب من مجلس الجامعة الموافقة عليه وتتولى المنظمة تسمية الممثل ونحن نتكفل بتغطية عمله وإقامته وراتبه.
شكرت الأمين العام وودعته، وبالفعل تم إقرار تعيين المندوبين الفلسطينيين في مكاتب الجامعة مباشرة بعد عودة الأمين العام، وفي أول اجتماع لمجلس الجامعة العربية.
وبالطبع لا يعرف أحد في المنظمة أو فتح صلتي بهذا القرار فلم أكن على صلة قوية بصاحب القرار، أبو عمار، وكان قد انتخب رئيسا للمنظمة في شهر شباط من عام 1969، ولهذا لم أكتب لأية جهة سواء عن لقائي مع المرحوم عبد الحميد شومان أو عن لقائي مع الأمين العام لجامعة الدول العربية عبد الخالق حسونة ولا أعلم إذا كان فؤاد شمالي قد كتب لبشير المغربي حول هذه اللقاءات.
وعندما وافقت الجامعة على تعيين المندوبين لم أكن حتى في القاهرة ولم أجد ضرورة لأشير إلى دوري في هذا الموضوع، أما قضية أمينة دحبور وبعد ثلاثة أسابيع من إقامتي بجنيف فقد حضر الضابط المصري العامل في مكتب المقاطعة العربية لإسرائيل وسلمني ملفا مغلقا لأسلمه لأبو إياد، ولكنه تمنى علي أن أقابل المحامي السويسري من مدينة زيورخ الذي يتولى القضية أمام المحكمة ومعلوم أن سكان هذه المدينة هم من الألمان. وحرص المحامي السويسري أن يدين بأقسى العبارات العدوان الإسرائيلي عام 67 والمدعوم من الصهيونية الأمريكية، وأكد أن من حق الفلسطينيين والعرب أن يقاوموا بكل الوسائل لاسترداد أرضهم من المحتلين الصهاينة، ولا أنسى أن أشير إلى لقاء عابر مع فنان تشكيلي لبناني يعرفه فؤاد في مقهى على مقربة من بحيرة جنيف، وعلمت بعد عشرة سنوات أن هذا الفنان واسمه ميشيل مكربل كان يعمل مع المخابرات الفرنسية وقد قتله كارلوس في باريس حين جاء برفقة الشرطة الفرنسية لمداهمة شقة كارلوس الذي يقبع الآن في السجون الفرنسية بعد صفقة سرية بين السودان وفرنسا.
وقبل مغادرتي جنيف إلى باريس رتب فؤاد موعدا مع مناضل جزائري مقيم في سويسرا، وقد طرح علي مسألة السلاح، وضرورة أن يكون لدى الفدائيين أسلحة حديثة ولا يكفي الكلاشنكوف أو الآربي جي الذي يظهر في أيدي الفدائيين، هناك صواريخ حديثة ويمكن استخدامها من قبل فرد واحد أو اثنين، وأضاف أنه يعرف تجار السلاح في سويسرا وألمانيا ويمكنه مساعدتنا معهم لتأمين السلاح المطلوب وللتدليل على علاقاته القوية بتجار السلاح، سلمني نموذجا لصاروخ صغير الحجم من الكرتون ومعه كراس يشرح فاعليته الحربية، ولجهلي بكل أنواع السلاح شكرت المناضل الجزائري ووعدته أن أنقل للقيادة ما سمعته منه، وبالفعل حملت الصاروخ الكرتوني في حقيبتي عند عودتي إلى عمان بعد أسبوعين.
سافرنا إلى باريس أنا وفؤاد في أواسط تموز 1969 فقد تعامل فؤاد مع كتاب تكليفي بأنني ممثل فتح في أوروبا بمنتهى الجدية، وفرنسا هي مركز الثقل الأوروبي ومواقف الجنرال ديغول معروفة من عدوان حزيران، فقد منع تزويد إسرائيل بالسلاح، وأدان العدوان الإسرائيلي، وفي عام 1968 أرسل لياسر عرفات وسام اللورين تعبيرا عن تقديره لقائد مقاومة مشروعة ضد العدوان من قائد المقاومة الفرنسية ضد النازية الهتلرية التي احتلت فرنسا في الحرب العالمية الثانية.
وفي فندق صغير قرب جامعة السوربون أقمنا مدة أسبوعين، والمقاهي والمطاعم والمحلات المحيطة بالجامعة وعلى أبوابها في هذا الشارع تعج بالحياة ليل نهار، من آلاف الطلبة والطالبات الذين يؤمون جامعة السوربون، وبدت لي الحياة الجامعية هنا عظيمة الاختلاف عن الحياة الجامعية في المشرق، بعد الثورة الطلابية في الجامعات الفرنسية العام 1968، وحين زرنا بيت الطلبة المغاربة كان حديثهم عن حق الطلاب أو الطالبات باستضافة أصدقائهم أو من هم على علاقة بهم دون تدخل الإدارات في المدن الجامعية، وقد انتصر الطلاب الفرنسيون في هذه المعركة، وبالفعل يمكن للمرء أن يشاهد في محطة القطار أو الحافلات أو في زاوية في الشارع العام شابا وفتاة في عناق عاطفي، وكان واقع العلاقات أكثر وضوحا في حديقة اللوكسمبورغ القريبة من جامعة السوريون، وبالطبع كان لا بد بفضل فؤاد من الوصول إلى محمود الهمشري وكنت لا أعرفه وهو كذلك مسؤول فتح في فرنسا، شاب فدائي عنيد بكل معنى الكلمة، وقد تلقى تدريبا عسكريا في الجزائر وعاد إلى باريس للعمل التنظيمي واستكمال دراسته، ومحمود الهمشري تعامل بكل أخلاقية وانضباط نادر مع مهمتي، علما أنه أقدم مني في الالتزام بحركة فتح، وقال لي محمود الهمشري: لا بد أولا من إطلاعك على عدد الطلاب الفلسطينيين وانتماءاتهم السياسية وأخرج من جيبه كشفا، وكان عدد الطلبة (46) طالبا فقط، وقرأت الأسماء إسما إسما فوجدت إسم عز الدين القلق وفوجئت فعلا، فعز الدين القلق زميلي وزميل سعيد حمامي في جامعة دمشق، وسألته أين يدرس عز الدين فقال محمود: إنه في مدينة ليون يدرس الكيمياء والعلوم فقلت له هذا شاب عظيم ومناضل، وسألني محمود إن كنت أرشحه رئيسا لفرع اتحاد طلاب فلسطين في فرنسا فوافقت على الفور وتمنيت لو أنه يحضر من ليون لألتقي به، وبالفعل بعد يومين حضر عز الدين وعشنا لساعات ذكرياتنا الحلوة والمرة في جامعة دمشق، وفي شهر أكتوبر عاد عز الدين إلى باريس وانتخب رئيسا لفرع الاتحاد، وبعد اغتيال الموساد الإسرائيلي لمحمود الهمشري في عام 1972، تسلم عز الدين القلق المسؤولية بعده وبقي في هذه المسؤولية إلى أن اغتاله أبو نضال عام 1978 في باريس.
كان عدنان كامل المثقف اللامع والقائد البعثي السابق يدرس في باريس، وكان قد غادر دمشق إلى باريس قبل أكثر من عام، وهو شقيق زوجتي فريال كامل وقد استقبلني بحرارة، وقرر أن يقدمني إلى مسؤول الشرق الأوسط في الخارجية الفرنسية (الكي دورسيه)، والكي دورسيه مبنى حجري قديم وعند المدخل القوسي استقبلنا موظف في غاية الأناقة واللطف، وكان يتحدث مع عدنان كامل هذه اللغة الفرنسية التي أحببتها وفشلت في تعلمها، إلا أنني أود دائما سماعها، أما الرجل المسؤول عن دائرة الشرق الأوسط في الخارجية الفرنسية الذي تجاوز الستين من عمره كما بدا لي ويتحدث الفرنسية وبعض الكلمات العربية من اللغة الدارجة في بلاد المغرب العربي، قد رحب بنا ترحيبا حارا إلا أنه قال بأن اللقاء شخصي وليس رسميا، وفهمت من عدنان كامل أنه قال له بالفرنسية: هذه زيارة صداقة وتعارف وأنه شكره لأنه استقبلني، وتبين لي بعد دقيقة أو دقيقتين أن الرجل مطلع تماما على الأوضاع العربية ويعرف الكثير عن المأساة الفلسطينية، هكذا نطق كلمة "المأساة" ولم يكن يريد أن أشرح له تاريخ هذه المأساة، وقال إن "الجنرال" ويقصد ديغول قد وقف ضد حرب حزيران ومنع إرسال السلاح إلى الشرق الأوسط أي إلى إسرائيل وطالب بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة، وقد أرسل "الجنرال" ديغول وسام (اللورين) إلى أبو عمار، تقديراً منه للمقاومة ضد العدوان الإسرائيلي. وراح الرجل يسألني عن المقاومة الفلسطينية وأهدافها ووسائلها، وقلت له نحن شعب تعرض لمؤامرة استعمارية كبرى وتشرد من وطنه وحتى عندما قررت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين وطننا لم نأخذ شيئا، وضاعت فلسطين من جغرافيا الشرق الأوسط وهو البلد الأعرق في التاريخ، بلد الأديان والرسل والحضارات، وسألني سؤالا حول أهداف المقاومة العسكرية وقلت له نستهدف القوات العسكرية ولا نستهدف المدنيين، توقف قليلا ثم قال: في المقاومة وعملياتها من الصعب التمييز بين العسكريين والمدنيين لأن كل مقاومة عمياء والاحتلال عيونه واسعة، هذه كانت تجربتنا في المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، المقاومة عمياء في كل مكان وهذه مأساتها وكان سؤاله الأخير حول الموقف من اليهود المقيمين في فلسطين وأصبح لهم دولة إسمها دولة إسرائيل وهي قوية عسكريا وأوروبا تدعمها بالسلاح والمال والسياسة، والآن أمريكا هي الحاضنة الأكبر لإسرائيل وعدوانها، وكرر ما هو موقفكم من اليهود؟.
كان السؤال محرجا في حقيقة الأمر، ففي ذلك الوقت كان شعارنا وهدفنا تحرير فلسطين من البحر إلى النهر ومن رأس الناقورة إلى رفح، ووجدت أن المخرج أن أبتعد عن مسالة وجود إسرائيل وقدمت له الجواب التالي: إننا نناضل ونقاوم لتخليص اليهود من الصهيونية تماما كما جرى تخليص الألمان من النازية، والطليان من الفاشية.
ابتسم وقال لي هذا جواب ذكي ولكن مسؤوليتكم تخليص شعبكم من الاحتلال واستعادة أرضكم وتاريخكم، أما مسألة تخليص اليهود من الصهيونية فهي تخص اليهود وحدهم وقال الرجل في نهاية اللقاء قضيتكم صعبة لأنه ليس لديكم عمق تستندون إليه والشرق الأوسط لعبة أمم قديمة.
ودعنا الرجل ورافقنا إلى الباب الخارجي للخارجية الفرنسية وكانت أمامنا حديقة واسعة خضراء جميلة، وقال لي عدنان كامل: هناك المتحف الفرنسي وهذا المدفع البعيد هناك من بقايا نابليون، إن الفرنسيين يعشقون نابليون، وعلى نهر السين مررنا فوق جسر الاسكندر وعليه تمثال أسد من الذهب هدية من قيصر روسيا لفرنسا ربما بعد سقوط نابليون وعودة الملكية بعد معركة واترلو في بلجيكيا 1813 حين تجمع ملوك أوروبا في الحلف المقدس ضد نابليون.
كانت مهمتي في أوروبا على وشك الانتهاء، واحترت أين أذهب، هل إلى القاهرة أم إلى عمان، وعمان مركز الحدث الفلسطيني بامتياز ولهذا عزمت أن أتوجه إلى عمان بدل القاهرة حين غادرت باريس في العاشر من تموز 1969 والسبب واضح، فقد كنت أسعى طوال الوقت أن أكون في مركز الحدث والفعل وبين الرجال الذين يصنعون التاريخ، وفي عمان بذلت جهودا خارقة حتى استطعت أن ألتقي أبو إياد وأسلمه المظروف الغامض من جنيف وكذلك الصاروخ الكرتوني الذي حملته معي من المناضل الجزائري الذي يعيش في جنيف، ولما لم أكن عضوا في جهاز الأمن الذي يرأسه أبو إياد، فقد كان علي أن أقرر أين أذهب، فليس هناك من يوجهني ويحدد لي مهمة ويحدد لي موقعا في هذا الخضم الهائل في عمان، فصائل متعددة ومسلحون في كل مكان والمخيمات مليئة بالميليشيا المسلحة، وحواجز ذات مغزى للجيش تحيط بعمان، وصراع أيديولوجي بين الفصائل وبيانات عسكرية لا حصر لها تصدر كل ساعة تتحدث عن عمليات فدائية في الأغوار وجنوب البحر الميت والجولان وقصف المستعمرات، وأخذ الفدائيون يطلقون لحاهم تيمنا بالثوريين الكبار في العالم، والكل يساري وثوري، وكانت مكاتب الفصائل منتشرة في عمان في جبل التاج والهاشمي والوحدات والمحطة واللويبدة وجبل الحسين الذي عثرت فيه على مكتب الإعلام.
وكان هناك أحمد الأزهري ومصطفى الحسيني ووجدت كمال عدوان الذي عرفني لحسن الحظ وربما يكون ذلك خلال عملي في صوت العاصفة لمدة قصيرة، وربما كان أحد الإخوة في القيادة قد ذكر إسمي أمامه. وحين أخبرته أني عدت من باريس وجنيف قبل أيام ، أعتقد أنني شاركت في التحضير للمعسكر الأوروبي علما أنني لم أشارك، ولم يكن لدي أي علم بالاتصالات التي جرت مع عبد الله الإفرنجي في ألمانيا ومحمود الهمشري في فرنسا ووائل زعيتر في ايطاليا واتحاد طلاب فلسطين في بريطانيا لإقامة المعسكر الأوروبي في ضواحي عمان. ولهذا طلب مني أن أكون ضمن قيادة المعسكر، وقد وافقت على الفور وحضر ماجد أبو شرار، وكان بيننا لقاء عابر في القاهرة ، وأبو عمر( حنا ميخائيل) ومنير شفيق، وناجي علوش وأبو القاسم (يحيى الدقس)، وشاركت في وضع برنامج المعسكر الأوروبي، وكانت مدة المعسكر تقرب من الشهر قضيته مع الشباب الأوروبي، وكان العديد منهم ماويين وتروتسكيين ومن أحزاب اشتراكية واتحادات طلاب. وفي الأمسيات بعد اللقاء السياسي مع مسئول كبير من فتح كان حديثنا معهم حول ثورة الطلبة في فرنسا وخيانة النقابات العمالية للثورة بسبب رشوتها من قبل الرأسمالية الاحتكارية، أما الاتحاد السوفييتي فهو من وجهة نظرهم ضد الثورة العالمية وفشل في بناء الاشتراكية وأقام دولة بوليسية حتى بعد المراجعة التي قام بها خروتشيف، وعندهم بريجنيف نسخة مشوهة عن ستالين، وتحدثوا عن اجتياح المجر وبولندا وبعدهما احتلال تشيكوسلوفاكيا قبل عام تقريبا (ربيع براغ) وعن الفيلسوف الأمريكي هربرت ماركوز والفرنسي جان بول سارتر وما كتبوه لدعم ثورة الطلبة وخيانة الأحزاب الشيوعية والطبقة العاملة للثورة ، وكنت في معظم هذا الجدل الأوروبي أبقى مستمعا، فلست على اطلاع كاف يسمح لي بإعطاء وجهة نظر خاصة، فما هو متاح من معلومات حول ثورة الطلبة والوضع الأوروبي ومواقف المثقفين والفلاسفة من هذه الثورة يتعلق بأحداث الثورة من احتلال الجامعات وإضراب العمال، أما خلفية هذه الأحداث فمجهولة، وانتشر في الصحافة العربية أن( كوهين بنديت ) أحد قادة الحركة الطلابية، يهودي، وهذا يكفي لإدانة ثورة الطلبة في أوروبا وأستطيع القول أنني استفدت من الأوروبيين أكثر بكثير مما قدمت لهم من معلومات حول قضيتنا، وقد حرصت لسنوات عدة على التواصل مع العديد منهم في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وفي تقييم قيادة المعسكر الأوروبي مع كمال عدوان قلنا أننا زرعنا بذرة التضامن مع كفاحنا الوطني في جيل الشباب في أوروبا الذي هو جيل المستقبل، وقد عمقت تجربة المعسكر علاقاتي مع ماجد أبو شرار وأبو القاسم الدقس وأبو عمر (حنا ميخائيل)، أما مع ناجي علوش فقد كان ينطلق من بعد قومي ويربط كفاحنا به وهذا ما لم أكن أوافق عليه وقد انطلقت من مقولة فتح "التحرير طريق الوحدة" لأؤكد على أن نبدأ بأنفسنا أولا ونعيد بناء الأداة الثورية الفلسطينية، لأن ما لدينا في الساحة العربية كيانات ودول وليس حركات ثورية فاعلة، أما منير شفيق فكان يحرص على إظهار ميله الشديد للتجربة الصينية ودور الفلاحين فيها لتطوير خلاق للنظرية الماركسية التي تهمل الفلاحين وتعطي الدور الحاسم للعمال، وفي الواقع كانت الصين تقدم لنا المساعدات وتستقبل الدورات العسكرية، وهذا جعل أفكار ماوتسي تونغ سريعة الانتشار في أوساط المثقفين، وأذكر أنني حين ذهبت إلى السودان، وكان موجودا هناك ولفترة قصيرة أحد مؤسسي فتح في مراحلها الأولى (أبو عبيدة)، ولم ألتق به أبدا لا في السودان ولا خارجها، ويبدو أنه ترك حركة فتح في وقت مبكر وجدت في فيلا "عبد الماجد أبو حسبو"، وزير الإعلام السوداني، والتي قدمها لفتح، دفاتر عديدة تركها أبو عبيدة وبخط جميل ومقروء أفكار ماوتسي تونغ حول الثورة وكان يحرص على حفظها غيبا.
انتهى المعسكر الأوروبي وودعنا الشباب إلى بلدانهم، وعدت هذه المرة إلى الإعلام المركزي في عمان الذي يتولى مسؤوليته كمال عدوان ونائبه ماجد أبو شرار، وقد أقيم مبنى للإعلام في جبل الحسين على أطراف المخيم وكان هناك حنا مقبل وأبو نضال غطاس وحكم بلعاوي وأبو فارس وفريق المعسكر الأوروبي الذي يمكن أن يكون بمثابة الإعلام الخارجي. وكانت تصدر نشرة تثقيفية عن الإعلام المركزي يتولى مسؤوليتها حكم بلعاوي ومن مكتب آخر بعيد عن الإعلام، أما الإعلام المركزي فكان يتولى توزيع البلاغات والبيانات ويصدر الكراسات التثقيفية، وفي يوم (21 آب 1969 ) وقعت جريمة حرق المسجد الأقصى على يد متطرف يهودي أسترالي اتهم بالجنون وقامت الدنيا الفلسطينية والعربية والإسلامية ولم تقعد، فحرق الأقصى ومنبر صلاح الدين كانت بالفعل جريمة كبرى هزت مشاعر العرب والمسلمين في كل مكان، وأدانت كل الهيئات الدولية هذه الجريمة النكراء، أما صلتي بهذا الحدث الكارثة فكانت استدعائي في اليوم الثاني مباشرة إلى مقر القيادة، حيث كان أبو عمار وأبو إياد وأبو اللطف وكمال عدوان يجتمعون في غرفة مغلقة وانتظرت لأكثر من ساعة حتى انتهى الاجتماع ودخلت وصافحتهم جميعا، وبادرني كمال عدوان بالقول: قررنا أن تعود إلى القاهرة للعمل في إذاعة صوت العاصفة، فقلت له "أنا على استعداد"، وفجأة ناولني أبو اللطف ورقة صغيرة فإذا بها القرار التالي: "يعود أحمد عبد الرحمن للعمل في صوت العاصفة ويعمل ربحي عوض تحت إمرته " استغربت من هذا القرار خاصة وأن ربحي أقدم مني في فتح، وقلت له نتدبر الأمور بدون قرار، فقد تعاونا في السابق وعلاقتنا جيدة، إلا أن أبو اللطف أصر وقال يجب أن تكون العلاقات في العمل واضحة والتسلسل واضحاً وبلا مجالات.
ولدهشتي الشديدة حين وصلت القاهرة ذهبت إلى مبنى الإذاعة (4 شارع الشريفين) ولم أجد ربحي عوض بل كان أستاذنا جميعا فؤاد ياسين يتولى المسؤولية الكاملة عن برنامج صوت فلسطين وصوت العاصفة والطيب عبد الرحيم نائبه وهو ابن الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود الذي استشهد في معركة الشجرة في عام 1948، والطيب كتلة حرارية مشعة وتملأ المكان بالدفء والحيوية وهو يكرس كل وقته لفتح ولأي عمل يطلب منه وكان قد أنهى دورة عسكرية في الصين وكان معتمد فتح هايل عبد الحميد الذي بفضله ومثابرته أصبحت فتح التنظيم الفلسطيني الأول في مصر، فقد انتدبته القيادة قبل عدة سنوات لهذه المهمة في القاهرة وكان قبلها يدرس في ألمانيا إلى جانب هاني الحسن وعبد الله الإفرنجي وأمين الهندي ويحيى عاشور (حمدان) الذي كان في النمسا وهو صاحب تجربة طويلة وثمينة في العمل السري في ألمانيا وفي مصر حتى معركة الكرامة، وعمل هايل عبد الحميد في دوائر المنظمة أيام المرحوم أحمد الشقيري دون أن يكتشف المسؤولون في المنظمة مسؤوليته في فتح. وحين اكتشف أمره بسبب نشاطاته لبناء تنظيم فتح صدر قرار غريب بطرده حيث ينص القرار على التالي: يلغى هذا القرار من يوم صدوره".
رحب فؤاد ياسين والطيب والعاملون جميعا بعودتي للعمل في الإذاعة، ولأن مدة البرنامج نصف ساعة فقط فلم تكن حاجة للدوام طوال النهار، ولذا هناك وقت يجب أن نعمل فيه، حيث أصبحت فتح تملأ الفضاء الفلسطيني كله، فهناك مكتب لفتح ومكتب للمنظمة والمقر العريق لاتحاد طلاب فلسطين ومكتب أبو رؤوف في الأوديون ومكتب اتحاد العمال والمنظمات الشعبية أخذت تقوم بنشاطات في الوسط المصري وأذكر أنني في سياق تلك النشاطات زرت قرية "كمشيش" الشهيرة وقضيت ليلة فيها واستمعت إلى تاريخ الفلاح المصري وهو تاريخ البؤس والشقاء في زمن الإقطاع والباشاوات الذي ظلت له بقايا مواقع سلطة رغم الإصلاح الزراعي الذي نفذه عبد الناصر وأعاد الأرض للفلاحين.
وفي عودتي للعمل في الإذاعة وبدعم من أبو اللطف وكمال عدوان وأبو إياد الذي كان قد أجرى حواره الشهير مع لطفي الخولي في مجلة الطليعة، قمت بالاتصال بعدد كبير من المثقفين المصريين وهم في الأغلب وطنيون ويساريون في الأهرام والمصور و روز اليوسف والجمهورية وأخبار اليوم، فبعد حرب حزيران وقعت مصالحة تاريخية بين عبد الناصر واليسار، وكان هؤلاء المثقفون كتابا كبارا ومعلمين في السياسة والوطنية والنضال ضد الاستعمار، وللتاريخ أقول إن مساهمتهم في برنامج صوت العاصفة قد وطد العلاقة المصرية مع فتح في مجال السياسة والإعلام كما هي في مجال الأمن والدعم العسكري وخاصة بعد اللقاء التاريخي بين الزعيم عبد الناصر وقائد معركة الكرامة ياسر عرفات.
ولا أنفي وقوع خلافات في وجهات النظر في جهاز صوت العاصفة، وبحكمته كان هايل عبد الحميد يجد لها الحل المناسب، فقد كنا جميعا شبابا مسكونين بالشعارات الثورية التي تدعو إلى تغيير العالم، وقد نجح فؤاد ياسين في خلق نواة إعلامية تفوقت حتى على صوت العرب الذي تراجع دوره وتأثيره بعد هزيمة حزيران 67.
أما على صعيد المهام الأخرى فقد أصبحت عضوا في لجنة المنطقة وهي الإطار التنظيمي الميداني الذي يتبع لجنة الإقليم، وتوليت التثقيف والتنظيم وضمت اللجنة بسام أبو الصلح ومجيد الآغا والمهندس خالد العلمي والدكتور صلاح، وكنت أركز في عملي التنظيمي على جذب طلاب العلوم والطب والهندسة والكيمياء، وكانت العقوبة لأي تقصير تنظيمي تنظيم طلاب جدد لحركة فتح من هذه الكليات بشكل خاص، ووصلت قوة التنظيم الذروة في أوائل عام 1970، حيث تمكنا من إرسال عدد كبير من الطلاب لدورة عسكرية في ليبيا، وقد استشهد أحد أفراد الدورة وهو شقيق خالد العلمي في أيلول عام 70 في عمان، وسقط عدد منهم في جنوب لبنان جراء قصف جوي إسرائيلي لقاعدتهم.
ولأن واقع فتح التنظيمي يعوزه الانضباط الشديد بسبب طبيعته الوطنية الفضفاضة فقد أدت المشاكل التي وقعت بين لجنة الإقليم ولجنة المنطقة إلى أن يصدر أبواللطف قرارا بنقلي إلى عمان للعمل في الإعلام المركزي.
كانت عمان في شهر نيسان 1970 في حالة غليان فالأحداث المؤسفة تقع يوميا بين الجيش والفدائيين خاصة بعد أحداث نوفمبر 1969 التي أوقعت ضحايا بين الجانبين والتي تدخل عبد الناصر لوقفها وألقى خطابه الشهير والذي قال فيه "إن المقاومة الفلسطينية وجدت لتبقى" وأضاف أبو عمار مقولته الشهيرة "ووجدت لتنتصر".
وأعترف الآن أن نقلي من القاهرة كان بمثابة إبعاد، ولكنني أتحمل مسؤوليته الكاملة لأنني كنت مثاليا وحادا وأرفض الحلول الوسط العملية، وعودتي هذه المرة إلى عمان تختلف عن المرات السابقة فأنا معروف للمسؤولين جميعا في القيادة وفي الإعلام وكان المسئول المباشر عن الإعلام كمال عدوان ونائبه ماجد أبو شرار كما سبق وذكرت، وقد لمست خلافات صامتة وداخلية بين الإعلام المركزي والقيادة وخاصة مع أبو عمار حول العمليات العسكرية، ما اضطر أبو عمار إلى تشكيل الإعلام العسكري، وعين أبو هشام وأبو الصادق وعطا خيري وهند جوهرية مسؤولين عنه وهذا الإعلام يتبع للقائد العام مباشرة ولا علاقة للإعلام المركزي به.
وفي حزيران 1970 أوقفت الحكومة الأردنية الصحف ومنعتها من الصدور، فأصدر الإعلام المركزي صحيفة "فتح" اليومية التي وزعت في اليوم الأول أكثر من مائة ألف نسخة، وشكل الملك حسين حكومة جديدة برئاسة عبد المنعم الرفاعي وهو رجل فاضل ومعتدل على أمل تهدئة الأوضاع المتوترة بين السلطة والمقاومة، وأصبح الحديث يدور عن دولة داخل الدولة وعن مخالفات خطيرة ضد القانون لا تعلم عنها القيادة شيئا، فالتعددية الفصائلية وصراعاتها الداخلية دفعتها إلى التطرف في كل قضية صغيرة كانت أو كبيرة وأخذ النظام يشعر بأن هذا الوضع يشكل خطرا عليه، ولهذا أخذ يرتب أموره لحماية العرش والنظام والحكومة بالقوة العسكرية وأقام أجهزة خاصة لرصد أخطاء فصائل المقاومة وتضخيمها أمام الجمهور.
إن التعددية الفصائلية المنفلتة والمنفلشة هي الوباء القاتل لكل التجربة الكفاحية الفلسطينية ومع أنني مع الحرية الفكرية والأيدلوجية لكل فصيل، إلا أن قضية الممارسة العملية يجب أن تكون واحدة وموحدة ومع أن هذه قراءة متأخرة فإن فيها عبرة للمستقبل، ذلك أن الصراع على فلسطين وفيها هو صراع طويل الأمد ولا بد أن يصل الشعب الفلسطيني إلى الوحدة الداخلية ذات يوم ليتمكن من تحرير وطنه.
وقد أوردت هذا الاستخلاص لتجربتنا في الأردن لأنها رغم المسافة الطويلة التي تفصلنا عنها تحتاج إلى المراجعة والدراسة من قبل أجيالنا المصممة على مواصلة النضال الوطني.
وبالنسبة لعملي في الإعلام المركزي في الأردن فقد كان مؤقتا وكنت انتظر تكليفا جديدا من القيادة، واعتذرت عن العمل في الصين أو باريس، كما اقترح علي أعضاء في القيادة وقلت لا أجيد الصينية ولا الفرنسية، وأقنعتهم بوجهة نظري بأن الممثل الرسمي يجب أن يجيد لغة البلد التي يذهب إليها، وكانت النكتة التي تندرنا بها في ذلك الوقت أن اشتراط اللغة الصينية هو شرط تعجيزي، وأذكر أن الذي قبل الذهاب إلى الصين كان حسني يونس " أبو خالد الصين" تلاه أبو الرائد الأعرج.
وفي أوائل آب 1970 كلفتني القيادة بالسفر إلى أمريكا اللاتينية للاتصال بالمغتربين ولجمع التبرعات لحركة فتح وأعطاني المسؤولون دفاتر تبرعات ورقم حساب فتح في البنك العربي في بيروت وكان هذا الرقم ( 993).
غادرنا سويا أنا والمحامي سمير جبجي وكانت كاراكاس عاصمة فنزويلا هي محطتنا الأولى وبالفعل استقبلنا في المطار من قبل الجالية الفلسطينية وأصروا أن يكون سمير جبجي في سيارة وأنا في سيارة أخرى وأنزلونا في فندق مقابل النادي العربي، وأعطيتهم دفاتر التبرعات ورقم الحساب وقد عاد المحامي سمير جبحي إلى عمان بعد عشرة أيام لارتباطه بقضايا أمام المحاكم في الأردن وبقيت وحدي، حيث زرت مدن فنزويلا جميعها برفقة المغترب علي مطر وهو شاب ناجح ولديه الوقت للتجول معي بحكم وجود أبنائه وإخوته في محلاته التجارية، وقد دخلت منطقة الحدود إلى كولومبيا لبعض الوقت. ونتيجة لتصاعد التوتر بين الثورة والنظام في الأردن وتشكيل الحكومة العسكرية برئاسة محمد داود غادرت كراكاس عاصمة فنزويلا صبيحة يوم 16/أيلول 1970 إلى نيويورك ومنها إلى أثينا ودمشق، إلا أن شركة طيران الأوليمبيك رفضت نقلي بسبب جوازي الأردني، فالجبهة الشعبية خطفت عدة طائرات إلى مطار المفرق وقامت بإحراقها قبل أيام، وكنت أحمل حقيبة سفر صغيرة جرى تفتيشها عدة مرات وإعادتها إلا أن شركة الأوليمبيك التي يملكها الملياردير اليوناني الشهير اوناسيس أصرت على عدم نقلي ووافقت على تبديل تذكرتي لأي خطوط طيران تقبل نقلي، وبعد ساعات مريرة وطويلة وجدت إدارة المطار مقعدا لي على الطائرة الأمريكية (TWA)المتوجهة إلى ميلانو، ومنها أتوجه إلى دمشق على طائرة ( أليطاليا) وبالفعل وصلت دمشق يوم 18/9/ 1970 ظهرا وعرفت من المسؤولين في مكاتب فتح في دمشق أن مقر القيادة قد انتقل إلى درعا، وهناك وجدت أبو مازن وهو المسؤول الأول ومعه أبو هشام وأبو حسان وأبو زيد (عبد البديع عراقي)، وآخرون لا أعرفهم ولم يكن هناك عمل محدد يمكن القيام به سوى متابعة المعركة في عمان بين الجيش والفدائيين. وكانت الحدود قد أغلقت مع الأردن بسبب التدخل العسكري السوري لنصرة المقاومة. وقع التدخل والإنسحاب في مدة لا تتجاوز أربعة أيام، وجاء في الأخبار أن الرئيس نيكسون يراقب الموقف من على ظهر المدمرة (سراتوجا) في البحر المتوسط، وإسرائيل تنذر سوريا، والطيران السوري لم يقدم حماية جوية للدبابات التي دخلت الأردن، وعبد الناصر والعرب جميعا يناشدون الملك حسين وقف إطلاق النار وإذاعة عمان تتحدث عن اللواء (40) لواء الشهداء وجاء وفد الرؤساء العرب برئاسة جعفر النميري إلى عمان وتمكن من اصطحاب أبو عمار معه إلى القاهرة وكان محمد داود رئيس الحكومة العسكرية قد استقال لحظة وصوله إلى القاهرة، وأطلقت الأردن سراح أبو إياد وأبو اللطف وإبراهيم بكر وبهجت أبو غربية، وكانت القوات الأردنية قد اعتقلتهم قبل يومين من وقف إطلاق النار الذي تكرر عدة مرات حتى انعقدت القمة العربية في القاهرة بناء على دعوة الرئيس عبد الناصر 25-26/ أيلول 1970 إلا أن ميزان القوى كان قد حسم لصالح الجيش الأردني حيث أعاد الجيش سيطرته على معظم أحياء مدينة عمان ولم يواجه أي مشكلة في السيطرة على المدن الأخرى القريبة من عمان مثل الزرقاء والسلط ومادبا.
كان مصير وجود المقاومة في الأردن قد تقرر نهائيا بعد الوفاة المفاجئة للرئيس عبد الناصر 28/9/1970، فالغطاء العربي الذي قدمه عبد الناصر للمقاومة في الأردن ولبنان لم يعد موجودا، ولم تعد الدول الإقليمية تعير أهمية لرؤية عبد الناصر للأمن القومي أو قومية المعركة أو فتح جبهات ضد الاحتلال الإسرائيلي تؤازر الجبهة المصرية المشتعلة على قناة السويس في حرب الاستنزاف البطولية.
دول الطوق أصبحت أولويتها أمنها الخاص ولو على حساب فلسطين والمقاومة. وهي لا طاقة لها أساسا بمواجهة إسرائيل وليست مستعدة لتلقي الضربات الإنتقامية الإسرائيلية نتيجة عمليات المقاومة، وبعد أيام من وفاة عبد الناصر وصل أبو عمار إلى درعا وبدأ بإعادة ترتيب القوات العسكرية وأقام معسكرا في السويداء للتجميع وأما قوات قطاع الجولان والقوات الأخرى التي تم حشدها من سوريا ولبنان، فأطلق عليها أبو عمار "قوات التقدم" وعينني مفوضا سياسيا لقوات التقدم، وكان الجيش الأردني قد انسحب من كل مناطق شمال الأردن ومن مدينة إربد ومن جرش وعجلون وقوته الأساسية أخذت تعود إلى المفرق بجانب وحدات الجيش العراقي التي لم تتدخل لصالح المقاومة على الرغم من وعود عراقية رسمية بهذا الصدد، وكان قائدها اللواء حسن النقيب الذي قال كلمة عراقية شهيرة "ماكو أوامر" من بغداد.
كان الوضع مريعا وفي الرمثا التي مررت منها بعد انسحاب الدبابات السورية كانت البيوت مغلقة ولا تجد أحدا في الشارع، وعدت إلى درعا بعد ساعات ومنها ذهبت إلى معسكر السويداء لإعادة التأهيل من جديد، وأدركت من هذا العدد الكبير في معسكر السويداء أن وجود الثورة في الأردن لن يدوم طويلا بعد وفاة عبد الناصر.
وكانت اللجنة العربية برئاسة الباهي الادغم رئيس وزراء تونس تعمل على تهدئة الأمور في الأردن ومعها كان الضابط سمير المصري الذي اصطحبني معه إلى عمان وزرت في جبل التاج مراكزنا الباقية هناك وتحدثت عن الوضع مع ماجد أبو شرار وناجي علوش وأبو داود وصخر حبش . وقد اشتكوا من الفوضى وغياب الخطة لحماية الثورة وألقوا باللائمة كالعادة على الفصائل المتطرفة التي صعدت التوتر مع الجيش ولم يؤخذ بحقها أي إجراء مما أوصل الأمور إلى الصدام وكانت النتائج سقوط ما كنا نسميه القاعدة الآمنة في الأردن.
وبعد عودتي من الأردن إلى دمشق، سمعني أبو عمار أتحدث في هذه القضايا مع أبو صبري فأخذني من يدي واصطحبني معه إلى درعا وفي الطريق قال لي: "الجندي الجريح الخارج من المعركة يتم إسعافه ومساعدته وليس محاكمته"، وعند وصولنا إلى درعا وجدنا هناك أبو جهاد وأبو مازن وأبو هشام الذي أصر على قراءة قصيدة كتبها من وحي المأساة في الأردن وكان أبو عمار يقاطعه ويصحح له ويمازحه بقوله "الشعر رديء والشاعر لا يحسن القراءة".
وكان أبو جهاد لا يجلس طويلا في أي مكان وناداني أحد مرافقيه فوجدته ينتظرني عند الباب وفي حي درعا الجديد أوقف السيارة أمام بناية من دور واحد وقال لي: يا أخ هذه هي الإذاعة جاهزة للبث وموجهة للأراضي المحتلة والأردن وقدمني للمهندس القادم من الكويت والذي قام بتركيبها وتشغيلها والإذاعة من شركة فيليبس وقد اشتراها لنا الفلسطيني الشجاع والذي يعمل في الشركة (محمود رباني) وهي تبث على الموجة المتوسطة قوتها (10) كيلو واط وتولى زهير اللاسلكي الإشراف الفني ومعه فريق يعمل. وأصابتني صدمة عنيفة حين علمت أن أحد الإخوة كان يحاول تشغيل موتور الإذاعة فضربه التيار وتوفي على الفور، وكانت بداية محزنة ومؤلمة حقا.
وصل فؤاد ياسين إلى درعا بعد إغلاق صوت العاصفة من القاهرة في ضوء الخلاف حول مبادرة روجرز والإساءات التي لحقت بعبد الناصر في أحد شوارع عمان، وقد توافد عدد من الإخوة المذيعين والمحررين من القاهرة وبغداد، فحضر الطيب عبد الرحيم من بغداد والشاعر أحمد دحبور وعزمي خميس ورسمي أبو علي وعيسى الشعيبي وخالد مسمار وبركات زلوم وعارف سليم ويحيى العمري، وأبو زهير (هشام السعدي) تسلم الأستوديو، ومن عمان وصل حنا مقبل وأبو نضال غطاس صويص وعطا خيري وبعد فترة وجيزة غادر فؤاد ياسين والطيب عبد الرحيم إلى القاهرة على أمل أن يعود صوت العاصفة للبث من استوديوهات صوت العرب في القاهرة وهكذا أصبحت مسؤولا مسؤولية كاملة عن برنامج صوت العاصفة في درعا.
وشهدت منطقة درعا نزوحا هائلا للثورة وقياداتها وعناصرها وكانت المفاجأة الأكبر وصول أكثر من أربعة آلاف عسكري من الجيش الأردني بقيادة العميد سعد صايل، وقد تركوا الجيش احتجاجا على قرار الملك بإعلان حالة الطوارئ وتشكيل حكومة عسكرية برئاسة محمد داود وتطويق عمان ومهاجمة الثورة في كل المناطق، وقد أخبرني العميد سعد صايل بأنهم قرروا ترك الجيش لأنهم لا يستطيعون تنفيذ الأمر الملكي لضرب الفدائيين ولا يمكنهم تحويل بنادقهم لإخوة السلاح في الجيش الأردني في الوقت نفسه.
وكان أبو عمار يشرف بنفسه على توفير كل ما يلزم لهذا الجيش الجديد الذي التحق بفتح من سلاح وعتاد وسيارات وتجهيزات عسكرية وبحكم كفاءته ورتبته العسكرية فقد أصدر أبو عمار قرارا بتعيين العميد سعد صايل قائدا لقوات اليرموك ورفعه إلى رتبة لواء.
وقد شكل ضرب الثورة وإراقة الدماء وانسلاخ هذا العدد الكبير من الضباط والجنود من الجيش الأردني الذي خاض معركة الكرامة إلى جانب الثورة، صفحة سوداء في تاريخنا القومي. و بدأت أرى الأمور من منظور مختلف تماما، فليس هناك فيتنام الشمالية تدعم فيتنام الجنوبية وليس هناك جدار صيني وسوفييتي يدعم فيتنام الشمالية في وجه القوة الأمريكية، هناك حول فلسطين كيانات تتشكل من سايكس بيكو، وهذه الكيانات لها أولويات ليس في أولها ولا في آخرها تحرير فلسطين، فالكيانات وهي عربية الوجه ليست لها سياسة قومية كما ضغط عبد الناصر بعد حرب عام 1967 تحت شعار قومية المعركة ولكن الآن الكيانات تسترد قوتها وتعود لأولويات الكيان وتتخلص من كل تهديد لهذا الكيان والتهديد داخلي في حالة مواجهة إسرائيل تحت شعار قومية المعركة.