السبت، 30 نوفمبر 2013

حماس تلغي حفل انطلاقتها للعام الحالي

حماس تلغي حفل انطلاقتها للعام الحالي
تاريخ النشر : 2013-11-29
كبر الخط صغر الخط
غزة- دنيا الوطن
قال مسئول دائرة العمل الجماهيري بحركة حماس أشرف أبو زايد إن الحركة قررت إلغاء مهرجانها المركزي بذكرى انطلاقتها لهذا العام في قطاع غزة.

وأوضح أبو زايد أن الحركة استبدلت مهرجانها المركزي الذي كان المقرر أن يعقد في 14 ديسمبر القادم بفعاليات وأنشطة أخرى ستقام في كافة محافظات القطاع، وذلك مراعاة لظروف شعبنا في ظل الحصار المشدد عليه من قبل الاحتلال الإسرائيلي.

وأشار في حديث لوكالة رسمية محلية  إلى أن حماس ستعمل على استبدال تكاليف إقامة المهرجان التي يقدرها مراقبون بنحو 400 ألف دولار، بمشاريع إنسانية تخفف من حدة الحصار، داعيا الجماهير إلى التفاعل مع الفعاليات الميدانية التي ستنفذها في كافة المناطق بهذه الذكرى.

ودأبت حماس على الاحتفال بذكرى انطلاقتها في 14 ديسمبر 1987، بشكل سنوي، وتحيي هذه الذكرى بمشاركة وفود خارجية ومتضامنين والآلاف من المواطنين. وحضر الاحتفال العام الماضي رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل.


جدل في إيران (الإسلامية) بعد إجازة زواج الرجال من بناتهم بالتبني في سن الـ 13 عاما ~ fosta - فوستا

تصوير جنسي فاضح مع إحدى الزميلات .. شبيح الممانعة حسين مرتضى في شباك قراصنة الثورة السورية ~ fosta - فوستا


مجلة أمريكية: “حماس” شهدت تغيرا سياسيا كبيرا قد تهجر معه فكر المقاومة


مجلة أمريكية: حماس شهدت تغيرا سياسيا كبيرا قد تهجر معه فكر المقاومة
رصدت مجلة “نيو ريبابليك” الأمريكية، ما وصفته بالتطور السياسي الكبير داخل حركة “حماس” في قطاع غزة، على نحو يوحي بأنها قد تهجر أيديولوجية المقاومة والعنف، وقالت إن العالم لم يكد يلحظ هذا التغير الواعد في غمرة الاضطرابات التي عمت أرجاء الشرق الأوسط من دمشق إلى القاهرة مرورًا ببيروت.
ولفتت المجلة الأمريكية إلى أنه بينما كانت عواصف الربيع العربي تضرب المنطقة كان جانب قطاع غزة الحدودي مع إسرائيل وحده ينعم بالهدوء على نحو مثير للدهشة، وعزت “النيوريبابليك” هذا الهدوء إلى أن “حماس” ربما أدركت في اللحظة الراهنة على الأقل أن خسائرها جراء العنف أكثر من مكاسبها.
ورصدت المجلة تعليق المتحدث الإعلامي باسم الجيش الإسرائيلي بيتر ليرنر: “لقد أظهرت حماس على مدار العام الماضي استعدادها، وفي بعض الأحيان رغبتها، لمنع توجيه هجمات إرهابية ضد إسرائيل والعمل على استقرار المحيط الغزاوي”، ورأت المجلة الأمريكية أن سماع جنرال إسرائيلي يثني على الدور الحمساوي في مكافحة الإرهاب يعتبر بمثابة تطور ملفت للنظر.
جيش الاحتلال الإسرائيلي: “حماس” أظهرت على مدار العام الماضي استعدادها لمنع توجيه هجمات إرهابية ضد إسرائيل والعمل على استقرار غزة
وعلى الجانب الآخر، نقلت المجلة عن محمود الزهار، وزير خارجية حكومة حماس المقالة: “ليس من مصلحة الحركة تعزيز الاضطرابات في الوقت الراهن”، ولفتت إلى اتساق هذه التصريحات مع حقيقة انخفاض عدد الصواريخ المتجهة من قطاع غزة صوب إسرائيل بنسبة مدهشة سجلت 98%، مشيرةً إلى أنه إذا كان ثمة صواريخ تطلق تجاه إسرائيل فهي من قِبل “جماعة الجهاد الإسلامي” وليس “حماس”.
وفي المقابل، رصدت المجلة تراجع أعداد القتلى الفلسطينيين على يد الجيش الإسرائيلي هذا العام إلى أربعة فقط بحسب منظمة “بيت سليم” الحقوقية الإسرائيلية مقارنة بـ350 فلسطينيًا قتلتهم إسرائيل على مدار العامين السابقين.
ورصدت المجلة كذلك تخفيف إسرائيل للقيود المفروضة على الاقتصاد الغزاوي، كما ضاعفت إسرائيل مساحة رقعة الصيد البحري أمام صيادي القطاع إلى ستة أميال بحرية، وللمرة الأولى منذ سنوات، سمحت إسرائيل بدخول مواد البناء للاستعمال الخاص إلى القطاع مطلع الربيع المنصرم.
ونوهت المجلة بالعداء التاريخي بين حركة “حماس” وإسرائيل على مدار أكثر من عشرين عامًا، نفّذت حماس خلالها العديد من الهجمات الانتحارية ضد إسرائيل، وفي المقابل نفّذت الأخيرة ثلاث عمليات عسكرية شاملة مخلفة آلاف القتلى من الفلسطينيين بينهم مقاتلين من حماس في قطاع غزة الذي تحكمه الحركة منذ عام 2006.
وتساءلت “النيوريبابليك” عن سبب هذا التغير الدراماتيكي بين إسرائيل وحماس، لافتة إلى إشارة مسؤولين أمنيين إسرائيليين إلى قوة الردع العسكرية التي ظهرت في العملية العسكرية الموسعة عام 2012 والتي قتلت مئات الفلسطينيين ودمرت الكثير من البنى التحتية، ونقلت المجلة في هذا الصدد عن مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق ياكوف أميدرور “إن حماس أدركت أن ثمة ثمنًا باهظًا تدفعه مقابل إطلاق الصواريخ على إسرائيل أو عدم منع الآخرين من عمل ذلك”.
ورأت المجلة أن الاضطراب في المنطقة كان ذا أثر في هذا التغير؛ فبعزل الرئيس المصري محمد مرسي الصيف المنصرم فقدت حماس حليفًا رئيسيًا في المنطقة أسهم فقده في زيادة صعوبة الحياة على المواطن الغزاوي العادي؛ إذ تقوم الحكومة الجديدة في مصر بغلق المعابر الحدودية مع غزة على نحو متواتر، بالإضافة إلى هدم العديد من الأنفاق التي كانت تستخدم كمعابر لنقل البضائع إلى القطاع.
ورأت المجلة أنه ليس في مصلحة “حماس” في ظل تلك الظروف أن تقصف إسرائيل بالمزيد من الصواريخ التي لن تؤدي إلا إلى زيادة في صعوبة الحياة على الشعب الفلسطيني، لا سيما وقد فقدت الحركة ظهيرًا مهمًا في القاهرة كان بمثابة الغطاء الدبلوماسي، واختتمت “النيوريبابليك” تعليقها بالتنويه عن أن “حماس” ليست أولى الحركات الفلسطينية المسلحة التي تدعو إلى تدمير إسرائيل؛ حيث سبقتها حركة “فتح” في هذا المضمار إبان فترة الستينيات ومع مرور الزمن تحولت إلى الاعتدال وها هي تدعم حل الدولتين.
وقالت المجلة إن “حماس” ربما تهتدي بـ”فتح” وتنتهج الواقعية السياسية بدلاً من أيديولوجيتها في المقاومة.
ا.ش.ا



الأربعاء، 27 نوفمبر 2013


دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الأولى : لم يبق غير هؤلاء !

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الأولى : لم يبق غير هؤلاء !
تاريخ النشر : 2013-11-21
كبر الخط صغر الخط
رام الله - خاص دنيا الوطن
 صدح صوته في اذاعة صوت العاصفة منذ فجر الثورة الفلسطينية وكلف بملف الاعلام مع الشهيد ماجد ابو شرار , كتب واذاع بيانات الثورة الفلسطينية عبر مراحل النضال المتعددة, شارك في صناعة اعلام الثورة في عدة مواقع , وبعد ان عاد الى غزة كُلّف  بأمانة مجلس الوزراء ليعود من جديد ناطقا باسم الحكومة الفلسطينية التي ترأسها أبو عمار.

ترك العمل السياسي بعد استشهاد الرئيس ياسر عرفات واعتكف بعيدا عن الاضواء مبررا ذلك بـ"وعكة صحية" ولكن الحقيقة أن حزنا عميقا على أبيه الروحي "ياسر عرفات"أصابه ..

"عشت في زمن عرفات" , هو كتاب أحمد عبد الرحمن الذي أصدره في ذكرى استشهاد "والده الروحي" ياسر عرفات .. يحاول أحمد عبد الرحمن تدوين تاريخ ربما غاب أو غُيّب بسبب أو بدون ..

دنيا الوطن تنفرد بنشر كتاب أحمد عبد الرحمن الجديد , 28 فصل مليئة بالقصص والحكايا والتاريخ الذي يجب أن لا يغيب ..


الفصل الأول:

لم يبق غير هؤلاء 
تعال اسمع، إنهم ينادون عليك. قال صديقي نبيل الإمام، شاب قصير القامة يصرخ في ميكرفون وبأعلى صوته يقول: من أراد منكم تحرير فلسطين فليلتحق بقوات العاصفة، وظل يرددها عدة مرات.

قلت لنبيل: لم يبق غير هؤلاء وليكن ما يكون.

بالفعل اقتربت من الشاب القصير القامة وكان يضع مسدسا ظاهرا في حزامه.

 قلت له: سجل اسمي من فضلك.

وأسرع الشاب وسجل اسمي، قال لي هامسا: في الساعة السادسة صباحا انتظرك غداً على جسر فكتوريا في موقف باص الهامة ودُمَّر.

شكرته وصافحته ومضيت مع نبيل لتناول القهوة في مقصف الجامعة وسط ضجيج الطلبة.

_ إنك مجنون، ما الذي تفعله، هل تعرف إلى أين سيأخذونك؟ قال نبيل الإمام.

قلت له: لا شيء يمنعني من الالتحاق بهم.

 وقال نبيل: أمرك غريب.

قلت لنبيل: لا تستغرب من التحاقي بهؤلاء الذين لا أعرفهم، لكن الأمر بالنسبة لي إنني لم أعد أحتمل الحياة التي كنت أحياها، يجب أن أكون أمينا  مع قناعاتي، وهذه القناعات جعلتني أترك بيروت وأذهب إلى الجبهة في الجولان، وبالطبع لم نصل الجبهة ولم نحارب، فقد كان كل شيء قد انتهى بالغارات الجوية والالتفاف حول الجبهة، هذا ما قاله لنا الجنود والضباط الذين لم يتناولوا الطعام  على مدى ثلاثة أيام.

 الشاعر العراقي عبد الكريم  كاصد، كان معنا في هذه المجموعة الطلابية، وقد قال شعراً ما زلت أحفظه:

أنا الجندي المكلف صابر بن جحيش 

حياتي لم أر الجولان ولم أسمع بقلقيلية

وسجائري رخيصة من خصوصي  الجيش .

ضحك نبيل وأصر على كتابتها وفي المساء افترقنا، على أن نلتقي في يوم ما. ولم يتحقق هذا اللقاء أبدا، فقد قرر نبيل الإمام وضع حد لحياته لأسباب لا أعرفها، وعلمت أن الروائي حيدر حيدر كتب في مجلة المعرفة مأساة نبيل إمام دون أن أتمكن من الاطلاع عليها، لأنني غادرت دمشق.

في الساعة السادسة صباحا في الأيام الأخيرة من حزيران ذاته كنت على أتم استعداد بانتظار الشاب الذي سيأخذني إلى الفدائيين، حضر الشاب في الوقت المحدد تماماً وركبنا الباص ومعنا عدد غير قليل من طلاب الجامعة في موقف جسر فكتوريا، ولم يكن بيننا أي حديث، بل صمت مطبق، وفي موقف للباص قبل ميسلون شدني من يدي، ودون كلام قطعنا الشارع وصعدنا مرتفعا ترابيا. في خيمة صغيرة كان بانتظارنا شاب يلبس ملابس شبه عسكرية، ولا أبالغ إذا قلت أننا لم نتبادل التعارف، وكان كل متطوع يختار الاسم الذي يلائمه، وبالفعل اخترت "منتصر المقدسي" وبهذا الاسم نشرت مقالا سياسيا في مجلة "إلى الإمام " التي كانت تصدر في ذلك الوقت، والمقال مليء بالجمل الثورية التي كنت أحفظها عن ظهر قلب.

وقد فوجئت بأن المطلوب مني أن أعود في الغد للتدريب على استخدام السلاح، ولم تزد مدة التدريب كلها عن أسبوع واحد لفك وتركيب الكلاشنكوف والتمييز بين الألغام ضد الأفراد وضد الآليات، ولا أنسى ضخامة اللغم الصيني  الذي كان المدرب يقفز عليه ليؤكد لنا أنه مخصص ضد الدبابات والآليات الثقيلة، وفي الواقع انتهت فترة التدريب دون أن نطلق طلقة واحدة، وقال المسئول إن الدورة التي حضرتها كانت لعدد من طلبة الجامعات ولم يكن هدف الدورة التحاقهم الفوري بقوات العاصفة، بل كان عملاً تنظيميا في الوسط الطلابي في الجامعة لنشر أفكار فتح.

 وفي اليوم الثاني بعد عودتي من المعسكر وجدت في مقصف الجامعة من يسأل عني وكان السائل كما عرفني بنفسه عاطف أبو بكر ولم أكن قد رأيته من قبل، كان شابا نحيفا ويضع نظارات بشكل دائم ويتحدث بصوت خفيض، يحرص على التكتم الشديد في كل ما يقوله، وعلمت منه أنه مكلف بالاتصال معي للعمل  في التنظيم الطلابي لفتح ولم ينس أن يشير إلى أنه قد قرأ القصة التي كتبتها في مجلة الأسبوع العربي بعنوان "سجين زنزانة بلا رقم " وقد استوقفته كلمة واحدة كان يتمنى تغييرها وهي أن أستبدل كلمة "الصاعقة " في القصة بكلمة "العاصفة "، علما أنني عندما كتبتها لم أكن أعرف الفرق بين الصاعقة والعاصفة وقد حرص عاطف أبو بكر عندما قرر تشكيل اللجنة الطلابية أن أكون أحد أعضائها وأذكر أن هذه اللجنة كانت مسؤولة نظرياً عن الطلاب في دول الطوق باستثناء مصر التي كان لفتح فيها وجود طلابي قوي وقديم بحكم أن مؤسسي فتح كانوا في معظمهم من قطاع غزة سواء أكانوا مقيمين في القطاع أو عاملين في دول الخليج، وكان من بين أعضاء اللجنة شاب اسمه محمود الأسدي وشاب آخر اسمه عبد اللطيف يدرس في كلية الطب وبعد عشرين سنة اغتالته جماعة أبو نضال في مخيم اليرموك، وقبل الاستطراد لا بد أن أذكر أن عاطف أبو بكر وكان سفيرا في المجر بعد عام 1982 قد أعلن انشقاقه وانضمامه إلى جماعة أبو نضال وقد صدمت جداً حين علمت باغتيال الدكتور عبد اللطيف وكذلك حين علمت بانشقاق عاطف أبو بكر الذي اختلف فيما بعد مع أبو نضال ولجأ إلينا في تونس دون أن أراه، وكان الشاب حمزة الذي التحق بفتح مرافقا للشهيد أبو الهول وهو من نفذ جريمة  اغتيال الشهداء الثلاثة: أبو إياد وأبو الهول، وأبو محمد العمري قد اعترف بأن مهمته الأولى كانت تصفية عاطف أبو بكر الذي كان في حماية ضابط الأمن أبو ثائر الحنتولي.

لم يمض وقت طويل حتى أصبحت الوجه الطلابي المعروف لحركة فتح في الجامعة وحين حل موعد إجراء انتخابات الهيئة الإدارية لاتحاد طلاب فلسطين في سوريا، وجدت أنني المرشح الأبرز لحركة فتح وكان هناك شاب آخر مرشح باسم فتح اسمه  "علي "، لم أكن أعرفه من قبل، وفي أثناء الاستعداد في أوساط الطلبة لإجراء الانتخابات اقترب مني شاب وعرفني بنفسه قائلا:  أنا طلال ناجي من جبهة تحرير فلسطين  ( ج.ت.ف ) .

طلال ناجي شاب وسيم طويل القامة وفي غاية اللطف والأدب والدماثة وقد لفت انتباهي أن يده اليسرى ليست يداً طبيعية وحين سألته عن السبب قال نتيجة انفجار داخل المعسكر وقد ربطتني علاقة قوية واحترام متبادل مع طلال ناجي طوال الفترة القصيرة التي قضيناها معا في اتحاد الطلاب وبحكم موقعي ممثلا لفتح في اتحاد الطلاب تعرفت على الكثيرين من أعضاء القيادة.

وكان لقائي الأول مع بشير المغربي وهذا هو الاسم الحركي لفاروق القدومي "أبو اللطف " وقد استقبلني في منزله بكل ترحاب، وكان حريصا على إظهار حركة فتح كحركة وطنية تضم تنوعا من القناعات الفكرية والسياسية ولكن بعد الالتزام والقسم فالهدف تحرير فلسطين وأضاف: فتح ترحب بكل أبناء الشعب الفلسطيني للانخراط في صفوفها والعمل من أجل تحرير فلسطين، وقال: أعلم أنك ذهبت متطوعا في الحرب وأنك تلقيت دورة تدريبية في معسكر الهامة ويشرفنا أنك ممثل فتح في اتحاد طلاب فلسطين، ويسعدني أن أتعامل مع الطلبة المناضلين والتقدميين واليساريين فهم المسلحون بالفكر والنظرية الثورية وقال الجملة الثورية المعروفة "لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية "وتوقفت عند جملته الأخيرة وما تعنيه بالنسبة لي وقلت له: في الواقع لست منتميا لأي حزب سياسي وقناعاتي السياسية والفكرية هي نتاج ثقافتي السياسية المحدودة وتجربتي الحياتية.

لكن الذي عرف عني بعد هذا اللقاء أنني يساري.

كانت فتح تعتبر نجاحها في انتخابات اتحاد الطلاب الذي كان ياسر عرفات رئيسه الأول وكان تحت مسمى رابطة طلاب فلسطين، دليلا على صحة السياسة التي تسير عليها فتح لتحرير فلسطين، وفي مقر القيادة ( 23)  ظهر أبو عمار فجأة بملابسه العسكرية والكوفية الفلسطينية على رأسه والمسدس على خاصرته وصافحني بحرارة وهو يقول أهلا بممثل فتح في اتحاد الطلاب، لم أكن هنا يوم الانتخابات ولكني تابعتها وعلمت بنجاح فتح وحصولها على مقعدين، وبأعلى الأصوات، وسرعان ما استدعى ربحي عوض حيث كلفنا بتوزيع البلاغات العسكرية والبيانات السياسية على الصحف والإذاعات وشدد على وكالات الأنباء والمراسلين الأجانب وقد قمنا بهذا العمل على مدى شهرين وبعدها استدعي ربحي عوض إلى القاهرة لحضور اجتماعات اتحاد الطلاب وكلفتني اللجنة التنظيمية بالسفر إلى الأردن لبناء التنظيم الطلابي لحركة فتح، دون أن تكون لدينا معرفة بحقيقة وجود تنظيم لحركة فتح في الأردن، وبالفعل غادرت إلى الأردن وفي نقطة الحدود في الرمثا لم يسألني أحد من المسئولين  عن نشاطاتي القديمة في الجامعة ولم يطلب أحد مني مراجعة المخابرات أو مصادرة جواز السفر، وبدا كأن ما كان يصلني عن وجود اسمي على الحدود لاعتقالي بمجرد عودتي إلى الأردن، مجرد دسائس طلابية كانت رائجة كثيرا في أواسط الستينات.

عمان مدينة الجبال السبعة والمخيمات كانت مدينة حزينة بسبب هذا النزوح الكثيف من الضفة الغربية، ثلاثة مخيمات تقام في نفس الوقت "شنللر"و"البقعة" ومخيم جرش، وأما المخيمات من عام 1948 فقد أخذت تتسع لتستوعب المزيد والمزيد من اللاجئين، مخيم الوحدات تضاعف سكانه عدة مرات في أشهر قليلة، ومخيم المحطة والجبل الشمالي ومخيم جبل النصر الحياة كالحة وكئيبة ولا شيء يبعث على الفرح إلا أن الحديث الذي يتردد في بيوت الأقارب كان الحديث عن الفدائيين وعن فتح في الأغوار والكرامة، كان الناس يبحثون عن بصيص أمل وسط هذا الدمار الشامل لوطن وشعب، وأردت بدوري أن أرى الفدائيين في الكرامة والأغوار؛ وفي سيارة أجرة عادية توجهت إلى بلدة الكرامة الطرق داخل البلدة غير معبدة، والأرض رملية ولفَّتني عاصفة ترابية لحظة نزولي من السيارة، وسرت عشرات الأمتار لأجد نفسي في مواجهة علم فلسطين يرفرف فوق بيت طيني، ولم يعترضني أحد وأنا أدخل البوابة الخارجية كان الواقفون هناك لا يعنيهم أمر من يدخل أو من يخرج.

أبو عمار لم يكن موجودا، وجلست بحرج شديد فلست مسلحا ولا أرتدي الملابس العسكرية، وقد أنقذني من هذا الوضع الشاذ دخول أحد الشباب وهو يحمل كلاشنكوفا، وكان من طلبة الجامعة حتى وقت قريب، أما كيف صار فدائياً ومقاتلاً، وفي بلدة الكرامة خلال أشهر معدودة  ، فهذا جعلني أنظر إليه باحترام شديد، لقد قطع المسافة الضبابية بين الفكر والممارسة إنه فدائي  وبرفقة رجل متوسط القامة وممتلئ ومسلح أيضا وأدركت من تصرفات الشاب أنه الأخ أبو إياد وقد غادر المكان مباشرة بعد مصافحتي إلا أن الشاب المرافق قال إنه سيعود بعد قليل، وبالفعل عاد بعد أقل من ساعة ومعه رزمة أوراق وقال لي: هذه البلاغات العسكرية يجب توزيعها في عمان والمخيمات وقد طلبوا مني أن أسلمها لك.

 وأشعرتني هذه المهمة أنني أقوم بعمل من أجل فتح مهما كان صغيرا أو بسيطا ولا يقارن بالفدائيين الذين يقطعون النهر ويطلقون النار على المحتلين الإسرائيليين، وقد رتب هذا الشاب العودة الآمنة إلى عمان بإحدى الشاحنات التي تنقل الرمل وقال لي هناك حواجز ونقاط تفتيش أقامها الجيش بين الكرامة وعمان، وبالفعل شاهدت بعض الحواجز العسكرية ولكن لم يعترضوا الشاحنة، ووصلت عمان بسلام، ولم أكن أعرف غير أقاربي اللاجئين في المخيمات، وأخبرت عددا من الشباب بالمهمة التي كلفت بها وهي توزيع البلاغات العسكرية وقد شعروا جميعا بالفخر عندما اكتشفوا أن قريبهم وابن عائلتهم واحدٌ من الفدائيين، وفي الليل قاموا بإلصاق البلاغات العسكرية على واجهات المحلات التجارية وعلى أعمدة الكهرباء وعلى الجدران ولوحات الإعلانات والدعاية، وقد قال لي الشباب المندفعون بجنون للالتحاق بالفدائيين: إن الناس يتوقفون قرب أعمدة الكهرباء أو الواجهات التجارية لقراءة البلاغ العسكري الصادر عن قوات العاصفة، وعزمت  في صباح اليوم التالي أن أذهب إلى الشوارع الرئيسة في عمان، لأرى البلاغ العسكري وأرى الناس وهم يتدافعون لقراءته، وقد حذرني الشباب من مراقبة رجال المخابرات المكلفين بالقبض على كل من يوزع منشورات للفدائيين، وقلت للشباب: لقد دخلت البلد بشكل شرعي ولا يوجد أي مبرر لاعتقالي، وبالفعل سرت في شوارع العاصمة وهي تغص بالناس ورأيت بعض البلاغات العسكرية ملصقة بالغراء على أعمدة الكهرباء ولوحات الإعلان، ورأيت المارة لا يتوقفون طويلا، بل بعضهم يقرأ كلمات الخط العريض ويمضي لشؤونه، وبعضهم يمعن النظر في أسماء الشهداء ومكان العملية الفدائية، والذي فاجأني أن أصحاب المحلات التجارية يقومون بتمزيق البلاغ أو نزعه عن الواجهة لأن الاحتفاظ به قد يعرضهم للمساءلة، إلا أن البلاغ العسكري في المخيمات كان يوزع ويلصق دون تدخل المخابرات أو الشرطة، وقد داومت على هذا العمل بين الكرامة وعمان عدة أسابيع، ولكن دون أن أتمكن من مقابلة أبو عمار حيث كان دائم الحركة والتنقل ولم أكن أقضي الليل في الكرامة مثل الفدائيين الآخرين بل أحمل رزمة البلاغات العسكرية وأتوجه إلى عمان للقيام بمهمة توزيعها وتعليقها من خلال الشباب الذين زاد عددهم في مختلف المناطق والمخيمات.

لم أكن بحاجة إلى بذل أدنى جهد لإقناع الشاب الفلسطيني للقيام بهذا العمل حين يسمع مني الكلمة السحرية حركة فتح، في مخيم البقعة ومخيم شنللر كان الشباب يتسابقون لأخذ البلاغ العسكري وقراءته وتوزيعه، وفي أحد الأيام، وكنت في مخيم البقعة وكان قد أقيم حديثا بعد الغارات الإسرائيلية على مخيم  الكرامة، وكان العفيف الأخضر وهو مفكر تونسي موجودا في نادي المخيم لحوار سياسي، وقد حضرت إلى النادي وعبرت عن اختلافي مع العفيف الأخضر حول بعض الشكليات اللفظية التي اعتبر تصدّرها للبلاغ العسكري دليلا على أن حركة فتح حركة يمينية ولم أجد أمامي غير الاستشهاد بهوشي مينه وماوتسي تونغ وحتى ستالين وقلت المهمة السياسية لنا هي تحرير وطننا وتجنيد كل القوى المستعدة للنضال، لأننا حركة تحرر وطني تضم مختلف الأطياف وهذه هي فتح، وليست حركتنا في وارد الصراعات الاجتماعية أو الفكرية، المهمة الآن مهمة وطنية تهم جميع الفلسطينيين المقتلعين من أرضهم، وقد لقيت مداخلتي صدى طيبا لدى جمهور المستمعين وللتاريخ أقول إن العفيف الأخضر  ظل عنيدا ومصمما على رأية وقد تكون هذه هي المرة الوحيدة التي قابلته فيها، وبعد الحديث في نادي المخيم سرت في شوارع المخيم  وحولي العشرات من الشباب الذين يطلبون التطوع وقد أعطيتهم اسم "صلاح التعمري" المسئول في الكرامة، عن استيعاب المتطوعين علما أنني لم أقابله أبدا في تلك الأيام، وبالنسبة لمهمتي الأساسية في الأردن، فقد عينت الشاب "نسيم اليتيم"مسئولا عن التنظيم الطلابي، ومع ظهور نشاط هؤلاء الشباب وقع خلاف بين التنظيم الموجود وبين نسيم اليتيم حيث اتهم "قدري" والذي ظهر أنه المسئول الأول والمعتمد في الأردن، نسيم اليتيم بأنه ليس عضوا في فتح، وقال لي نسيم فيما بعد أن قدري استغرب أن يحمل نسيم اليتيم كتاب "مرض الطفولة اليساري" للينين، وأذكر أن مواقف وحجج لينين في هذا الكتاب كانت سلاحا نظريا قويا في يدنا في مواجهة التنظيمات اليسارية، إلا أن قدري اعتبر ما يقوم به نسيم ومجموعات الشباب في المخيمات والكليات والجامعة لا تربطه أية صلة بمرجعية فتح في الأردن.

أنهيت مهمتي التنظيمية بتشكيل اللجنة الطلابية ورتبت استلام وتوزيع البلاغات العسكرية وغادرت عمان إلى دمشق يوم 20/3/1968، وصبيحة اليوم التالي فتحت المذياع على إذاعة لندن وإذا بالمذيع يقول: وصلنا هذا الخبر العاجل وقرأ التالي: إن الجيش الإسرائيلي بدباباته وآلياته قد اجتاز نهر الأردن إلى الضفة الشرقية باتجاه بلدة الكرامة حيث يتمركز الفدائيون، وأضافت إذاعة لندن نقلا عن المتحدث الإسرائيلي إن هدف العملية العسكرية الإسرائيلية هو القضاء على المخربين، وأخرجني الخبر الصاعق عن طوري، وصلت المقر في ساعة مبكرة ووجدت بشير المغربي وآخرين وبدا لي أنهم لم يناموا طوال الليل، فالإرهاق الشديد كان باديا على وجوههم جميعا. وكان الحديث كله حول العدوان الإسرائيلي الواسع النطاق على الفدائيين في الكرامة وسمعت "أبو اللطف" يقول بأن "أبو عمار" اتخذ قرارا بالصمود والمواجهة مخالفا قوانين حرب العصابات وإن بعض القادة الآخرين من خارج فتح وقوات العاصفة عارضوا قرار أبو عمار وفضلوا تطبيق قوانين حرب العصابات أو الأنصار، وعدم الدخول في معركة مواجهة دون وجود تكافؤ في القوى، وكشاهد عيان لما لمسته بنفسي في الكرامة فلا توجد تحصينات تصد الدبابات ولا يوجد سلاح مضاد للدروع، وما يملكه الفدائيون  سلاح فردي "الكلاشنكوف" وقنابل صغيرة الحجم معلقة في خاصرة الفدائي، كما شاهدت قاذف "أر بي جي "  في المقر المتواضع في الكرامة، ولهذا فوجئت بما قاله بشير المغربي عن قرار أبو عمار بالصمود والمواجهة مخالفا قوانين حرب العصابات ودون أن تتوفر لديه القوة أو الأسلحة لمواجهة هذه القوة الإسرائيلية التي زادها انتصارها السهل في حزيران 1967 غرورا وغطرسة، لم أتفوه بكلمة عن مهمتي في الأردن، بل رحت أبحث عن عمل أقوم به ووجدت أنيس الخطيب وأحمد الوحش وآخرين يطبعون البلاغات العسكرية والتصريحات السياسية ويقومون بتوزيعها بالهاتف فانضممت إليهم، وعند الظهيرة جاء من قال بأن الأخوة الفدائيين في معسكر الهامة يستعدون للتحرك إلى الكرامة، ووجدت أنني أكثر المعنيين بالذهاب إلى الهامة لأكون واحدا من الفدائيين المغادرين إلى الكرامة، وبالفعل قمت ومجموعة من الشباب الموجودين في المقر بالتوجه إلى الهامة وخلال نصف ساعة كنا نصعد الطريق إلى المعسكر وكانت مفاجأة مذهلة لي حين أمعنت النظر في الفدائي الواقف على أهبة الاستعداد وباللباس الفدائي الكامل ويحمل سلاح الكلاشنكوف وعرفته على الفور، إنه سعيد حمامي الصديق والزميل في الجامعة، والذي كان أبعد ما يكون عن أي التزام سياسي وكان أقرب إلى الوجودي، حين رأيته، انعقد لساني ولم أدر ما أقول.

 إن سعيد حمامي الساخر من السياسة والسياسيين أصبح فدائيا ومسلحا ويستعد للمغادرة إلى الكرامة، وأنا لا أزال في أول الطريق بملابسي المدنية وفي الواقع خجلت من نفسي وشعرت نفسي صغيرا أمام سعيد حمامي الذي قطع مسافة طويلة في زمن قصير، فقد طلق الوجودية وانتمى لحزب البعث ثم ترك حزب البعث والتحق بفتح وتلقى تدريبا عسكريا وأصبح فدائيا مقاتلا وعرفت منه فيما بعد أنه أحد الفدائيين الذين نفذوا عملية قصف إيلات بالصواريخ.

ضحك سعيد حين صافحني ضحكته المعهودة وقال التقينا أخيرا، وقلت: يسعدني أنك هنا، فقال: ويسعدني أن أراك هنا كذلك، وقلت لسعيد: جئت من المقر للالتحاق بالمجموعة الفدائية الذاهبة إلى الكرامة، وقال سعيد: الذاهبون فقط هم من تلقوا تدريبا عسكريا وتطعيما ميدانيا، ولا أعتقد أنهم سيأخذونكم.

قلت لسعيد: لسوء الحظ وصلت من عمان يوم أمس وأردت من قولي هذا أن أجعل المسافة بيني وبينه أقل مما يعتقد، ولكنه كان جبلا شامخا وكنت في واد سحيق ولولا كبرياء الشخصية التي تعطل أحيانا قفزات كبيرة إلى الأمام لطلبت منه مساعدتي في اجتياز هذه المسافة المرئية واللامرئية بين وضعه الجديد ووضعي المضطرب على السفح الآخر من الجبل كما يقول ريجيس دوبريه.

ودعني سعيد وهو يصعد إلى السيارة وكان يبتسم ويلوح بيده، وعدت إلى المقر حيث العمل الدؤوب لتوزيع ما يصل من أخبار معركة الكرامة، وأذكر أنني أضفت بعض الجمل للبيانات السياسية وقد وجدها بشير المغربي مناسبة تماما: معركة الكرامة معركة كل الأمة العربية، معركة الكرامة معركة الصمود الفلسطيني والعربي في وجه العدوان، معركة الكرامة: العسكرية الفلسطينية تفرض نفسها في وجه العدوان، معركة الكرامة قرار بالصمود فإما النصر وإما الشهادة.

وفي اليوم الثاني للمعركة عندما شاهد الناس الدبابات والآليات الإسرائيلية المحترقة في ميدان المعركة وصل مجد الفدائيين إلى السماء، وبدأ اسم ياسر عرفات يتردد على كل لسان وعلمت فيما بعد أن أبو عمار قرر دفن الشهداء في بلدة الكرامة وأرسل فقط جاثمين 17 شهيدا لتدفن في عمان حتى لا تصاب الجماهير بالإحباط. وقد علمت أن عدد الشهداء يزيد عن (90) شهيدا من فتح و 24 شهيدا من قوات التحرير الشعبية، وشهداء الجيش العربي الأردني بلغ عددهم 60 شهيدا.

وفي اليوم الثاني لمعركة الكرامة ظهر لديّ بشكلٍ واضح بطولات الجيش الأردني في التصدي للعدوان الإسرائيلي وللتاريخ أقول إن انتصار الكرامة قد صنعته وحدة الهدف ووحدة العمل ووحدة الإرادة بين قائدي المعركة ياسر عرفات واللواء مشهور حديثه الجازي، حيث عقد القائدان العديد من اللقاءات الميدانية والعمل المشترك لمواجهة قوات العدوان الإسرائيلي، وقد تعزز هذا التنسيق الميداني بقرار الملك حسين بالتصدي للقوات الإسرائيلية ، فأمر سلاح المدفعية بقصف الدبابات والآليات وتدميرها.

 في ذلك الوقت كانت الصورة الواضحة لدي عن حركة فتح أنها قوات العاصفة والذي يلتحق بفتح يذهب فورا إلى قوات العاصفة ولهذا بعد معركة الكرامة بأيام كان علي أن أجد مصدرا ودخلا ماديا يكفيني شخصيا، فليس لدي مسؤوليات عائلية وأسكن بالمجان في المدينة الجامعية ومدينة دمشق تمتاز عن غيرها من العواصم بأن تكاليف الحياة فيها ليست عالية وليست باهظة،  وجدت من مد يد المساعدة لي لإيجاد دخل معقول وكان أول من أوجد لي عملا لا يؤثر على التزامي بفتح هو المناضل الكاتب الفلسطيني فايز قنديل وهو عضو التنظيم الفلسطيني لحزب البعث ومسئول عن صوت فلسطين في الإذاعة ويقدم عدة برامج ثقافية وسياسية وتاريخية، وأوكل إليّ كتابة مادة عن فلسطين في مختلف المجالات دون أية قيود وأما الثاني الذي ساعدني فكان الصحفي والكاتب السوري فؤاد نعيسه وكان رئيسا لتحرير مجلة الاشتراكي الصادرة عن اتحاد العمال وبدوره لم يضع أية قيود أو اشتراطات بل طلب أن أكتب عن فلسطين، وبعد فترة قصيرة أصدر قرارا بتعيني سكرتيرا للتحرير، وكان ممن عمل معنا البدوي الطيب فؤاد بلاط الذي تولى فيما بعد رئاسة هيئة الإذاعة والتلفزيون ونقابة الصحفيين.

في هذه الأثناء ولمدة عام تقريبا واصلت العمل في اللجنة الطلابية وفي اتحاد الطلاب وسط خلافات داخلية وخلافات فصائلية، أما الخلافات الداخلية فكانت تعود إلى تغلغل التنظيم الطلابي في كل المعاهد والجامعات والمخيمات على حساب الشخصيات التقليدية التي اهتزت عروشها أمام طلبة صغار السن، أصبحوا يتحكمون في الدوام والدورات والمظاهرات وحتى حمل السلاح علنا.

ووجدت هذه الشخصيات التقليدية التي تسللت بدورها للالتحاق بفتح، لأن أبواب فتح مفتوحة للجميع، وأن الانتماء لفتح أصبح يزيد المرء وجاهة ومجدا،  وجدت هذه القوى في التعبئة السياسية التي نقدمها للشباب خروجا على مبادئ فتح وأهدافها. وقد فبركت هذه القوى بيانا سياسيا وموقعا باسم "التنظيم الطلابي اليساري لحركة فتح". والبيان المفبرك جعل أصابع الاتهام توجه لي، فأنا اليساري منذ لقائي مع بشير المغربي، وفي الوقت نفسه تقريبا كانت المشاحنات الطلابية في ذروتها، وتدخلت علنا وماديا في خلاف مع الطلاب البعثيين الذين مزقوا بيانا لحركة فتح على لوحة الإعلانات، وكان من نتيجة ذلك، اشتباك بالأيدي وتحطيم لوحة الإعلانات.  وتدخل اتحاد طلبة الجامعة ومنع الطرفين من تعليق البيانات من جديد. إلا أن أصداء هذا الاشتباك وتدخلي المباشر فيه وصل إلى حيث أعمل في جريدة الاشتراكي واستدعاني الرجل المهذب عبد الله الأحمد رئيس الاتحاد وطلب مني بأدب شديد تلطيف الأجواء في الجامعة وقرأ لي قرارات الحزب حول حرب التحرير الشعبية منذ فترة طويلة.

وتزامنت الأزمتان أزمة تنظيمية داخلية تعتبر التثقيف السياسي الثوري خطرا على فتح وأزمة في العمل، حيث شكرت عبد الله الأحمد وذهبت عند الأخ الكريم فؤاد نعيسه وقدمت له استقالتي من الجريدة، أما الأزمة الداخلية فتصاعدت حتى وصلت بشير المغربي مسئول التنظيم في ذلك الوقت وعضو القيادة العليا لفتح، وقال لي أنت الآن أنهيت دراستك الجامعية في الشهر الماضي كما علمت وكان هذا في دورة  شباط 69، ولم تعد طالبا ولهذا سنكلفك بمهام جديدة في الخارج وحين لم يجد مني أي اعتراض على أقواله قال لي: أصدرت قرارا بإرسالك إلى السودان للاتصال مع الحزب الشيوعي السوداني وتنظيم العلاقة بين فتح والحزب، وأنت خير من يقوم بذلك، وأصدر أمره بترتيب سفري إلى القاهرة وإلى السودان على وجه السرعة وهكذا انتهت مرحلة من حياتي السياسية امتدت من حزيران 1967 وحتى آذار 1969.




دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الثانية :العمل في الدائرة الخارجية

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الثانية :العمل في الدائرة الخارجية
أحمد عبد الرحمن
تاريخ النشر : 2013-11-22
كبر الخط صغر الخط
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

الفصل الثاني:

العمل في الدائرة الخارجية 


وصلت  القاهرة يوم (11) آذار 1969 في يوم استشهاد الفريق عبد المنعم رياض بقذيفة مدفعية على قناة السويس، ورأيت في الشوارع غضب الشعب المصري وقابلت أبو رؤوف الشقيق الأكبر لأبو عمار ورحب بي وحدثني عن دوره القديم في نصرة الثورة الجزائرية التي أهدت هذا المكتب  لفتح بعد انتصار الجزائر.

وحضر لقاءنا مصطفى عرفات وينادونه أبو درش وهو الشقيق الثاني لأبو عمار، وتقرر أن يرافقني إلى السودان حيث لديه معارف كثيرون هناك، وكان رجلا مرحا وخفيف الظل وصاحب نكتة، وجعل رحلتي إلى السودان رحلة ممتعة حقا، وتبين لنا بعد وصولنا إلى الخرطوم أننا لسنا أول من يصل السودان من فتح فهناك ممثل لفتح اسمه علي الزميلي ويسكن في فيلا واسعة محاطة بحديقة كبيرة أهداها لفتح وزير الإعلام السوداني "عبد الماجد أبو حسبو"، وحين عرف مصطفى عرفات بوجود ممثل لفتح في السودان ومكتب يداوم فيه شاب فلسطيني مقيم مع عائلته في السودان، قام بترتيب لقاء مع الزميلي وتقرر أن أنتقل من الفندق إلى الفيلا، وعرف الزميلي بطبيعة مهمتي ولم يرفض ولم يرحب وبدا كأنه قبل بقرار إرسالي إلى السودان على مضض، وقد تعرفت في السودان على مدير مكتب المنظمة هناك وهو الأخ عبد اللطيف أبو حجلة / أبو جعفر، وأجريت اتصالات محدودة مع اتحاد طلبة جامعة الخرطوم مع عناصر من الحزب وشرحت لهم مهمتي للاتصال بالحزب، إلا أن مهمتي في السودان انتهت بأسرع مما أتوقع، فالأخ الزميلي لا يرى ضرورة لمهمتي هناك فهو يتصل بالجميع وقد لقي قراره ترحيبا لدي، حيث كان همي الوحيد أن أكون داخل فتح ومؤسساتها وفي أرض المعركة بالذات وليس بعيدا آلاف الأميال عن كل الشرق الأوسط وأكتفي بما أسمعه عن فتح والثورة في الإذاعات التي من الصعب التقاطها في الخرطوم، وخلاصة القول أنني لم أمكث في الخرطوم سوى شهرا واحدا تقريبا، غادرت بعدها إلى القاهرة دون هدف محدد هذه المرة، ولكن بذريعة شكلية وهي أن السودان لا تحتاج لأكثر من ممثل واحد يتولى إجراء الاتصالات بكل الأحزاب السودانية ولا حاجة ليكون هناك ممثل خاص للاتصال مع الحزب الشيوعي السوداني. وقد غادرت السودان قبل أيام معدودة من الانقلاب العسكري الذي قاده جعفر النميري، حيث ألغى الأحزاب كلها، وفي القاهرة التقيت مع أبو جهاد أولا ومع أبو إياد وأبو عمار، ويبدو أنهم كانوا في لقاءات مع المسئولين المصريين، وعلمت فيما بعد أن محمد حسنين هيكل قد نقل لأعضاء القيادة عدم ارتياح جمال عبد الناصر لبرنامج صوت العاصفة وكيف يقدم المواد التي يجرى بثها، ومن غرائب الصدف أن الموجه للبرنامج كان سعيد المزين ( أبو هشام) الذي التقيته قبل سنتين في مكتب الإعلام في دمشق واختلفنا حول الموقف من عبد الناصر فقد كان أبو هشام يحمله مسؤولية هزيمة حزيران.

 وفي اليوم الذي دخلت فيه مبنى الإذاعة في مقرها ( 4 شارع الشريفين) لم يكن أبو هشام موجودا وعين الأخ فؤاد ياسين مسئولا عن البرنامج وهو من الذين تركوا الإذاعة السورية بعد الانفصال، وقد علمت أن سبب غضب عبد الناصر كان تعليقا من صوت العاصفة وبعنوان "ماذا يفعل الأسطول السوفييتي في البحر الأبيض المتوسط " واستدعى الرئيس عبد الناصر هيكل وطلب منه نقل عدم رضاه لقيادة فتح، وتردد أن عبد الناصر قال بعد أن قرأ التعليق: "مين دول، هم مش فاهمين إنو الأسطول السوفييتي لمساعدتنا، إيه الحكاية؟ فهمهم إنو الأسطول السادس الأمريكاني هو اللي مع إسرائيل وضدنا مش السوفيتي ".

يبدو أنني وصلت في اللحظة المناسبة، وبالفعل أخذني أبو جهاد معه إلى مبنى الإذاعة ولم أكن قد قابلته من قبل أبدا وقال لفؤاد ياسين أنه قد تم تعييني في الإذاعة، وبالطبع لم يشرح لي أبو جهاد أسباب هذا التعيين ولا المطلوب مني، فالمسؤول الأول في الإذاعة هو الذي يتولى رسم السياسة وتقرير الموضوعات أو رفضها، ولكنه حين قدمني لفؤاد ياسين قال له: "أنني كنت أكتب مقالات وتحليلات سياسية في مجلة الاشتراكي التي يصدرها اتحاد العمال في سوريا، والإشارة هنا واضحة فمجلة الاشتراكي كانت عمالية ويسارية واشتراكية زمن صدورها حين كان خالد الجندي رئيسا لاتحاد العمال ولم يتغير الكثير في سياستها حين تسلم عبد الله الأحمد رئاسة الاتحاد بعد الجندي. وهنا لا بد أن أسجل أن أبو جهاد وكان دينامو فتح الذي يحرك كل شيء وبصمت مذهل، تراه ولا تراه الحاضر في كل صغيرة وكبيرة في كل مجال، ويبحث في كل أركان الأرض من أجل فلسطين.

وصحيح  أن الأصول السياسية لأبو جهاد تعود إلى الإخوان المسلمين، ولكنه لم يقترب يوما من موضوعات الخلاف حول اليسار واليمين أو الرجعية والتقدمية الرائجة في الساحة الفلسطينية، كان يرفض المغالاة وجر قضية فلسطين إلى هذا المعسكر أو ذاك، كان يجر المعسكرات وأنصارها لخدمة فلسطين، كان وطنيا واستقلاليا قل نظيره.

في الواقع جاء تعييني محررا في صوت العاصفة في القاهرة من قبل أبو جهاد لتكريس الخط الوطني والاستقلالي بعيدا عن المغالاة الإيديولوجية التي عكست انحيازا لصالح الإخوان المسلمين، وبالطبع بهدف التأكيد على الإنسجام بين فتح والناصرية، فعبد الناصر كان قد بدأ حرب الاستنزاف على قناة السويس، وقدم لفتح الأسلحة في شحنات متلاحقة إلى دمشق وعمان، وتدخل مباشرة وبشكل قوي لمنع المساس بالمقاومة في الأردن ولبنان وأرسل ضباطا من المخابرات إلى الأردن وسوريا ولبنان لتنسيق العلاقة مع فتح في مجال المقاومة، وأصبح معروفا في وقت لاحق أن قصف إيلات بالصواريخ كان عملا مشتركا بين فتح والضباط المصريين، وقد شارك في هذه العملية سعيد حمامي وتم ضرب مصنع البوتاس على البحر الميت بشكل مشترك بين فتح والضباط المصريين. ولهذا لا يمكن لقيادة فتح أن تقبل أن يكون برنامج صوت العاصفة وهو لمدة نصف ساعة فقط، بالسماح أن يحمل البرنامج في مواده المذاعة ما يؤثر على هذه العلاقة مع مصر عبد الناصر، فجرى سحب أبو هشام وتكليف فؤاد ياسين بالمسؤولية .

دخلت مبنى الإذاعة (4 شارع الشريفين)، برفقة أبو جهاد وهذا جعلني موضع رعاية واهتمام من فؤاد ياسين وبقية العاملين وتعرفت على الطيب عبد الرحيم وعبد الله حجازي، خالد مسمار، عبد الشكور، يحيى رباح، زياد عبد الفتاح، يحيى العمري، فؤاد عباس، محمد الدرهلي، وحيد بدرخان، وشباب مصريين منهم حسن أبو علي الذي لم يتركنا أبدا وظل عاملا في فتح.

 يتولى المسؤولية الكاملة عن البرنامج فؤاد ياسين والطيب عبد الرحيم يقدم "نداء المقاتلين" وعبد الله حجازي "صوت من قواعد الثورة " وفي فترة لاحقة التحق حمدان بدر ورسمي أبو علي وعزمي خميس، وقدم حمدان فقرة باللغة العبرية ومعه مكرم يونس.

ولمدة شهرين من أواسط نيسان 1969 وحتى أواسط حزيران 1969 بقيت في الإذاعة أكتب تعليقا حول قضية معينة أو أحرر الأخبار عن العمليات الفدائية والبلاغات العسكرية دون أن يكون لي دور تقريري لتوجيه البرنامج العام وفي هذه المدة القصيرة التقيت مع الشاعر والثائر معين بسيسو وكان يعمل في الأهرام واصطحبني معه وعرفني على لطفي الخولي وطاهر عبد الحكيم وعبد المنعم القصاص وآخرين كثيرين ولا أنسى أبدا الدفء المصري تجاه المقاومة الفلسطينية لدى هؤلاء جميعا.

في تلك الأثناء كان الأخ صلاح خلف / أبو إياد يتردد على الإذاعة وكنت قد لمحته في الكرامة قبل المعركة بشهرين تقريبا، ولا أزعم الآن أنه تذكر لقاءنا العابر في الكرامة، إلا أنه استدعاني في أوائل حزيران 1969 وسألني إن كنت مستعدا للقيام بمهمة خاصة لصالح الثورة وفتح في أوروبا، وأضاف بما أنني حتى الآن لم أتسلم مسؤولية دائمة في الإذاعة فيمكن الاستغناء عني ولن يتأثر العمل في غيابي وبالفعل كان محقا فيما قاله ولهذا قلت له: أنا مستعد لأي عمل تكلفني به سواء هنا أو في أي مكان، وكان أبو إياد هو المسئول الأمني الأول في فتح. وقلت لأبو إياد: ولكن جواز سفري تنتهي صلاحيته خلال أيام، فقال هذه مشكلة بسيطة، بالفعل رافقته في اليوم التالي لزيارة السفير الأردني في القاهرة، طيب الذكر والرجل الفاضل حازم نسيبة الذي أمر فورا بتجديد جواز سفري، ولم نغادر مقر السفارة الأردنية إلا والجواز الجديد في جيبي، وقال لي أبو إياد: جهز نفسك للسفر خلال يومين.

 ودون أن أعرف الجهة التي سأسافر إليها، وفي اليوم الثالث سلمني أبو إياد التذاكر المطلوبة وأبلغني أن وجهتي جنيف وأن شخصا ينتظرني في المطار وهو سيتعرف عليك ويتولى ترتيب الأمور كلها حول مهمتك هناك. غادرت القاهرة يوم الحادي عشر من حزيران 1969، وبالفعل استقبلني شخص في المطار وقال إن اسمه إبراهيم وهو يعمل في مكتب المقاطعة العربية في جنيف، وعلمت منه أنه يعمل الآن للحصول على الأوراق الخاصة بالفدائية أمينة دحبور والمسجونة في زيورخ لمشاركتها في خطف طائرة سويسرية أو أن عملية الخطف حصلت وفشلت في زيورخ وتم إلقاء القبض عليها هناك.

 وأضاف: ليس مطلوبا منك سوى الانتظار ريثما انتهي من تحقيق المطلوب ولكن بإمكانك أن تزور مكتب الجامعة ويمكنك أن تجلس هناك حيث يوجد مقهى تحت المبنى مباشرة، ولأنه ليس لدي ما أعمله ولا أعرف أحدا في جنيف، فقد داومت في المقهى تحت مكتب الجامعة بانتظار أن يوفر المسئول المصري المطلوب لأحمله إلى أبو إياد الذي كلفني بالمهمة، ولا بد أن أذكر هنا أن أبو إياد سلمني قرارا من الأخ بشير المغربي بأنني "ممثل فتح في أوروبا" ويبدو أن المسئول المصري في مكتب المقاطعة والذي أطلعته على الكتاب، قد نقل هذا الخبر لأحد الفلسطينيين الذي يدرس الدكتوراه في جامعة جنيف، وذات يوم وأنا أجلس في المقهى اقترب مني شاب وعرف بنفسه وقال أنا فؤاد شمالي أدرس الفلسفة في جامعة جنيف، فرحبت به، فهو أول شخص يقترب مني ويزيل هذا الشعور الطاغي بالوحدة والعزلة في مدينة تضج بالحياة والساعات، وبعد قليل مد يده في جيبه وأخرج ورقة ناولني إياها وقرأت فيها مايلي: قرار من مفوض التنظيم بشير المغربي بتعيين فؤاد شمالي ممثلا لفتح في سويسرا. وأعترف أن الخبر أسعدني بقدر ما فاجأني، وكان الأجدر أن أكون على علم بوجود ممثل لفتح في سويسرا. وهذه الظاهرة التي شكلت خللا لفترة طويلة في عمل فتح بسبب سرعة العمل وتعدد مراكز القرار، فما حصل الآن في جنيف حصل مثله في عمان وفي الخرطوم.

رعاني فؤاد شمالي رعاية كاملة حتى أنه اشترى لي ملابس جديدة تصلح لمن يأتي إلى جنيف وقدمني لزوجته، ولمفاجأتي أن "أليسار" زوجته هي ابنة  أنطون سعادة  مؤسس الحزب القومي السوري الاجتماعي، الذي أعدمته السلطات اللبنانية، وكانت السيدة الفاضلة والدة "إليسار" تسكن معهما في جنيف، وأدرك فؤاد بذكائه وثقافته الواسعة أن معرفتي بالحزب السوري القومي الاجتماعي تكاد تكون صفرا، وقال لي بعد يومين: أنه لا يستطيع العودة إلى لبنان لأنه مطلوب بسبب محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها الحزب للإطاحة بـ فؤاد شهاب عام 1961، وكان فؤاد مشاركا في المحاولة، وأضاف: هذا موضوع انتهى التزاما وممارسة ويشرفني الآن أنني ملتزم بفتح، وأعتبر فتح نجحت فيما فشل الحزب في تحقيقه.

وبفضل فؤاد عرف كثيرون عن وجود ممثل لفتح في جنيف، وكانت فتح في ذلك الوقت مثل العملة الصعبة نادرة الوجود ومطلوبة، فمعركة الكرامة جعلت من فتح مصدر فخر لكل عربي أينما وجد، وأخبرني فؤاد أن زميله في الجامعة كمال خير بك يسره أن يتعرف علي وبالفعل اجتمعنا نحن الثلاثة في شقة فؤاد وكان كمال من القوميين السوريين  وهو مثقف واسع الاطلاع ويحضر رسالة دكتوراه في الجامعة في الأدب العربي والأدب المقارن، وجرى بيننا حديث طويل حول أفكار فتح والحزب القومي السوري، وأنه في المستقبل لا بد لفتح أن تتبنى برنامج الحزب بتوحيد الهلال الخصيب لبناء القوة السورية  لتحرير فلسطين، وفي الحقيقة استهوتني هذه الفكرة التي تمكِّن فتح من تعبئة الشعوب في سوريا ولبنان والأردن وفلسطين والعراق لخوض معركة التحرير، لكن ما وجدته غريبا، اعتبار أنطون سعادة لجزيرة قبرص أنها نجمة الهلال الخصيب، ولكن دون أن أثير هذه القضية مع كمال خير بك  وبقينا أصدقاء طوال حياة فؤاد الذي اكتشف بعد وقت قصير أنه مصاب بمرض "سرطان الدم "وأنه يعرف اللحظة التي تنتهي فيها حياته، ولهذا تمنى أن يفجر نفسه بطائرة فوق تل أبيب، وقد شارك في عملية نسف خزانات النفط في مدينة تريستا شمال إيطاليا في قاعدة للأمريكيين هناك وتوفي فؤاد في صيف عام 1972 وحضرت جنازته في بيروت وقد دفن في مقبرة الشهداء، أما كمال خير بك فقد اغتالته يد آثمة في بيروت في أتون الحرب الأهلية في لبنان عام 1980.

وبفضل فؤاد وجهوده الحثيثة توسعت نشاطاتي في جنيف فالتقيت  مع المرحوم عبد الحميد شومان مؤسس البنك العربي وهو من قرية بيت حنينا وبينها وبين قريتي بيت سوريك لا تزيد المسافة عن خمسة كيلو مترات، واستقبلني المرحوم شومان في مقر فرع البنك العربي في جنيف ورحب بي أشد الترحيب لأنني أمثل فتح أولاً التي رفعت رأس العرب عاليا بعد أن لطخته هزيمة حزيران بالتراب وحين عرف أنني من بيت سوريك أخذ يتذكر أيام صباه وشبابه في قرية بيت حنينا وأبدى حسرته على احتلال القدس الشريف وقال: الأمل فيكم كبير ويجب ألا يفلت زمام القضية من أيديكم وحدثني عن صداقته الطويلة مع أحمد حلمي عبد الباقي (أحمد حلمي باشا رئيس أول حكومة فلسطينية في عام 1948) ومأساة عام 48 وكيف ضاعت البلاد.

وبعد أن انتهى من سرد الذكريات المؤلمة سألني عن مهمتي فقلت له أنها تنظيمية للشباب الفلسطيني في الجامعات والمهجر، وإذا به يسأل فؤاد إن كان لفتح مكتب في سويسرا فأجابه فؤاد بأنه يدرس في الجامعة ويقوم بالعمل لتنظيم الطلبة والمناصرين للمقاومة من خلال مجموعات سويسرية فقال المرحوم شومان: لا بد من وجود مكتب للعمل من أجل فتح، ففي جنيف وحدها (اثنتان وعشرون) منظمة يهودية في خدمة إسرائيل، وطلب مني أن أزوره في مكتبه في البنك في اليوم التالي وقال: الفصل صيف والمصطافون العرب بدأوا يتوافدون على سويسرا، ولا بد أن يتبرعوا لفتح وفلسطين ومن أجل فتح المكتب في جنيف، وبالفعل داومت في مكتبه لأكثر من عشرة أيام، وكان يستقبل المصطافين الأثرياء وخاصة من دول الخليج والسعودية ومن بلدان أخرى ولم يرفضوا له طلبا للتبرع لحركة فتح المجاهدة وللفدائيين أبطال معركة الكرامة.

وأخيرا دعا إلى اجتماع عاجل ضم أكثر من (عشرين شخصا) من الشخصيات الاقتصادية والمالية العربية المقيمة في جنيف وأجلسني بجانبه وبدأوا بالتبرع لفتح وفلسطين ومن أجل فتح المكتب في جنيف.

 بعد أن جمع محاسب البنك المبلغ الذي تبرع به المجتمعون، قال المحاسب على مسمع الجميع: وعبد الحميد شومان يتبرع بضعف هذا المبلغ، فصفق الحاضرون وشرح لهم فؤاد شمالي خطوات العمل المطلوبة لدعم المقاومة الفلسطينية ومنها استئجار مكتب وتجهيزه وشراء سيارة للتحرك ولمست أن الحاضرين وعلى رأسهم المرحوم شومان يحترمون فؤاد شمالي ويثقون به ويعتبرون تعيينه ممثلا لفتح في سويسرا دليلا على بعد نظر قيادة فتح، فهي تبحث عن أفضل الشباب والشخصيات دون حساسية لانتماءاتهم السابقة بل تجند الجميع من أجل فلسطين.

أما اللقاء الآخر الهام الذي تم في جنيف فكان مع الأمين العام لجامعة الدول العربية المرحوم عبد الخالق حسونة، وهذا اللقاء تم كذلك بمبادرة فؤاد شمالي، وقد رحب المرحوم حسونة باللقاء الذي تم في مقر عصبة الأمم، وفي الحقيقة لم يكن لدي أي هدف خاص من هذا اللقاء، كنت أعتقد أنه ينتظر أن يسمع أخبار المقاومة في فلسطين، وقد أنقذني من هذا الحرج مدير مكتب الأمين العام وهو دبلوماسي مصري، فهو استقبلني في الصالة الواسعة الممتدة والموصلة إلى قاعة الاجتماعات الكبرى واعتذر مني لعدم انتهاء الجلسة التي يحضرها الأمين العام في مؤتمر منظمة العمل الدولي، وقال: كلها ربع ساعة ويحضر الأمين العام وأضاف: يسألني هل سأطرح على الأمين العام شيئا محددا وقلت له في الواقع يشرفني لقاء الأمين العام فالجامعة هي بيت فلسطين العربي، وسأعرض على معاليه الوضع الراهن في فلسطين وتصاعد المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.

وقال الدبلوماسي المصري: المقاومة الفلسطينية بعد معركة الكرامة هي أمل العرب جميعا، وكما تعلم فإن الصهيونية شوهت التاريخ، والبعض في أوروبا احتفل بانتصار إسرائيل وهزيمة العرب في حزيران 1967 وفي هولندا صار موشيه ديان بطلا عالميا ووضع كثيرون العصبة على عينهم اليسرى تيمنا بديان، ولهذا لا بد من العمل لخلق رأي عام مؤيد للمقاومة الفلسطينية على مستوى العالم، وتقوم مكاتب الجامعة في الدول المختلفة بفضح الدعاية الصهيونية وافتراءاتها وتزويرها للتاريخ والأحداث، ولكن بعد أن أصبحت المقاومة الفلسطينية قوة حقيقية على الأرض صار الناس يريدون أن يسمعوا من الفلسطينيين أنفسهم وليس من أي أحد آخر يتحدث بالنيابة عنهم، ولهذا أقترح أن تطلب من الأمين العام تعيين ممثل لفلسطين في كل مكتب من مكاتب الجامعة ليتولى بنفسه شرح قضية فلسطين على أن تدفع له الجامعة راتبه أسوة بباقي العاملين.

وقد شكرت الدبلوماسي المصري على هذا الموقف الذي يعبر عن حرصه كدبلوماسي مصري عريق على إيصال كلمة الحق الفلسطيني وبلسان فلسطيني إلى العالم وبالفعل حضر الأمين العام المرحوم عبد الخالق حسونة وهو طويل القامة وعريض المنكبين وشعر رأسه خطه الشيب ويتحدث اللغة الفصحى، وبادرنا بالقول: أهلا بأبطال فلسطين وصافحنا أنا وفؤاد بحرارة وعبر عن سعادته بلقاء ممثل فتح التي تشكل اليوم أمل العرب جميعا وقال: إن الجامعة العربية تواصل رسالتها في خدمة قضية فلسطين في كل مجال، وسألني عن العلاقات بين المقاومة والأردن ولبنان، فقلت العلاقات جيدة والفضل يعود للرئيس عبد الناصر في تمكين المقاومة من تجاوز العراقيل التي توضع في طريقها دون أن أدخل في تفاصيل الإشكاليات التي تحصل مع هذه الدول بين يوم وآخر، ويبدو أن الدبلوماسي المصري شعر أنني ابتعدت عن اقتراحه بتعيين ممثل لفلسطين في مكاتب الجامعة العربية، وكان عدد المكاتب في ذلك الوقت 24 مكتبا موزعة على مستوى العالم، وتدخل الدبلوماسي المصري ومدير مكتب الأمين العام وقال: هناك اقتراح لدى ممثل حركة فتح في أوروبا يود طرحه عليكم.

ورحب الأمين العام بهذا الاقتراح وطلب أن يكون على جدول أعمال مجلس الجامعة في الاجتماع المقبل وقال: طبعا يريد العالم أن يسمع الفلسطينيين أنفسهم وهذا اقتراح سأطلب من مجلس الجامعة الموافقة عليه وتتولى المنظمة تسمية الممثل ونحن نتكفل بتغطية عمله وإقامته وراتبه.

شكرت الأمين العام وودعته، وبالفعل تم إقرار تعيين المندوبين الفلسطينيين في مكاتب الجامعة مباشرة بعد عودة الأمين العام، وفي أول اجتماع لمجلس الجامعة العربية.

وبالطبع لا يعرف أحد في المنظمة أو فتح صلتي بهذا القرار فلم أكن على صلة قوية بصاحب القرار، أبو عمار، وكان قد انتخب رئيسا للمنظمة في شهر شباط من عام 1969، ولهذا لم أكتب لأية جهة سواء عن لقائي مع المرحوم عبد الحميد شومان أو عن لقائي مع الأمين العام لجامعة الدول العربية عبد الخالق حسونة ولا أعلم إذا كان فؤاد شمالي قد كتب لبشير المغربي حول هذه اللقاءات.

  وعندما وافقت الجامعة على تعيين المندوبين لم أكن حتى في القاهرة ولم أجد ضرورة لأشير إلى دوري في هذا الموضوع، أما قضية أمينة دحبور وبعد ثلاثة أسابيع من إقامتي بجنيف فقد حضر الضابط المصري العامل في مكتب المقاطعة العربية لإسرائيل وسلمني ملفا مغلقا لأسلمه لأبو إياد، ولكنه تمنى علي أن أقابل المحامي السويسري من مدينة زيورخ الذي يتولى القضية أمام المحكمة ومعلوم أن سكان هذه المدينة هم من الألمان. وحرص المحامي السويسري أن يدين بأقسى العبارات العدوان الإسرائيلي عام 67 والمدعوم من الصهيونية الأمريكية، وأكد أن من حق الفلسطينيين والعرب أن يقاوموا بكل الوسائل لاسترداد أرضهم من المحتلين الصهاينة، ولا أنسى أن أشير إلى لقاء عابر مع فنان تشكيلي لبناني يعرفه فؤاد في مقهى على مقربة من بحيرة  جنيف، وعلمت بعد عشرة سنوات أن هذا الفنان واسمه ميشيل مكربل كان يعمل مع المخابرات الفرنسية وقد قتله كارلوس في باريس حين جاء  برفقة الشرطة الفرنسية لمداهمة شقة كارلوس الذي يقبع الآن في السجون الفرنسية بعد صفقة سرية بين السودان وفرنسا.

وقبل مغادرتي جنيف إلى باريس رتب فؤاد موعدا مع مناضل جزائري مقيم في سويسرا، وقد طرح علي مسألة السلاح، وضرورة أن يكون لدى الفدائيين أسلحة حديثة ولا يكفي الكلاشنكوف أو الآربي جي الذي يظهر في أيدي الفدائيين، هناك صواريخ حديثة ويمكن استخدامها من قبل فرد واحد أو اثنين، وأضاف أنه يعرف تجار السلاح في سويسرا وألمانيا ويمكنه مساعدتنا معهم لتأمين السلاح المطلوب وللتدليل على علاقاته القوية بتجار السلاح، سلمني نموذجا لصاروخ صغير الحجم من الكرتون ومعه كراس يشرح فاعليته الحربية، ولجهلي بكل أنواع السلاح شكرت المناضل الجزائري ووعدته أن أنقل للقيادة ما سمعته منه، وبالفعل حملت الصاروخ الكرتوني في حقيبتي عند عودتي إلى عمان بعد أسبوعين.

سافرنا إلى باريس أنا وفؤاد في أواسط تموز 1969 فقد تعامل فؤاد مع كتاب تكليفي بأنني ممثل فتح في أوروبا بمنتهى الجدية، وفرنسا هي مركز الثقل الأوروبي ومواقف الجنرال ديغول معروفة من عدوان حزيران، فقد منع تزويد إسرائيل بالسلاح، وأدان العدوان الإسرائيلي، وفي عام 1968 أرسل لياسر عرفات وسام اللورين تعبيرا عن تقديره لقائد مقاومة مشروعة ضد العدوان من  قائد المقاومة الفرنسية ضد النازية الهتلرية التي احتلت فرنسا في الحرب العالمية الثانية.

وفي فندق صغير قرب جامعة السوربون أقمنا مدة أسبوعين، والمقاهي والمطاعم والمحلات المحيطة بالجامعة وعلى أبوابها في هذا الشارع تعج بالحياة ليل نهار، من آلاف الطلبة والطالبات الذين يؤمون جامعة السوربون، وبدت لي الحياة الجامعية هنا عظيمة الاختلاف عن الحياة الجامعية في المشرق، بعد الثورة الطلابية في الجامعات الفرنسية العام 1968، وحين زرنا بيت الطلبة المغاربة كان حديثهم عن حق الطلاب أو الطالبات باستضافة أصدقائهم أو من هم على علاقة بهم دون تدخل الإدارات في المدن الجامعية، وقد انتصر الطلاب الفرنسيون في هذه المعركة، وبالفعل يمكن للمرء أن يشاهد في محطة القطار أو الحافلات أو في زاوية في الشارع العام شابا وفتاة في عناق عاطفي، وكان واقع العلاقات أكثر وضوحا في حديقة اللوكسمبورغ القريبة من جامعة السوريون، وبالطبع كان لا بد بفضل  فؤاد من الوصول إلى محمود الهمشري وكنت لا أعرفه وهو كذلك مسؤول فتح في فرنسا، شاب فدائي عنيد بكل معنى الكلمة، وقد تلقى تدريبا عسكريا في الجزائر وعاد إلى باريس للعمل التنظيمي واستكمال دراسته، ومحمود الهمشري تعامل بكل أخلاقية وانضباط نادر مع مهمتي، علما أنه أقدم مني في الالتزام بحركة فتح، وقال لي محمود الهمشري: لا بد أولا من إطلاعك على عدد الطلاب الفلسطينيين وانتماءاتهم السياسية وأخرج من جيبه كشفا، وكان عدد الطلبة (46) طالبا فقط، وقرأت الأسماء إسما إسما فوجدت إسم عز الدين القلق وفوجئت فعلا، فعز الدين القلق زميلي وزميل سعيد حمامي في جامعة دمشق، وسألته أين يدرس عز الدين فقال محمود: إنه في مدينة ليون يدرس الكيمياء والعلوم فقلت له هذا شاب عظيم ومناضل، وسألني محمود إن كنت أرشحه رئيسا لفرع اتحاد طلاب فلسطين في فرنسا فوافقت على الفور وتمنيت لو أنه يحضر من ليون لألتقي به، وبالفعل بعد يومين حضر عز الدين وعشنا لساعات ذكرياتنا الحلوة والمرة في جامعة دمشق، وفي شهر أكتوبر عاد عز الدين إلى باريس وانتخب رئيسا لفرع الاتحاد، وبعد اغتيال الموساد الإسرائيلي لمحمود الهمشري في عام 1972، تسلم عز الدين القلق المسؤولية بعده وبقي في هذه المسؤولية إلى أن اغتاله أبو نضال عام 1978 في باريس.

كان عدنان كامل المثقف اللامع والقائد البعثي السابق يدرس في باريس، وكان قد غادر دمشق إلى باريس قبل أكثر من عام، وهو شقيق زوجتي فريال كامل وقد استقبلني بحرارة، وقرر أن يقدمني إلى مسؤول الشرق الأوسط في الخارجية الفرنسية (الكي دورسيه)، والكي دورسيه مبنى حجري قديم وعند المدخل القوسي استقبلنا موظف في غاية الأناقة واللطف، وكان يتحدث مع عدنان كامل هذه اللغة الفرنسية التي أحببتها وفشلت في تعلمها، إلا أنني أود دائما سماعها، أما الرجل المسؤول عن دائرة الشرق الأوسط في الخارجية الفرنسية الذي تجاوز الستين من عمره كما بدا لي ويتحدث الفرنسية وبعض الكلمات العربية من اللغة الدارجة في بلاد المغرب العربي، قد رحب بنا ترحيبا حارا إلا أنه قال بأن اللقاء شخصي وليس رسميا، وفهمت من عدنان كامل أنه قال له بالفرنسية: هذه زيارة صداقة وتعارف وأنه شكره لأنه استقبلني، وتبين لي بعد دقيقة أو دقيقتين أن الرجل مطلع تماما على الأوضاع العربية ويعرف الكثير عن المأساة الفلسطينية، هكذا نطق كلمة "المأساة" ولم يكن يريد أن أشرح له تاريخ هذه المأساة، وقال إن "الجنرال" ويقصد ديغول قد وقف ضد حرب حزيران ومنع إرسال السلاح إلى الشرق الأوسط أي إلى إسرائيل وطالب بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة، وقد أرسل "الجنرال" ديغول وسام (اللورين) إلى أبو عمار، تقديراً منه للمقاومة ضد العدوان الإسرائيلي. وراح الرجل يسألني عن المقاومة الفلسطينية وأهدافها ووسائلها، وقلت له نحن شعب تعرض لمؤامرة استعمارية كبرى وتشرد من وطنه وحتى عندما قررت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين وطننا لم نأخذ شيئا، وضاعت فلسطين من جغرافيا الشرق الأوسط وهو البلد الأعرق في التاريخ، بلد الأديان والرسل والحضارات، وسألني سؤالا حول أهداف المقاومة العسكرية وقلت له نستهدف القوات العسكرية ولا نستهدف المدنيين، توقف قليلا ثم قال: في المقاومة وعملياتها من الصعب التمييز بين العسكريين والمدنيين لأن كل مقاومة عمياء والاحتلال عيونه واسعة، هذه كانت تجربتنا في المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، المقاومة عمياء في كل مكان وهذه مأساتها وكان سؤاله الأخير حول الموقف من اليهود المقيمين في فلسطين وأصبح لهم دولة إسمها دولة إسرائيل وهي قوية عسكريا وأوروبا تدعمها بالسلاح والمال والسياسة، والآن أمريكا هي الحاضنة الأكبر لإسرائيل وعدوانها، وكرر ما هو موقفكم من اليهود؟.

كان السؤال محرجا في حقيقة الأمر، ففي ذلك الوقت كان شعارنا وهدفنا تحرير فلسطين من البحر إلى النهر ومن رأس الناقورة إلى رفح، ووجدت أن المخرج أن أبتعد عن مسالة وجود إسرائيل وقدمت له الجواب التالي:  إننا نناضل ونقاوم لتخليص اليهود من الصهيونية تماما كما جرى تخليص الألمان من النازية، والطليان من الفاشية.

ابتسم وقال لي هذا جواب ذكي ولكن مسؤوليتكم تخليص شعبكم من الاحتلال واستعادة أرضكم وتاريخكم، أما مسألة تخليص اليهود من الصهيونية فهي تخص اليهود وحدهم وقال الرجل في نهاية اللقاء قضيتكم صعبة لأنه ليس لديكم عمق تستندون إليه والشرق الأوسط لعبة أمم قديمة.

ودعنا الرجل ورافقنا إلى الباب الخارجي للخارجية الفرنسية وكانت أمامنا حديقة واسعة خضراء جميلة، وقال لي عدنان كامل: هناك المتحف الفرنسي وهذا المدفع البعيد هناك من بقايا نابليون، إن الفرنسيين يعشقون نابليون، وعلى نهر السين مررنا فوق جسر الاسكندر وعليه تمثال أسد من الذهب هدية من قيصر روسيا لفرنسا ربما بعد سقوط نابليون وعودة الملكية بعد معركة واترلو في بلجيكيا 1813 حين تجمع ملوك أوروبا في الحلف المقدس ضد نابليون.

كانت مهمتي في أوروبا  على وشك الانتهاء، واحترت أين أذهب، هل إلى القاهرة أم إلى عمان، وعمان مركز الحدث الفلسطيني بامتياز ولهذا عزمت أن أتوجه إلى عمان بدل القاهرة حين غادرت باريس في العاشر من تموز 1969  والسبب واضح، فقد كنت أسعى طوال الوقت أن أكون في مركز الحدث والفعل وبين الرجال الذين يصنعون التاريخ، وفي عمان بذلت جهودا خارقة حتى استطعت أن ألتقي أبو إياد وأسلمه المظروف الغامض من جنيف وكذلك الصاروخ الكرتوني الذي حملته معي من المناضل الجزائري الذي يعيش في جنيف، ولما لم أكن عضوا في جهاز الأمن الذي يرأسه أبو إياد، فقد كان علي أن أقرر أين أذهب، فليس هناك من يوجهني ويحدد لي مهمة ويحدد لي موقعا في هذا الخضم الهائل في عمان، فصائل متعددة ومسلحون في كل مكان والمخيمات مليئة بالميليشيا المسلحة، وحواجز ذات مغزى للجيش تحيط بعمان، وصراع أيديولوجي بين الفصائل وبيانات عسكرية لا حصر لها تصدر كل ساعة تتحدث عن عمليات فدائية في الأغوار وجنوب البحر الميت والجولان وقصف المستعمرات، وأخذ الفدائيون يطلقون لحاهم تيمنا بالثوريين الكبار في العالم، والكل يساري وثوري، وكانت مكاتب الفصائل منتشرة في عمان في  جبل التاج والهاشمي والوحدات والمحطة واللويبدة وجبل الحسين الذي عثرت فيه على مكتب الإعلام.

وكان هناك أحمد الأزهري ومصطفى الحسيني ووجدت كمال عدوان الذي عرفني لحسن الحظ وربما يكون ذلك خلال عملي في صوت العاصفة لمدة قصيرة، وربما كان أحد الإخوة في القيادة قد ذكر إسمي أمامه. وحين أخبرته أني عدت من باريس وجنيف قبل أيام ، أعتقد أنني شاركت في التحضير للمعسكر الأوروبي علما أنني لم أشارك، ولم يكن لدي أي علم بالاتصالات التي جرت مع عبد الله الإفرنجي في ألمانيا ومحمود الهمشري في فرنسا ووائل زعيتر في ايطاليا واتحاد طلاب فلسطين في بريطانيا لإقامة المعسكر الأوروبي في ضواحي عمان.  ولهذا طلب مني أن أكون ضمن قيادة المعسكر، وقد وافقت على الفور وحضر ماجد أبو شرار، وكان بيننا لقاء عابر في القاهرة ، وأبو عمر( حنا ميخائيل) ومنير شفيق، وناجي علوش وأبو القاسم (يحيى الدقس)، وشاركت في وضع برنامج المعسكر الأوروبي، وكانت مدة المعسكر تقرب من الشهر قضيته مع الشباب الأوروبي، وكان العديد منهم ماويين وتروتسكيين ومن أحزاب اشتراكية واتحادات طلاب. وفي الأمسيات بعد اللقاء السياسي مع مسئول كبير من فتح كان حديثنا معهم حول ثورة الطلبة في فرنسا وخيانة النقابات العمالية للثورة بسبب رشوتها من قبل الرأسمالية الاحتكارية، أما الاتحاد السوفييتي فهو من وجهة نظرهم ضد الثورة العالمية وفشل في بناء الاشتراكية وأقام دولة بوليسية حتى بعد المراجعة التي قام بها خروتشيف، وعندهم بريجنيف نسخة مشوهة عن ستالين، وتحدثوا عن اجتياح المجر وبولندا وبعدهما احتلال تشيكوسلوفاكيا قبل عام تقريبا (ربيع براغ) وعن الفيلسوف الأمريكي هربرت ماركوز والفرنسي جان بول سارتر وما كتبوه لدعم ثورة الطلبة وخيانة الأحزاب الشيوعية والطبقة العاملة للثورة ، وكنت في معظم هذا الجدل الأوروبي أبقى مستمعا، فلست على اطلاع كاف يسمح لي بإعطاء وجهة نظر خاصة، فما هو متاح من معلومات حول ثورة الطلبة والوضع الأوروبي ومواقف المثقفين والفلاسفة من هذه الثورة يتعلق بأحداث الثورة من احتلال الجامعات وإضراب العمال، أما خلفية هذه الأحداث فمجهولة، وانتشر في الصحافة العربية أن( كوهين بنديت ) أحد قادة الحركة الطلابية، يهودي، وهذا يكفي لإدانة ثورة الطلبة في أوروبا وأستطيع القول أنني استفدت من الأوروبيين أكثر بكثير مما قدمت لهم من معلومات حول قضيتنا، وقد حرصت لسنوات عدة على التواصل مع العديد منهم في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وفي تقييم قيادة المعسكر الأوروبي مع كمال عدوان قلنا  أننا زرعنا بذرة التضامن مع كفاحنا الوطني في  جيل الشباب في أوروبا الذي هو جيل المستقبل، وقد عمقت تجربة المعسكر علاقاتي مع ماجد أبو شرار وأبو القاسم الدقس وأبو عمر (حنا ميخائيل)، أما مع ناجي علوش فقد كان ينطلق من بعد قومي ويربط كفاحنا به وهذا ما لم أكن أوافق عليه وقد انطلقت من مقولة فتح "التحرير طريق الوحدة" لأؤكد على أن نبدأ بأنفسنا أولا ونعيد بناء الأداة الثورية الفلسطينية، لأن ما لدينا في الساحة العربية كيانات ودول وليس حركات ثورية فاعلة، أما منير شفيق فكان يحرص على إظهار ميله الشديد للتجربة الصينية ودور الفلاحين فيها لتطوير خلاق للنظرية الماركسية التي تهمل الفلاحين وتعطي الدور الحاسم للعمال، وفي الواقع كانت الصين تقدم لنا المساعدات وتستقبل الدورات العسكرية، وهذا جعل أفكار ماوتسي تونغ سريعة الانتشار في أوساط المثقفين، وأذكر أنني حين ذهبت إلى السودان، وكان موجودا هناك ولفترة قصيرة أحد مؤسسي فتح في مراحلها الأولى (أبو عبيدة)، ولم ألتق به أبدا لا في السودان ولا خارجها، ويبدو أنه ترك حركة فتح في وقت مبكر وجدت في فيلا "عبد الماجد أبو حسبو"، وزير الإعلام السوداني، والتي قدمها لفتح، دفاتر عديدة تركها أبو عبيدة وبخط جميل ومقروء أفكار ماوتسي تونغ حول الثورة وكان يحرص على حفظها غيبا.

انتهى المعسكر الأوروبي وودعنا الشباب إلى بلدانهم، وعدت هذه المرة إلى الإعلام المركزي في عمان الذي يتولى مسؤوليته كمال عدوان ونائبه ماجد أبو شرار، وقد أقيم مبنى للإعلام في جبل الحسين على أطراف المخيم وكان هناك حنا مقبل وأبو نضال غطاس وحكم بلعاوي وأبو فارس وفريق المعسكر الأوروبي الذي يمكن أن يكون بمثابة الإعلام الخارجي.  وكانت تصدر نشرة تثقيفية عن الإعلام المركزي يتولى مسؤوليتها حكم بلعاوي ومن مكتب آخر بعيد عن الإعلام، أما الإعلام المركزي فكان يتولى توزيع البلاغات والبيانات ويصدر الكراسات التثقيفية، وفي يوم (21 آب 1969 ) وقعت جريمة حرق المسجد الأقصى على يد متطرف يهودي أسترالي اتهم بالجنون وقامت الدنيا الفلسطينية والعربية والإسلامية ولم تقعد، فحرق الأقصى ومنبر صلاح الدين كانت بالفعل جريمة كبرى هزت مشاعر العرب والمسلمين في كل مكان، وأدانت كل الهيئات الدولية هذه الجريمة النكراء، أما صلتي بهذا الحدث الكارثة فكانت استدعائي في اليوم الثاني مباشرة إلى مقر القيادة، حيث كان أبو عمار وأبو إياد وأبو اللطف وكمال عدوان يجتمعون في غرفة مغلقة وانتظرت لأكثر من ساعة حتى انتهى الاجتماع ودخلت وصافحتهم جميعا، وبادرني كمال عدوان بالقول: قررنا أن تعود إلى القاهرة للعمل في إذاعة صوت العاصفة، فقلت له "أنا على استعداد"، وفجأة ناولني أبو اللطف ورقة صغيرة فإذا بها القرار التالي: "يعود أحمد عبد الرحمن للعمل في صوت العاصفة ويعمل ربحي عوض تحت إمرته " استغربت من هذا القرار خاصة وأن ربحي أقدم مني في فتح، وقلت له نتدبر الأمور بدون قرار، فقد تعاونا في السابق وعلاقتنا جيدة، إلا أن أبو اللطف أصر وقال يجب أن تكون العلاقات في العمل واضحة والتسلسل واضحاً وبلا مجالات.

ولدهشتي الشديدة حين وصلت القاهرة ذهبت إلى مبنى الإذاعة (4 شارع الشريفين) ولم أجد ربحي عوض بل كان أستاذنا جميعا فؤاد ياسين يتولى المسؤولية الكاملة عن برنامج صوت فلسطين وصوت العاصفة والطيب عبد الرحيم نائبه وهو ابن الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود الذي استشهد في معركة الشجرة في عام 1948، والطيب كتلة حرارية مشعة وتملأ المكان بالدفء والحيوية وهو يكرس كل وقته لفتح ولأي عمل يطلب منه وكان قد أنهى دورة عسكرية في الصين وكان معتمد فتح هايل عبد الحميد الذي بفضله ومثابرته أصبحت فتح التنظيم الفلسطيني الأول في مصر، فقد انتدبته القيادة قبل عدة سنوات لهذه المهمة في القاهرة وكان قبلها يدرس في ألمانيا إلى جانب هاني الحسن وعبد الله الإفرنجي وأمين الهندي ويحيى عاشور (حمدان) الذي كان في النمسا وهو صاحب تجربة طويلة وثمينة في العمل السري في ألمانيا وفي مصر حتى معركة الكرامة، وعمل هايل عبد الحميد في دوائر المنظمة أيام المرحوم أحمد الشقيري دون أن يكتشف المسؤولون في المنظمة مسؤوليته في فتح. وحين اكتشف أمره بسبب نشاطاته لبناء تنظيم فتح صدر قرار غريب بطرده حيث ينص القرار على التالي: يلغى هذا القرار من يوم صدوره".

رحب فؤاد ياسين والطيب والعاملون جميعا بعودتي للعمل في الإذاعة، ولأن مدة البرنامج نصف ساعة فقط فلم تكن حاجة للدوام طوال النهار، ولذا هناك وقت يجب أن نعمل فيه، حيث أصبحت فتح تملأ الفضاء الفلسطيني كله، فهناك مكتب لفتح ومكتب للمنظمة والمقر العريق لاتحاد طلاب فلسطين ومكتب أبو رؤوف في الأوديون ومكتب اتحاد العمال والمنظمات الشعبية أخذت تقوم بنشاطات في الوسط المصري وأذكر أنني في سياق تلك النشاطات زرت قرية "كمشيش" الشهيرة وقضيت ليلة فيها واستمعت إلى تاريخ الفلاح المصري وهو تاريخ البؤس والشقاء في زمن الإقطاع والباشاوات الذي ظلت له بقايا مواقع سلطة رغم الإصلاح الزراعي الذي نفذه عبد الناصر وأعاد الأرض للفلاحين.

وفي عودتي للعمل في الإذاعة وبدعم من أبو اللطف  وكمال عدوان وأبو إياد الذي كان قد أجرى حواره الشهير مع لطفي الخولي في مجلة الطليعة، قمت بالاتصال بعدد كبير من المثقفين المصريين وهم في الأغلب وطنيون ويساريون في الأهرام والمصور و روز اليوسف والجمهورية وأخبار اليوم، فبعد حرب حزيران وقعت مصالحة تاريخية بين عبد الناصر واليسار، وكان هؤلاء المثقفون  كتابا كبارا ومعلمين في السياسة والوطنية والنضال ضد الاستعمار، وللتاريخ أقول إن مساهمتهم في برنامج صوت العاصفة قد وطد العلاقة المصرية مع فتح في مجال السياسة والإعلام كما هي في مجال الأمن والدعم العسكري وخاصة بعد اللقاء التاريخي بين الزعيم عبد الناصر وقائد معركة الكرامة ياسر عرفات.

ولا أنفي وقوع  خلافات في وجهات النظر في جهاز صوت العاصفة، وبحكمته كان هايل عبد الحميد يجد لها الحل المناسب، فقد كنا جميعا شبابا مسكونين بالشعارات الثورية التي تدعو إلى تغيير العالم، وقد نجح فؤاد ياسين في خلق نواة إعلامية تفوقت حتى على صوت العرب الذي تراجع دوره وتأثيره بعد هزيمة حزيران 67.

أما على صعيد المهام الأخرى فقد أصبحت عضوا في لجنة المنطقة وهي الإطار التنظيمي الميداني الذي يتبع لجنة الإقليم، وتوليت التثقيف والتنظيم وضمت اللجنة بسام أبو الصلح ومجيد الآغا والمهندس خالد العلمي والدكتور صلاح، وكنت أركز في عملي التنظيمي على جذب طلاب العلوم والطب والهندسة والكيمياء، وكانت العقوبة لأي تقصير تنظيمي تنظيم طلاب جدد لحركة فتح من هذه الكليات بشكل خاص، ووصلت قوة التنظيم الذروة في أوائل عام 1970، حيث تمكنا من إرسال عدد كبير من الطلاب لدورة عسكرية في ليبيا، وقد استشهد أحد أفراد الدورة وهو شقيق خالد العلمي في أيلول عام 70 في عمان، وسقط عدد منهم في جنوب لبنان جراء قصف جوي إسرائيلي لقاعدتهم.

ولأن واقع فتح التنظيمي يعوزه الانضباط الشديد بسبب طبيعته الوطنية الفضفاضة فقد أدت المشاكل التي وقعت بين لجنة الإقليم ولجنة المنطقة إلى أن يصدر أبواللطف قرارا بنقلي إلى عمان للعمل في الإعلام المركزي.

كانت عمان في شهر نيسان 1970 في حالة غليان فالأحداث المؤسفة تقع يوميا بين الجيش والفدائيين خاصة بعد أحداث نوفمبر 1969 التي أوقعت ضحايا بين الجانبين والتي تدخل عبد الناصر لوقفها وألقى  خطابه الشهير والذي قال فيه "إن المقاومة الفلسطينية وجدت لتبقى" وأضاف أبو عمار مقولته الشهيرة "ووجدت لتنتصر".

وأعترف الآن أن نقلي من القاهرة كان بمثابة إبعاد، ولكنني أتحمل مسؤوليته الكاملة لأنني كنت مثاليا وحادا وأرفض الحلول الوسط العملية، وعودتي هذه المرة إلى عمان تختلف عن المرات السابقة فأنا معروف للمسؤولين جميعا في القيادة وفي الإعلام وكان المسئول المباشر عن الإعلام كمال عدوان ونائبه ماجد أبو شرار كما سبق وذكرت، وقد لمست خلافات صامتة وداخلية بين الإعلام المركزي والقيادة وخاصة مع أبو عمار حول العمليات العسكرية، ما اضطر أبو عمار إلى تشكيل الإعلام العسكري، وعين أبو هشام وأبو الصادق وعطا خيري  وهند جوهرية مسؤولين عنه وهذا الإعلام يتبع للقائد العام مباشرة ولا علاقة للإعلام المركزي به.

وفي حزيران 1970 أوقفت الحكومة الأردنية الصحف ومنعتها من الصدور، فأصدر الإعلام المركزي صحيفة "فتح" اليومية التي وزعت في اليوم الأول أكثر من مائة ألف نسخة، وشكل الملك حسين حكومة جديدة برئاسة عبد المنعم الرفاعي وهو رجل فاضل ومعتدل على أمل تهدئة الأوضاع المتوترة بين السلطة والمقاومة، وأصبح الحديث يدور عن دولة داخل الدولة وعن مخالفات خطيرة ضد القانون لا تعلم عنها القيادة شيئا، فالتعددية الفصائلية وصراعاتها الداخلية دفعتها إلى التطرف في كل قضية صغيرة كانت أو كبيرة وأخذ النظام يشعر بأن هذا الوضع يشكل خطرا عليه، ولهذا أخذ يرتب أموره لحماية العرش والنظام والحكومة بالقوة العسكرية وأقام أجهزة خاصة لرصد أخطاء فصائل المقاومة وتضخيمها أمام الجمهور.

إن التعددية الفصائلية المنفلتة والمنفلشة هي الوباء القاتل لكل التجربة الكفاحية الفلسطينية ومع أنني مع الحرية الفكرية والأيدلوجية لكل فصيل، إلا أن قضية الممارسة العملية يجب أن تكون واحدة وموحدة ومع أن هذه قراءة متأخرة فإن فيها عبرة للمستقبل، ذلك أن الصراع على فلسطين وفيها هو صراع طويل الأمد ولا بد أن يصل الشعب الفلسطيني إلى الوحدة الداخلية ذات يوم ليتمكن من تحرير وطنه.

وقد أوردت هذا الاستخلاص لتجربتنا في الأردن لأنها رغم المسافة الطويلة التي تفصلنا عنها تحتاج إلى المراجعة والدراسة من قبل أجيالنا المصممة على مواصلة النضال الوطني.

وبالنسبة لعملي في الإعلام المركزي في الأردن فقد كان مؤقتا وكنت انتظر تكليفا جديدا من القيادة، واعتذرت عن العمل في الصين أو باريس، كما اقترح علي أعضاء في القيادة وقلت لا أجيد الصينية ولا الفرنسية، وأقنعتهم بوجهة نظري بأن الممثل الرسمي يجب أن يجيد لغة البلد التي يذهب إليها، وكانت النكتة التي تندرنا بها في ذلك الوقت أن اشتراط اللغة الصينية هو شرط تعجيزي، وأذكر أن الذي قبل الذهاب إلى الصين كان حسني يونس " أبو خالد الصين" تلاه أبو الرائد الأعرج.

وفي أوائل آب 1970 كلفتني القيادة بالسفر إلى أمريكا اللاتينية للاتصال بالمغتربين ولجمع التبرعات لحركة فتح وأعطاني المسؤولون دفاتر تبرعات ورقم حساب فتح في البنك العربي في بيروت وكان هذا الرقم ( 993).

غادرنا سويا أنا والمحامي سمير جبجي وكانت كاراكاس عاصمة فنزويلا هي محطتنا الأولى وبالفعل استقبلنا في المطار من قبل الجالية الفلسطينية وأصروا أن يكون سمير جبجي في سيارة وأنا في سيارة أخرى وأنزلونا في فندق مقابل النادي العربي، وأعطيتهم دفاتر التبرعات ورقم الحساب وقد عاد المحامي سمير جبحي إلى عمان بعد عشرة أيام لارتباطه بقضايا أمام المحاكم في الأردن وبقيت وحدي، حيث زرت مدن فنزويلا جميعها برفقة المغترب علي مطر وهو شاب ناجح ولديه الوقت للتجول معي بحكم وجود أبنائه وإخوته في محلاته التجارية، وقد دخلت منطقة الحدود إلى كولومبيا لبعض الوقت. ونتيجة لتصاعد التوتر بين الثورة والنظام في الأردن وتشكيل الحكومة العسكرية برئاسة محمد داود غادرت كراكاس عاصمة فنزويلا صبيحة يوم 16/أيلول 1970 إلى نيويورك ومنها إلى أثينا ودمشق، إلا أن شركة طيران الأوليمبيك رفضت نقلي بسبب جوازي الأردني، فالجبهة الشعبية خطفت عدة طائرات إلى مطار المفرق وقامت بإحراقها قبل أيام، وكنت أحمل حقيبة سفر صغيرة جرى تفتيشها عدة مرات وإعادتها إلا أن شركة الأوليمبيك التي يملكها الملياردير اليوناني الشهير اوناسيس أصرت على عدم نقلي ووافقت على تبديل تذكرتي لأي خطوط طيران تقبل نقلي، وبعد ساعات مريرة وطويلة وجدت إدارة المطار مقعدا لي على الطائرة الأمريكية  (TWA)المتوجهة إلى ميلانو، ومنها أتوجه إلى دمشق على طائرة ( أليطاليا) وبالفعل وصلت دمشق يوم 18/9/ 1970 ظهرا وعرفت من المسؤولين في مكاتب فتح في دمشق أن مقر القيادة قد انتقل إلى درعا، وهناك وجدت أبو مازن وهو المسؤول الأول ومعه أبو هشام وأبو حسان وأبو زيد (عبد البديع عراقي)، وآخرون لا أعرفهم ولم يكن هناك عمل محدد يمكن القيام به سوى متابعة المعركة في عمان بين الجيش والفدائيين. وكانت الحدود قد أغلقت مع الأردن بسبب التدخل العسكري السوري لنصرة المقاومة.  وقع التدخل والإنسحاب في مدة لا تتجاوز أربعة أيام، وجاء في الأخبار أن الرئيس نيكسون يراقب الموقف من على ظهر المدمرة (سراتوجا) في البحر المتوسط، وإسرائيل تنذر سوريا، والطيران السوري لم يقدم حماية جوية للدبابات التي دخلت الأردن، وعبد الناصر والعرب جميعا يناشدون الملك حسين وقف إطلاق النار وإذاعة عمان تتحدث عن اللواء (40) لواء الشهداء وجاء وفد الرؤساء العرب برئاسة جعفر النميري إلى عمان وتمكن من اصطحاب أبو عمار معه إلى القاهرة وكان محمد داود رئيس الحكومة العسكرية قد استقال لحظة وصوله إلى القاهرة، وأطلقت الأردن سراح أبو إياد وأبو اللطف وإبراهيم بكر وبهجت أبو غربية، وكانت القوات الأردنية قد اعتقلتهم قبل يومين من وقف إطلاق النار الذي تكرر عدة مرات حتى انعقدت القمة العربية في القاهرة بناء على دعوة الرئيس عبد الناصر  25-26/ أيلول 1970 إلا أن ميزان القوى كان قد حسم لصالح الجيش الأردني حيث أعاد الجيش سيطرته على معظم أحياء مدينة عمان ولم يواجه أي مشكلة في السيطرة على المدن الأخرى القريبة من عمان مثل الزرقاء والسلط ومادبا.

كان مصير وجود المقاومة في الأردن قد تقرر نهائيا بعد الوفاة المفاجئة للرئيس عبد الناصر 28/9/1970، فالغطاء العربي الذي قدمه عبد الناصر للمقاومة في الأردن ولبنان لم يعد موجودا، ولم تعد الدول الإقليمية تعير أهمية لرؤية عبد الناصر للأمن القومي أو قومية المعركة أو فتح جبهات ضد الاحتلال الإسرائيلي تؤازر الجبهة المصرية المشتعلة على قناة السويس في حرب الاستنزاف البطولية.

دول الطوق أصبحت أولويتها أمنها الخاص ولو على حساب فلسطين والمقاومة. وهي لا طاقة لها أساسا بمواجهة إسرائيل وليست مستعدة لتلقي الضربات الإنتقامية الإسرائيلية نتيجة عمليات المقاومة، وبعد أيام من وفاة عبد الناصر وصل  أبو عمار إلى درعا وبدأ  بإعادة ترتيب القوات العسكرية وأقام معسكرا في السويداء للتجميع وأما قوات قطاع الجولان والقوات الأخرى التي تم حشدها من سوريا ولبنان، فأطلق عليها أبو عمار "قوات التقدم" وعينني مفوضا سياسيا لقوات التقدم، وكان الجيش الأردني قد انسحب من كل مناطق شمال الأردن ومن مدينة إربد ومن جرش وعجلون وقوته الأساسية أخذت تعود إلى المفرق بجانب وحدات الجيش العراقي التي لم تتدخل لصالح المقاومة على الرغم من وعود عراقية رسمية بهذا الصدد، وكان قائدها اللواء حسن النقيب الذي قال كلمة عراقية شهيرة "ماكو أوامر" من بغداد.

كان الوضع مريعا وفي الرمثا التي مررت منها بعد انسحاب الدبابات السورية كانت البيوت مغلقة ولا تجد أحدا في الشارع، وعدت إلى درعا بعد ساعات ومنها ذهبت إلى معسكر السويداء لإعادة التأهيل من جديد، وأدركت من هذا العدد الكبير في معسكر السويداء أن وجود الثورة في الأردن لن يدوم طويلا بعد وفاة عبد الناصر.

وكانت اللجنة العربية برئاسة الباهي الادغم رئيس وزراء تونس تعمل على تهدئة الأمور في الأردن ومعها كان الضابط سمير المصري الذي اصطحبني معه إلى عمان وزرت في جبل التاج مراكزنا الباقية هناك وتحدثت عن الوضع مع ماجد أبو شرار وناجي علوش وأبو داود وصخر حبش .  وقد اشتكوا من الفوضى وغياب الخطة لحماية الثورة وألقوا باللائمة كالعادة على الفصائل المتطرفة التي صعدت التوتر مع الجيش ولم يؤخذ بحقها أي إجراء مما أوصل الأمور إلى الصدام وكانت النتائج سقوط ما كنا نسميه القاعدة الآمنة في الأردن.

وبعد عودتي من الأردن إلى دمشق، سمعني أبو عمار أتحدث في هذه القضايا مع أبو صبري فأخذني من يدي واصطحبني معه إلى درعا وفي الطريق قال لي: "الجندي الجريح الخارج من المعركة يتم إسعافه ومساعدته وليس محاكمته"، وعند وصولنا إلى درعا وجدنا هناك أبو جهاد وأبو مازن وأبو هشام الذي أصر على قراءة قصيدة كتبها من وحي المأساة في الأردن وكان أبو عمار يقاطعه ويصحح له ويمازحه بقوله "الشعر رديء والشاعر لا يحسن القراءة".

وكان أبو جهاد لا يجلس طويلا في أي مكان وناداني أحد مرافقيه فوجدته ينتظرني عند الباب وفي حي درعا الجديد أوقف السيارة أمام بناية من دور واحد وقال لي:  يا أخ هذه هي الإذاعة جاهزة للبث وموجهة للأراضي المحتلة والأردن وقدمني للمهندس القادم من الكويت والذي قام بتركيبها وتشغيلها والإذاعة من شركة فيليبس وقد اشتراها لنا الفلسطيني الشجاع والذي يعمل في الشركة (محمود رباني) وهي تبث على الموجة المتوسطة قوتها (10) كيلو واط وتولى زهير اللاسلكي الإشراف الفني ومعه فريق يعمل. وأصابتني صدمة عنيفة حين علمت أن أحد الإخوة كان يحاول تشغيل موتور الإذاعة فضربه التيار وتوفي على الفور، وكانت بداية محزنة ومؤلمة حقا.

وصل فؤاد ياسين إلى درعا بعد إغلاق  صوت العاصفة من القاهرة في ضوء الخلاف حول مبادرة روجرز والإساءات التي لحقت بعبد الناصر في أحد شوارع عمان، وقد توافد عدد من الإخوة المذيعين والمحررين من القاهرة وبغداد، فحضر الطيب عبد الرحيم من بغداد والشاعر أحمد دحبور وعزمي خميس ورسمي أبو علي وعيسى الشعيبي وخالد مسمار وبركات زلوم وعارف سليم ويحيى العمري، وأبو زهير (هشام السعدي) تسلم الأستوديو، ومن عمان وصل حنا مقبل وأبو نضال غطاس صويص وعطا خيري وبعد فترة وجيزة غادر فؤاد ياسين والطيب عبد الرحيم إلى القاهرة على أمل أن يعود صوت العاصفة للبث من استوديوهات صوت العرب في القاهرة وهكذا أصبحت مسؤولا مسؤولية كاملة عن برنامج صوت العاصفة في درعا.

وشهدت منطقة درعا نزوحا هائلا للثورة وقياداتها وعناصرها وكانت المفاجأة الأكبر وصول أكثر من أربعة آلاف عسكري من الجيش الأردني بقيادة العميد سعد صايل، وقد تركوا الجيش احتجاجا على قرار الملك بإعلان حالة الطوارئ وتشكيل حكومة عسكرية برئاسة محمد داود وتطويق عمان ومهاجمة الثورة في كل المناطق، وقد أخبرني العميد سعد صايل بأنهم قرروا ترك الجيش لأنهم لا يستطيعون تنفيذ الأمر الملكي لضرب الفدائيين ولا يمكنهم تحويل بنادقهم لإخوة السلاح في الجيش الأردني في الوقت نفسه.

وكان أبو عمار يشرف بنفسه على توفير كل ما يلزم لهذا الجيش الجديد الذي التحق بفتح من سلاح وعتاد وسيارات وتجهيزات عسكرية وبحكم كفاءته ورتبته العسكرية فقد أصدر أبو عمار قرارا بتعيين العميد سعد صايل قائدا لقوات اليرموك ورفعه إلى رتبة لواء.

وقد شكل ضرب الثورة وإراقة الدماء وانسلاخ هذا العدد الكبير من الضباط والجنود من الجيش الأردني الذي خاض معركة الكرامة إلى جانب الثورة، صفحة سوداء في تاريخنا القومي. و بدأت أرى الأمور من منظور مختلف تماما، فليس هناك فيتنام الشمالية تدعم فيتنام الجنوبية وليس هناك جدار صيني وسوفييتي يدعم فيتنام الشمالية في وجه القوة الأمريكية، هناك حول فلسطين كيانات تتشكل من سايكس بيكو، وهذه الكيانات لها أولويات ليس في أولها ولا في آخرها تحرير فلسطين، فالكيانات وهي عربية الوجه ليست لها سياسة قومية كما ضغط عبد الناصر بعد حرب عام 1967 تحت شعار قومية المعركة ولكن الآن الكيانات تسترد قوتها وتعود لأولويات الكيان وتتخلص من كل تهديد لهذا الكيان والتهديد داخلي في حالة مواجهة إسرائيل تحت شعار قومية المعركة.

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الثالثة : إذاعة أم هيئة أركان ؟

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الثالثة : إذاعة أم هيئة أركان ؟
تاريخ النشر : 2013-11-23
كبر الخط صغر الخط
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

الفصل الثالث:

إذاعة أم رئاسة أركان ! 

تسلمت المسؤولية الكاملة عن إذاعة درعا في نوفمبر 1970 وكانت الأزمة مع الأردن في ذروتها، فاتفاق عمان الذي أعقب قرارات القمة الطارئة، أصبح حبرا على ورق بعد وفاة عبد الناصر وموقف وزير الدفاع حافظ الأسد ضد التدخل في الأردن، ووقوف القوة العراقية على الحياد. ولا يمر يوم إلا وهناك اشتباك وسقوط قتلى وجرحى واعتقالات وتدمير مؤسسات حتى الطبية منها في عمان. وعلى المستوى السياسي، كان المحامي إبراهيم بكر يرأس اللجنة المركزية لحركة المقاومة التي تشكلت على عجل قبل أيلول، بصفته نائب أبو عمار، وكانت هذه اللجنة تسعى لتهدئة الأوضاع قدر ما تستطيع إلا أن الوقائع على الأرض كانت كفيلة بإفشال كل المساعي التي تقوم بها.  فعمان لن تكون بعد الآن المسرح الدامي للدولة داخل الدولة.

 وفي عملي كمسؤول عن صوت العاصفة في درعا كنت أقدم للرأي العام كل الأحداث التي تقع على الأرض وأفضح كل الاتصالات السرية بين الأردن وإسرائيل وأمريكا، وقد أدت هذه المكاشفة اليومية بكل ما يجري إلى سخط إبراهيم بكر وما تبقى من القيادة في عمان عليّ شخصيا، وأرسلوا قرارا بعزلي عن المسؤولية في الإذاعة وأصدروا البيانات من عمان التي تعتبر الموقف السياسي الذي أقدمه بصوتي في الإذاعة لا يعبر عن رأي الثورة والمنظمة واللجنة المركزية للمقاومة. وبالطبع، لم أكن أتلقى التعليمات من عمان، ولم أكن أعتبر من تبقى في عمان هو جهة القرار التي علي التقيد بتعليماتها وموقفها السياسي. وكان المسؤول الأول الموجود في درعا في ذلك الوقت هو أبوعلي إياد، وكانت البرقيات من عمان تصله كما تصلني من زهير اللاسلكي الذي يدير هذه الشبكة الهامة للاتصالات بين مختلف المواقع. وقد استدعاني أبو علي إياد لمقر القيادة. ورغم حضوره الطاغي في القواعد والمعسكرات وحكايات الفدائيين في معسكر الهامة وفي مواقعهم المختلفة عن قسوته وجبروته فلم أكن قد قابلته. وكنت استمع إلى كلمات على لسانه يرددها المقاتلون والفدائيون الذين يعرفونه، فاعتقدت أنه فلاح فلسطيني صعب المراس وعنيد وشبه أمي، ولا أنسى أن أحدهم نقل جملة على لسانه قال فيها: "الشباب الفلسطيني بحاجة إلى تقليم وتهذيب حتى يثمر مثل الشجر ". 

حين دخلت مقر قيادته كان الصمت مخيما تماما، فلا تسمع أحدا يكلم أحدا ولو همسا، وكان ينتظرني وطلب تقديم الشاي لي، والغريب أنه ظل صامتا لعدة دقائق ثم فاجأني بقوله "الأخوة في عمان يشكون منك ومن تعليقاتك، وأضاف، ولكن بعدم رضا، يطلبون مني أن أبعدك عن الإذاعة. ثم قال: أعرف أنه لا فائدة منهم في عمان ولا في غيرها. وكان يتكلم باللغة العربية الفصحى وليس باللهجة العامية الفلسطينية. وفي الواقع فوجئت من هذه اللغة التي يتحدث بها، إنها لغة أستاذ وليست لغة فلاح فلسطيني، لا يقرأ ولا يكتب.  وقلت له: يجب أن يعرف الناس والعالم ما يجري على الأرض، ولا أستطيع أبدا إخفاء حقيقة ما يجري، مقابل لقاء في عمان في غرفة مغلقة وظيفته أن يغطي على الجرائم التي ترتكب على الأرض. ويجب أن يعرف العالم أننا مظلومون وأن ما يجري من تصفية لوجود الثورة في الأردن لا يخدم غير إسرائيل.

صمت أبو علي إياد ولم يتكلم ثم ناولني البرقيات التي وصلت من عمان والتي تطردني من الإذاعة وتعتبرني شخصا غير مسؤول. فقلت له: أنا شخص منضبط، وإذا كنت موافقا على قرارهم فسأغادر الآن ولن أعود إلى الإذاعة. فما أقوم به ليس سياسة خاصة بي وليس رأيا شخصيا إنه موقف كل فلسطيني يعيش في الأردن.

وتناولت العشاء مع أبو علي إياد وحدثني عن حياته قبل الالتحاق بفتح وقبل الإصابة في وجهه ويديه ورجليه نتيجة انفجار لغم في معسكر الهامة كاد يودي بحياته وهذا كان في عام 1967.  وعرفت منه أنه خريج دار المعلمين، وعمل أستاذا في المدارس في قلقيلية وطولكرم قبل الالتحاق بفتح. وودعني أبو علي إياد دون أن ينطق بكلمة. ولم أره بعد ذلك أبدا. فقد غادر مقره في درعا إلى جرش وعجلون ليتولى  قيادة القوات في دبين. وفي يوم 17/7/1971 طلب مني أبو جهاد أن أرافقه إلى عمان مع اللجنة العسكرية السورية للعمل على وقف هجوم الجيش الأردني على الموقع الأخير للثورة في دبين وجرش وعجلون والأحراش. ونزلنا في فندق الأردن برفقة اللجنة العسكرية التي كان رئيسها الضابط السوري المسؤول عن الكلية العسكرية واسمه الدرديري. لم يمر الموكب في الطريق الجديدة بين عمان ودمشق والذي يخترق مدينة جرش. فقد كان الهجوم في ذروته. ومررنا طريق المفرق. وهذا جعل اللجنة العسكرية لا ترى ولا تسمع شيئا عما يدور في عجلون. وكان أبو جهاد لا يطلب أكثر من وقف القتال وإنقاذ أبو علي إياد وترك الفدائيين يغادرون المنطقة إلى سوريا. وكانت اللجنة العسكرية الأردنية تنفي روايتنا بالكامل. وجاءنا إلى الفندق إبراهيم بكر، وطلب منه أبو جهاد أن يتصل مع وصفي التل لوقف الهجوم والسماح للفدائيين بالمغادرة بمواكبة اللجنة العسكرية العربية.

 وضحك إبراهيم بكر حين قدمني له أبو جهاد وقال لي: الله يسامحك، وأضاف: هي إذاعة أم رئاسة أركان، ولم أعلق بكلمة، وكنت مشدودا إلى إلحاح أبو جهاد للإتصال مع وصفي التل وتأخر الاتصال، لأن وصفي التل رئيس الوزراء ليس موجودا في مكتبه. وفجأة سمعت حركة سيارات غير معتادة أمام الفندق ففتحت النافذة ونظرت إلى مدخل الفندق فإذا به يعج بالجيبات العسكرية التي تصوب رشاشاتها باتجاه واجهة الفندق حيث نسكن في الدور الرابع بجوار أعضاء اللجنة العسكرية السورية التي كان عدد أفرادها يزيد على عشرة ضباط.

وقلت لأبو جهاد: الفندق مطوق بالجيبات العسكرية والرشاشات مصوبة نحونا. 

وقف أبو جهاد قرب النافذة وقال لإبراهيم بكر: ما هذا الذي يجري؟ هل هذا تصرف من يريد تهدئة الأمور؟ وهل المطلوب مغادرتنا؟

وأجرى إبراهيم بكر اتصالا لا أعرف مع من، إلا أنه قال لأبو جهاد وبالحرف الواحد: هؤلاء الجنود غاضبون، فالفدائيون قتلوا زملاءهم، وهم هنا بدون أمر وبدون تعليمات من القيادة، وسوف يجري رفع حصارهم عن الفندق على الفور.

ولم يغادر إبراهيم بكر الفندق وبقي معنا طوال ساعات النهار، إلا أن الجيبات العسكرية ظلت تحاصر الفندق، وفي اتصال آخر قال مسؤول أردني لإبراهيم بكر: هذه الجيبات هي حرس لحماية اللجنة العسكرية السورية و خوفا من انتقام الأهالي من أبي جهاد ومن معه.

أما المكالمة اليتيمة، والتي طال انتظارها بين إبراهيم بكر ووصفي التل، فقد أقسم وصفي التل أنه لم تطلق طلقة مسدس واحدة في عجلون، وأن الوضع هادئ جدا، وأن ما يجري هي مناوشات تجري السيطرة عليها وسببها اعتداءات الفدائيين على أهالي المنطقة.

وبالطبع كنا نسمع صوت قذائف المدفعية ونحن في عمان. كان وصفي التل صادقا في قسمه فالهجوم لا يتم بطلقات مسدس بل بالمدفعية والرشاشات الثقيلة والدبابات.

عند هذا الحد، قال أبو جهاد لإبراهيم بكر: للأسف الجماعة يريدون إراقة الدماء وغادرنا إبراهيم بكر قبل منتصف الليل بقليل. وقضينا الليل بطوله وصدى قذائف المدفعية تسمعه عمان كلها. ودون قصد مني ذهبت إلى الغرفة التي أنام فيها، فإذا هذه الغرفة بجانب غرف وفد اللجنة العسكرية السورية  أو الصالون حيث يجلسون وكان في زيارتهم رئيس الأركان الأردني في ذلك الوقت، وقد عمل فيما بعد سفيرا للأردن في البحرين، واعتبرت ما استمعت إليه دليلا على تواطؤ اللجنة العسكرية السورية مع الأردن وضد الثورة، فرئيس الأركان الأردني يطمئن  على وصول هداياه لضباط الكلية العسكرية السورية وهذا جعلني أغادر الغرفة وأنقل لأبو جهاد ما سمعت، فلم يعلق بل قال كلمته المعروفة: بسيطة يا أخ!!

وغادرنا عمان صبيحة اليوم التالي 18/7/1971. وكان كل شيء قد انتهى. تمت سيطرة الجيش على المنطقة بكاملها. وقتل من قتل، واعتقل من اعتقل، ونجا من نجا. وحين وصلنا درعا، ذهبت إلى الإذاعة، وتابع أبو جهاد طريقه إلى دمشق. وكان يوما حزينا. اطلعت على نشرة الاستماع التي ترصد الأخبار من الإذاعات المختلفة ومنها إذاعة إسرائيل. وأوردت هذه الإذاعة إن قوات الاحتلال قد ألقت القبض على (  117 ) فدائيا هربوا من عجلون وقطعوا النهر وسلموا أنفسهم لقوات الاحتلال. وتجمد الدم في عروقي، فلم أكن أتصور، ولو في الخيال أن الفدائيين يهربون من نيران جيش عربي ويسلمون أنفسهم لإسرائيل. هذه الحادثة قلبت حياتي وأفكاري وقناعاتي، وتلك المسلمات الساذجة التي أصابتني بالعمى لسنوات وسنوات. ولم أر الواقع العربي المحيط بفلسطين على حقيقته. فالكيانات لا يعنيها غير وجودها. وقومية المعركة شعار أجوف في ظل الكيانات العربية التي لا طاقة لها على مواجهة إسرائيل، ولا حتى على حماية أرضها وسيادتها من الأعمال الانتقامية التي تقوم بها إسرائيل بعد كل عملية فدائية. وفي هذا الوقت لم أكن عضوا في أي إطار قيادي سواء في فتح أو في المنظمة.

 وكان إسقاط النظام الملكي في الأردن على كل شفة ولسان بعد تصفية وجود الثورة والفدائيين في الأحراش وعجلون. فهذا معناه القضاء على القاعدة الآمنة وإغلاق الحدود الأردنية، وهي أطول حدود مع فلسطين في وجه العمل الفدائي. وبيني وبين نفسي، وجدت أن شعارات إسقاط النظام وقيام حكم ديمقراطي في الأردن مجرد كلام فارغ مع أنني أسمح بإذاعة كل تصريح بهذا الخصوص من أي مسؤول فلسطيني. ولم أترك كلمة مسيئة للنظام الأردني أو أي مسؤول فيه إلا وتم إذاعتها على الناس. إلا أن حادثة هروب الفدائيين وتسليم أنفسهم لإسرائيل كانت صدمة الوعي التي نقلتني من عالم الأحلام والأوهام إلى الواقع المر، الواقع العاري الذي كشفت عورته هذه الحادثة التي أراد الجميع تجاهلها وعدم ذكرها. وقد توقفت عندها طويلا، وعدت إلى التاريخ الحديث من النكبة وما بعدها ومؤتمر أريحا وتسمية الضفة الغربية والضفة الشرقية. واعترفت بيني وبين نفسي أن الأردن هو الأردن وأن فلسطين هي فلسطين، وأن ما حدث في أيلول وبعده في الأحراش قد أكد هذه الحقيقة. ولم أكن مقتنعا بأن مهمتنا لتحرير فلسطين تبدأ بإسقاط النظام الأردني وبعده اللبناني وبعده السوري ثم العراقي ثم لا أدري مَن من الأنظمة يجب إسقاطه حتى تمهد الطريق لتحرير فلسطين. وجدت هذا كله نقيضا لفتح التي رفعت شعار عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية لحماية نفسها من التدخل العربي في شؤونها. وللأسف كل هذا شعارات، فالثورة التي فجرتها فتح تدخلت فيها كل القوى العربية، ومن يجرؤ على الادعاء بأن هذا النظام أو ذاك لا شأن له بتحرير فلسطين. أليست فلسطين هي قضية العرب القومية؟

وقد وجدت أن علي أن أكون صادقا مع نفسي ومع تحليلي للإحداث التي وقعت. ولهذا كتبت التعليق السياسي الذي غير حياتي، وأعلنت إلغاء مؤتمر أريحا وإلغاء وحدة الضفتين التي هي في حقيقتها ضم قسري لشرق فلسطين لإمارة شرق الأردن التي أصبح اسمها المملكة الأردنية الهاشمية. وعدت إلى قرارات الجامعة العربية ضد الضم، وقول الملك عبد الله  بأنها "وديعة" سترد إلى أصحابها بعد تحرير فلسطين.

وتحدثت عن تجريد الجهاد المقدس من سلاحه على يد غلوب باشا قائد الجيش الأردني. وعدت إلى القائد الأردني عبد الله التل وما رواه عن حرب1948 وإلى الياهو ساسون وما رواه عن اجتماعات الشونة مع الملك عبد الله.

وجن جنون الكثيرين من هذا التعليق السياسي الذي غير مسيرتي السياسية. فقبل عامين انتقدت بقسوة الدعوات لإقامة دولة فلسطينية، وأصبحت أقول اليوم وبالفم الملآن يجب عدم الخلط بين الأردن وفلسطين بعد الآن فهناك فلسطين وهناك الأردن. وفي أوائل أيلول 1971 انعقد المؤتمر الثالث لحركة فتح في حمورية في ضواحي دمشق، وقد كنت عضوا فيه. وقبل أيام من انعقاد المؤتمر كنا ننزل في فندق تدمر أنا وماجد أبو شرار وأبو صالح ومعنا فائق وراد، الأمين العام للحزب الشيوعي الأردني_ الفلسطيني، وكانت الواقعية السياسية المرة لهذا القائد الشجاع تدمر كل أحلامنا وأوهامنا، فهو يتحدث عن الشرعية الدولية، وقرار التقسيم الظالم للحق الفلسطيني وأنه صدر باسم الشرعية الدولية التي وقف الفلسطينيون والعرب ضدها. وبدل تشكيل حكومة فلسطين وإعلانها دولة كما فعلت الحركة الصهيونية أخطأت القيادة الفلسطينية، وشكلت في وقت متأخر "حكومة عموم فلسطين" التي ألقت الأمم المتحدة رسالتها في سلة المهملات. فقد كانت ضد قرار التقسيم الذي يحظى بالشرعية الدولية. وإسرائيل، قبلت القرار، وأعلنت دولتها في 15 أيار 1948.وبعد ستة أشهر أعلنت حكومة عموم فلسطين. واسم الحكومة وحده يكفي لعدم التعامل معها.  والأدهى من ذلك أن العرب كلفوا أنفسهم بالمهمة الباقية:  فالملك فاروق أصدر أمرا بجلب المفتي من غزة إلى القاهرة وفرض عليه الإقامة الجبرية غير المعلنة، وعين حاكما عسكريا وإداريا لقطاع غزة. والملك عبد الله في عمان جرد الجهاد المقدس من سلاحه، وسجن قياداته، وضم الضفة الغربية عسكريا وسياسيا في ظل اتفاق سري مع إسرائيل.

وفي لحظة حميمة بيننا نحن الثلاثة أبو صالح وماجد وأنا حضر كمال عدوان، وكان فلسطينيا حتى النخاع وهو القادم من أصول حزبية إسلامية، وهو الذي قال: عقيدتي فلسطين وكل عقيدة من أجل عودتها وتحريرها.

واكتشفت أن ماجد أبو شرار ونمر صالح (أبو صالح) يقتربان مما يقوله فائق وراد ومما سبق وأذعته على الملأ من إذاعة صوت العاصفة في درعا بإلغاء وحدة الضفتين واعتبار مؤتمر أريحا مؤتمرا مزورا وما حدث ضم بالقوة وليس بالرضا، دون أن أتبنى قرار القيادات الفلسطينية كلها بإسقاط النظام الأردني بل استبدلته بإلغاء وحدة الضفتين.

كمال عدوان استمع لكل كلمة قالها فائق وراد. وفي الحقيقة لم يقدم رأيا معارضا، بل أخذ يفكر فيما سمع، وكانت علاقتي معه وطيدة إلى الدرجة التي تسمح بأن يناقش أفكاره معي.

بدأ المؤتمر الثالث لفتح في أول أيلول 1971 في حمورية القريبة من دمشق. وحيث أنني لم أكن على اطلاع كاف بما جرى في أيلول وقبل أيلول وما حدث من اعتقال أبو إياد وأبو اللطف والقرار الذي أصدره أبو عمار بحل أجهزة الأمن، وما حدث في الأحراش من مأساة كان يمكن تجنبها كما قال البعض من أعضاء المؤتمر، والموقف من النظام الأردني والوضع في جنوب لبنان. ولم أُدلِ برأيي في أي من هذه القضايا ولم يكن لي الحق في ذلك. فلم أكن مشاركا في كل هذه الأحداث. ولهذا بقيت صامتا طوال اليوم الأول، وفي اليوم الثاني كذلك. أما في اليوم الثالث فقد طلبت الحديث أمام المؤتمر. وفي البداية أكدت أن حركة فتح هي الحركة الوطنية للشعب الفلسطيني وهي العمود الفقري للثورة، ولهذا عليها أن تجيب على الأسئلة التي تواجه شعبنا، ما دامت قد حررت العقل والوعي والإرادة. نحن هنا نتحدث عن تحرير فلسطين من البحر إلى النهر ومن رأس الناقورة إلى رفح وهذا هدف استراتيجي بعيد المدى، ولكن أليس لدينا أهداف مرحلية؟ 

وما هو موقفنا من أرضنا الفلسطينية التي احتلت عام 1967 وأكاد أقول إننا نعرف هدفنا الذي حددناه لأرضنا المغتصبة عام 1948 أما أرضنا المحتلة حديثا عام 1967 فلا موقف ولا جواب قدمناه لشعبنا باسم حركتنا فتح. الأنظمة العربية صاحبة البلاغ العسكري رقم واحد أجمعت الآن أن المطلوب تحرير الأرض العربية والفلسطينية المحتلة عام 1967 واختفى شعار التحرير الكامل، وسؤالي المحدد ما هو موقفنا من مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967؟ هل نوافق على إعادتها للمك حسين الذي اتخذنا قرارا بإسقاط نظامه؟ وهل نقبل أن يعود قطاع غزة لمصر؟ وبدأت ضجة في القاعة تقاطعني وتطالب بتقديمي لمحكمة عسكرية، وكان الذي رفع صوته عاليا هو الحاج إسماعيل جبر وحوله عدد من العسكريين ولم تفاجئني الأصوات والمقاطعة، فواصلت كلامي وقلت الكلمة التالية: إن الشيخ الجعبري الذي وقع اتفاق أريحا سيكون في نظر شعبنا وطنيا أكثر منكم إذا لم تحددوا الموقف المطلوب من مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. لم يكن كلامي مكتوبا بل كان مرتجلا، ولسوء الحظ أو لحسن الحظ من وجهة نظر التاريخ، فقد لاحقني هذا التسجيل المحفوظ عند صخر أبو نزار في مكتب التعبئة الفكرية. كان دائما يجري توزيعه على أعضاء المؤتمرات في الحركة كونه شهادة على القطرية والشوفينة والانعزالية والانهزامية اليسارية والتبعية للاتحاد السوفييتي. وفي حالتنا المأساوية من السهل إطلاق الاتهامات وإلصاقها بالخصم دون حساب أو عقاب أو يقظة ضمير.

على كل حال لفت انتباهي أن شركائي الثلاثة في هذا الطرح أبو صالح وماجد أبو شرار وكمال عدوان، لم يؤيدوا ما قلت ولم يعترضوا عليه. أما أبو عمار وأبو إياد وأبو اللطف فقد تشاغلوا. أما أبو مازن فكان يجلس مع أبو يوسف النجار خارج القاعة ولم يكن بيننا علاقات عمل. فقد تعرفت عليه في عمان قبل أيلول بفترة وجيزة وكان يتولى مسؤولية التنظيم.  واللقاء الثاني في درعا وكان يتابع أحداث عمان في أيلول 1970، ولم يبادر لأي تعارف أو حديث مع أحد منا نحن الذين نتردد على مقر القيادة. ولهذا لم أتحدث معه حول القضية السياسية التي فجرت قنبلتها في المؤتمر الثالث. 

وللحقيقة والتاريخ فإن كمال عدوان وهو مهندس كما هو معروف، ناداني بعد انتهاء  جلسة المؤتمر وقال لي التحليل التالي للقضية: "يا أحمد، إذا أضأت شمعة داخل أربعة جدران وأغلقت عليها الباب فلن يراها احد، والأفضل أن تظل الشمعة بلا جدران وبلا باب حتى تضيء الظلام المحيط بنا "وكان يقصد بالشمعة الثورة وفتح، استمعت جيدا وفهمت منه أنه ضد الطرح الذي قدمته، ولكن أضاف من حقك أن تقول رأيك وأنا أحترم شجاعتك.

صدمني كمال عدوان لأنه كان المسؤول الأول عن عملي في الأعلام.  ولهذا قلت له لن تستطيع بناء قاعدة آمنة للشمعة المضيئة إلا في الأرض الفلسطينية، والضفة والقطاع والقدس هي ما تبقى من فلسطين من المنظور الدولي وعلينا أن نحصل عليها ونترك للأجيال شمعة مضيئة آمنة في فلسطين تجعل الهدف التاريخي في متناول اليد والقدرة.

وفاز أبو صالح وكمال عدوان بعضوية اللجنة المركزية وماجد أبو شرار بعضوية المجلس الثوري وكذلك ناجي علوش وأبو داود وأبو خالد العملة وصخر حبش وعباس زكي.  وارتكبت حماقة ورشحت نفسي لعضوية المجلس الثوري وكان سقوطي مؤكدا بعد الذي قلته عن أن الشيخ الجعبري سيكون وطنيا أكثر منكم إذا لم تأخذوا موقفا من مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1967.

ولكن بعد المؤتمر لاحظت أن أبو عمار وأبو إياد وأبو صالح صاروا يحرصون على الاتصال معي ودعوني لحضور الاجتماعات والندوات. أما ماجد فقد عبر عن تأييده لكل كلمة قلتها في المؤتمر. أما كمال عدوان فقد ترك الإعلام وتسلم مسؤولية القطاع الغربي، أي العمل في الأرض المحتلة، وبالتالي ابتعد عن الإعلام. ومن المفارقات أن أبو عمار جاء ذات يوم بعد المؤتمر إلى الإذاعة وحدثني عن مهمة عمر السقاف، وكيل الخارجية السعودية الذي زاره في  دمشق. وفهمت من أبي عمار أن الأردن لم يعد يعترف باتفاق القاهرة الذي أنجزه عبد الناصر قبل وفاته المفاجئة بيوم واحد، ولا حتى باتفاق عمان الذي حدد الوجود الفدائي خارج المدن في الأحراش وعجلون. وبالتالي فالقاعدة الآمنة في الأردن قد انتهت. وروى أبو عمار أن هناك قيودا على التحرك والقيام بعمليات من الجولان وأنه لذلك يعتبر ثلوج جبل الشيخ أحن على الثورة من الأنظمة العربية.  وغادر أبو عمار وجلست وحدي وكتبت تعليقا سياسيا ضمنته تقريبا ما قاله أبو عمار ولكن دون ذكر الأسماء. وفي اليوم الثاني كنت عند أبو عمار في مقر قيادته بدمشق المعروفة (23) فإذا به في غاية العصبية والتوتر ويستدعي على عجل محمد أبو ميزر، مسؤول الإعلام المركزي وحنا مقبل وأبو نضال غطاس، وكانوا يصدرون صحيفة فتح اليومية في دمشق. وانتبهت للضجة والعصبية. وسألت مهند العراقي، مسؤول المكتب، وبصوت خافت، فصراخ أبو عمار يفرض الصمت على الجميع.  وقال لي مهند أن ذلك بسبب مقال في الجريدة أغضب السوريين و "أبو عمار سعد" - معتمد فتح في سوريا -  نقل لأبو عمار غضب الرئيس حافظ الأسد، ولأن هذه المشكلة في الإعلام وقد تعودت على هذا النوع من المشاكل مع القيادة فقد خرجت من غرفة أبو عمار وأعطاني مهند جريدة فتح لأقرأ المقال أو التعليق المشكلة وكانت صدمتي لا توصف حين قرأت السطر الأول.  فالمقال هو التعليق الذي كتبته وأذعته من صوت العاصفة في درعا قبل يوم واحد. والشباب في الإعلام فرغوه من الاستماع ونشروه في الجريدة دون علمي، سواء لأنه وافق قناعاتهم أو لأنهم يعتقدون أن ما يذاع هو موقف رسمي بحكم علاقتي اليومية والوطيدة مع أبو عمار.

 وأصبحت في موقف لا أحسد عليه، فالتعليق لا يحمل توقيعي أو إسمي. ولكنه مقالي وموقفي ولا أستطيع أن أهرب من هذه المسؤولية رغم أن غضب أبو عمار قد بلغ الذروة، وحين يحضر أبو ميزر وحنا مقبل وأبو نضال فهم سيقولون أنه تعليق إذاعي من صوت العاصفة ولهذا قلت لنفسي يجب ألا أنتظر حتى يأتوا وتكون المواجهة مع أبو عمار بحضورهم ولهذا قررت أن أدخل مكتبه وأقول له الحقيقة وهي أنني كتبت هذا التعليق وأذعته من الإذاعة ويبدو أن الشباب نشروه في الجريدة.

حين دخلت قلت لأبو عمار مباشرة ولكن بحذر شديد وبصوت هادئ هذا المقال في الجريدة في الأساس تعليق في الإذاعة قبل يومين، ولم أكن أعلم أنهم أعادوا نشره في الجريدة. 

ذهل أبو عمار وصمت لأكثر من دقيقة وقال بعد قليل وقد هدأ غضبه: يا ابني، ما حدثتك به عن عمر السقاف وما جرى معه في عمان ودمشق هو تفاصيل وجزئيات لم تكن بحاجة إليها لتأكيد الموقف العام للثورة، الجماهير يعنيها الخط العام وليس أدق التفاصيل فالتفاصيل متغيرات آنية وليست ثوابت.  ولا يمكنك أن تضع النظام في الأردن والنظام في سوريا في سلة واحدة. وأضاف أبو عمار: قبل ثلاث سنوات كنت مسجونا في سوريا والآن كما ترى، انقلب الوضع بعد وفاة عبد الناصر "ربك يستر"، وبصراخه وعصبيته واتصالاته الغاضبة بالهاتف كان يوصل رسالة للأسد بأنه ضد ما نشر في صحيفة فتح وهذه طريقة معروفة لأبو عمار يغضب ويصرخ ويضرب الطاولة ويغادر الغرفة ثم يعود، وكنا نقول أنه يرسل رسائل.

وحين وصل أبو ميزر ومعه حنا مقبل (أبو ثائر) وأبو نضال غطاس كان قد انتهى من توجيه الرسائل لتهدئة الجهة السورية الغاضبة. لكن إذاعة عمان كانت تعيد للمرة الألف تعليقا بعنوان: "ماذا يريد ياسر عرفات "والهدف توتير العلاقة مع سوريا والسعودية، لأن ما ذكرته في تعليقي هو أقوال عمر السقاف ضد الأردن وسوريا وكان من الواضح أن هذه المعلومات والمواقف مصدرها أبو عمار شخصيا.

محمد أبو ميزر(أبو حاتم) من الرعيل الأول لفتح. وفي سنوات التأسيس والبناء كان ممثلا لفتح في الجزائر. وهو من أصدر بيان الدولة الديمقراطية للمسلمين والمسيحيين واليهود في فلسطين، من باريس قبل سنتين. وأحدث هذا البيان ضجة عالمية ورفضاً إسرائيلي، وكان بمثابة أول تناول جدي من فتح للوجود اليهودي في فلسطين. وكان أبو عمار يعامل رجال الرعيل الأول بكل احترام ويحرص على علاقة قوية معهم. ولهذا لم يوجه أي نقد حول نشر المقال في صحيفة فتح بل قال وضعنا صعب الآن، ونحتاج إلى التقاط أنفاسنا.

وكان الحدث الكبير قد وقع في القاهرة يوم 28 نوفمبر 1971. فأمام مدخل فندق شيراتون أطلقت النار على وصفي التل، رئيس وزراء الأردن، وقتل على الفور. وتناقلت وكالات الأنباء بيانات منسوبة لمنظمة أيلول الأسود تعلن مسؤوليتها عن عملية الاغتيال. وكما هو معروف فوصفي التل كان المسؤول الأول في الأردن بعد الملك حسين والذي أدار المعركة ضد الثورة بعد استقالة الجنرال محمد داود، وكان كذلك المسؤول عن تصفية قاعدة الثورة الآمنة الأخيرة في الأردن في جرش وعجلون وعن مقتل أبو علي إياد والذي لم يتم العثور على جثته. في هذا الوقت استدعاني أبو عمار على وجه السرعة إلى مقر القيادة في(23) في السبع بحرات، وطلب عدم نشر أي تعليق على عملية الاغتيال والاكتفاء بإيراد الخبر كخبر فقط وكما نقلته وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية.  وقال أنه ضد الاغتيالات فهذه سيف ذو حدين. وبعد أسبوعين وقعت محاولة فاشلة لاغتيال زيد الرفاعي في لندن حيث أصيب بجرح بسيط في يده وكان يركب سيارته في الشارع العام في لندن ولم أتوقف في تقديم الخبر عند أسبابه المتعلقة بدوره ضد الثورة بل أذعت خبرا عاديا كما لو كان خبرا عن حدث في أمريكا اللاتينية.

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الرابعة : اكتشاف الجالية الفلسطينية في تشيلي

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الرابعة : اكتشاف الجالية الفلسطينية في تشيلي
تاريخ النشر : 2013-11-24
كبر الخط صغر الخط
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..


الفصل الرابع:

كان صديقا لنا 


في شهر شباط 1972 استدعاني أبو عمار وطلب مني أن أجهز نفسي للسفر إلى تشيلي، وبحكم سفرتي الأولى إلى أمريكا اللاتينية فقد اعتبرت خبيرا في شؤونها. وأخبرني أبو عمار أنه تلقى دعوة من الرئيس التشيلي الاشتراكي سلفادور اليندي لإرسال ممثل عن فتح لحضور مؤتمر الحزب الاشتراكي الثالث والعشرين. ولا بد أن أضيف سببا آخرا لاختياري لهذه المهمة هو الاعتقاد السائد في أوساط القيادة بأنني يساري وأتبنى الرؤية الماركسية للعالم والمجتمعات. 
وسلفادور اليندي اشتراكي عريق رشح نفسه على مدى عشرين عاما حتى فاز في الانتخابات الرئاسية عام 1970. ولا أنكر أن معلوماتي كانت عن تشيلي شحيحة، وكان مصدري الوحيد من وكالة الأنباء الكوبية ومن صحيفة الحزب الشيوعي الكوبي "سيرا مايسترا" وكان الدبلوماسيون الكوبيون نشيطين جدا في تلك السنوات، فكانوا هم والصينيون والكوريون الشماليون يؤمنون لنا نشراتهم مترجمة إلى اللغة العربية. 
وبالطبع، كان الشعار الثوري المسيطر في تلك الأيام هو شعار"تشي جيفارا" أكثر من فيتنام واحدة.  
عندما وصلت إلى سانتياغو عاصمة تشيلي كان قد وقع اغتيال رئيس أركان الجيش واعتبر هذا الاغتيال المقدمة لإحداث الانقلاب ضد النظام الاشتراكي برئاسة اليندي. وعرف العالم فيما بعد أن هنري كيسنغر هو الرأس المدبر للانقلاب في تشيلي واغتيال اليندي.

استقبلني المسؤولون في الحزب الاشتراكي، وفي اليوم الثاني مباشرة سافرنا في الباص مدة أربع ساعات حتى وصلنا مدينة "فلبريزيو" الساحلية والمؤتمر في الواقع كان بمثابة مهرجان شعبي حاشد. وكان فيديل كاسترو نجم المؤتمر. وبصعوبة بالغة وجد لنا المنظمون مكانا نجلس فيه. وكان المدعوون الأجانب لا يزيدون على ثمانية مندوبين من الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية وكذلك الجزائر ويمثلها وزير الصناعة الجزائري في ذلك الوقت، وهو شاب في غاية الأدب والأناقة.

وحين عدنا إلى سانتياغو دعاني الأمين العام للحزب لويس كورفلان لتناول الغداء في أحد المطاعم وشرح لي الوضع الصعب للنظام الاشتراكي بسبب الحصار الأمريكي، وأن الرئيس سلفادور اليندي يرفض اتخاذ أي إجراء لحماية النظام الاشتراكي مثل تسليح الحزب أو تشكيل ميليشيا شعبية لحماية النظام، وقال أن اغتيال رئيس الأركان التشيلي يؤكد أن الامبريالية الأمريكية مصممة على إسقاط النظام الاشتراكي.

وحتى هذه اللحظة لم أكن قد وقفت على الأسباب التي دعت اليندي لتوجيه الدعوة لحركة فلسطينية لحضور مؤتمر الحزب الاشتراكي. ولم أجد من المناسب أن اسأل الأمين العام عن سبب دعوتنا، ولهذا فضلت انتظار اللقاء مع اليندي. وقد خصص عشر دقائق لكل رئيس وفد.  وكنت الوفد ورئيسه على السواء. استقبلني الرئيس بعد أن استقبل رؤساء الوفود جميعا وحين دخلت مكتب الرئيس نهض وصافحني وكانت ملابسه عادية تماما لا تختلف عن ملابس رجل في الشارع وبدون ربطة عنق، وبدون الشكليات المعروفة التي ترافق الدخول على رؤساء الدول.

صافحني الرئيس اليندي وأجلسني بجانبه بكل هذا التواضع المفرط، وشكرني على الحضور وطلب نقل تحياته لعرفات الذي يحترمه، ثم دخل في الموضوع مباشرة وقال:"الشعب التشيلي اختار الاشتراكية عن طريق الديمقراطية والانتخابات وليس عن طريق الثورة، والمغتربون الفلسطينيون هم أكبر جالية في تشيلي، وقد كونوا ثروات كبيرة ولديهم مصانع وشركات وبنوك ورؤوس أموال ضخمة من عملهم في هذا البلد، وهم رأسماليون كبار، والذي أطلبه منك أن تتصل بهم هنا في تشيلي وتدعوهم بأن يوجهوا الأموال الفائضة لديهم  لتحرير وطنكم فلسطين بدل أن يحاربوا النظام الاشتراكي الذي اختاره الشعب التشيلي عبر الانتخابات الديمقراطية الحرة، وقال أنهم سحبوا رؤوس الأموال إلى الأرجنتين ونيويورك "والسكودو" أصبح بلا قيمة والآن الدولار يساوي"240 سكودو، وحين جرت الانتخابات كان الدولار يساوي 8 سكودو وقال لا نريد مصادرة أموالهم وتجارتهم ولكن ندعوكم لإقناعهم بعدم محاربة النظام الاشتراكي والوقوف مع الأمريكيين الامبرياليين.

وضغط على الجرس بجانبه فحضر أحد الموظفين حيث طلب منه أن يأخذني إلى النادي الفلسطيني في سانتياغو. وشكرني الرئيس مرة أخرى وودعني بحرارة وفي المساء دعا الرئيس اليندي رؤساء الوفود لتناول العشاء في منزله الشخصي ولم يكن أحد هناك غير زوجته، ولم أر له أولاداً، وكان لم يتبق من رؤساء الوفود إلا ستة أشخاص وأنا. وحول طاولة مستديرة في منزل قديم: الطاولة والكراسي والبرادي والصالون والجدران معتمة والأبواب داكنة، كأنه بيت مسكون من مئة عام، كان العشاء قصيرا وجلس اليندي معنا حول المائدة المستديرة وشرح تاريخ تشيلي وسكانها ومناجم النحاس، ثروة تشيلي الأهم، وعن طول سواحلها الممتدة لأكثر من أربعة آلاف ميل، وشرح لنا المؤامرات الأمريكية ضد النظام الاشتراكي وتهريب رؤوس الأموال ومنع السياحة إلى تشيلي، وطلب منا أن ننقل إلى دولنا هذه المؤامرات التي تنفذها أميركا وهنري كيسنغر مستشار الأمن القومي الأمريكي.

وصافحنا الرجل وودعنا بكل لطف وتهذيب وهو يقول: "سأجعل الأمريكيين يجلسون على الخازوق".

لم أكن أعرف الكثير عن الجالية الفلسطينية في تشيلي، وأنها أكبر وأغنى جالية فلسطينية في أمريكا اللاتينية، وأن لديهم فريق كرة قدم معروف على مستوى القارة. وعرفني هذا الموظف في الرئاسة على محام من أصل فلسطيني كان أجداده قد هاجروا من بيت جالا في القرن التاسع عشر. واستضافني لعدة أيام في سانتياغو وفي منزله على شاطئ  البحر، والمنطقة  كلها شاليهات للأغنياء من المهاجرين الفلسطينيين، وإلى جوارهم بعض المهاجرين الألمان، واليهود نفوذهم ضئيل في تشيلي.وقد قال لي ما خلاصته أن الفلسطينيين هنا مثل كل المغتربين. صحيح أنهم يحرصون على انتمائهم ولكنهم تشيليون ولديهم أحزاب ومصالح داخل البلد تضررت بسبب نجاح اليندي واشتراكيته.  ومثل كل بلد في العالم لا يمكن للرأسمالي أن يقبل النظام الاشتراكي. فالاشتراكية والرأسمالية نقيضان على مستوى العالم. وما قاله لك اليندي هو كلام مثالي لا معنى له.  وأنا أتحدث الإسبانية وأبي ما زال يحتفظ ببعض الكلمات العربية ولغتي الانجليزية نتيجة الدراسة في الولايات المتحدة، إنني مواطن تشيلي مائة بالمائة.

ورفعت تقريرا بعد عودتي لأبو عمار الذي أصبح مرجعي الوحيد سواء أكان هناك مفوض للإعلام أم لا؟ وقد ورد في التقرير أن الجبهة الشعبية لها نشاط في أمريكا اللاتينية وتردد إسم ممثل الشعبية جايل العرجا أكثر من مرة وهو من بيت جالا، وقد استشهد في عملية عنتيبي في أوغندة، ولسوء الحظ لم التق به.

أبو عمار التقط من تقريري ما يخدم أهدافه في تجميع كل قوى الشعب الفلسطيني أينما وجدوا. وبعد سنوات عدة صار لنا ممثليات في دول أمريكا اللاتينية. وفي دورة من دورات المجلس الوطني في الجزائر، وقد عينني أبو عمار الناطق الرسمي للمجلس، جاءني أعضاء في المجلس واحتجوا لغياب الترجمة الإسبانية فهم لا يجيدون غير اللغة الاسبانية وكانوا من دولة تشيلي. وبعد عام على زيارتي لتشيلي وقع الانقلاب العسكري الدموي بقيادة الجنرال أوجستو بينوشيه وقتل في الانقلاب الرئيس سلفادور اليندي وسقط النظام الاشتراكي وحل محله حكم عسكري دموي استمر من عام 1973_ 1989، حين عادت الحياة الديمقراطية.

ولكني لم أنس هذا الرجل اليندي. وحين عينني أبو عمار رئيسا لتحرير مجلة فلسطين الثورة المجلة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وضعت صورة اليندي على غلاف مجلة فلسطين الثورة وبالحجم الكبير، كتبت تحتها العبارة التالية: كان صديقا لنا.

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الخامسة:سقوط الوصاية والأوهام

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة الخامسة:سقوط الوصاية والأوهام
تاريخ النشر : 2013-11-25
كبر الخط صغر الخط
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

الفصل الخامس :

سقوط الوصاية والأوهام 


في منتصف آذار 1972، أطلق الملك حسين مشروعه السياسي "المملكة العربية المتحدة" لاحتواء الشعب الفلسطيني، وجاء هذا الإعلان في ذروة قطيعة تامة بين فتح والنظام. فقد رفعت فتح شعار إسقاط النظام بعد أيلول والأحراش، وبعد اغتيال أبو علي إياد في عجلون واغتيال وصفي التل في القاهرة. وكان إعلان الملك حسين مناسبة لتعرية دور النظام كشريك لإسرائيل في ضياع فلسطين. وقد استعنت بكتاب أنيس صايغ "الهاشميون وقضية فلسطين " في حملة التشهير من الإذاعة، وكذلك لقاءات الملك عبد الله مع الياهو ساسون واغتياله في المسجد الأقصى في 20 تموز 1951. وكيف منع النظام عودة الحاج أمين إلى القدس، والخلاف بين الشقيري والملك حسين قبل حرب حزيران، وإغلاق مكتب المنظمة في القدس وطرد رئيس المنظمة أحمد الشقيري، ولم أكن أتلقى من القيادة أية تعليمات سواء لتخفيف الحملة على الملك حسين ومشروعه أو لتصعيدها، وكانت كلمات أبو عمار دائما: أرسل حكيما ولا توصه، أو على بركة الله. وفي هذا الجو المحموم من العداء بين الثورة والنظام دعا أبو عمار لعقد المجلس الوطني في دورة استثنائية وعلى هامشه عقد مؤتمر شعبي. وقد حضرت هذا المؤتمر الشعبي الفضفاض على عكس المجلس الوطني الذي كان صغير العدد ولا يشارك فيه غير الأعضاء وأما الضيوف فيحضرون جلسة الافتتاح العلنية.

في المؤتمر الشعبي 1992 كان هناك إجماع أن مشروع الملك حسين يرمي الملك من وراءه إلى احتواء القضية ولإعادة فرض الوصاية بعد أن تمكنت فتح والثورة من إسقاط الوصاية والاحتواء والتبعية وأصبح قرار الشعب الفلسطيني في اليد الفلسطينية. وجاء بيان المجلس الوطني بالمضمون نفسه دون التطرق لمستقبل الضفة الغربية. وأدركت أن ارتباط الفلسطينيين بفلسطين التاريخية هو استحواذ أبدي لا فكاك منه. ولا ينفع في مواجهته حجج العقل والمنطق والواقعية وحديث موازين القوى والوضع الدولي الذي أقام إسرائيل ويقدم لها الدعم الكامل. وبدأت بالفعل أراجع أفكاري التي قدمتها في المؤتمر الثالث لحركة فتح. ولولا لطف الله لقدمني زملائي في المؤتمر الثالث لفتح لمحكمة عسكرية تقضي بإعدامي بتهمة الخروج على المبادئ والأهداف. وقررت أن أبحث عن أحمد بهاء الدين، الصحفي المصري الشهير، الذي اقترح قيام دولة فلسطينية. وبالفعل كانت علاقاتي مع مجلة الطليعة ولطفي الخولي وطاهر عبد الحكيم وميشيل كامل قوية منذ أيام عملي في صوت العاصفة حتى نيسان 1970. أحمد بهاء الدين هادئ ورزين وقليل الكلام، وهو يحرص على الاستماع أكثر مما يتكلم، وهو متابع مثابر للشأن الفلسطيني منذ زمن بعيد. وحين سألته عن حديثه القديم عن قيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، قال وبالحرف الواحد: موازين القوى ليست لصالح الفلسطينيين والعرب.  وأنت تعلم ما جره التصريح المنسوب زورا إلى الشقيري من ويلات على الفلسطينيين والعرب، اليهود بعد الحرب العالمية مشكلة عالمية أخلاقية وسياسية والقضاء على دولة إسرائيل لا يمكن تحقيقه في المدى القريب أو البعيد.  العالم تغير، لا يمكن القضاء على دولة موجودة، وخاصة إذا كانت دولة لليهود.  وتحدث بألم وحزن على ما حصل للثورة في الأردن وما يجري في لبنان وإغلاق الحدود العربية في وجه الفدائيين.  وتساءل إن كنت أرى أملا في إدراك الثورة وفتح خاصة لحقيقة الواقع العربي والدولي. وذكرت له ما كنت أعلنته من إذاعة صوت العاصفة في درعا عن إلغاء اتفاق أريحا وإلغاء وحدة الضفتين وأن أبو عمار لم يرفض ما قلته في ذلك الحين، وإن كان في المؤتمر الثالث بقي صامتا مع أنه اعتبر أن من حق أي عضو في المؤتمر أن يقول رأيه دون مقاطعة من أحد.  وأضفت لأحمد بهاء الدين أن ما قلته من أن الجعبري سيكون وطنيا أكثر منا قد استفز الكثيرين في المؤتمر لأن الجعبري هو من وقع اتفاق أريحا وضم الضفة الغربية "شرق فلسطين" إلى الأردن.

وودعني أحمد بهاء الدين وهو يقول: القضية قضيتكم أولا وأخيرا ويجب أن يبقى القرار الفلسطيني في الأيدي الفلسطينية.  ولكن لا تصدقوا من يقول لكم أنه مع التحرير الكامل. وآمل أن تدرك قيادتكم حقائق الواقع السياسي الذي تعمل فيه، وأن تكف عن شعارات إسقاط هذا النظام أو ذاك، ولماذا لا تدرك قيادتكم أن الوضع العربي انقلب رأسا على عقب بعد وفاة عبد الناصر؟

وقد رافقت احمد بهاء الدين وكامل زهيري من القاهرة إلى بغداد لحضور اجتماع لنقابة الصحافيين العرب وبقينا معا لمدة ستة ايام في الفندق نفسه ونحضر الاجتماعات معا. وقد انتخبنا أحمد بهاء الدين نقيبا للصحفيين العرب وهناك في أوساط حزب البعث بزعامة أحمد حسن بكر وصدام حسين كانت الشعارات الثورية والقومية تتردد أصداؤها في المؤتمر وفي الشارع وفي الإذاعة وفي اللقاءات مع أقطاب الحزب الذين لا يطرحون غير شعار الوحدة والتحرير الكامل لفلسطين من شذاذ الافاق الصهاينة. وكانت هناك دعاية مركزة لإظهار أن كل انجازات تمت في العراق هي من صنع حزب البعث. وكنا مستمعين جيدين، إلا أنني فوجئت بأحد الشباب في الفندق يحدثني عن الأكراد وقضيتهم في العراق وضياع حقوقهم الوطنية والقومية وهناك حرب مستمرة في المناطق الكردية في شمال العراق.  وجن جنون البعثيين حين سألت عن وضع الأكراد في العراق. وأحضر أحدهم خريطة جغرافية وقال إن مصدرها تنظيم كردي، وفيها أن الأكراد يعتبرون بغداد حدودا للدولة الكردية التي يريدونها. وبالطبع رفضت هذا الطرح. وأكدت لهم أن العراق عربي منذ أقدم العصور حتى هدأت نفوسهم.  إلا أن هذا الشاب الكردي لم يتركني وشاني. وحين كنا في زيارة لمدينة بابل قال لي بصوت خافت: هنا لا يستطيع البعثيون الادعاء أنهم قد بنوا بابل والحدائق المعلقة وأدركت من يومها أن العراق يواجه مشكلة بدا حلها مستحيلا في ذلك الوقت.

عدت إلى درعا لمواصلة عملي مسؤولا لصوت العاصفة. وفي اليوم الثاني مباشرة لعودتي من بغداد وكان ذلك أواخر أيار 72 وقعت مشكلة لأبو عمار في أحد القواعد الفدائية وكان مسؤولها حسين الهيبي وهو من القبائل البدوية في شمال فلسطين، حيث حاصرت قوة تابعة للهيبي المكان الذي تواجد فيه أبو عمار وكانت الذريعة عدم انتظام التموين للقاعدة الفدائية.  وقد أطلق حسين الهيبي النار على أحد مرافقي أبو عمار الذي استشهد على الفور، ويمكن القول إن هذا العمل كان كمينا لأبو عمار.  ولكن حنكته أنقذته من موت محقق حين لبى كل المطالب وأمر بتنفيذها على الفور. ولكن هذا الكمين المدبر لم يمر دون تفسيرات وتأويلات. وانتشر بين الفدائيين أن الكمين كان من تدبير المخابرات السورية حيث هناك علاقة بين الهيبي والمخابرات السورية.  وقيل كذلك أن الهدف من وراء قتل مرافق أبو عمار هو إنذاره حتى لا يعود ثانية للأراضي السورية، ويتوقف عن القيام بعمليات في الجولان بين فترة وأخرى رغم أمر العمليات السورية بمنع الفدائيين من القيام بعمليات سواء ضد إسرائيل أو ضد الأردن، حيث انتشر الجيش السوري على طول الحدود مع الأردن.

وكان بركات زلوم، مقدم البرامج في الإذاعة، يسكن في درعا بعيدا عن مبنى الإذاعة، ويتنقل بالباص بين الإذاعة ومسكنه، وحصل أن جلس بجانبه أحد الشباب وراح يسأله عن قصة الكمين الذي لم تتناوله الإذاعة بتاتا بتعليمات من أبو عمار. وأعطى بركات زلوم لنفسه الحق أن يقول للشاب أن الكمين مؤامرة دبرها حافظ الأسد ضد ياسر عرفات لإجباره على مغادرة الأراضي السورية، ومعروف أن حسين الهيبي يعمل مع المخابرات السورية.  ولم يحضر بركات زلوم في اليوم التالي إلى الإذاعة لتقديم البرامج وانقطعت أخباره.  وأرسلت من يسأل عنه حيث يسكن فقالوا لا نعرف أين ذهب.  جاء شباب وخرج معهم ولم يعد منذ مساء أمس ولم ينم في المنزل. وقمت بإبلاغ القيادة في ال "23" باختفائه المريب، وسألوني إن كان غادر إلى الأردن، فاستبعدت هذا الاحتمال، لأن بركات معروف لهم في الرمثا وسيعتقلونه لحظة وصوله. وفي اليوم الثالث لاختفائه جاءني اتصال غريب وقال المتحدث انه الرائد نديم مسؤول مخابرات درعا. وقال بكل تهذيب: لو تتفضل عندنا، قلت له: على الفور. وهنا أدركت أن الموضوع يتعلق باختفاء بركات زلوم. وقد ساورني القلق على حياته. استقبلني الرائد نديم بكل ترحيب واحترام وكذلك بقية الضباط والأفراد، وتناولنا القهوة معا. وفي الأثناء قال لي الرائد نديم: لا شك أنك قلق على زميلك بركات زلوم، وقلت له إن اختفاءه أمر غريب ولا أدري أين هو الآن.  قال نديم أنه معتقل عندنا هنا في المخابرات، وفوجئت فعلا من أقواله ورحت أسأله، ولماذا تعتقلونه؟

وحدثني الرائد  نديم عن رحلة الباص المشؤومة التي أدت إلى اعتقال بركات.  وقال لي: لا أريد تضخيم هذه القضية وتحويل بركات إلى دمشق، وأنا واثق أنك لا تقبل هذا التصرف، وأعدك أنني سألغي محضر التحقيق معه، وأمر بإحضار بركات زلوم الذي كان في غاية الارتباك وقدم اعتذاره للرائد نديم.  وعند المغادرة قال نديم: قل لصاحبك أن يعرف أين يجلس ومع من يتحدث، فحديثه كان مع عنصر مخابرات، وصافحته وغادرنا مبنى المخابرات.

وفي حزيران عام 1972 تخلت فتح عن الإعلام المركزي وجرى تشكيل الإعلام الموحد برئاسة كمال ناصر، والذي ضم الأجهزة الإعلامية المركزية وتأسست وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"، وصدرت مجلة "فلسطين الثورة" الناطقة باسم منظمة التحرير الفلسطينية وكان الهدف توحيد الإعلام الفلسطيني ومشاركة كل الفصائل في الإعلام الموحد.  وبالطبع كان هذا أمرا مستحيلا.  لكن الذي تحقق فعلا أن أجهزة فتح الإعلامية صارت هي المعبرة عن المنظمة وعن الموقف الرسمي الفلسطيني. وعادت المنظمات والفصائل لإصدار مطبوعاتها لتعكس أعمالها ومواقفها السياسية، أما الموقف الفلسطيني فأصبح يصدر حصرا عن الإعلام الموحد.

ولدى تأسيسه شاركت في بعض الاجتماعات وقابلت كمال ناصر أكثر من مرة، لكن قضية التوحيد ظلت قضية بعيدة عن الإذاعة وظلت إذاعة فتح المسماة صوت العاصفة تعمل كالمعتاد.  ولم يكن هناك تقليد لأن يوجه المركز في بيروت أو دمشق وحتى عمان في البداية خطاً إعلاميا، حيث كان يصلنا الاحتجاج بعد أن يكون قد سبق السيف العذل. فالكلمة كالرصاصة إن خرجت فإنها لن تعود أبدا. وقد ظهر واضحا في أحد الاجتماعات برئاسة كمال ناصر أن هناك تباينا  في تناول الإذاعة لموضوعات الساعة واستشراف المستقبل وبين ما  يصدر في الإعلام المكتوب، ففي المجلة المركزية كان يجري التأكيد على التحرير الكامل ورفض الحلول الانهزامية والتأكيد على الكفاح المسلح باعتباره الطريق الوحيد لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر ومن رأس الناقورة إلى رفح. ولم يكن لدي اعتراض على هذه الثوابت والأهداف والمبادئ لكني وجدت أن ما بدأت تنشره جريدة "الحرية" في عام 1972 حول الدولة الفلسطينية وحول منع الأردن من العودة ثانية للتحكم بالشعب الفلسطيني خدمة للصهيونية يتقاطع تماما مع ما تحدثت عنه في مؤتمر فتح الثالث ولم يسمعني أحد سواء من الجهة التي كنت أعتبرها محافظة وإن بدأت تتفكك والجهة التي كنت اعتبرها تعبر عن الموقف القومي ولا ترى خصوصية الوضع الفلسطيني، ولا ترى كذلك أن نقيض البعد القومي ليس فتح بل الكيانات القطرية والتي لا سبيل للتخلص منها وانتصار الوحدة القومية القادرة على تحرير فلسطين. وحرصت في الحوارات التي كنت أشارك فيها على القول أن الموقف الذي أعبر عنه هو الموقف الوطني بما يعبر عنه القرار الوطني المستقل والمسؤولية الوطنية قبل أي مسؤولية أخرى عن وطننا فلسطين.

 كنت بهذا الطرح أحاول الاقتراب من القضية المحرمة قضية الدولة الفلسطينية والأرض الفلسطينية التي كانت في عهدة مصر والأردن وأتساءل هل الأرض فلسطينية أم لا؟ وهل الشعب فلسطيني أم لا؟ لم يوافق أبو ميزر وحنا مقبل وأبو نضال غطاس ومي صايغ ومنير شفيق وناجي علوش على الموقف الوطني الواقعي، وقالوا إنهم يتمسكون بالموقف الثوري وبالمبادئ والأهداف والأساليب التي حددتها فتح يوم انطلقت في الفاتح من يناير 1965.

أما القيادة العليا وهي اللجنة المركزية فقد تباينت مواقفها من طرح نايف حواتمة ومجلة الحرية فالبعض أخذ يطرح المرحلية.  وكان أبو إياد أول من تحدث عنها. أما أبو اللطف فقد ظل بعيدا عن هذه القضية في تصريحاته ومواقفه العلنية.  أما أبو صالح فقد عاد للاتصال معي بعد فترة انقطاع دامت عاما لأنه كان مشغولا بترتيب الأمور في قوات العاصفة حيث أصبح عضوا في قيادتها.  وكمال عدوان، حصر نشاطه في القطاع الغربي. وماجد أبو شرار، كان المفوض السياسي العام، ومع تأييده للموقف الوطني والقرار الوطني المستقل فإنه كان دائما حريصا على أن تبقى علاقاته وجسوره مفتوحة وقوية مع الجميع داخل فتح ومع الفصائل، وكان موهوبا في إدارة هذه العلاقات العامة لعدم إحداث قطيعة مع أصحاب الرأي المخالف على قاعدة القول الشائع "الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية. "

كان عام 1972 هو عام المعركة الفكرية والسياسية ضد الوصاية الأخوية العربية على الثورة. وبالمناسبة ليس الأردن وحده من فرض الوصاية على الشعب الفلسطيني. فحامل الوثيقة، وثيقة اللاجئ واللجوء، إنما يحمل في الواقع وثيقة اتهام لشخصه وشعبه ولوطنه. فاللاجئ في لبنان أو سوريا لا يستطيع أن يقطع الحدود بوثيقته. فمن يعترف بوثيقة اللاجئ؟ أنت لاجئ وفي مخيم اللاجئين تولد وتعيش وتموت. وفي مصر إذا خرج اللاجئ حامل الوثيقة من مصر، فلا يستطيع أن يعود إليها إلا بعد الحصول على تصريح دخول مجددا. إنما المصري أو السوري أو اللبناني حامل الجواز فإنه يسافر ويعود دون مساءلة.  وكان من بين فضائل فتح والثورة أنها حطمت هذه السجون التي تسمى مخيمات في الأردن وسوريا ولبنان وإن لفترة وجيزة عن طريق التحرك الحر وبورقة الإجازة بين هذه الأقطار الثلاثة. وللتغلب على قيود الأنظمة كان لدينا دائرة لتزوير الجوازات ولشراء الأختام وشراء التواقيع الرسمية وحتى الجوازات بأحدث أرقامها.

وأذكر ذات مرة أن هذه الدائرة أمنت لي جوازا دبلوماسيا أردنيا وكنت في رفقة محمود درويش إلى دمشق نعود بعدها الى بيروت، وكان محمود مديرا لمركز الأبحاث الفلسطيني، وعند عودتنا قدمنا جوازي السفر في المصنع لختمها وكانت المفاجأة المذهلة أن جوازي المزور كان شرعيا وختمه الموظف بسرعة، أما جواز محمود درويش الشرعي فاعتقد الموظف أنه مزور والفيزا مزورة وتدخلت وقمت بتعريف الموظف بصاحب الجواز، إنه محمود درويش الأشهر من نار على علم، فخجل الموظف وسلمني الجواز. الثورة تعني القضاء على الظلم. ومن أهم انجازات الثورة الفلسطينية بقيادة فتح أنها كسرت  قيود المذلة والمهانة من قبل الشقيق  قبل العدو. وكانت إذاعة صوت العاصفة تكرر ألف مرة في اليوم النشيد الأشهر "أنا قد كسرت القيد قيد مذلتي ."

فشل مشروع المملكة العربية المتحدة فشلا ذريعا.  فالشعب الفلسطيني في الثورة والمخيمات والوطن رفض هذا المشروع وفضح أهدافه. والدول العربية لم تجرؤ على تأييده. فبعد أيلول والأحراش واغتيال أبو علي إياد في الأحراش واغتيال وصفي التل في مدخل فندق شيراتون بالقاهرة، أحاقت العزلة بنظام الملك حسين في الساحة العربية.  إلا أنه نجح في إخراج الثورة من الأردن وأغلق أطول حدود عربية في وجه الفدائيين. وهنا لا بد من القول إن شعار إسقاط النظام في الأردن لم يلق قبولا في أوساط الشعب الأردني، خاصة بعد التصدع الذي أصاب علاقات الشعبين من عام 1968 وحتى عام 1971. وزاد الطين بلة، لجوء فتح والفصائل إلى تدبير عمليات عسكرية لقلب النظام. وقد تولى مكتب شؤون الأردن هذه المسؤولية الخطيرة. ومن المفارقات المضحكة المبكية أن هذا المكتب كلف أحد الشباب بإلقاء قنبلة على مكتب الجوازات في الزرقاء، وأصيب نتيجة ذلك (24)  فلسطينيا، ولم يصب مسؤول واحد.

كانت المحاولة التي بلغت الذروة من حيث سيطرة روح المغامرة، هي محاولة السيطرة على مقر مجلس الوزراء الأردني في عمان آذار 1973، وقد فشلت واعتقل قائدها أبو داوود وحكم ومن معه بالإعدام. وعفا الملك حسين عنهم قبل حرب أكتوبر. كما فشلت كذلك محاولة الانقلاب العسكرية التي تزعمها الضابط رافع الهنداوي وعدد من الضباط بينهم أخي الضابط "عدوان" وقد حكموا بالإعدام وعفا عنهم الملك حسين.

وهكذا على صعيد صراع الثورة والنظام.  فقد فشلت الثورة، في إسقاط النظام بعد استحالة التوافق بينهما. وفي المقابل فشل النظام في إعادة وصايته على القضية الفلسطينية. وانتهت حقبة من التاريخ تعرض فيها الشعب الفلسطيني للنكبة والإلغاء والاحتواء. وإذا كان العدو قد احتل كل فلسطين التاريخية، فإن محاولة تذويب الشعب الفلسطيني وطمس هويته وكيانه قد فشلت فشلا ذريعا.

أما المعركة الأخرى التي كان الهدف منها التعويض عن سقوط القاعدة الآمنة في الأردن، فكانت الحرب الفلسطينية الإسرائيلية في الساحة الخارجية، إنها حرب المخابرات والجواسيس. وقد كانت أوروبا ساحتها الرئيسة. وقد استهدفت الفريق الرياضي الإسرائيلي في الألعاب الأولمبية في مدينة ميونخ الألمانية في أيلول 1972. وقصفت إسرائيل المخيمات والقواعد في سوريا ولبنان واغتالت وائل زعيتر في روما ومحمود الهمشري في باريس وحسن أبو الخير في قبرص، واغتالت قبل ذلك غسان كنفاني في بيروت ( 8 تموز 1972) ،  واستخدمت الطرود الملغومة التي انفجرت في المرسلة إليهم: مدير مركز الأبحاث أنيس الصايغ، بسام أبو شريف رئيس تحرير الهدف، أبو خليل ممثل فتح في الجزائر. وخطف الفدائيون الطائرات، ومنهم علي طه، إلى مطار اللد. وخطفت طائرة لوفتهانزا إلى مقديشو وقتل مسؤول المخابرات الإسرائيلية في مدريد، وقد استولى الفدائيون على سلاحه وأوراقه الشخصية، وعثر فيها على صورة  د. عصام كامل ممثل حركة فتح في مدريد. واكتشف الأمن الايطالي محاولة لإطلاق صاروخ على طائرة "ال عال "وهي تقلع من مطار روما، واعتقل المجموعة التي كان يقودها أمين الهندي. كما فشلت محاولة أخرى لاغتيال الملك حسين في المغرب وكان يقودها أمين الهندي وأبو هشام وفي أوائل عام 1973 هوجمت سفارة إسرائيل في بانكوك، واقتحمت مجموعة أخرى السفارة السعودية في الخرطوم ( نيسان 1973) وقتلت السفير الأمريكي وبعض الدبلوماسيين الأوروبيين، إلا أنها لم تمس السفيرين السعودي والأردني.

وجاء الرد الإسرائيلي على عملية الخرطوم وغيرها من العمليات في نيسان 1973 بعملية فردان التي استهدفت أبو يوسف النجار وكمال ناصر وكمال عدوان. ونسفت مكاتب الجبهة الديمقراطية في الفاكهاني. إلا أنها تراجعت عن اقتحام مقر ال (17) مقر أبو عمار بسبب الحراسة المشددة عليه والعدد الكبير من الفدائيين حول المبنى. إلا أن هذه العملية الإسرائيلية في قلب بيروت قد هزت النظام اللبناني من جذوره، وفجرت الصراعات الداخلية واستقالت الحكومة، وتحركت القوى الوطنية ضد هذا التخاذل في مواجهة إسرائيل.

وشعر رئيس لبنان سليمان فرنجية أن الفدائيين قد أصبحوا قوة مؤثرة في الصراع الداخلي، ولهذا أمر الجيش بتطويق المخيمات بعد اقل من شهر على جريمة شارع الفردان. ففي ( 2 أيار 1973) وصلت دبابات الجيش إلى دوار الكولا الذي يشكل بوابة منطقة الفاكهاني، وتصدى الفدائيون للدبابات وفشل الهجوم على مقر القيادة. وواصل الجيش قصف المخيمات ولكنه فشل في اقتحام أي منها، ما عدا مخيم (ضبية) المعزول شرق بيروت. وكان الوضع العربي غير موات بالمرة لهذا الهجوم اللبناني على الثورة، خاصة وان دروس أيلول 1970 في الأردن كانت المرآة المكبرة لكل ما جرى مع الثورة ومع الفلسطينيين في لبنان حتى عام 1982، يوم توحدت القوى والمصالح، ولم تكن إسرائيل تخشى أحدا في الشرق الأوسط. فمصر تلملم جراحها بعد اغتيال السادات في ( 6 أكتوبر 1981) والأسد تلقي تطمينات من قبل أطراف عربية وأوروبية وأمريكية بان إسرائيل لن تتجاوز مسافة ال (45) كم التي اعتبرها كيسنجر المجال الحيوي لإسرائيل.  وحين تجاوزتها وصدقت نظرية أبو عمار حول الأكورديون ويعني الإطباق على الثورة من الجنوب وشرق بيروت، وتواطؤ شارون وبشير الجميل، خسرت سوريا أكثر من (80) طائرة وأرغمت على وقف إطلاق النار يوم 11 حزيران 1982. وبقيت الثورة بقيادة أبو عمار صامدة لمدة 88 يوما.

أما في أيار عام 1973 فالسادات والأسد وقفا في وجه  مؤامرة فرنجية والجيش ضد الثورة. وظهرت الحركة الوطنية اللبنانية حليفا قويا للثورة. وهذا على خلاف الوضع في الأردن سنة ( 1970). فالثورة ألغت الحركة الوطنية وحلت محلها. وحين قرر الملك حسين تصفية الثورة لم يكن لها حلفاء في الساحة الأردنية. وبالفعل صمدت المخيمات في لبنان وصمد اتفاق القاهرة وفرضت الحركة الوطنية نفسها لاعبا أساسيا في الشأن الداخلي اللبناني وأزاحت القوى التقليدية عن مسرح الأحداث، وتحررت منطقة الفاكهاني والمخيمات صبرا وشاتيلا وبيرحسن وبرج البراجنة من أية سيطرة للجيش أو الفرقة (16) أو المكتب الثاني. وكانت قذيفة   (آر بي جي) من الفدائي ( جيفارا) التي أحرقت دبابة على دوار الكولا  شاهدا على تراجع الجيش النهائي عن هذه المناطق. وظلت محررة حتى عام 1976 حين تدخلت سوريا تحت الغطاء الأمريكي والموافقة العربية الرسمية لإنهاء سيطرة الثورة على أكثر من 80% من الأراضي اللبنانية. وللأسف كان هذا التدخل السوري بقرار أمريكي وأوروبي لاستعادة لبنان القديم، إشارة واضحة لتدخل أكثر قوة لإسرائيل في عام 1982.

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة السادسة : اشتم الكفر لا الكفار

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة السادسة : اشتم الكفر لا الكفار
تاريخ النشر : 2013-11-26
كبر الخط صغر الخط
رام الله -خاص دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

الفصل السادس:

اشتم الكفر لا الكفار 


في أوائل أيلول 1973 وقعت حادثة ذات دلالة سياسية بالنسبة لحركة فتح. فقد اصطحب الرئيس حافظ الأسد معه إلى القاهرة للاجتماع مع الرئيس أنور السادات قائد الصاعقة  زهير محسن. وقد ظهر زهير محسن في الاجتماع وهو يرتدي الكوفية والعقال على غير عادته، والكوفية والعقال قد أصبحت ومنذ سنوات هي العلامة المميزة لأبوعمار. وبالطبع كانت العلاقات مع نظام الأسد متردية تماما، بسبب التضييق على العمليات الفدائية من الجولان وحتى على النشاط الفدائي في سوريا عامة، وكذلك علاقات الأسد مع الملك حسين وتحدي مصباح البديري قائد جيش التحرير الموالي للأسد لسلطة أبو عمار علنا في مجلته ( صوت فلسطين). ولم نكن ندرك وقتها حساسية الساحة اللبنانية لأي نظام في سوريا، سواء كان حافظ الأسد أو شكري القوتلي أو أديب الشيشكلي أو هاشم الأتاسي. فهناك إصرار في سوريا أن لبنان قد اقتطع من سوريا ولهذا لا توجد سفارات بين البلدين. وجاءت فتح بطروحاتها الاستقلالية لتدعم الاستقلالية اللبنانية. ومن الناحية العسكرية كان الأسد يعتبر لبنان خاصرته الضعيفة، ويعتبر العمليات الفدائية غير الخاضعة لأية سيطرة توريطا لسوريا في حرب لم تعد لها. ولهذا رفع شعاره المعروف "سوريا تحدد مكان وزمان المعركة حين تحقق توازن القوى مع إسرائيل".

وهذا الاجتماع في القاهرة الذي حضره زهير محسن بالكوفية والعقال، فهم منه أبو عمار أنه مؤامرة وانقلاب على الشرعية الفلسطينية، وبالطبع النظام في سوريا لاعب أساسي في الشأن الفلسطيني بعد خسارة الجبهة الأردنية. وقد أغلق الحدود مع لبنان في أحداث أيار 1973 بين الثورة والجيش اللبناني ضمن حساباته الخاصة. وفي مقر القيادة ( 23) استمعت بل شاركت في تحليل أسباب هذا الاجتماع الغريب في القناطر الخيرية في القاهرة، زهير محسن رئيس الصاعقة المرتبطة بسوريا وحزب البعث لا يمثل الشرعية الفلسطينية. ولماذا يقبل الرئيس أنور السادات حضوره لهذا الاجتماع على مستوى الرؤساء؟ وفي الليلة نفسها أجريت اتصالات عدة من دمشق مع الإذاعة في درعا لفضح المؤامرة وقلت لهم الجملة القديمة التي حفظتها من كمال عدوان وهي "اشتم الكفر لا الكفار" ولكني لم اكتف بما قلته على الهاتف، بل كنت في الصباح الباكر من يوم الخامس من أيلول 1973 في الإذاعة افضح المؤامرة والمتآمرين على فلسطين، وأقول بالحرف الواحد ما هذا الاجتماع في القناطر الخيرية؟ وما الذي يدبرونه ضد الثورة وضد فتح وضد الشرعية الفلسطينية؟ واعدت إذاعة التعليق أكثر من مرة ليسمعه القاصي والداني. وفي مساء اليوم التالي استدعيت إلى مقر (23) وكان هناك أبو جهاد وخالد الحسن وأبو المعتصم وأبو عمار سعد، المعتمد في سوريا، الذي تلا على الحاضرين إنذاراً من الرئيس الأسد نقله إليه كبير حراسه خالد حسين ويطالب الإنذار بتسليمي للضابطة الفدائية في دمشق على الفور وإلا فإن كل مكاتب فتح ستغلق في سوريا. وكان أبو عمار يومها قد سافر إلى  الجزائر لحضور اجتماع دول عدم الانحياز.

وساد الصمت الثقيل أجواء الجلسة بعد هذا الإنذار الخطير الذي يشكل تهديدا لوجود فتح وبالتالي للثورة. وكسر أبو جهاد الصمت الثقيل وقال لي: عليك أن تقرر، فأنت المطلوب لهم ولا يوجد لدي ثقة ما الذي يدبرونه ضدك بعد غضبهم الشديد عليك بسبب هذا التعليق وإذا كنت تفضل المغادرة إلى لبنان فهناك استعداد لتهريبك، لأنهم بالتأكيد وضعوا اسمك على الحدود للقبض عليك.

وقلت لأبو جهاد: فتح أهم مني والثورة أهم مني، ولا يمكنني أن أهرب إلى لبنان، ولهذا أنا مستعد لتسليم نفسي للضابطة الفدائية وليكن ما يكون.

في الواقع، هذا الموقف كان ما يطلبه أبو جهاد وأبو السعيد وأبو المعتصم وأبو عمار سعد، وكنت أدرك ذلك. ولكنهم يريدون أن اخذ هذا القرار دون أن يكون هناك إكراه لي، أي أن القيادة سلمتني للضابطة الفدائية وأمام هذا الموقف الذي أشاد به الحاضرون جميعا والكوادر والعناصر المحيطة بنا، قرر خالد الحسن ( أبو السعيد) واللواء احمد عفانة ( أبو المعتصم) أن يرافقاني إلى الضابطة الفدائية. ولمحاولة إنهاء الموضوع وتقديم الاعتذار وإظهار أن قيادة فتح متعاونة وليست ضد الرئيس الأسد، ودعت أبو جهاد الذي كان في غاية الحرج وقال لي: اطمئن لن يحدث شيء، وقلت له العبارات الثورية التي كنت وكان الجميع يرددها: المهم بقاء فتح والمهم بقاء الثورة.

وغادرت مقر (23) برفقة أبو السعيد وأبو المعتصم ولحقنا أبو عمار سعد إلى مقر الضابطة الفدائية في حي الشعلان. دخلنا  المبنى المحاط بالحراسات أبو السعيد وأبو المعتصم وانأ. وكان رئيس الضابطة المتجهم بانتظارنا، وقال لأبو السعيد وأبو المعتصم لم يكن هناك ضرورة لحضوركم، وبدون احترام لهما دخل ضابط وأدى التحية لرئيس الضابطة ثم وجه كلامه إلي وقال تفضل:

وقفت دون كلام وتبعته وسمعت أبو السعيد يقول لرئيس الضابطة: ما هذا العمل؟ أليس هناك احترام لوجودنا هنا في الضابطة، نحن لم نأت لتسليمه للضابطة بل لنعبر عن اعتذارنا. هذه إهانة لنا، سيقولون عندنا أننا وراء اعتقاله. ورد رئيس الضابطة قائلا: هذه هي التعليمات. أخذني الضابط الذي طلب مني مرافقته إلى قبو الضابطة الفدائية وهناك اخذ مني الساعة والحزام ورباط الحذاء والمحفظة، وربط عصابة على عيني وجرني من يدي وكان جيب عسكري بانتظاري حيث أجلسوني في المقاعد الخلفية بين جنديين، وطوال الطريق لم انطق بكلمة وكذلك من يجلس بجانبي ووصلنا المكان المقصود حوالي منتصف الليل، وما زلت معصوب العينين وبعد دقائق أمسك جندي بيدي وكان يرشدني كيف انزل الدرج وأخيراً وقف ووقفت كما أمرني، وسمعت صرير المفتاح في أحد الأبواب المغلقة وأدخلني إلى المكان وقبل أن يغلق الباب فك العصابة المشدودة على عيني وأخذها معه، ولمحت جنديا آخر كان يقف قرب الباب. ولكن ما هذا المكان؟ انه سرداب تحت الأرض بطول مترين والعرض لا يزيد على متر واحد وفيه مغسلة والحنفية مقلوبة إلى الأعلى وينزل منها الماء قطرة قطرة وبجانب المغسلة مرحاض رائحته قاتلة وفوق الباب لمبة تصدر ضوءا خافتا لا ترى منه يدك، والنوم على الأرض والحرام والمخدة والتي تسمى في لغة السجناء ( البرش) تصيب المرء بالغثيان بمجرد ملامستها. الآن اختلط الأمر أين هذا المكان بالضبط؟ وأخذت أمعن النظر في الجدران التي تحيطني من كل جانب، إنها مليئة بالكلمات المخيفة بل المرعبة. وأخذت اقرأ ويكاد وجهي يلتصق بالجدار. انه سجن المزة الشهير في التاريخ السوري في كل العهود. وقد يكون بناه الفرنسيون لسجن المعتقلين السياسيين أيام الانتداب. قد يكون سجن هنا سلطان باشا الأطرش، وربما سجن هنا خالد العظم وشكري القوتلي وأكرم الحوراني وهاشم الأتاسي. في الواقع لم أجد أسماء هؤلاء الذين قرأت تاريخ كفاحهم من أجل الاستقلال. كانت الأسماء غير معروفة. والبعض يكتب انه محكوم بالإعدام وان الحكم سينفذ في يوم كذا، وانه بريء، وعبارات كثيرة تمزق القلب. وفي الحقيقة أصابني الرعب والخوف من المصير الذي ينتظرني. فمن يدخل هذه الزنزانة مصيره معروف فهو الإعدام أو السجن المؤبد. المعتقل في هذا المكان لا تصله الشمس، ولا يرى إلا الجدران الأربعة، لان الباب كذلك جدار أصم. وبدأت أعرف الأوقات من مواعيد وجبات الطعام الذي يقدم للمعتقل من تحت باب الزنزانة. ففي الصباح وجدت كأسا من الفخار فيه شاي هربت منه الحرارة وقطعة جبن من النوع المعروف ( البقرة الضاحكة) وقطعة خبز سميكة وداكنة. أما الماء فعلى المعتقل أن يشرب بكفة يده من الحنفية وان يصبر زمنا طويلا حتى تتجمع قطرات الماء ليروي ظمأه.

بعد عدة أيام، وبعد الوجبة الثالثة التي تقدم في المساء، جاء عسكري وفتح الباب وأخرجني من الزنزانة. وكان عسكري آخر بانتظاره، وسرت بينهما وهما يمسكان بي حتى لا أهرب. إلا أنهم تعودوا على هذا السلوك. وبالطبع لم انطق كلمة واحدة معهما، ورأيت المكان الآن قبل أن اصعد الدرج الذي لا يزيد على أربع درجات. إن المكان الذي أنا فيه هو فعلا تحت الأرض. وأدخلوني إلى غرفة مضاءة وفيها مسؤول يجلس وراء طاولة وبجانبه مساعده يعبث بأوراق كثيرة بين يديه، وكأي سجين يشعر بالضعف والخوف أمام سجانه، مددت يدي للسلام على المسؤول فلم يمد يده، تراجعت إلى الوراء وحاولت الجلوس على كرسي، فانتهرني بشدة وقال: قف أنت سجين ولست زائرا وكنت حافي القدمين.

وقفت وتسمرت في مكاني، إلا انه بعد قليل سمح لي بالجلوس بعيدا في زاوية الغرفة وطلب من مساعده أن يسلمني رزمة من الأوراق وطلب مني أن اقرأها. الأوراق كانت عبارة عن " رُلّ "  كالذي تستخدمه وكالات الأنباء، والكلام فيه مطبوع وليس بخط اليد، ومن السهل قراءته، وبدأت اقرأ وأقلب الأوراق، إن ما اقرأه هو مكالماتي من مقر القيادة في ال (23) وحتى المكالمات من منزلي في دمشق للشباب في الإذاعة، وكلها محددة باليوم والساعة ورقم الهاتف الذي تحدثت منه مع الإذاعة، وبعد أقل من نصف ساعة أعدت الأوراق لمساعده الذي كان يقف فوق رأسي تماما مما كان يشعرني بالضيق الشديد من وجوده. تحدث الضابط الكبير بغضب وحدة وهو  يقول "اشتم الكفر لا الكفار"هذه هي ألاعيب ياسر عرفات، انتم عصابة من الخونة والعملاء وتدعون أنكم تحررون فلسطين؟ وحاولت الرد عليه في محاولة لامتصاص غضبته المضرية وقلت: أنتم وطنيون ونحن كذلك وطنيون، وهناك خلافات في وجهات النظر، وهذا يحدث في العائلة الواحدة ونحن نحرص على علاقتنا بسوريا.

قاطعني الرجل بحدة شديدة وهو يقول: نعم نحن وطنيون أما أنتم فعملاء، وقلت بصوت منخفض: لا... لا... لسنا عملاء.

وتراجعت حدة صوت الضابط وهو يقول: للأسف، أنتم خرجتم في غفلة من التاريخ وهذا ياسر عرفات (.........) مغموس بعسل الشعب الفلسطيني، وقد تلفظ بكلمة بذيئة ضد أبو عمار أترفع عن كتابتها، لكنها واضحة في سياق الكلام.

وسألني سؤالا مباشرا  هذه المرة.

هل هذا كلامك أم أوامر ياسر عرفات؟

- إنه كلامي وأنا المسؤول عنه، وياسر عرفات يحضر مؤتمر عدم الانحياز.

- إذن أبو جهاد من لقنك هذا السباب والشتائم على سوريا ومصر؟

- لم يلقني احد هذا الكلام، وأنا مسؤول عنه سواء كان خطأ أو صوابا.

وصاح في الجنود الواقفين بجانبي وقرب الباب _ خذوه من وجهي.

وأعادني الجنود إلى الزنزانة تحت الأرض وقد أكون حسب وجبات الطعام قد أمضيت في هذه الزنزانة خمسة أيام أخرى إلى أن فتح العسكري الباب في اليوم السادس، وظهر رجل يضع نظارات وسماعات مدلاه على صدره، إنه الطبيب الذي يزور المذلين المهانين تحت الأرض هنا في سجن المزة بدمشق، وهناك عدة زنازين بجواري لا أسمع منها صوتا أو حركة وقرأ الطبيب اسمي في الكشف الذي بين يديه وقال لي: أنت فلان، مدير إذاعة الفلسطينيين؟ قلت له نعم.

وطمأنني حين قال بقاؤك هنا خطر على حياتك.

وبعد ساعات جاء الجنود وأخذوني من هذا القبر الذي يدفن فيه البشر وهم أحياء إلى مكان آخر، ولأول مرة رأيت السماء ورأيت الشمس ورأيت الفضاء، والآن وضعوني في زنزانة على سطح الأرض مضيئة وأمامي ساحة الفسحة للسجناء الذين يقضون عقوبتهم في سجن المزة ولكن في القاووش فوق الأرض وليس في زنزانة تحت الأرض.

وفي الساحة لمحت الشباب العاملين معي في الإذاعة وهم سجناء، وكانوا يسيرون معا، وتعرفت عليهم من شقوق باب الزنزانة ذات الخمسة نجوم فهذا محمد  سليمان، وهذا سامي سرحان وهذا خالد مسمار، وهذا يحيى العمري وهذا هشام السعدي، وهذا عيسى الشعيبي وهذا عطا خيري وهذا عارف سليم والمذيع عطية شعث. وهذا الاعتقال للعاملين في الإذاعة معناه أن المخابرات السورية قد أغلقت الإذاعة وسجنت جميع العاملين فيها بعد اعتقالي بيوم واحد وربما في نفس الليلة، وعرفت حين خرجت من سجن المزة، أنهم فككوا الإذاعة ودمروا المبنى واعتقلوا جميع العاملين واستولوا على المحطة الاحتياط وهي هدية من الصين الشعبية.

بعد أسبوع آخر في الزنزانة الجديدة جاء من أخرجني إلى غرفة مدير سجن المزة، وكان هناك أبو عمار سعد الذي تسلمني رسميا، وأعادوا لي أغراضي الشخصية، وفيما بعد قال لي أبو جهاد ما قاله له حكمت الشهابي عني هذا الشاب عنيد وصلب، عليكم المحافظة عليه ولم أرو لأبو عمار الكلمات البذيئة التي قالها الضابط الكبير ضده حرصا على عدم توسيع شقة الخلاف مع النظام في سوريا، وقد عرفت أن أبو عمار غضب غضبا شديدا من اعتقالي ومن إغلاق الإذاعة ومصادرة الجهازين الأول الذي اشتراه محمود رباني من شركة فيليبس والجهاز الآخر وكان هدية من الصين الشعبية، وأثار أبو عمار قضية اعتقالي على مستوى الرأي العام الفلسطيني واللبناني والعربي، وفي الصفحة الأولى من جريدة النهار، نشرت الصحيفة يوم 13/9/1973 صورتي وخبر اعتقالي وتدمير  مبنى الإذاعة، كما كان أبو عمار وراء الاجتماع الجماهيري في قاعة جمال عبد الناصر في الجامعة العربية احتجاجا على اعتقالي وتدمير الإذاعة.وقد توسط كمال جنبلاط لإطلاق سراحي وزار دمشق واجتمع مع الرئيس الأسد الذي استجاب لوساطة جنبلاط وأمر بإطلاق سراحي في نفس اليوم الذي اجتمع فيه مع جنبلاط.

وحين وصلت مقر القيادة في (23) وجدت مهند العراقي وأبو زهير الدويك بانتظاري ولديهم تعليمات من أبو عمار بتسفيري إلى بيروت عن طريق دير العشاير- ينطا، الذي لا يخضع للرقابة العسكرية السورية.

استقبلني أبو عمار بالعناق  في الفاكهاني مقر قيادة ال (17) وكذلك أبو إياد وأبو اللطف وأبو صالح واختصرت الحديث معهم تماما وقلت: كانوا يريدون أن يعرفوا إذا كان ما أذعته ضد لقاء القناطر الخيرية بأمر من أبو عمار أم لا؟

وقلت لهم: إنه موقفي وكلامي ولا أحد غيري مسؤول عنه، وقد حاول الضابط الكبير لعدة أيام أن ينتزع اعترافا مني بأن القيادة مسؤولة عن هذا الكلام ضد الاجتماع الذي حضره زهير محسن بالكوفية والعقال، ولكني أصريت على موقفي بأنه كلامي وأنا مسؤول عنه.

ونفيت أن أكون قد تعرضت للضرب أبداً، وبسطت فترة الاعتقال إلى أقصى حد، وما عانيته فيها وقلت كلها أسبوعين في المزة، وهي مدة لا تذكر، فأبو عمار وأبو جهاد اعتقلا لأكثر من شهرين من قبل السلطات السورية.

وفيما بعد علمت أنه في الوقت الذي كنت فيه معتقلا في سجن المزة اعتقل أحد المسؤولين في الإذاعة السورية، أما سبب سجنه فيتعلق بأبي عمار، حيث كانت إذاعة دمشق تحاول نقل خطاب الأسد من قمة عدم الانحياز في الجزائر فإذا المتحدث أبو عمار، وألقى خطابه كاملا من إذاعة دمشق ولم يتمكن القسم الفني في الإذاعة من قطع الاتصال عن أبو عمار، وبعده تحدث الرئيس الأسد. وهذه الجريمة الفنية أدت إلى اعتقاله.

ومن الأمور المثيرة للسخرية فيما بعد أن صاحب المنزل، وهو شقة /دور أرضي، الذي كنت أسكن فيه قد أجبر على رفع دعوى أمام المحكمة لطردي من المنزل بتهمة أنني بعثي عراقي، وربما لفقوا شهود زور أمام المحكمة التي أصدرت الحكم بمصادرة الشقة وإعادتها إلى مالكها الأصلي.

بعد خروجي من السجن ووصولي إلى بيروت استدعاني أبو إياد لمكتبه، وجلسنا سويا لأكثر من ساعة، واستفسر إن كنت قلت للسوريين أي كلمة تسيء للقيادة، فأكدت له بشكل قاطع أن هذا لم يحدث، وقد أسَرَّ أبو إياد لي بأن الرئيس السادات أبلغه بأن اللقاء الذي جمعه مع الرئيس الأسد كان للتحضير للحرب، وأنهما متفقان على ساعة الصفر، أما حضور زهير محسن فالأسد يريد أن يرفع من شأنه ليحل محل ياسر عرفات بعد الحرب، فالأسد لا يثق بأبي عمار أبداً. إلا أن الرئيس السادات أبلغ أبو عمار باعتزامه محاربه إسرائيل وطلب منه إرسال قوات من الفدائيين إلى قناة السويس. أما أبو عمار فلم يحدثني بهذا الموضوع أبداً، إلا أنه استبقاني قريبا منه، كان يأخذني في سيارته إلى الجنوب وإلى البقاع وإلى الفدائيين في مواقعهم، وكان يدعوهم للاستعداد الدائم، "لأن أمامنا أياماُ صعبة"هذه الجملة كان يرددها أينما ذهب.

وكانت علاقتي قد توثقت أكثر فأكثر مع أبي عمار حين اصطحبني معه لحضور مهرجان الشباب العالمي في برلين في تموز 1973 وقد قمت في برلين بعمل كان بالنسبة لأبو عمار عملا خارقا، وكان ممثل فتح والمنظمة في برلين في ذلك الوقت نبيل قليلات وهو شاب مثقف هادئ ومتزن. وأعد لمشاركة أبو عمار برنامجًا حافلاً حيث يحضر أبو عمار كل المناسبات التي تضم الآلاف من الشباب المجتمعين من أنحاء العالم. وبحكم أن الحرب في فيتنام ضد الأمريكيين كانت حربا بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي في حقبة الحرب الباردة، فإن فيتنام هي العنوان العريض لكل تجمع في الدول الاشتراكية. وفي أحد المهرجانات، والتي كان يحضرها عشرات الآلاف جلسنا على المنصة، وأمامنا منصة عريضة تصعد إليها الفرق الفنية والمتحدثون، وفجأة ظهر شاب فيتنامي وبيده علم الثورة العالمية يرفعه بيده، وفي تلك اللحظة قفزت إلى حيث الشاب الفيتنامي وبقوة خارقة أخذت منه العلم  وناديت أبو عمار الذي قفز بدوره وسلمته العلم وهو بارع في التقاط اللحظة والحركة المناسبة. فأخذ يلوح به لأكثر من خمس دقائق، وهتف الجمهور "بلستينا.. بلستينا... بلستينا"من آلاف الحناجر وظل أبو عمار يردد زمنا طويلا أنه تسلم راية الثورة العالمية في برلين، دون أن يشير إلى ما قمت به من قريب أو بعيد.

وحين عدنا إلى بيروت اقترحت على أبو عمار أن تُصدر مجلة "فلسطين الثورة" ولم أكن قد تسلمت رئاسة تحريرها بعد، عدداً خاصا حول زيارته إلى برلين ومشاركته في مهرجان الشباب العالمي، وقد رحب بالفكرة، وهو المعلم الكبير في الإعلام والعلاقات العامة، وكنت قد أحضرت معي من برلين صور مشاركة أبو عمار في المهرجان ولقاءه مع هونيكر وزياراته لمختلف الأماكن ولقاءاته مع رؤساء الوفود من مختلف أنحاء العالم. وأشهد أن المصورين الألمان بارعون في التقاط الصورة الأفضل وبالألوان. وقمت بكتابة المادة المطلوبة لتغطية وقائع الزيارة يوماً بيوم، موثقة بالصور الملونة. هذا العمل أدهش أبو عمار فعلا، وطلب توزيعه على القوات وفي المخيمات وفي الخارج، ولكل ممثلي فتح والمنظمة أينما وجدوا وفروع اتحاد الطلاب ودائما. وأبداً كان أبو عمار يحرص على إقامة أوثق العلاقات مع اتحاد الطلبة قبل أي قطاع آخر ويبرر ذلك بأنه كان أول رئيس لاتحاد الطلبة الفلسطينيين في القاهرة وكان يسمى"رابطة طلاب فلسطين".

وكانت هذه العلاقة التي توطدت مع أبو عمار في برلين سببا قويا لغضبه الشديد لاعتقالي وإغلاق الإذاعة وكذلك طلبه من كمال جنبلاط التوسط لإطلاق سراحي.

ولا بد أن أذكر هنا أن أول لقاء بين أبو عمار وحزب "راكاح" الشيوعي الإسرائيلي الذي يضم عرباًً ويهوداً قد تم في برلين على هامش مهرجان الشباب العالمي، حيث رتب الألمان هذا اللقاء خارج برلين وبسرية تامة. كان توفيق طوبي رئيسا لوفد راكاح ومعه صليبا خميس والثالث كان شيوعياً إسرائيلياً يعمل في جريدة الحزب. وكنت الوحيد الذي حضر هذا اللقاء من بين الأعضاء في القيادة الموجودين في الوفد الفلسطيني إلى المهرجان. وبقي اللقاء سرياً، لأن إسرائيل تعتبر المنظمة منظمة إرهابية وتعاقب بالسجن من يجتمع بأي عضو يعمل في المنظمة. ودعاة الرفض والقوميون لا يميزون بين راكاح والليكود. وإسرائيل عندهم كتلة صماء حتى لو كان الحزب الذي نجتمع مع  قادته هو حزب راكاح وهو حزب الفلسطينيين في إسرائيل، حزب توفيق طوبي وتوفيق  زياد وإميل حبيبي صاحب رواية "المتشائل"، وتوفيق زياد "على صدوركم باقون كالجدار" ومحمود درويش "آخر الليل نهار". وبالطبع قدمني أبو عمار لهم واعتبرني عضوا في القيادة.  وفي الحقيقة لم أكن عضواً في أي إطار قيادي. وقد كان هذا اللقاء بداية علاقات مستمرة مع حزب راكاح بلغت ذروتها واستمرت مع اعتماد المجلس الوطني الفلسطيني لبرنامج النقاط العشر، وفي العمل المشترك في يوم الأرض 30 آذار 1976. وأما اللقاء الثاني فكان مع محمود درويش الذي كان ضيف الشرف على المهرجان ويقيم في أهم فندق في برلين وهو فندق "شتادت برلين "الذي يبدو وكأنه ناطحة سحاب. وساعدني نبيل قليلات لترتيب اللقاء مع محمود درويش. وكنا قد التقينا لفترة وجيزة في القاهرة وفي مقهى تابع لفندق سميراميس واسمه "ملح وفلفل." ورحب محمود درويش بلقاء أبو عمار المقيم في فيلات اللجنة المركزية. وبالفعل كان أبو عمار في قمة السعادة وهو يصافح محمود درويش ويرحب به وأصر على دعوته إلى بيروت في أي وقت يختاره، وفيما بعد كنت أداعب محمود درويش وأقول له: شعبنا محظوظ، فلدينا القائد العام والشاعر العام ".

وحين غادر محمود درويش مع نبيل قليلات لمتابعة برنامجه مع الألمان، وكانوا يحيطونه برعاية كاملة، قال لي أبو عمار "لا يجوز أن يبقى محمود درويش بعيدا عن الثورة، يجب أن يأتي إلى بيروت ويعيش معنا، وماذا يفعل في جريدة الأهرام في القاهرة؟ نحن بحاجة إليه، وجوده بيننا في بيروت أفضل له ولنا، ولم يمض سوى عام واحد حتى كان محمود درويش في بيروت وفي مركز الأبحاث مشرفاً على مجلة شؤون فلسطينية، وفي نوفمبر 1974يسافر مع أبو عمار إلى الأمم المتحدة، وتلك العبارات التاريخية في خطاب أبو عمار من يكون  مبدعها غير  محمود درويش؟

في السادس من أكتوبر اندلعت الحرب العربية الأولى ودمر الجيش المصري خط بارليف واخترقت القوات السورية جبهة الجولان في عدة مواقع. ودخل أبو عمار الحرب بفتح النار على المستعمرات الإسرائيلية في شمال فلسطين، وأطلق عليها تسمية الجبهة الرابعة. أما الجبهة الثالثة فكانت داخل فلسطين وكان أبو عمار قد أعدَّ مقراً لقيادته في البقاع ومنها كان يتحرك ويصدر التعليمات والبيانات العسكرية. وفي داخل فلسطين نفذت المقاومة عدة عمليات ضد قوات الاحتلال ومراكزه ومستوطناته. واقتصر دوري في هذه الحرب على كتابة التعليقات السياسية، وإبراز العمليات العسكرية التي تضرب المستوطنات. وكانت المجلة (فلسطين الثورة) تصدر يومياً على شكل جريدة طوال مدة الحرب وبعدها حتى نهاية شهر أكتوبر، لان أبو عمار رفض قرار وقف إطلاق النار وظل في حالة حرب إلى أن طلب لبنان رسميا منه الالتزام باتفاق القاهرة، وبعد أن  اعترف المشير أحمد إسماعيل بالمشاركة الفلسطينية في الحرب إلى جانب مصر وسوريا، أي أن مصر وسوريا وفلسطين هي القوى التي خاضت الحرب ضد إسرائيل.

وكان التفاؤل يطغى على الجميع وكانت مصر وسوريا على وفاق كامل، سياسي وعسكري، رغم الخلاف على توقيت الموافقة المصرية على قرار وقف إطلاق النار. وأما الأردن فلم يدخل الحرب وأغلق حدوده في وجه الفدائيين. وهذا الموقف جعل  موافقة الأنظمة على قرار التمثيل في قمة الجزائر في نوفمبر 1973 لصالح المنظمة أمراً مفروغاً منه رغم اعتراض الأردن. وصدر القرارعلى النحو التالي: "منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، " وأما في القمة العربية في الرباط أكتوبر 1974 فقد أصر أبو عمار على القرار التالي حول التمثيل "منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. " وهكذا انتهى عربيا الدور الأردني في التمثيل  الفلسطيني، ورضخ الملك حسين للقرار العربي على مضض. وفي أجواء التفاؤل هذه بقرب الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة عام 1967 جن جنون الساحة الفلسطينية، وبدأت المعارك السياسية والفكرية بين الفصائل وداخل كل فصيل ولم تنج فتح من هذه المعركة، وكانت مجموعة الإعلام الموحد الذي يتولى مسؤوليته محمد ميزر وحنا مقبل (أبو ثائر) وأبو نضال غطاس ومي صايغ ومعين بسيسو وزياد عبد الفتاح مسؤول وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)، لا تخفي مناهضتها  "للحلول الاستسلامية والدولة الفلسطينية الهزيلة "وكان يدعم فريق الإعلام  ناجي علوش وهو قومي الاتجاه ومنير شفيق الأقرب إلى الخط الصيني بدل الخط السوفياتي. وكان واضحاً أن توجه اللجنة المركزية بقيادة أبو عمار أخذ يقترب من الرؤية العربية بأن المهمة الراهنة هي تحرير الأراضي المحتلة عام 1967 وليس التحرير الكامل لفلسطين كما ينادي تيار الرفض المدعوم من القيادة العراقية والليبية.  وفي هذا الجو اجتمعت اللجنة المركزية وقررت تغيير طاقم الإعلام، وعينت ماجد أبو شرار مسؤولا للإعلام الموحد، وأحمد عبد الرحمن المسؤول التنفيذي للإعلام الموحد، ورئيسا لتحرير مجلة فلسطين الثورة، وكان علي أن أذهب إلى بغداد لاستعادة فريق إذاعة صوت العاصفة في درعا الذي أرسلته القيادة إلى بغداد أثناء الحرب وبعد الخروج من سجن المزة لتشغيل صوت فلسطين من بغداد. وفي الأسبوع الأول من العام 1974وصلت في بغداد قادماً بالطائرة من بيروت، وكان أبو نضال ( صبري البنا) هو ممثلنا في بغداد، وقد خدم في السودان بعد مغادرتي فلم تسنح الفرصة للقاء بيننا، وفي المؤتمر الثالث الذي حضرناه سوياً كان رجلا غامضاً وشكاكاً ومرتبكاً وكأنه يخفي أمراً، والحق أنه كان معارضاً لما قلته في المؤتمر الثالث.

وطلبت من أبو نضال تجهيز شباب إذاعة درعا للمغادرة إلى بيروت للعمل معي ومع ماجد في الإعلام الموحد. وقد رفض في البداية، إلا أنني جمعت الشباب فأصروا على مغادرة بغداد.  وقد كانت علاقتي وطيدة مع جميع الشباب سواء خلال عملنا في إذاعة درعا أو في سجن المزة الذي جعل منا فريقا موحدا في وجه كل الظروف. وأسقط في يد أبو نضال أمام إصرار الشباب على مغادرة بغداد للعمل في الإعلام الموحد. وكان الرجل حاداً ومتعصباً لرأيه إلى حد اعتبار من يخالفه في الرأي خائناً واستسلامياً وحتى عميلا للعدو. وفي نقاش عنيف بيننا قلت له ذات يوم: إن الاتحاد السوفياتي يدعم الخطة المرحلية الفلسطينية أي بمفهوم ذلك الزمان تحرير فلسطين على مراحل، فإذا به يرد علي بكل عنف وعصبية ويقول: الاتحاد السوفياتي لا يؤيد هذه الخطة الأمريكية الصهيونية ولا يدعم المرحلية.

قلت له: وهل تعتقد أن الاتحاد السوفياتي مع القضاء على دولة إسرائيل وهو الدولة الثانية التي اعترفت بإسرائيل لحظة قيامها في 15 أيار 1948 وبعد الولايات المتحدة مباشرة؟.

ورد أبو نضال بأن السوفيبت قطعوا العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل ردا على عدوان الخامس من حزيران.

 قلت له: هذا شيء مختلف عن القضاء على دولة إسرائيل.

وإذا به يصر على رأيه ويقول هذه الليلة سأدعو  السفير السوفياتي في بغداد للعشاء معي ومعه في منزله.

 وقلت له: إذا كان السفير السوفياتي مع رأيي وموقفي هل تغير رأيك وموقفك؟

قال: مستحيل أن يكون السوفيات مع إسرائيل والأمريكان.

تناولنا العشاء مع السفير السوفياتي الذي لم يكن يعرف الرهان على موقفه، وبدأنا حديثا عاما حول قرار 338 وسابقه القرار 242 والحديث عن الدعوة لمؤتمر جنيف، وكيف استنفر بريجنيف القواعد الذرية لوقف التوغل الإسرائيلي في مدن قناة السويس، وكيف هرع كيسنجر إلى موسكو لترتيب وقف الحرب وإصدار القرار 338، والأسلحة التي قدمها الاتحاد السوفياتي لمصر وسوريا أثناء وبعد الحرب، وأخيراً سأل أبو نضال السفير السوفياتي: هل الاتحاد السوفياتي مع إزالة آثار عدوان 1967؟

وكان هذا السؤال مفاجئا للسفير السوفياتي الذي رد بإسهاب وقال الموقف الذي يحفظه غيبا: طبعا نحن مع إزالة آثار العدوان ومع الانسحاب الإسرائيلي الكامل من جميع الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة عام 1967، ويعمل الاتحاد السوفياتي على المستوى الدولي لهذا الغرض. وتوقف السفير عند هذه النقطة وكأنه لم يدرك ما يرمي إليه سؤال أبو نضال مما اضطر أبو نضال لإعادة السؤال ولكن على نحو مختلف حيث قال:

الأخ أحمد يقول أنكم مع قيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع ومع تحرير فلسطين على مراحل.  فرد السفير قائلا بالطبع نؤيد حق الفلسطينيين في إقامة دولة لهم في هذه الأراضي الفلسطينية المحتلة. وجن جنون أبو نضال الذي قال للسفير بعصبية ولكن موسكو قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل وتعتبر الصهيونية حركة عنصرية وعميلة للامبريالية الأمريكية.

وقال السفير وقد أدرك إلى أين يريد أبو نضال أن يصل، أن إسرائيل دولة موجودة وتعترف بها الأمم المتحدة، ولا مجال على المستوى الدولي لأي حديث عن إزالتها من  الوجود.

وأسقط في يد أبو نضال ولم يجد ما يقوله لا لي ولا للسفير، بل أجزم إنه كان يغلي في داخله ولا يدري ما يقول وبصعوبة ودعنا أبو نضال عند الباب وعلمت من العاملين معه أنه لم يلتق السفير السوفياتي بعد ذلك أبدا. وراح يهاجم الاتحاد السوفياتي. وفي السنوات العشر الأخيرة قبل انتحاره في بغداد بعد اكتشاف علاقته المخابراتية والمالية مع دولة الكويت، أرسل لي طردا ملغوما لمنزلي في تونس واكتشف أمر الطرد الملغوم قبل أن يصل إلي وبعدها أمر أبو عمار بشراء سيارة مصفحة أتنقل بها داخل تونس ووضع حراسة على منزلي ومكتبي. وسبب إرسال الطرد إلي تحديدا أنني كنت في ذلك الوقت مسؤولا للإعلام الموحد والناطق الرسمي باسم المنظمة وردا على اغتيال الناطق الرسمي لجماعة أبو نضال في بيروت في نفس الفترة نهاية الثمانينات. دبر أبو نضال إرسال الطرد الملغوم لي من خلال جماعته الموجودة في ليبيا في ذلك الوقت. وقد ألقى الأمن التونسي القبض على الشابين اللذين سلما الطرد الملغوم للمنزل وأعادهما بعد التحقيق معهما إلى ليبيا. وكنت في تلك الفترة قد كتبت "رسالة إلى العقيد القذافي "تناولت فيها بعض تصريحاته ومواقفه والتي لم أكن أراها تخدم توحيد الجهد العربي ضد إسرائيل.

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة السابعة :مستقبل الأراضي الفلسطينية بين المستحيل والممكن

دنيا الوطن تنشر فصول شهادة "أحمد عبد الرحمن" مع أبو عمّار : عشت في زمن عرفات .. الحلقة السابعة :مستقبل الأراضي الفلسطينية بين المستحيل والممكن
تاريخ النشر : 2013-11-27
كبر الخط صغر الخط
رام الله - دنيا الوطن
تواصل دنيا الوطن نشر كتاب أحمد عبد الرحمن أمين عام مجلس الوزراء في عهد الشهيد ياسر عرفات الذي أصدره بعنوان :"عشت في زمن عرفات" ..

الفصل السابع:
مستقبل الأراضي الفلسطينية
بين المستحيل والممكن 


في العدد الأول من مجلة فلسطين الثورة التي تسلمت رئاسة تحريرها في 15 كانون الثاني 1974، كتبت المقال الافتتاحي الذي أشعل الحريق في أوساط فتح وجاء في المقال وبالحرف الواحد:

"إن الثورة الفلسطينية بقيادة فتح ترفض عودة أي أرض فلسطينية يجري انتزاعها من الاحتلال إلى السلطة الأردنية وكل رقعة من تراب الوطن يتم انتزاعها وتحريرها ودحر الاحتلال عنها يمارس عليها الشعب الفلسطيني كامل حقوق سيادته الوطنية ويشيد فوق هذه الأراضي وجوده الوطني المستقل. فهذا الوجود الوطني المستقل إنما يعزز النضال لتحقيق الهدف الاستراتيجي في بناء دولة فلسطين الديمقراطية وسوف يستمر النضال حتى يتمكن هذا الشعب من تقرير مصيره فوق كامل ترابه الوطني. والثورة الفلسطينية ترفض فصل القوات على الجبهة الأردنية وتعتبره تسلما وتسليما لأرضنا الفلسطينية بين العدو الصهيوني والنظام الأردني تحت رعاية الامبريالية الأمريكية، وهدفه إعادة اقتسام الأراضي الفلسطينية كما حدث في عام 1948. وفي الوقت نفسه صرح أبو إياد بأن الأرض الفلسطينية التي تنالها التسوية يجب أن يقرر فيها شعبنا مصيره بيده دون أية وصاية، ويجب ألا تعود للملك حسين مهما كلف الأمر.

أما أبو صالح فقال: "إن المنظمة ستقيم سلطة وطنية على كل شبر من الأرض تتم استعادته" .

 وحسم أبو عمار الغموض حين قال: فلسطين للفلسطينيين وأي شبر نحرره أو نسترده نقيم عليه ثورتنا وقاعدتنا الآمنة لمواصلة كفاحنا الوطني لتحرير فلسطين كل فلسطين التاريخية."

وهكذا وضع أبو عمار "المرحلية " في سياق تحقيق التحرير الكامل والشامل لفلسطين.

وكما يقال ستظل فلسطين ضحية نفسها وضحية عربها إلى يوم الدين. ولم تمض سوى عدة أشهر حتى ولدت جبهة الرفض  للحلول الاستسلامية. ومدت قيادة البعث في العراق يد العون لهذه الجبهة. وكان البعث السوري في حيرة سياسية بين الرفض والقبول، ولكنه لم يكن لدى الأمريكيين في نفس أهمية مصر في ظل الحرب الباردة بين المعسكرين. ولعب كيسنجر لعبته لفصل القوات بين مصر وإسرائيل في الكيلو (101) واتفاقية سيناء الثانية. وبدا واضحا أن كيسنجر سيطرد السوفيت من مصر. فمصر هي السمكة الكبيرة. وقد شكلت تحدياً للسيطرة والنفوذ الأمريكي طوال حكم عبد الناصر. فأسقطت مشروع أيزنهاور لملأ الفراغ في الشرق الأوسط بعد العدوان الثلاثي في عام 1956 وأسقطت حلف بغداد. وكانت قيادة عبد الناصر وراء مسلسل الانقلابات والتدخلات في الشرق الأوسط  والقارة الإفريقية. أما سياسة الأسد التي تقوم على الحذر والترقب فكانت تسير خطوة باتجاه معسكر  الرفض كلما سارت  مصر  خطوة باتجاه تغيير علاقاتها الدولية  من موسكو إلى واشنطن. وهذه البوصلة السورية المضطربة تلعب لعبتها الخطرة في الساحة الفلسطينية على مدى تاريخ الصراع الفلسطيني _ الإسرائيلي. ويظل الهدف الدائم للبعث السوري احتواء الثورة والسيطرة على القرار الفلسطيني المستقل بهدف إحداث تعديل في موازين القوى يضمن أن تقوم أمريكا بمخاطبة سوريا كما تخاطب مصر السادات. وتلعب سوريا نفس الدور في هذه المرحلة بورقة حزب الله .

ولأن حركة فتح أصيلة وعميقة ومتجذرة في انتمائها لوطنها ولشعبها، ولكونها كذلك حركة وطنية براغماتية فلا يمكنها أن تسير وراء المبادئ المجردة. وهي ترى الواقع يتحرك بعد حرب أكتوبر 1973 لاستعادة الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967. وإذا كان السؤال الصعب حول مستقبل الأراضي الفلسطينية بعد أيلول الأسود وتموز 1970/1971 سؤالا نظريا، فانه بعد حرب أكتوبر أصبح عمليا وملحا. وهكذا وقع الصراع الداخلي وتشكلت جبهة الرفض وخاضت فتح بقيادة أبو عمار حوارا داخليا مع الفصائل والقوى الفلسطينية  لاحتواء الموقف قبل الدورة (12) للمجلس الوطني  في حزيران 1974. ونجح أبو عمار في انتزاع التوافق الوطني على ما عرف لاحقا بأنه" برنامج النقاط العشر "الذي يعترف بالمرحلية، والأهم أن منظمة التحرير الفلسطينية هي التي تقرر مصير ومستقبل الأراضي الفلسطينية وليس الأردن وليس أي طرف عربي. وجاء البرنامج حصيلة 48 ساعة من الاجتماعات الماراثونية. وحين عرضه أبو عمار في أطول دورة في تاريخ المجلس الوطني كانت النقاط العشر قد كتبها جورج حبش بخط يده، وكان النص يقول "سلطة وطنية مقاتلة. "وقال بعض المعارضين حتى لو قيل سلطة وطنية مسلحة بأسلحة ذرية، فان البرنامج المرحلي شوفيني وقطري وإقليمي  ويتخلى عن الهدف الاستراتيجي في التحرير الكامل لفلسطين. وكان اعتماد برنامج النقاط العشر في المجلس الوطني في دورته الثانية عشرة انتصارا مدويا لوجهة النظر التي طرحتها في إذاعة صوت العاصفة وفي المؤتمر الثالث لحركة فتح. ولأن حركة فتح حركة وطنية فضفاضة، وهذا قد يكون سر قوتها وسر بقائها في كل الظروف، فإنه كذلك يجعل حركتها إلى الأمام بطيئة ومضطربة، لأنها لا تريد أن تخسر أحدا من المنضوين في صفوفها.

 لهذا، يبقى الذين يعارضون سياسة أو موقفاً ما، معارضين دائما وليسوا مستعدين للالتزام بالقرار المركزي أو قرار الأغلبية. وهذا فتح الباب أمام صراعات داخلية دائمة على مستوى القيادة وعلى مستوى القاعدة. وفي الحقيقة كان أبو عمار يجمع في شخصه وفي تفكيره وفي ممارسته وفي قيادة الثورة المفهوم الكلاسيكي لأية حركة وطنية. كان يعرف تجربة حزب الوفد في مصر، وقد عاش شبابه في مصر أيام مصطفى النحاس زعيم الوفد. أما الذي تعلمه أبو عمار من حزب الوفد فهو العمل في القاعدة والمبادرة إلى العمل والقيادة. وقبل انطلاقة حركة فتح في عام 1965، كان أبو عمار قد أسس رابطة الطلبة الفلسطينيين دون أن يستند إلى حزب بعينه. وحار الجميع في تصنيفه ومن أين يستمد هذه القوة التي جعلته يؤسس الرابطة ويُنتخب أول رئيس لها. كانت لديه الثقة المطلقة بالناس العاديين. فيذهب إليهم حيث هم في حياتهم الخاصة المعزولة ويحركهم للعمل العام. وهذه بالضبط مدرسة حزب الوفد، ولهذا حين تشكلت النواة الأولى لفتح في الكويت والسعودية وقطر كان حكمه على الأفراد، ليس على أفكارهم، بل على مدى استعدادهم للعمل مهما كانت أفكارهم. والذين تخلوا عنه في البدايات لم تمنعهم أفكارهم من اللحاق به في حركته السريعة نحو العمل، بل كانوا يرون الصعوبات التي لا مخرج منها بينما هو يرى الصعوبات ويجد المخرج ويسير إليه بنفسه وفي المقدمة. وهذا هو الذي جعل من أبي عمار الرجل الاستثنائي القادر على اختراق المستحيل. واستطاع أبو عمار أن يجعل حركة فتح صورة طبق الأصل عنه، حركة عمل وحركة مبادرة وفي داخلها بحر متلاطم من الأفكار والعقائد والبرامج والصراعات، ودائما وأبدا تبقى وطنية واستقلالية. ولا سبيل إلى هزيمتها والقضاء عليها، بعد أن اجتازت بنجاح المؤامرات تلو المؤامرات في ممر الماراثون، ووصلت في دورية أبو عمار الثالثة إلى أرض الوطن، لترفع العلم الوطني، وتؤسس بقيادته السلطة الوطنية الفلسطينية النواة الأولى للدولة المستقلة، الدولة السد، في وجه المشروع الصهيوني.

وكانت فتح والمنظمة والقضية في خط بياني صاعد طوال عام 1974. وقد وصلت الذروة بقرار قمة الرباط في 28 أكتوبر 1974 اعتبار "المنظمة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" وكلمة "الوحيد" التي أصر عليها أبو عمار تعكس العقدة الفلسطينية العامة من التدخل العربي الرسمي منذ أعوام 1936/1948، ومن الوصاية، ومن القضاء على قواعد الثورة في الأردن، وقرار البعث السوري بوقف العمليات الفدائية من الجولان، والتوتر المتصاعد في لبنان على خلفية العمليات والتحالف بين الثورة والحركة الوطنية بعد عملية الفردان والتي راح ضحيتها القادة الثلاث أبو يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر يوم 9 نيسان 1973.

وقال لي أبو عمار بعد قمة الرباط أن الملك فيصل السعودي والرئيس أنور السادات كانا قد رجحا الكفة ووقفا إلى جانبه في الإصرار على إيراد كلمة "الوحيد" في نص القرار. وأضاف أن إسماعيل فهمي وزير خارجية مصر آنذاك قال له بعد قرار القمة أصبحت القضية معقدة وتحتاج إلى "ترزي." وصرح هنري كيسنجر أن هذا القرار عقد الوضع في الشرق الأوسط. وبعد أسبوعين وفي 13 نوفمبر 1974 ألقى أبو عمار خطابه التاريخي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. ولقي تصفيقا حارا. وأعيد بند القضية الفلسطينية إلى جدول أعمال الأمم المتحدة بدل قضية اللاجئين والانروا. أما خطابه في الأمم المتحدة فقد ساهم فيه كل من يكتب ويقرأ في المنظمة والساحة الفلسطينية. وأعتقد أن أبو عمار أمر بطباعة الخطاب مائة مرة وقرأه ألف مرة، كلمة كلمة. ورافقه وفد فلسطيني من أعضاء اللجنة التنفيذية والمساعدين. وكان محمود درويش ضمن الوفد وخالد الحسن وشفيق الحوت ونبيل شعث. ونقلته المروحيات من المطار إلى الفندق خوفا على حياته من تهديدات الصهاينة الذين هددوا باغتياله إذا جاء إلى نيويورك. كان الأمين العام للأمم المتحدة هو كورت فالدهايم النمساوي. وأما رئيس الجمعية العامة فكان عبد العزيز بوتفليقة وزير خارجية الجزائر في ذلك الوقت. وأصدرت الجمعية العامة قرارين تاريخيين فعلا رغم أن أمريكا وقفت ضدهما. وكان القرار الأول يحمل الرقم 3236 وفيه الاعتراف بحقنا في تقرير المصير والاستقلال الوطني والسيادة والعودة. ونص القرار على تكليف الأمين العام على إقامة اتصال دائم مع منظمة التحرير الفلسطينية في كل المسائل المتعلقة بالقضية الفلسطينية. وأما القرار الثاني (3237) فكان إعطاء المنظمة صفة مراقب. وجدير بالذكر أن أبو عمار هو أول زعيم حركة تحرر وطني يلقي كلمة ويشرح قضية شعبه أمام الأمم المتحدة.

وبعد أربع سنوات، وفي التمهيد لزيارة فالدهايم في نيسان 1978، اتصل سمير صنبر، وهو فلسطيني وقريب المثقف المبدع إلياس صنبر الذي يعتبر مرجعا أساسيا لكل باحث في قضية اللاجئين الفلسطينيين التي اصدر عنها كتابا بالفرنسية، وهو من ترجم عدة دواوين لمحمود درويش إلى الفرنسية وصدرت عن منظمة اليونسكو، وقد عينه أبو عمار  فيما بعد ممثلا لفلسطين في اليونسكو.

كان سمير صنبر مسؤولا إعلاميا في مكتب الأمم المتحدة في بيروت. وجاء في الاتصال بأن مسؤولا من مكتب الأمم المتحدة يرغب في اللقاء مع أبو عمار لترتيب زيارة الأمين العام كورت فالدهايم. وجرى الترحيب بحرارة بهذا اللقاء. وحضر ممثل الأمم المتحدة في بيروت فإذا به  الفلسطيني سمير صنبر. وتم اللقاء وانتهى بمودة ومحبة. فأبو عمار يحيط ضيوفه بكل الدفء الإنساني ويودع ضيفه حتى باب المصعد وأحيانا ينزل مع الضيف حتى يركب الضيف في سيارته ويمضي. ويعود بعد ذلك مسرعا إلى مكتبه ليواصل عمله المعتاد. وطلب أبو عمار أن أكتب خبر اللقاء للنشر في وكالات الأنباء والصحف. وكتبت الخبر فإذا به يعترض ويقول لي: لا بد أن تكتب الخبر مرة أخرى على هذا النحو "مسيو صانبر ممثل الأمم المتحدة يلتقي أبو عمار في بيروت. "وأدركت على الفور ما يرمي إليه أبو عمار أنه يوجه رسالة للرأي العام الفلسطيني والعربي بأن الأمم المتحدة بدأت تقيم العلاقة مع منظمة التحرير الفلسطينية.

 أما فالدهايم  فقد انتخب رئيسا للنمسا فيما بعد. وأدارت الصهيونية حملة ضده بتهمة معاداة السامية وإنه جرى تجنيده في الفرق النازية   "S S" في الحرب الثانية. وكتب أحد الصهاينة في صحيفة الهيرالد تريبيون في تلك الفترة يقول: إن فالدهايم الذي زار عرفات في بيروت وكان استقبله في نيويورك لا ينتمي لأي من المعسكرين المتناحرين في الزمن الراهن، إنه ينتمي إلى معسكر النازية ولهذا يزور عرفات وفاء لنازيته التي لا تكترث لمصير السلام العالمي ومصير دولة إسرائيل. وجمدت إسرائيل علاقاتها الدبلوماسية مع النمسا طوال رئاسة فالدهايم لجمهورية النمسا.

وكتبت افتتاحية "فلسطين الثورة " في الأسبوع الثاني من نوفمبر 1974 وبالحرف: إن يوم الثالث عشر من تشرين الثاني "نوفمبر"هو يوم عيد وطني للشعب الفلسطيني الصامد. ويوم عيد قومي للأمة العربية التي وقفت إلى جانب الشعب الفلسطيني في معركته، ويوم عيد أممي يرمز إلى التضامن الكفاحي بين شعوب العالم التقدمي وقواه الثورية. ولا بد، من أجل تحقيق الانتصار على الصهيونية المغتصبة، من تعميق التحالف بين الثورة والبلدان الاشتراكية وطليعتها الاتحاد السوفييتي، فهذا التحالف المبدئي هو الصخرة الصلبة التي يستند عليها كفاح شعبنا وأمتنا العربية في التصدي للمؤامرات الامبريالية والصهيونية. " وبعد أن جرى التصويت على القرارين 3236 و 3237 كتبت في افتتاحية "فلسطين الثورة": إن قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة اللذين صدرا يوم أمس بشان قضية فلسطين وقبول م.ت.ف كعضو مراقب في المنظمة الدولية قد أسقطا  وإلى الأبد الادعاء القائل بأن "فلسطين وطن بلا شعب"، وأسقط هذان القراران من تاريخ شعبنا أننا مجرد لاجئين، وأن العالم عندما استمع إلى كلمة فلسطين من على منبر الهيئة الدولية كان التاريخ في تلك اللحظة يعيد الاعتبار إلى الحقيقة على يد كل شعب ثائر في هذا العالم رفض ويرفض أن تسود قوى الظلم والطغيان على حساب مصائر الشعوب على هذه البسيطة.ولا أنسى التعليق الإسرائيلي على هذه القرارات فقد بقيت أحفظه وأتذكره دائما وأبدا وقال التعليق: إن مستقبل دولة إسرائيل ومصيرها لا يتقرران برفع الأيدي في الأمم المتحدة.

ورغم أن هذا الحدث التاريخي الذي سجله أبو عمار قد شكل اختراقا للوضع الدولي، فان الجبهة الشعبية والقيادة العامة قد رفضتا الزيارة والخطاب وانسحبتا من اللجنة التنفيذية. ويومها تداولنا في بيروت قصة انسحاب الوزير الأحمر من الحكومة الرجعية. والوزير الأحمر هو الفلسطيني الطيب أبو ماهر اليماني الذي صنعته النكبة وقسوة المخيمات، فلم يكن على استعداد ليرى أملا لفلسطين إلا بالسلاح وحده. وفي ذلك الوقت لم أترك كلمة في القاموس الماركسي اللينيني إلا ولجأت إليها لفضح دعاة  جبهة الرفض، من اتهامهم بمرض الطفولة اليساري في الثورة إلى العدمية السياسية إلى الفوضوية والجمود والتحجر الفكري والسياسي. وكان أبو عمار قد اتخذ من مقر "فلسطين الثورة" ومكاتبها، في بناية منير بعلبكي مقابل الجامعة العربية في الفاكهاني، مقرا ثانيا له. وصحيح أنه كان يزور معظم المكاتب، إلا أن مكاتب "فلسطين الثورة" كانت دون مبالغة مقرا ثانيا له. ولكونه يشكل قطب المغناطيس في الثورة، فكانت "فلسطين الثورة" ملتقى كل القوى والشخصيات. وهذا الامتياز عزز مكانتها لدى الرأي العام الفلسطيني. وكانت كلمة الثورة الأسبوعية بمثابة تعميم سياسي لكل الفلسطينيين أينما وجدوا. والذي أعطى "لفلسطين الثورة" هذه الأهمية والمكانة، وطنيتها وفلسطينيتها. فقد حفظت عن كمال عدوان قولته الشهيرة إن فلسطين عقيدتي وكل العقائد في خدمتها.  وبالطبع، كانت المسحة اليسارية "لفلسطين الثورة" سياسية وليست أيديولوجية. فما دامت أمريكا ضدنا فيجب أن نبحث عن حليف. وفي ظل الحرب الباردة كان الاتحاد السوفياتي حليفنا، كان لنا فيه ألاف الطلاب وأعطانا ألاف المنح والتدريب العسكري  والاعتراف الدبلوماسي  والزيارات الرسمية. أما المنظمات الدائرة في فلك الاتحاد السوفياتي فقد أمسك بها أبو عمار ووظفها لخدمة فلسطين، مجلس السلم العالمي ورئيسه شاندرا الهندي كان لا يفارقنا، والتضامن الآسيوي الإفريقي واتحاد الشباب العالمي واتحادات العمال والطلاب والمرأة كما قدم السوفيت المساعدات السخية لمختلف التنظيمات النقابية بما فيها تذاكر الطيران المجانية لكل مهرجان أو لقاء أو ندوة. وقد بدأت هذه العلاقة مع الاتحاد السوفياتي عندما اصطحب الزعيم جمال عبد الناصر معه إلى موسكو أبو عمار في عام 1969 حيث قدمه لبريجينيف وكوسيجين وبودغورني. وكانت العلاقة مع موسكو تفتح لنا الأبواب في دول المنظومة الاشتراكية ولدى الأحزاب الشيوعية في العالم. وقد كان اهتمام الصين بالقضايا الدولية قد تراجع نتيجة الثورة الثقافية التي استمرت عدة سنوات في عهد ماوتسي تونغ. أما الخلاف الصيني _ السوفياتي فقد تجنبنا التطرق إليه في "فلسطين الثورة" طوال تلك الفترة بينما الأحزاب الشيوعية العربية جعلت من هذا الخلاف القضية الأولى في منشوراتها. وقد جذب البرنامج الوطني الاستقلالي والتأكيد على علاقات الصداقة والتضامن، بل التحالف مع موسكو، لمجلة "فلسطين الثورة" مثقفين كبارا من الأحزاب الشيوعية العربية من العراق ولبنان وسوريا والأردن وفلسطين ومصر. فكانوا يقدمون لنا عن طيب خاطر ودون تردد، المقالات والتحليلات التي تدعم برنامجنا الوطني، برنامج النقاط العشر، وهو في الجوهر برنامج الاستقلال الوطني وإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، لأن استخدام عبارة الدولة الفلسطينية في ذلك الوقت كان مشبوها ومدانا، ويرمز إلى الحلول الاستسلامية والتخلي عن فلسطين التاريخية.

وأذكر هنا، أن صبري جريس وهو آخر مدير لمركز الأبحاث بعد أنيس صايغ ومحمود درويش كتب يقول: "الدولة الفلسطينية التي يترفعون عن ذكرها ليست هدفا متواضعا، أنها انجاز تاريخي للشعب الفلسطيني." واتهم الذين يرفضونها بأنهم مقتلعون من وطنهم ووطنيتهم وأنهم استمرؤوا حالة اللجوء. وكتب المفوض السياسي  يحيى رباح مقالا ساخرا قال فيه: إن المخيمات لا تصلح وطنا، المخيمات هي المنفى والتشرد، أما الوطن فهو الأرض والشعب والتاريخ"، ولأن فتح كانت وستظل الحاضنة للشعب الفلسطيني وقواه وأفكاره، فهذا قدرها ومصيرها، فقد وجدت المواقف الرافضة لبرنامج النقاط العشر دائما منابر داخل فتح تعبر فيها عن مواقفها.

 وهكذا أصبح جارنا الملاصق لمقر "فلسطين الثورة" وهو مركز التخطيط، مكانا للمعارضة الرافضة للحل الوطني والذي تطلق عليه الحل الاستسلامي. وقد وجدتني مضطرا للرد على دعاة الرفض ونعتهم بأسوأ النعوت. وأشرت من طرف خفي إلى ما يصدر عن مركز التخطيط من مواقف ونشرات تتعارض وبرنامج النقاط العشر. وجاء هذا الرد العنيف والشخصي في افتتاحية "فلسطين الثورة". وأما معين بسيسو فكتب مقاله الأسبوعي تحت عنوان "ليس كل من نطق بالضاد ضد مستعمرة كفار جلعاد."

وتصاعدت الأزمة وكان لا بد من تدخل أبو عمار لاحتوائها فطلب من أبو الهول، وهو مسؤول الأمن المركزي، أن يعتقلنا أنا ومعين بسيسو. وقال لي أبو عمار وقتها كلمته المعروفة: "اسجن نفسك". وبالفعل أطعنا أوامر أبو عمار، وذهبنا إلى الأمن المركزي أنا ومعين بسيسو، حيث استقبلنا أبو الهول بطيبته ولطفه وهو يبتسم وقال: "أنتم ضيوفي ولستم معتقلين". وأضاف، أنتم تدركون أن هذه طريقة أبو عمار لاحتواء المشكلة. وبعد وصولنا بدقائق حضر ماجد أبو شرار، وهو مسؤول الإعلام الموحد، وأعلن أنه معتقل معنا ويرفض هذا الإجراء. وقال كان من الأجدر أن يعتقل الذين يرفضون البرنامج الوطني. وزارنا أبو صالح وبعده أبو إياد وكثير من الكوادر. وأمر أبو الهول بتحضير العشاء لجميع الموجودين. وكانت ليلة لا تنسى، ناقشنا فيها كل القضايا السياسية والمواقف المختلفة للفصائل والدول العربية والعالمية. وكانت أجواء التفاؤل بقرب الوصول لاستعادة أرضنا المحتلة عام 1967 تسيطر على الجميع وقيام القاعدة الآمنة للثورة فوق الأرض الفلسطينية.

وفي اليوم الثاني، استدعاني أبو عمار بعد الليلة الطويلة في الأمن المركزي وفي ضيافة أبو الهول. وكان يخشى أن تكون علاقتنا قد تأثرت بهذا الإجراء. وقال مرحبا كعادته: "يا بختك يا خويا "بيت ضيافة وعشاء مناسف والكل من حولك أنت ومعين. "وحين أدرك أن قراره باعتقالنا لم يترك أثراً قال لي وبالحرف الواحد: عليك أن تميز وأنت في هذا الموقع الحساس بين الموقف وبين الاتجاه وبين أصحاب الموقف وأبناء الاتجاه. فالموقف يتغير حسب الظروف، وأما الاتجاه فهو التنظيم وهو فتح. والمواقف داخل فتح كبرت أم صغرت لا تخرج عن الخط العام في كل الأحوال. وتذكّر أن الثورة زائد واحد وليست ناقص واحد، ولهذا كان عليك أن تحافظ على إخوانك وزملائك في الاتجاه أم إنك قد نسيت قانون المحبة الذي قامت عليه فتح.

وقد تسلم منير شفيق عمله خلفا لنبيل شعث كمدير لمركز التخطيط بعد هذه الأزمة والتي جعلت عملية الاستقطاب بين الإعلام ومركز التخطيط تتسع وتأخذ مداها في أوساط الكوادر العسكرية والمدنية وفي الجامعات وفي خارج لبنان. وكان د. محجوب عمر المثقف وصاحب التجربة النضالية الغنية في مصر في إطار الحزب الشيوعي المصري يعمل في كل المواقع، وأكثرها تأثيرا القواعد الفدائية ومدرسة الكوادر، وهو أحد الرجال الذين صمدوا في دبين وجرش في تموز 1971 حتى اللحظة مع القائد أبو علي إياد الذي شكل النواة الصلبة المقاتلة في قوات العاصفة في البدايات في الضفة الغربية وخاصة منطقة الشمال.

وكان الدكتور محجوب عمر محبوبا من الجميع وكان يقدم تحليله للوضع السياسي بأسلوب جذاب وباللهجة المصرية التي صقلتها حياة المجتمع المصري على مدى العصور. وحقيقة موقفه في جوهره ضد المرحلية والبرنامج الوطني، ومع الكفاح والثورة حتى يقع الانقلاب في الحياة العربية وتحرر الأمة فلسطين كما حررها صلاح الدين.وأما منير شفيق وهو من تنظيم الحزب الشيوعي الأردني، وسجن في شبابه والتحق بفتح بعد معركة الكرامة مع ناجي علوش، وبينهما نسب وقرابة وهما على طرفي نقيض. فكان منير شفيق أممي مع الخط الصيني من الأساس وناجي علوش قومي عربي .

وتقلب منير شفيق بين القوى والعقائد عله يجد الطمأنينة التي يبحث عنها طوال حياته إلى أن اعتنق الإسلام أخيرا. أما ناجي علوش فقوميته المجردة التبشيرية والمنفصلة عن الواقع المعاش جعلته ينعزل تدريجيا عن التيار الوطني العريض رغم أنه تسلم مسؤوليات تنظيمية أساسية في فتح في الأردن وعضوية المجلس الثوري والأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين حتى مؤتمر الاتحاد في فندق البوريفاج في بيروت عام 1978. وخلفه في موقع الأمين العام الروائي يحيى يخلف حتى عام 1984 حيث انعقد مؤتمر الاتحاد في صنعاء في نيسان 1984 في ذروة أزمة الانشقاق في فتح، حيث غاب يحيى يخلف في دمشق، قد انتخبت أميناً عاما للاتحاد في المؤتمر التوحيدي في الجزائر 1987 وبقيت  أمينا عاما حتى عام 2006، وكان رئيس الاتحاد محمود درويش.

وفي الحرب الأهلية في لبنان في نيسان 1975 وقع استقطاب قوي بين هذه التيارات. فالإعلام الموحد شكل كتيبة الإعلام والتي ضمت العاملين في الإعلام والطلاب المتطوعين من إيطاليا والاتحاد السوفياتي واليونان وألمانيا. وكان المسؤول العسكري فهد أحمد العبادين وقد توفي في 10/4/1995، وهو من الطفيلة في الأردن. وفي مواجهات الشياح وعين الرمانة استشهد المثقف والناقد اللبناني طلال رحمة واستشهد رشاد عبد الحافظ الفلسطيني القادم من العراق. وحين تمت سيطرة القوات المشتركة على الجبل والمتن وعينطورة وتوجهت سرية من كتيبة الإعلام إلى الجبل لإظهار حضورها في كل المواقع. إلا أن القائد العسكري أبو خالد العملة رفض تمركزها في الجبل لأننا على خلاف في الموقف السياسي. وفي المواجهات والقصف استشهد جورج أبو خالد، وهو شقيق منير شفيق، واستشهد هاني جوهرية وهو المصور المعروف والقديم في مؤسسة السينما التابعة للإعلام الموحد. وكان الإعلام الموحد يتولى إصدار الملصقات لكل شهيد. وكان يمكن ملاحظة أن السيطرة على الجبل والمتن وعينطورة ودعم كمال جنبلاط لهذه السيطرة قد جعل الرؤوس الحامية في فتح تمتلئ غرورا. وفي هذا الوقت بالذات جاءني شاب  يحمل صورا لشهداء سقطوا في الجبل. وكالعادة كتبت النصوص المطلوبة وحولتها للقسم الفني. فإذا بالشاب يعترض وهو شاب مهذب وخجول ويعمل مع منير شفيق وقال لي: لدي نص أعده الأخوة في الجبل وناولني ورقة عنوانها هكذا: شهداء الثورة العربية التقدمية والديمقراطية. وقلت له بعصبية: ولكن أين هي هذه الثورة؟ وهل سقطوا دفاعاً عن الثورة وفتح والشعب الفلسطيني؟ وغادر الشاب غاضباً، وصدرت الملصقات من مركز التخطيط ومن الإعلام الموحد بصيغتين مختلفتين للشهداء أنفسهم.

 كانت الأحداث في تسارع مذهل، ويستحيل السيطرة عليها. فقد اتسعت دائرة الصراع لتشمل الأطراف الإقليمية كلها. وكان أكثر الأطراف قلقا واضطرابا نظام حافظ الأسد، الذي يعتبر لبنان جزءا لا يتجزأ من سوريا من الناحية الواقعية والعسكرية. وأما الجبهة المارونية فوجدت في إسرائيل حليفاً سخياً، فتزودت بالسلاح وحتى بالدبابات. ومع تفكك الجيش اللبناني وهزيمة الجبهة المارونية وسيطرة القوات المشتركة على 80% من الأراضي اللبنانية، استعان حافظ الأسد بالملك حسين الذي ضمن للأسد الموافقة الإسرائيلية والأمريكية على التدخل العسكري السوري الشامل في لبنان.

والذي يهم في هذا السياق هو ما الذي جرى في معركة الجبل مع الجيش السوري، وكيف تصرف أصحاب الرؤوس الحامية ودعاة الثورة العربية والتقدمية والديمقراطية في ذلك اليوم من أواخر أيلول 1976.

رافقت أبو عمار إلى المناطق الدرزية في الجبل المطلة على بحمدون. ومنها يمكن مشاهدة وملاحظة ما يجري في المتن ومناطقها، وكانت هناك أجهزة اتصال مع فريق أبو عمار تتابع ما يجري. وسمعت أبو عمار يقول أين القائد العسكري أبو خالد العملة؟ وجاءه الجواب أنه غادر الجبل. ولهذا اصدر أبو عمار قرارا بعزله من أي مسؤولية عسكرية، ويبدو لي ودون أن أملك المعلومات الكافية أن الانسحاب من الجبل تم بالتواطؤ بين المخابرات السورية وأبو خالد العملة.

أما خطة حافظ الأسد فكانت تتقاطع مع الخطط الأمريكية والإسرائيلية. فإسرائيل يهمها بالدرجة الأولى القضاء على الثورة في لبنان. وأمريكا طيعة ومطواعة لكل مصلحة إسرائيلية. واللاعب الآخر الملك حسين الذي وثق حافظ الأسد علاقاته به، وساد الوئام  بين الجانبين إلى حد إلغاء السفارات، لأنهما بلد واحد ولا حاجة لهما في علاقات دبلوماسية بعد الآن. وبالطبع لم يكن الملك حسين الذي خسر الورقة الفلسطينية الأهم في قمة الرباط في أكتوبر 1974، وهي ورقة التمثيل، قد سلم بالأمر الواقع عام 1976. ولهذا وقف بكل ثقله عند الإسرائيليين والأمريكيين لتسهيل مهمة حافظ الأسد في لبنان.

وكنت في هذه الأثناء عبأت كل وسائل الإعلام الفلسطينية واللبنانية، وحتى العربية، ضد التدخل السوري. وبقرار من أبو عمار كان الإعلام الموحد قد استوعب المئات من الصحافيين اللبنانيين والعرب وخاصة من العراق.

وقد عمل هذا الجيش الضخم من الإعلاميين لفضح التدخل العسكري السوري. وكان جوزيف سماحة أبرز كتاب الصحيفة اليومية بالإضافة إلى المجلة الأسبوعية. وأخطر ما كتبته في هذه الفترة كان عن حافظ الأسد وكيف استولى على الحكم وكيف سجن خصومه حتى الموت. وذات يوم اتصل معي عبد المحسن أبو ميزر وكان عضوا في اللجنة التنفيذية والمتحدث الرسمي، وهو من أصول بعثية ومقيم في دمشق وكان يتمزق من هذا الصراع السوري الفلسطيني، ويراه دمارا لسوريا وفلسطين. وقال لي: أرجوك لا تهاجم الجيش السوري، هذا سيظل قوة لفلسطين. ونصحني بعدم التطرق للأوضاع الاجتماعية والطائفية في سوريا فهذا لا يترك مجالا للصلح والتعايش. وكنت في ذلك الوقت قد قطعت كل الخطوط، حتى أنني قلت عن الجيش السوري بأنه جيش انكشاري. وللتاريخ أقول أن ما قلته في تلك الفترة لم يكن مساعدا حيث اعتبر النظام السوري أنه كلام ياسر عرفات وكلام القيادة، كما هو الحال عندهم. والحقيقة أن ما كتبته سواء في إذاعة درعا وسجنت في سجن المزة بسببه، ودمرت الإذاعة، كان موقفي وكلامي ولم يكن أحد في القيادة يعرفه أو يطلع عليه. فالإعلام في الثورة وفتح كان في الحقيقة كما قال إبراهيم بكر لأبو جهاد ولي في عمان: هل إذاعة درعا إذاعة أم رئاسة أركان؟ وكان أبو عمار يتدخل بعد وقوع المصيبة كما كان يقول. وذات يوم أواخر عام 1976 وصل الرائد عبد السلام جلود وكان يقوم بالوساطة مع دمشق وطلب اجتماعا مع القيادة الفلسطينية اللبنانية المشتركة، وكان أبو عمار يحرص على حضوري، وكنت أجلس في آخر مقعد في اجتماع يحضره أكثر من عشرين مسؤولا بينهم كمال جنبلاط أحيانا ومحسن إبراهيم وجورج حاوي ونديم عبد الصمد وإبراهيم قليلات وعبد الرحيم مراد. وجلس الرائد عبد السلام جلود على الطاولة الرئيسة بجانب أبو عمار. وبعد أن تحدث عن جهوده لتهدئة الأوضاع بين الجانبين وطالب بوقف الحرب على جبهة الإعلام. وللتدليل على خطورة هذه الجبهة اخرج ورقة من جيبه وراح يقرأ عن الجيش الانكشاري والطائفية البغيضة التي تتحكم بالشعب السوري. وحين استمعت إليه عرفت أنه يقرأ افتتاحية "لفلسطين الثورة" اليومية، وانسللت من الباب الخلفي إلى خارج غرفة العمليات. لقد هربت في الواقع، وفي حالة ارتباك شديد، ولم أعرف ما جرى في الاجتماع إلا بعد ساعات، حيث أصر الرائد عبد السلام جلود على طردي من الإعلام، وأن يصدر الطرد بقرار رسمي من القيادة ويوقعه أبو عمار وأن يحمله عضو  في اللجنة التنفيذية إلى القيادة السورية. وبالفعل لم يتردد أبو عمار في تلبية الطلب السوري، فأمر بطباعة قرار طردي من الإعلام و"فلسطين الثورة". واتصل جلود مع عبد الحليم خدام وأبلغه بالقرار وبأن مسؤولا في القيادة سيحمله إلى دمشق. وبالفعل استدعى أبو عمار عبد العزيز الوجيه وهو قائد سابق في جيش التحرير  الفلسطيني وعضو في القيادة وسلمه القرار ليقوم بتسليمه للقيادة في سوريا تعبيرا عن حسن النوايا والاستعداد للتهدئة والتعاون. أما حامل القرار عبد العزيز الوجيه فقد وصل البقاع وكان هناك اشتباكات وطرق مقطوعة كالعادة، فأصيب بنوبة قلبية وفارق الحياة قبل أن يصل إلى دمشق.

أما أنا فقد تواريت عن الأنظار، وتوقفت الصحيفة اليومية وتوقفت المجلة. فقد أغلق حاجز عسكري سوري الطريق إلى المطبعة. ولأنني لا يمكن أن أختفي طويلا بعد أن تعودت على هذه الطريقة في العمل مع أبو عمار، فقد عدت إلى مكتبي في "فلسطين الثورة". وقال لي أبو عمار: يمكنك العمل بالتفويض السياسي لبعض الوقت حتى تهدأ الأمور، ولكن الآن يجب وقف كل الإعلام المكتوب ولو إلى حين.

وفي تلك الفترة كنت قد كتبت مقالة طويلة باسم مستعار هو "رضوان" حول البرنامج الوطني والسلطة الوطنية والتحالفات المطلوبة وصولا إلى طرد الاحتلال الإسرائيلي من أرضنا وإقامة السلطة الوطنية السد في وجه الأطماع الصهيونية في كل الوطن العربي.

 وكان عزام الأحمد الذي سجنه أبو نضال في بغداد قد أخذ يتردد على الإعلام الموحد لمساعدته في إصدار مجلة اتحاد الطلبة واسمها "جبل الزيتون". وكنت قد تعرفت عليه قبل عدة سنوات حين التقينا بالصدفة عند أبو العز الدجاني، وهو أقدم منا في فتح، وخدم في فترة لاحقة قائدا لقوات الكرامة. وفي النقاش فيما بعد، كان عزام الأحمد، وهو عضو في الهيئة التنفيذية لاتحاد الطلاب، شديد الحماسة والتأييد لبرنامج النقاط العشر وضد أبو نضال صبري البنا الذي انحرف عن خط الحركة في بغداد واضطهد الكوادر الفتحاوية الموجودة في العراق. وربطتنا أنا وعزام صداقة وطيدة. وحرصت على دعم الإعلام الموحد لعزام ومهمته في اتحاد الطلاب. وقد تولى عزام توزيع كراس "رضوان" الذي كتبته لدعم البرنامج الوطني والقرار المستقل على جميع فروع الاتحاد في العالم. و"رضوان" هذا هو أول مسؤول للحزب الشيوعي في فلسطين. وقد حرصت على اعتماد هذا الاسم لكسب المزيد من الأنصار للخط الوطني من قوى اليسار ومن المثقفين الفلسطينيين والعرب. وذات مرة كنت في موسكو، وفي لقاء مع طلاب من الحزب الشيوعي الأردني، وبعض الأحزاب العربية قالوا لي: نعتبر مجلة "فلسطين الثورة" مجلتنا ونقوم بتوزيعها أسوة بمنشورات الحزب. أما في بيروت فكان الدبلوماسيون السوفيت يترددون على مكاتب الإعلام الموحد و"فلسطين الثورة" بشكل دائم. وخطر لي أن أعرف رأيهم في هذا الكراس الذي يحمل اسم "رضوان". وقلت لهم بأنني من كتب هذا المقال. وبالفعل، أخذوا الكراس وزاروني بعد عدة أيام وجرى النقاش التالي معهم: قال أحدهم: التحليل للوضع الفلسطيني والعربي والدولي لا يختلف أبدا عن تحليلنا. ولكن هناك قضايا لم تتطرق إليها، وهي في رأينا قضيتان أساسيتان، أما القضية الأولى فهي قرارات الشرعية الدولية، والقضية الثانية هي مسألة وجود إسرائيل. فأنت لم تتطرق بكلمة لهاتين القضيتين. ولا بد أن تعلم أن موقفنا يقوم على التمسك بقرارات الشرعية الدولية وكذلك مسألة وجود إسرائيل. فهذا الوجود ليس موضع نقاش. فإسرائيل دولة موجودة وعضو في الأمم المتحدة. وقرار التقسيم في عام 1947 هو قرار صادر عن الشرعية الدولية، وعلى أساسه قامت إسرائيل. أما أنتم الفلسطينيون والعرب فقد أضعتم الفرصة لقيام دولة فلسطينية في عام 1947 كما فعلت الحركة الصهيونية. والآن المتاح لكم هو تصحيح الخطأ التاريخي الذي وقعتم فيه. وهذا هو فهمنا لبرنامج النقاط العشر وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية المستقلة. وبدون هاتين القضيتين: الشرعية الدولية وحق إسرائيل في الوجود لن يستمع لكم العالم.

وسألته عن رأي السوفيت في برنامج النقاط العشر. فرد قائلا: أنه يحمل مؤشرات على الاعتراف بالشرعية الدولية ويتخلى عن طرحكم القديم في الميثاق الذي ينص على تدمير إسرائيل. ولكن هذه العموميات تجعل إسرائيل تقول ما قالته حول البرنامج وحول خطاب أبو عمار في الأمم المتحدة أن الفلسطينيين يريدون تدمير دولة إسرائيل. وكما تعلم قرارات الجمعية التي صدرت لتأكيد الحقوق الفلسطينية لا تتحدث أبدا عن وجود إسرائيل كدولة يجب تدميرها بل عن إزالة احتلالها للأراضي العربية والفلسطينية وتطبيق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بقضيتكم. وبالطبع كان مستحيلا في ذلك الوقت الاقتراب من هاتين القضيتين لدى الرأي العام الفلسطيني والعربي. إنها قضايا متفجرة وحقل ألغام من يدخل فيه لا يخرج منه سالما إلا من رحم ربي. وأذكر في هذه السياق حديثا عابرا مع سيدة في المقهى الواقع تحت مكتب الجامعة العربية في جنيف عام 1969، وكانت تضع حول رقبتها سلسلة ذهبية وفي آخرها تظهر نجمة داوود. كنا نتحدث أنا وفؤاد الشمالي وبعض الوافدين العرب حول تحرير فلسطين من الصهيونية وتدمير إسرائيل ونضرب أمثلة تحرير الجزائر من ثلاثة ملايين مستعمر فرنسي وتحرير المستعمرات من الاستعمار الأوروبي ولم يبق إلا إسرائيل والنظام العنصري في جنوب أفريقيا. أما ما حدث فالسيدة التي تجيد الفرنسية والانجليزية وتفهم العربية العامية فقد نهضت من مقعدها الملاصق لنا وتحدثت مع فؤاد بالفرنسية فأخبرني فؤاد أنها تستأذن لتستمع إلى حديثنا، وفي تلك الأيام كنا نبحث عن التضامن معنا من الماويين إلى التروتسكيين إلى الكاثوليك إلى الديمقراطيين والمحافظين. وكنا نرى نجاح الفيتناميين المنقطع النظير في مسألة التضامن هذه. وكنا نحن في أول الطريق، وليس حولنا غير المجموعات الماوية. أما الشيوعيون فكانوا أكثر تحفظا ودون أي نشاط جماهيري لصالحنا وأما الاشتراكيون فكانوا ضدنا ومع إسرائيل.

أما السيدة التي تضع نجمة داوود واعتقدنا أنها متضامنة فلم تضيع وقتها واستأذنت أن تسألنا بعض الأسئلة. وكان السؤال الأول الذي لا أنساه أبدا يقول التالي: هل من حق "اللقيط"أن يعيش؟ وفوجئنا جميعا بسؤالها. فمن حيث الظاهر لا علاقة لهذا السؤال بما كنا نبحث فيه. وسادت الحيرة والاستغراب بيننا، وقد أجبت دون تردد أنه مخلوق بشري وله حق الحياة.

شكرتني السيدة على الجواب السريع هذا. وبدون مقدمات قالت: الفرنسيون عادوا إلى فرنسا بعد استقلال الجزائر والأمريكيون يعودون  إلى أمريكا إذا انتصرت فيتنام والانجليز عادوا إلى بريطانيا عندما استقلت الهند وباكستان، أما اليهود فأين يعودون فلا وطن لهم غير إسرائيل.

وتركتنا في حيرتنا ولم تنتظر أن نرد عليها فقد اكتفت بأن من حق اللقيط أن يعيش.

وفي الحقيقة لم أستطع الاقتراب من قضية الاعتراف بحق دولة إسرائيل في الوجود، أو قبول القرارات الدولية التي تمنحها هذا الحق منذ عام 1947. وفي الجوهر لم يكن موقف الرافضين يختلف عن موقف القابلين ببرنامج النقاط العشر تجاه هاتين القضيتين سوى أن القابلين احتفظوا بالتحرير الكامل وبإزالة إسرائيل من الوجود في برامجهم الحزبية، وتخلوا عنها في برامج المنظمة وهذا شأن فتح. ففي كل مؤتمراتها ازدادت تصلبا وتمسكا بالأهداف والمبادئ والمنطلقات والأساليب وبالمقدمة التاريخية للنظام الداخلي التي أصبحت "أيقونة"محرماً المساس بها أو أنها أشبه بمقدمة إبن خلدون التي ذاع صيتها في العالم. والغريب أن فتح حين تجتمع في مؤتمراتها لا أحد يجرؤ أن يمس الثوابت والحقوق التاريخية. ويضطر أبو عمار بعد انفضاض المؤتمر أن يصدر نصاً مخففاً تماماً لقرارات المؤتمر. وهذا ما فعله أبو مازن بعد مؤتمر بيت لحم (2009) إذ اضطر لإصدار نص معتدل لقرارات المؤتمر السادس العتيد في بيت لحم. وهنا تكمن مأساة أية قيادة وطنية. هذا الانفصام بين الواقع المعقد الذي تعمل فيه لانتزاع أقل القليل من حقوق شعبها، وبين واقع شعبها اللاجئ والمشرد الذي تمثله فتح والذي يعيش مأساة النفي والشتات بلا أمل وبلا مستقبل جيلا بعد جيل ويرى ما تبقى من أهل وطنه يكتوي بنار الاحتلال وسرطان الاستيطان على ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية.

وهكذا  كان الحال مع الانتفاضة الأولى في عام 1987. فأبو عمار أمسك بهذه الورقة الثمينة لانتزاع أقصى ما يمكن انتزاعه من الأرض. ولديه قناعة راسخة بأن البقاء والثبات فوق الأرض هو المحرك للتاريخ والتغيير. وحين حانت ساعة الحقيقة لتقديم ورقة الاعتراف بإسرائيل كنت إلى جانبه في جنيف، وفي مقر عصبة الأمم السابق التي اعترفت بصك الانتداب وضمنته وعد بلفور المشؤوم، بعد أن  رفضت الإدارة الأمريكية منح أبو عمار تأشيرة الدخول إلى أمريكا لمخاطبة الجمعية العامة في نيويورك. وفي إشارات منه، في زيارة سابقة للسويد موجهة إلى وزير الخارجية الأمريكية "شولتز"وافق أبو عمار في نص موقع منه على الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود ونبذ الإرهاب واللجوء إلى المفاوضات والحلول السلمية لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ولم أكن أعرف شيئا عن هذه الورقة المرسلة إلى شولتز. كان يعرفها محمود درويش وياسر عبد ربه. إلا أنني فوجئت بأبي عمار يستدعيني في صباح اليوم التالي لعودته من السويد، وكان في حالة عصبية وإلى جانبه حكم بلعاوي في مكتب سفارتنا في تونس، وأمامه جريدة الصباح التونسية وهي الصحيفة الأولى في تونس وكان عنوانها بالخط العريض وباللون الأحمر وعلى ثمانية أعمدة كالتالي: "أبو عمار يعترف بحق إسرائيل بالوجود ".

وقد حاولت التخفيف عنه فقلت له: يبقى الخبر مشكوكا في صحته، فهو منسوب لمصادر مجهولة رفضت الكشف عن هويتها. وقد يكون بالون اختبار من جهة إسرائيل أو أمريكا حتى نضطر إلى إصدار نفي قبل جلسة الجمعية العمومية في جنيف. ومر ذلك اليوم بقليل من ردود الفعل. أما الأمر الأهم فكان خطابه في جنيف وأكاد أزعم هنا أن الخطاب الذي شرق فيه أبو عمار وغرب وأطال الشرح والتوضيح للمأساة الفلسطينية حمل ذات الموقف الذي ورد في جريدة الصباح التونسية. وبالضرورة كانت هناك معارضة من عدد من أعضاء اللجنة التنفيذية. ولكن احتواءها كان أمراً سهلا بعد أن دخلت الانتفاضة على هيئة صنع القرار الوطني لتضع النقاط على الحروف. فحددت الهدف والأرض والقرارات الدولية، كانت الانتفاضة القوة الدافعة لأبو عمار وهو يجتاز حقول الألغام ليصنع التاريخ لشعبه.

وحسب تعليمات أبو عمار سافرت إلى جنيف على رأس وفد إعلامي كبير، كما سافر إلى جنيف العدد الأكبر من أعضاء اللجنة التنفيذية ومن المجلس الوطني ومن المنظمات الشعبية. وتحول فندق الانتركونتننتال إلى خلية عمل فلسطينية. وصل أبو عمار إلى جنيف قبل إلقاء الخطاب بيوم واحد. ووجدت أن تغييراً قد وضع على النص الأصلي الذي اتفقنا عليه في تونس. وعلمت أن التعديلات أضيفت في الليلة الأخيرة قبل سفره في اجتماع تداولي غير رسمي في منزل حكم بلعاوي. وكان أبوعمار يراقبني وأنا أقرأ الخطاب، ولكني لم أعلق وفضلت الصمت. فالقلق والاضطراب وحالته العصبية البادية عليه تجعل الصمت أفضل. قمت إلى غرفتي واتصلت مع أبو مازن الموجود في موسكو وأخبرته بأن تعديلات دخلت على النص في الليلة الأخيرة، ولم يكن مرتاحا لهذا التغيير دون أن يخبرني بدوره أن النص كان في يد شولتز وريتشارد مورفي وكيل الخارجية الأمريكية.

وكان هناك اتفاق مع وزير خارجية السويد ( أندرسون)  أنه في حال قرأ أبو عمار الخطاب أمام الجمعية العامة وأورد القضايا المحددة، فإن الجنرال "ولترز"، المندوب الأمريكي، سينهض من مقعده لمصافحته أمام الجميع. ودخل أبو عمار القاعة وسط ترحيب حار من الأعضاء وبدأ يلقي خطابه. وكنت أتحرك في القاعة وكأني أحد الحراس الشخصيين لأبو عمار. وكان "ولترز " أثناء الخطاب يتابع الترجمة الفورية وبين يديه أوراق. وولترز هذا جنرال كبير واسع الاطلاع على القضية الفلسطينية وقد اجتمع مع خالد الحسن وماجد أبو شرار قبل أكثر من عشر سنوات في المغرب.

وفجأة وقبل دقائق قليلة من إنهاء الخطاب رأيت الجنرال ولترز يجمع أوراقه ويغادر القاعة. وعدنا إلى الفندق خائبين فلم يقع الحدث الذي من أجله جئنا إلى جنيف ومعنا كل دول العالم. الأمريكيون قالوا: عرفات لم يلتزم بما اتفق عليه مع"اندرسون"وزير خارجية السويد الذي كان حاضرا اجتماع الجمعية العامة. وبدأ ليل لا ينتهي ولا ينجلي ويوم يليه لا هدوء فيه. فقد حضر حسيب الصباغ وسعيد خوري وزين مياسي ومنيب المصري وباسل عقل، وهم من رجال المال والأعمال. وحسيب الصباغ يعرف شولتز فقد كان محاميا لشركة حسيب في أمريكا "بكتل"ويخاطب مورفي كما لو كان صديقه الشخصي ويقول له يا "ادي ".

أما أبو عمار فقد كلفني أن أقنع "اندرسون " أن لكل لغة أسلوبها واللغة العربية تختلف عن اللغة الانجليزية في هذا الجانب. وتنازل لنا د. سامي مسلم عن غرفته في الفندق ورقمها "706"وقد حاول اندرسون أكثر من مرة إقناع مورفي بأنها مسألة صياغة أما الموقف فهو نفسه. وبدا لي أن "أندرسون" مقتنع بما قلته له. فقد تصرف بغاية اللطف وهو يعبر عن هذه القناعة. وذهب وألقى كلمة في الجمعية العامة، وأيد ما قاله أبو عمار في كلمته، واعتبرها كافية وتؤدي المطلوب، وعاد إلينا في الفندق دون أن يظهر عليه أنه مرتبك أو غير مقتنع. ولكن الأمريكيين أصروا على موقفهم دون تغيير كلمة واحدة. ولم يقتنعوا بقصة التفاوت بين اللغات والأساليب. وطلبوا أن يقرأ أبو عمار النص المتفق عليه وباللغة الانجليزية في مؤتمر صحافي.

ولأن كل قضية لإسرائيل أو فيها وخاصة قضية اعتراف الفلسطينيين بوجودها هي قضية عالمية بامتياز، فإن وسائل الإعلام العالمية ترسل جيوشها الجرارة إلى مركز الحدث.

وأخيراً لم يكن أمام أبو عمار من خيار أو هوامش. وانتهت "سياسة اللا" وانتهت "سياسة اللعم" وانتهت سياسة "ننتظر حتى نتسلم الدعوة لمؤتمر جنيف وحينها نقرر."وأما سياسة "نصف القمر "فعليه الآن أن يقرر موقفه من نصف القمر الأخر. وكان الفلسطينيون وهم نخبة رجال الأعمال الذين يحيطون به مخلصين لفلسطين وانتفاضتها، ويحكم موقفهم وضميرهم الوطني وسعة اطلاعهم على الوضع الدولي. أما أعضاء القيادة الذين غص الفندق بهم فقد اختفوا تماما، وكلهم موجود وغير موجود. وكنت إلى جانبه في السيارة التي نقلتنا وسط حراسة مشددة إلى مقر عصبة الأمم. وكان رئيس الجمعية العامة ينتظره في لقاء بروتوكولي قبل المؤتمر الصحافي. أما النص المتفق عليه فقد صار في جيبي وحفظته عن ظهر قلب. ولم تزد الجلسة مع رئيس الجمعية العامة عن عشرين دقيقة. وخرج أبو عمار ومشينا وحدنا والحرس خلفنا وفجأة توقف أبو عمار وطلب مني أن أقرأ له النص وقرأته في أقل من دقيقة. فأخذ يسألني: ألم يكن من الأفضل لو وضعنا نقطة هنا أو فاصلة هناك؟

وهذا كله بعد "36"ساعة من النقاش المتواصل وعدم النوم، وعندها قلت لأبو عمار: "أخي أبو عمار إذا كنت تعتقد أننا سنأخذ الدولة من جورج حبش ونايف حواتمة، فلنمزق هذه الورقة ونعود من حيث أتينا. أما إذا كنا سنأخذ الدولة من أمريكا وإسرائيل فليس هناك خيار آخر. " وظل واقفا متسمرا في مكانه ولا يرد علي ولا يعلق على ما قلت، ثم خطا إلى الأمام وهو يقول: ولكن عبد الناصر لم يجرؤ على ذلك.

ودخلنا القاعة الكبرى فإذا بها تغص بأكثر من ألف صحافي. وعند المدخل وجدنا القس إيليا خوري، فاحتضنه أبو عمار وجره بيده. وكذلك وجدنا أبو طارق الشرفا "فتحاوي قديم" فأمسك به أبو عمار إلى جانبه. وجلسنا على المنصة، أبو عمار،  وجلست على يساره وبجانبي أبو طارق وعلى يمين أبو عمار جلس إيليا خوري وهو عضو في اللجنة التنفيذية للمنظمة.

وكان حولنا وفي داخلنا زلزال يتفجر وبركان يغلي. وقلت للصحافيين بأن الرئيس ياسر عرفات سيلقي عليكم بيانا هاما. أبو عمار بدأ يقرأ النص باللغة الانجليزية مضطربا ومرتجفا. ومرت الجملة الأولى بسلام عن حق إسرائيل في الوجود. أما جملة الإرهاب فبدل أن يلفظ الفعل الذي يدين الإرهاب قرأه بتغيير حرف واحد فيه وهو الحرف الأول وقرأ: "نعلن الإرهاب بدل ننبذ الإرهاب." ولم أكن أعرف أن المايكروفون الذي أمامنا مفتوح على كل المقاعد حيث يجلس الصحافيون. وقمت بالتدخل وبالتصحيح وعند الإعادة أيضاً أخطأ في القراءة وقال ننبذ السياحة بدل ننبذ الإرهاب. وقمت بالتدخل والتصحيح للمرة الثانية وضجت القاعة بالضحك والهرج والمرج. ولم يستغرق المؤتمر الصحافي أكثر من خمس دقائق فلا أسئلة ولا أجوبة، بل مغادرة على وجه السرعة إلى الفندق، ولكنه لم يدخل الفندق بل كان فريقه في استعداد كامل للتحرك إلى المطار. وحين نزلت من السيارة قال: لي أنا مسافر إلى برلين عند أخيك "د. عصام كامل "وعليك متابعة ما يجري وإعلامي. وكان الاتفاق كما أخبرني اندرسون أن يصدر شولتز وزير الخارجية الأمريكية بيانا يعلن فيه فتح الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية في ضوء الموقف الذي يعلنه أبو عمار في المؤتمر الصحافي. وبعد ساعة صدر الموقف الأمريكي بإعلان بدء الحوار مع المنظمة، وعلى الفور أجريت الاتصال مع "د. عصام كامل " وأخبرته بالاعلان الأمريكي، وقد قال: لي رغم أن أبو عمار وصل متأخراً فقد أعد الرئيس "إريك هونيكر" استقبالا رسميا في المطار واستضافته في قصر الضيافة بصفته رئيس دولة.

وقال د.عصام: قصة الألمان سواء كانوا شرقيين أو غربيين مع اليهود قصة طويلة، والكل منهم يريد شهادة براءة من جرائم هتلر ومن الهولوكوست. وإسرائيل تبتز الألمان منذ قيامها في عام 1948 وإلى الأبد. وأصدرت في الليلة نفسها تصريحا رحبت فيه بالإعلان الأمريكي. وفي صباح اليوم التالي كان أبو عمار قد شكل الوفد الفلسطيني للحوار مع السفير الأمريكي "بليترو"وضم الوفد ياسر عبد ربه وعبد اللطيف أبو حجلة وحكم بلعاوي، وبدأ الحوار.

وقد سبق أن التقيت مع روبرت بليترو، السفير الأمريكي في تونس، في مناسبات اجتماعية، ولم تكن هناك لقاءات سياسية رسمية، والسبب أن الإدارة الأمريكية منعت الدبلوماسيين الأمريكيين من اللقاء أو التحدث مع المسؤولين الفلسطينيين. أما هذه المناسبات الاجتماعية التي أعنيها فكانت تقيمها المدرسة الأمريكية في تونس للطلبة ولأولياء أمورهم.، وهكذا تعرفت على بليترو وعلى هيئة التدريس وعلى أحد مساعدي بليترو(هيل) وكانت زوجته سيدة فلسطينية من القدس هاجر أهلها إلى أمريكا بعد نكبة عام 1948 وهي من مواليد أمريكا وتتحدث بعض العربية. وفي الواقع كنت حريصا على تقديم أفضل صورة للمنظمة ورئيسها أبو عمار، والاستعداد للسلام وبأن كل القضايا التي يستحيل حلها، يمكن أن تجد الحل المناسب إذا ضغطت أمريكا على إسرائيل للانسحاب الكامل من الأراضي الفلسطينية. وكنت أركز دائما وأبدا على القدس الشريف، وأقول يستحيل التوصل إلى السلام إلا بعودة القدس المحتلة عام 1967، أما ضمها واعتبارها العاصمة الأبدية لإسرائيل فهذا يجعل السلام مستحيلا.

وكان بليترو يستمع ولا يعلق بل يكثر من الأسئلة ولا يقدم جوابا شافيا حول أسئلتي التي تتمحور حول لماذا كل هذا الانحياز الأمريكي لإسرائيل، ورغم  المصالح الأمريكية الضخمة في الشرق الأوسط والبترول وأهميته لأمريكا.

وتذكرت في ضوء صمته الطويل ما حدث معي في عام 1981. فقد كنت أحضر الماجستير في الجامعة الأمريكية في بيروت وأسابق الزمن لإنهاء الماجستير في العلوم السياسية. وكان البروفيسور حنا بطاطو والبروفيسور وليد الخالدي قد ساعداني في قبولي في الفصل الصيفي في جامعة جورج تاون في واشنطن، حيث يمكنني خلال هذه المدة أن ألتحق بفصلين دراسيين وأحصل على العلامات المطلوبة للإسراع في تقديم رسالة الماجستير والتي كنت أنوي أن تكون "حول أثر النفط في السياسة الدولية" وبالفعل ذهبت إلى واشنطن بجواز سفر جزائري وكان لدي مقابلة مع عميد الدراسات السياسية في جورج تاون. وقد استقبلني في الجامعة البروفسور هشام شرابي والبرفسور حليم بركات بتوصية من حنا بطاطو. أما العميد، واسمه مايكل هدسون، وكان قد أصدر قبل فترة كتابا قيما عن الدول والسياسة في الشرق الأوسط. فقد أخذ يسألني عن فلسطين وصراع الشرق الأوسط وأنا أتجاهل الدخول في حقل الألغام وأحاول أن يكون الحديث عن شمال أفريقيا. إلا أنني في النهاية ومن كثرة أسئلته قلت له أنا فلسطيني وكما تعلم ليس لدينا دولة ولا جواز سفر. فابتسم، وقال علمت ذلك. قد يكون هشام شرابي أو حليم بركات أخبراه بأنني فلسطيني. أما ما قاله العميد حول الموقف الأمريكي من الشرق الأوسط وفلسطين فكان كما يلي وبالحرف: لا يوجد مسؤول أمريكي وهو يجلس على الكرسي يملك الجرأة للحديث الصادق حول قضيتكم. وحين يترك الكرسي قد يتكلم، وإن تكلم بصراحة فإنه يحارب ويعزل. وذكر لي مثال "بول فندلي " الذي تجرَّأ على الحديث فخسر مقعده في مجلس الشيوخ، والرئيس كارتر خسر في الانتخابات السياسية الثانية لأنه تجرأ على تناول قضيتكم من الجانب الإنساني، دون أن يفعل شيئا على أرض الواقع من الناحية السياسية.

وهذا بالضبط ما حدث مع بليترو الذي مثل الجانب الأمريكي في الحوار الأمريكي _ الفلسطيني في تونس مع ياسر وأبو جعفر وحكم. إلا أن هذا الحوار توقف فجأة بسبب عملية بحرية لجماعة أبو العباس حيث أصرت الإدارة الأمريكية على إدانته وطرده من اللجنة التنفيذية. وكالعادة كانت الاعتبارات المتعلقة بالكرامة الوطنية تمنع أبو عمار من اتخاذ قرار يضعفه أمام شعبه ويظهره وكأنه يرضخ للاملاءات الأمريكية. وأقسى ما قام به أبو عمار أنه طلب من أبو العباس عدم حضور اجتماع اللجنة التنفيذية لحظة التقاط الصحافيين لصورة الاجتماع. وفي تلك الفترة من عام 1989 كان أبو عمار يقضي معظم وقته في بغداد، وأبو العباس المطرود من سوريا يقيم في بغداد. ولم يكن من اللائق بالنسبة للعراقيين أن يأخذ أبو عمار قراراً بإسقاط الحصانة عن أبو العباس الذي تحتضنه العراق. وهكذا توقف الحوار الفلسطيني - الأمريكي بانتظار محطة اتفاق أوسلو والتوقيع في البيت الأبيض في أيلول 1993 بحضور الرئيس بيل كلينتون.